قُلْ يَا أَيُّهَا وفي الترمذي من حديث أنس : أنها تعدل ثلث القرآن . وفي كتاب (
الرد لأبي بكر الأنباري ) : أخبرنا عبد الله بن ناجية قال : حدثنا يوسف قال حدثنا
القعنبي وأبو نعيم عن موسى بن وردان عن أنس , قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : [ { قل يأيها الكافرون }{ تعدل ربع القرآن ] . ورواه موقوفا عن أنس . وخرج
الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد عن ابن عمر قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم
بأصحابه صلاة الفجر في سفر , فقرأ }{ قل يأيها الكافرون } . و }{ قل هو الله أحد } ,
ثم قال : [ قرأت بكم ثلث القرآن وربعه ] . وروى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : [ أتحب يا جبير إذا خرجت سفرا أن تكون من أمثل أصحابك هيئة وأكثرهم زادا
] ؟ قلت : نعم . قال : ( فاقرأ هذه السور الخمس من أول }{ قل يا أيها الكافرون } [
الكافرون : 1 ] إلى - { قل أعوذ برب الناس } [ الناس : 1 ] وافتتح قراءتك ببسم الله
الرحمن الرحيم ) . قال : فوالله لقد كنت غير كثير المال , إذا سافرت أكون أبذهم هيئة
, وأقلهم زادا , فمذ قرأتهن صرت من أحسنهم هيئة , وأكثرهم زادا , حتى أرجع من سفري
ذلك . وقال فروة بن نوفل الأشجعي : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : أوصني قال :
( اقرأ عند منامك }{ قل يأيها الكافرون }{ فإنها براءة من الشرك ) . خرجه أبو بكر
الأنباري وغيره . وقال ابن عباس : ليس في القرآن أشد غيظا لإبليس منها ; لأنها توحيد
وبراءة من الشرك . وقال الأصمعي : كان يقال }{ لقل يأيها الكافرون } , و }{ قل هو الله
أحد }{ المقشقشتان ; أي أنهما تبرئان من النفاق . وقال أبو عبيدة : كما يقشقش الهناء
الجرب فيبرئه . وقال ابن السكيت : يقال للقرح والجدري إذا يبس وتقرف , وللجرب في
الإبل إذا قفل : قد توسف جلده , وتقشر جلده , وتقشقش جلده . { قل يأيها الكافرون }
ذكر ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس : أن سبب نزولها أن الوليد بن المغيرة , والعاص بن
وائل , والأسود بن عبد المطلب , وأمية بن خلف ; لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا : يا محمد , هلم فلنعبد ما تعبد , وتعبد ما نعبد , ونشترك نحن وأنت في أمرنا
كله , فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا , كنا قد شاركناك فيه , وأخذنا بحظنا
منه . وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما بيدك , كنت قد شركتنا في أمرنا , وأخذت بحظك
منه ; فأنزل الله عز وجل }{ قل يا أيها الكافرون } . وقال أبو صالح عن ابن عباس :
أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو استلمت بعض هذه الآلهة لصدقناك ;
فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بهذه السورة فيئسوا منه , وآذوه , وآذوا
أصحابه . والألف واللام ترجع إلى معنى المعهود وإن كانت للجنس من حيث إنها كانت صفة
لأي ; لأنها مخاطبة لمن سبق في علم الله تعالى أنه سيموت على كفره , فهي من الخصوص
الذي جاء بلفظ العموم . ونحوه عن الماوردي : نزلت جوابا , وعنى بالكافرين قوما
معينين . لا جميع الكافرين ; لأن منهم من آمن , فعبد الله , ومنهم من مات أو قتل على
كفره ., وهم المخاطبون بهذا القول , وهم المذكورون . قال أبو بكر بن الأنباري :
وقرأ من طعن في القرآن : قل للذين كفروا }{ لا أعبد ما تعبدون }{ وزعم أن ذلك هو
الصواب , وذلك افتراء على رب العالمين , وتضعيف لمعنى هذه السورة , وإبطال ما قصده
الله من أن يذل نبيه للمشركين بخطابه إياهم بهذا الخطاب الزري , وإلزامهم ما يأنف
منه كل ذي لب وحجا . وذلك أن الذي يدعيه من اللفظ الباطل , قراءتنا تشتمل عليه في
المعنى , وتزيد تأويلا ليس عندهم في باطلهم وتحريفهم . فمعنى قراءتنا : قل للذين
كفروا : يأيها الكافرون ; دليل صحة هذا : أن العربي إذا قال لمخاطبه قل لزيد أقبل
إلينا , فمعناه قل لزيد يا زيد أقبل إلينا . فقد وقعت قراءتنا على كل ما عندهم ,
وسقط من باطلهم أحسن لفظ وأبلغ معنى ; إذ كان الرسول عليه السلام يعتمدهم في ناديهم
, فيقول لهم : { يأيها الكافرون } . وهو يعلم أنهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر ,
ويدخلوا في جملة أهله إلا وهو محروس ممنوع من أن تنبسط عليه منهم يد , أو تقع به من
جهتهم أذية . فمن لم يقرأ }{ قل يأيها الكافرون }{ كما أنزلها الله , أسقط آية لرسول
الله صلى الله عليه وسلم . وسبيل أهل الإسلام ألا يسارعوا إلى مثلها , ولا يعتمدوا
نبيهم باختزال الفضائل عنه , التي منحه الله إياها , وشرفه بها . وأما وجه التكرار
فقد قيل إنه للتأكيد في قطع أطماعهم ; كما تقول : والله لا أفعل كذا , ثم والله لا
أفعله . قال أكثر أهل المعاني : نزل القرآن بلسان العرب , ومن مذاهبهم التكرار إرادة
التأكيد والإفهام , كما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز ; لأن خروج
الخطيب والمتكلم من شيء إلى شيء أولى من اقتصاره في المقام على شيء واحد ; قال الله
تعالى : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [ الرحمن : 13 ] .{ ويل يومئذ للمكذبين } [
المطففين : 10 ] .{ كلا سيعلمون , ثم كلا سيعلمون } [ النبأ : 4 - 5 ] . و }{ فإن مع
العسر يسرا . إن مع العسر يسرا } [ الشرح : 5 - 6 ] . كل هذا على التأكيد . وقد يقول
القائل : إرم إرم , اعجل اعجل ; ومنه قوله عليه السلام في الحديث الصحيح : ( فلا
آذن , ثم لا آذن , إنما فاطمة بضعة مني ) . خرجه مسلم . وقال الشاعر : هلا سألت جموع
كندة يوم ولوا أين أينا وقال آخر : يا لبكر أنشروا لي كليبا يا لبكر أين أين الفرار
وقال آخر : يا علقمه يا علقمه يا علقمه خير تميم كلها وأكرمه وقال آخر : يا أقرع بن
حابس يا أقرع إنك إن يصرع أخوك تصرع وقال آخر : ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي
ثلاث تحيات وإن لم تكلم ومثله كثير . وقيل : هذا على مطابقة قولهم : تعبد آلهتنا
ونعبد إلهك , ثم نعبد آلهتنا ونعبد إلهك , ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك , فنجري على
هذا أبدا سنة وسنة . فأجيبوا عن كل ما قالوه بضده ; أي إن هذا لا يكون أبدا .
قال ابن عباس : قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم : نحن نعطيك من المال ما تكون
به أغنى رجل بمكة , ونزوجك من شئت , ونطأ عقبك ; أي نمشي خلفك , وتكف عن شتم آلهتنا
, فإن لم تفعل فنحن نعرض عليك خصلة واحدة هي لنا ولك صلاح , تعبد آلهتنا اللات
والعزى سنة , ونحن نعبد إلهك سنة ; فنزلت السورة . فكان التكرار في }{ لا أعبد ما
تعبدون } ; لأن القوم كرروا عليه مقالهم مرة بعد مرة . والله أعلم . وقيل : إنما كرر
بمعنى التغليظ . وقيل : أي }{ لا أعبد }{ الساعة }{ ما تعبدون . ولا أنتم عابدون }
الساعة }{ ما أعبد } . ثم قال : { ولا أنا عابد }{ في المستقبل }{ ما عبدتم . ولا أنتم }
في المستقبل }{ عابدون ما أعبد } . قاله الأخفش والمبرد . وقيل : إنهم كانوا يعبدون
الأوثان , فإذا ملوا وثنا , وسئموا العبادة له , رفضوه , ثم أخذوا وثنا غيره بشهوة
نفوسهم , فإذا مروا بحجارة تعجبهم ألقوا هذه ورفعوا تلك , فعظموها ونصبوها آلهة
يعبدونها ; فأمر عليه السلام أن يقول لهم : { لا أعبد ما تعبدون }{ اليوم من هذه
الآلهة التي بين أيديكم .
أي وإنما تعبدون الوثن الذي اتخذتموه , وهو عندكم الآن .{ ولا أنا عابد ما عبدتم }
أي بالأمس من الآلهة التي رفضتموها , وأقبلتم على هذه .{ ولا أنتم عابدون ما أعبد }
فإني أعبد إلهي . وقيل : إن قوله تعالى : { لا أعبد ما تعبدون . ولا أنتم عابدون ما
أعبد }{ في الاستقبال .
على التكرير في اللفظ دون المعنى , من قبل أن التقابل يوجب أن يكون : ولا أنتم
عابدون ما عبدت , فعدل عن لفظ عبدت إلى أعبد , إشعارا بأن ما عبد في الماضي هو الذي
يعبد في المستقبل , مع أن الماضي والمستقبل قد يقع أحدهما موقع الآخر . وأكثر ما
يأتي ذلك في أخبار الله عز وجل . وقال : { ما أعبد } , ولم يقل : من أعبد ; ليقابل
به }{ ولا أنا عابد ما عبدتم }{ وهي أصنام وأوثان , ولا يصلح فيها إلا }{ ما }{ دون }
من }{ فحمل الأول على الثاني , ليتقابل الكلام ولا يتنافى . وقد جاءت }{ ما }{ لمن يعقل
. ومنه قولهم : سبحان ما سخركن لنا . وقيل : إن معنى الآيات وتقديرها : قل يأيها
الكافرون لا أعبد الأصنام التي تعبدونها , ولا أنتم عابدون الله عز وجل الذي أعبده
; لإشراككم به , واتخاذكم الأصنام , فإن زعمتم أنكم تعبدونه , فأنتم كاذبون ; لأنكم
تعبدونه مشركين . فأنا لا أعبد ما عبدتم , أي مثل عبادتكم ; }{ فما }{ مصدرية . وكذلك }
ولا أنتم عابدون ما أعبد }{ مصدرية أيضا ; معناه ولا أنتم عابدون مثل عبادتي , التي
هي توحيد .
فيه معنى التهديد ; وهو كقوله تعالى : { لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } [ القصص : 55 ]
أي إن رضيتم بدينكم , فقد رضينا بديننا . وكان هذا قبل الأمر بالقتال , فنسخ بآية
السيف . وقيل : السورة كلها منسوخة . وقيل : ما نسخ منها شيء لأنها خبر . ومعنى }{ لكم
دينكم }{ أي جزاء دينكم , ولي جزاء ديني . وسمى دينهم دينا , لأنهم اعتقدوه وتولوه
. وقيل : المعنى لكم جزاؤكم ولي جزائي ; لأن الدين الجزاء . وفتح الياء من }{ ولي دين
{ نافع , والبزي عن ابن كثير باختلاف عنه , وهشام عن ابن عامر , وحفص عن عاصم
. وأثبت الياء في }{ ديني }{ في الحالين نصر بن عاصم وسلام ويعقوب ; قالوا : لأنها اسم
مثل الكاف في دينكم , والتاء في قمت . الباقون بغير ياء , مثل قوله تعالى : { فهو
يهدين } [ الشعراء : 78 ] { فاتقوا الله وأطيعون } [ آل عمران : 50 ] ونحوه ,
اكتفاء بالكسرة , واتباعا لخط المصحف , فإنه وقع فيه بغير ياء .
نهاية تفسير السورة - تفسير القرآن الكريم
End of Tafseer of The Surah - The Holy Quran Tafseer