الر سورة يوسف وهي مكية كلها . وقال ابن عباس وقتادة : إلا أربع آيات منها . وروي أن
اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فنزلت السورة ; وسيأتي
. وقال سعد بن أبي وقاص : أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم
زمانا فقالوا : لو قصصت علينا ; فنزل : { نحن نقص عليك } [ يوسف : 3 ] فتلاه عليهم
زمانا فقالوا : لو حدثتنا ; فأنزل : { الله نزل أحسن الحديث } [ الزمر : 23 ] . قال
العلماء : وذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن وكررها بمعنى واحد في وجوه مختلفة ,
بألفاظ متباينة على درجات البلاغة , وقد ذكر قصة يوسف ولم يكررها , فلم يقدر مخالف
على معارضة ما تكرر , ولا على معارضة غير المتكرر , والإعجاز لمن تأمل . و }{ الر }
تقدم القول فيه ; والتقدير هنا : تلك آيات الكتاب , على الابتداء والخبر . وقيل : { الر }{ اسم السورة ; أي هذه السورة المسماة }{ الر "تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ
الْمُبِينِ يعني بالكتاب المبين القرآن المبين ; أي المبين حلاله وحرامه , وحدوده
وأحكامه وهداه وبركته . وقيل : أي هذه تلك الآيات التي كنتم توعدون بها في التوراة .
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا يجوز أن يكون المعنى : إنا أنزلنا القرآن
عربيا ; نصب }{ قرآنا }{ على الحال ; أي مجموعا . و }{ عربيا }{ نعت لقوله }{ قرآنا }
. ويجوز أن يكون توطئة للحال , كما تقول : مررت بزيد رجلا صالحا , و }{ عربيا }{ على
الحال , أي يقرأ بلغتكم يا معشر العرب . أعرب بين , ومنه ( الثيب تعرب عن نفسها )
. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تعلموا معانيه , وتفهموا ما فيه . وبعض العرب يأتي
بأن مع }{ لعل }{ تشبيها بعسى . واللام في }{ لعل }{ زائدة للتوكيد ; كما قال الشاعر :
يا أبتا علك أو عساكا وقيل : { لعلكم تعقلون }{ أي لتكونوا على رجاء من تدبره ;
فيعود معنى الشك إليهم لا إلى الكتاب , ولا إلى الله عز وجل . وقيل : معنى }{ أنزلناه
{ أي أنزلنا خبر يوسف , قال النحاس : وهذا أشبه بالمعنى ; لأنه يروى أن اليهود
قالوا : سلوه لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر ؟ وعن خبر يوسف ; فأنزل الله عز
وجل هذا بمكة موافقا لما في التوراة , وفيه زيادة ليست عندهم . فكان هذا للنبي صلى
الله عليه وسلم - إذ أخبرهم ولم يكن يقرأ كتابا قط ولا هو في موضع كتاب - بمنزلة
إحياء عيسى عليه السلام الميت على ما يأتي فيه .
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ }{ نحن نقص عليك }{ ابتداء وخبره .{ أحسن
القصص }{ بمعنى المصدر , والتقدير : قصصنا أحسن القصص . وأصل القصص تتبع الشيء , ومنه
قوله تعالى : { وقالت لأخته قصيه } [ القصص : 11 ] أي تتبعي أثره ; فالقاص , يتبع
الآثار فيخبر بها . والحسن يعود إلى القصص لا إلى القصة . يقال : فلان حسن الاقتصاص
للحديث أي جيد السياقة له . وقيل : القصص ليس مصدرا , بل هو في معنى الاسم , كما
يقال : الله رجاؤنا , أي مرجونا فالمعنى على هذا : نحن نخبرك بأحسن الأخبار . مسألة
: واختلف العلماء لم سميت هذه السورة أحسن القصص من بين سائر الأقاصيص ؟ فقيل :
لأنه ليست قصة في القرآن تتضمن من العبر والحكم ما تتضمن هذه القصة ; وبيانه قوله
في آخرها : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } [ يوسف : 111 ] . وقيل : سماها
أحسن القصص لحسن مجاوزة يوسف عن إخوته , وصبره على أذاهم , وعفوه عنهم - بعد
الالتقاء بهم - عن ذكر ما تعاطوه , وكرمه في العفو عنهم , حتى قال : { لا تثريب
عليكم اليوم } [ يوسف : 92 ] . وقيل : لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة
والشياطين , والجن والإنس والأنعام والطير , وسير الملوك والممالك , والتجار
والعلماء والجهال , والرجال والنساء وحيلهن ومكرهن , وفيها ذكر التوحيد والفقه
والسير وتعبير الرؤيا , والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش , وجمل الفوائد التي تصلح
للدين والدنيا . وقيل لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب وسيرهما . وقيل : { أحسن }{ هنا
بمعنى أعجب . وقال بعض أهل المعاني : إنما كانت أحسن القصص لأن كل من ذكر فيها كان
مآله السعادة ; انظر إلى يوسف وأبيه وإخوته , وامرأة العزيز ; قيل : والملك أيضا
أسلم بيوسف وحسن إسلامه , ومستعبر الرؤيا الساقي , والشاهد فيما يقال : فما كان أمر
الجميع إلا إلى خير . بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أي بوحينا ف }{ ما }{ مع الفعل
بمنزلة المصدر . هَذَا الْقُرْآنَ نصب القرآن على أنه نعت لهذا , أو بدل منه , أو
عطف بيان . وأجاز الفراء الخفض ; قال : على التكرير ; وهو عند البصريين على البدل من
{ ما } . وأجاز أبو إسحاق الرفع على إضمار مبتدأ , كأن سائلا سأله عن الوحي فقيل له
: هو هذا القرآن . وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ أي من الغافلين
عما عرفناكه .
قَالَ يُوسُفُ }{ إذ }{ في موضع نصب على الظرف ; أي اذكر لهم حين قال يوسف . وقراءة
العامة بضم السين . وقرأ طلحة بن مصرف }{ يؤسف }{ بالهمزة وكسر السين . وحكى أبو زيد :
{ يؤسف }{ بالهمزة وفتح السين . ولم ينصرف لأنه أعجمي ; وقيل : هو عربي . وسئل أبو
الحسن الأقطع - وكان حكيما - عن }{ يوسف }{ فقال : الأسف في اللغة الحزن ; والأسيف
العبد , وقد اجتمعا في يوسف ; فلذلك سمي يوسف . لِأَبِيهِ يَا بكسر التاء قراءة أبي
عمرو وعاصم ونافع وحمزة والكسائي , وهي عند البصريين علامة التأنيث أدخلت على الأب
في النداء خاصة بدلا من ياء الإضافة , وقد تدخل علامة التأنيث على المذكر فيقال :
رجل نكحة وهزأة ; قال النحاس : إذا قلت }{ يا أبت }{ بكسر التاء فالتاء عند سيبويه
بدل من ياء الإضافة ; ولا يجوز على قوله الوقف إلا بالهاء , وله على قوله دلائل :
منها - أن قولك : { يا أبه }{ يؤدي عن معنى }{ يا أبي } ; وأنه لا يقال : { يا أبت }
إلا في المعرفة ; ولا يقال : جاءني أبت , ولا تستعمل العرب هذا إلا في النداء خاصة
, ولا يقال : { يا أبتي }{ لأن التاء بدل من الياء فلا يجمع بينهما . وزعم الفراء أنه
إذا قال : { يا أبت }{ فكسر دل على الياء لا غير ; لأن الياء في النية . وزعم أبو
إسحاق أن هذا خطأ , والحق ما قال , كيف تكون الياء في النية وليس يقال : { يا أبتي
{ ؟ وقرأ أبو جعفر والأعرج وعبد الله بن عامر }{ يا أبت }{ بفتح التاء ; قال البصريون
: أرادوا }{ يا أبتي }{ بالياء , ثم أبدلت الياء ألفا فصارت }{ يا أبتا }{ فحذفت الألف
وبقيت الفتحة على التاء . وقيل : الأصل الكسر , ثم أبدل من الكسرة فتحة , كما يبدل
من الياء ألف فيقال : يا غلاما أقبل . وأجاز الفراء }{ يا أبت }{ بضم التاء . أَبَتِ
إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ ليس بين النحويين اختلاف أنه
يقال : جاءني أحد عشر , ورأيت ومررت بأحد عشر , وكذلك ثلاثة عشر وتسعة عشر وما
بينهما ; جعلوا الاسمين اسما واحدا وأعربوهما بأخف الحركات . قال السهيلي : أسماء
هذه الكواكب جاء ذكرها مسندا ; رواه الحارث بن أبي أسامة قال : جاء بستانة - وهو
رجل من أهل الكتاب - فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأحد عشر كوكبا الذي رأى
يوسف فقال : ( الحرثان والطارق والذيال وقابس والمصبح والضروح وذو الكنفات وذو
القرع والفليق ووثاب والعمودان ; رآها يوسف عليه السلام تسجد له ) . قال ابن عباس
وقتادة : الكواكب إخوته , والشمس أمه , والقمر أبوه . وقال قتادة أيضا : الشمس خالته
, لأن أمه كانت قد ماتت , وكانت خالته تحت أبيه . وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي
توكيد . وقال : { رأيتهم لي ساجدين }{ فجاء مذكرا ; فالقول عند الخليل وسيبويه أنه
لما أخبر عن هذه الأشياء بالطاعة والسجود وهما من أفعال من يعقل أخبر عنها كما يخبر
عمن يعقل . وقد تقدم هذا المعنى في قوله : { وتراهم ينظرون إليك } [ الأعراف : 198 ]
. والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل إذا أنزلوه منزلته , وإن كان خارجا عن الأصل .
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ
كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ فيه إحدى عشرة مسألة : الأولى :
{ فيكيدوا لك كيدا }{ أي يحتالوا في هلاكك ; لأن تأويلها ظاهر ; فربما يحملهم
الشيطان على قصدك بسوء حينئذ . واللام في }{ لك }{ تأكيد . كقوله : { إن كنتم للرؤيا
تعبرون } [ يوسف : 43 ] . الثانية : الرؤيا حالة شريفة , ومنزلة رفيعة , قال صلى
الله عليه وسلم : ( لم يبق بعدي من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة الصادقة يراها
الرجل الصالح أو ترى له ) . وقال : ( أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ) . وحكم صلى الله
عليه وسلم بأنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة , وروي ( من سبعين جزءا من
النبوة ) . وروي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ( جزءا من أربعين جزءا من النبوة )
. ومن حديث ابن عمر ( جزء من تسعة وأربعين جزءا ) . ومن حديث العباس ( جزء من خمسين
جزءا من النبوة ) . ومن حديث أنس ( من ستة وعشرين ) . وعن عبادة بن الصامت ( من أربعة
وأربعين من النبوة ) . والصحيح منها حديث الستة والأربعين , ويتلوه في الصحة حديث
السبعين ; ولم يخرج مسلم في صحيحه غير هذين الحديثين , أما سائرها فمن أحاديث
الشيوخ ; قاله ابن بطال . قال أبو عبد الله المازري : والأكثر والأصح عند أهل الحديث
( من ستة وأربعين ) . قال الطبري : والصواب أن يقال إن عامة هذه الأحاديث أو أكثرها
صحاح , ولكل حديث منها مخرج معقول ; فأما قوله : ( إنها جزء من سبعين جزءا من
النبوة ) فإن ذلك قول عام في كل رؤيا صالحة صادقة , ولكل مسلم رآها في منامه على أي
أحواله كان ; وأما قوله : ( إنها من أربعين أو ستة وأربعين ) فإنه يريد بذلك من كان
صاحبها بالحال التي ذكرت عن الصديق رضي الله عنه أنه كان بها ; فمن كان من أهل
إسباغ الوضوء في السبرات , والصبر في الله على المكروهات , وانتظار الصلاة بعد
الصلاة , فرؤياه الصالحة - إن شاء الله - جزء من أربعين جزءا من النبوة , ومن كانت
حاله في ذاته بين ذلك فرؤياه الصادقة بين جزأين ما بين الأربعين إلى الستين لا تنقص
عن سبعين , وتزيد على الأربعين وإلى هذا المعنى أشار أبو عمر بن عبد البر فقال :
اختلاف الآثار في هذا الباب في عدد أجزاء الرؤيا ليس ذلك عندي اختلاف متضاد متدافع
- والله أعلم - لأنه يحتمل أن تكون الرؤيا الصالحة من بعض من يراها على حسب ما يكون
من صدق الحديث , وأداء الأمانة , والدين المتين , وحسن اليقين ; فعلى قدر اختلاف
الناس فيما وصفنا تكون الرؤيا منهم على الأجزاء المختلفة العدد فمن خلصت نيته في
عبادة ربه ويقينه وصدق حديثه كانت رؤياه أصدق وإلى النبوة أقرب كما أن الأنبياء
يتفاضلون قال الله تعالى : { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض }{ الإسراء : 55 ] .
قلت : فهذا التأويل يجمع شتات الأحاديث , وهو أولى من تفسير بعضها دون بعض وطرحه ;
ذكره أبو سعيد الأسفاقسي عن بعض أهل العلم قال : معنى قوله : ( جزء من ستة وأربعين
جزءا من النبوة ) فإن الله تعالى أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ثلاثة
وعشرين عاما - فيما رواه عكرمة وعمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما -
فإذا نسبنا ستة أشهر من ثلاثة وعشرين عاما وجدنا ذلك جزءا من ستة وأربعين جزءا ;
وإلى هذا القول أشار المازري في كتابه }{ المعلم }{ واختاره القونوي في تفسيره من
سورة [ يونس ] عند قوله تعالى : { لهم البشرى في الحياة الدنيا } [ يونس : 64 ]
. وهو فاسد من وجهين : أحدهما : ما رواه أبو سلمة عن ابن عباس وعائشة بأن مدة الوحي
كانت عشرين سنة , وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين , فأقام بمكة
عشر سنين ; وهو قول عروة والشعبي وابن شهاب والحسن وعطاء الخراساني وسعيد بن المسيب
على اختلاف عنه , وهي رواية ربيعة وأبي غالب عن أنس , وإذا ثبت هذا الحديث بطل ذلك
التأويل - الثاني : أن سائر الأحاديث في الأجزاء المختلفة تبقى بغير معنى . الثالثة
: إنما كانت الرؤيا جزءا من النبوة ; لأن فيها ما يعجز ويمتنع كالطيران , وقلب
الأعيان , والاطلاع على شيء من علم الغيب ; كما قال عليه السلام : ( إنه لم يبق من
مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصادقة في النوم . . .) الحديث . وعلى الجملة فإن الرؤيا
الصادقة من الله , وأنها من النبوة ; قال صلى الله عليه وسلم : ( الرؤيا من الله
والحلم من الشيطان ) وأن التصديق بها حق , ولها التأويل الحسن , وربما أغنى بعضها
عن التأويل , وفيها من بديع الله ولطفه ما يزيد المؤمن في إيمانه ; ولا خلاف في هذا
بين أهل الدين والحق من أهل الرأي والأثر , ولا ينكر الرؤيا إلا أهل الإلحاد وشرذمة
من المعتزلة . الرابعة : إن قيل : إذا كانت الرؤيا الصادقة جزءا من النبوة فكيف
يكون الكافر والكاذب والمخلط أهلا لها ؟ وقد وقعت من بعض الكفار وغيرهم ممن لا يرضى
دينه منامات صحيحة صادقة ; كمنام رؤيا الملك الذي رأى سبع بقرات , ومنام الفتيين في
السجن ; ورؤيا بختنصر , التي فسرها دانيال في ذهاب ملكه , ورؤيا كسرى في ظهور النبي
صلى الله عليه وسلم , ومنام عاتكة , عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره وهي
كافرة , وقد ترجم البخاري }{ باب رؤيا أهل السجن } : فالجواب أن الكافر والفاجر
والفاسق والكاذب وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات لا تكون من الوحي ولا من النبوة ;
إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب يكون خبره ذلك نبوة ; وقد تقدم في [ الأنعام ] أن
الكاهن وغيره قد يخبر بكلمة الحق فيصدق , لكن ذلك على الندور والقلة , فكذلك رؤيا
هؤلاء ; قال المهلب : إنما ترجم البخاري بهذا لجواز أن تكون رؤيا أهل الشرك رؤيا
صادقة , كما كانت رؤيا الفتيين صادقة , إلا أنه لا يجوز أن تضاف إلى النبوة إضافة
رؤيا المؤمن إليها , إذ ليس كل ما يصح له تأويل من الرؤيا حقيقة يكون جزءا من
النبوة . الخامسة : الرؤيا المضافة إلى الله تعالى هي التي خلصت من الأضغاث
والأوهام , وكان تأويلها موافقا لما في اللوح المحفوظ , والتي هي من خبر الأضغاث هي
الحلم , وهي المضافة إلى الشيطان , وإنما سميت ضغثا ; لأن فيها أشياء متضادة ; قال
معناه المهلب . وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا أقساما تغني عن قول كل
قائل ; روى عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الرؤيا ثلاثة منها
أهاويل الشيطان ليحزن ابن آدم ومنها ما يهتم به في يقظته فيراه في منامه ومنها جزء
من ستة وأربعين جزءا من النبوة ) . قال : قلت : سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه
وسلم ؟ قال : نعم ! سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . السادسة : الرؤيا مصدر
, رأى في المنام , رؤيا على وزن فعلى كالسقيا والبشرى ; وألفه للتأنيث ولذلك لم
ينصرف . وقد اختلف العلماء في حقيقة الرؤيا ; فقيل : هي إدراك في أجزاء لم تحلها آفة
, كالنوم المستغرق وغيره ; ولهذا أكثر ما تكون الرؤيا في آخر الليل لقلة غلبة النوم
; فيخلق الله تعالى للرائي علما ناشئا , ويخلق له الذي يراه على ما يراه ليصح
الإدراك , قال ابن العربي : ولا يرى في المنام إلا ما يصح إدراكه في اليقظة , ولذلك
لا يرى في المنام شخصا قائما قاعدا بحال , وإنما يرى الجائزات المعتادات . وقيل : إن
لله ملكا يعرض المرئيات على المحل المدرك من النائم , فيمثل له صورا محسوسة ; فتارة
تكون تلك الصور أمثلة موافقة لما يقع في الوجود , وتارة تكون لمعان معقولة غير
محسوسة , وفي الحالتين تكون مبشرة أو منذرة ; قال صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم
وغيره : ( رأيت سوداء ثائرة الرأس تخرج من المدينة إلى مهيعة فأولتها الحمى ) . و (
رأيت سيفي قد انقطع صدره وبقرا تنحر فأولتهما رجل من أهل بيتي يقتل والبقر نفر من
أصحابي يقتلون ) . و ( رأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ) . و ( رأيت
في يدي سوارين فأولتهما كذابين يخرجان بعدي ) . إلى غير ذلك مما ضربت له الأمثال ;
ومنها ما يظهر معناه أولا فأولا , ومنها ما لا يظهر إلا بعد التفكر ; وقد رأى
النائم في زمن يوسف عليه السلام بقرا فأولها يوسف السنين , ورأى أحد عشر كوكبا
والشمس والقمر فأولها بإخوته وأبويه . السابعة : إن قيل : إن يوسف عليه السلام كان
صغيرا وقت رؤياه , والصغير لا حكم لفعله , فكيف تكون له رؤيا لها حكم حتى يقول له
أبوه : { لا تقصص رؤياك على إخوتك }{ ؟ فالجواب : أن الرؤيا إدراك حقيقة على ما
قدمناه , فتكون من الصغير كما يكون منه الإدراك الحقيقي في اليقظة , وإذا أخبر عما
رأى صدق , فكذلك إذا أخبر عما يرى في المنام ; وقد أخبر الله سبحانه عن رؤياه وأنها
وجدت كما رأى فلا اعتراض ; روي أن يوسف عليه السلام كان ابن اثنتي عشرة سنة .
الثامنة : هذه الآية أصل في ألا تقص الرؤيا على غير شفيق ولا ناصح , ولا على من لا
يحسن التأويل فيها ; روى أبو رزين العقيلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (
الرؤيا جزء من أربعين جزءا من النبوة ) . و ( الرؤيا معلقة برجل طائر ما لم يحدث بها
صاحبها فإذا حدث بها وقعت فلا تحدثوا بها إلا عاقلا أو محبا أو ناصحا ) أخرجه
الترمذي وقال فيه : حديث حسن صحيح ; وأبو رزين اسمه لقيط بن عامر . وقيل لمالك :
أيعبر الرؤيا كل أحد ؟ فقال : أبالنبوة يلعب ؟ وقال مالك : لا يعبر الرؤيا إلا من
يحسنها , فإن رأى خيرا أخبر به , وإن رأى مكروها فليقل خيرا أو ليصمت ; قيل : فهل
يعبرها على الخير وهي عنده على المكروه لقول من قال إنها على ما تأولت عليه ؟ فقال
: لا ! ثم قال , : الرؤيا جزء من النبوة فلا يتلاعب بالنبوة . التاسعة : وفي هذه
الآية دليل على أن مباحا أن يحذر المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه , ولا يكون
داخلا في معنى الغيبة ; لأن يعقوب - عليه السلام - قد حذر يوسف أن يقص رؤياه على
إخوته فيكيدوا له كيدا , وفيها أيضا ما يدل على جواز ترك إظهار النعمة عند من تخشى
غائلته حسدا وكيدا ; وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( استعينوا على إنجاح حوائجكم
بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود ) . وفيها أيضا دليل واضح على معرفة يعقوب عليه
السلام بتأويل الرؤيا ; فإنه علم من تأويلها أنه سيظهر عليهم , ولم يبال بذلك من
نفسه ; فإن الرجل يود أن يكون ولده خيرا منه , والأخ لا يود ذلك لأخيه . ويدل أيضا
على أن يعقوب عليه السلام كان أحس من بنيه حسد يوسف وبغضه ; فنهاه عن قصص الرؤيا
عليهم خوف أن تغل بذلك صدورهم , فيعملوا الحيلة في هلاكه ; ومن هذا ومن فعلهم بيوسف
يدل على أنهم كانوا غير أنبياء في ذلك الوقت , ووقع في كتاب الطبري لابن زيد أنهم
كانوا أنبياء , وهذا يرده القطع بعصمة الأنبياء عن الحسد الدنيوي , وعن عقوق الآباء
, وتعريض مؤمن للهلاك , والتآمر في قتله , ولا التفات لقول من قال إنهم كانوا
أنبياء , ولا يستحيل في العقل زلة نبي , إلا أن هذه الزلة قد جمعت أنواعا من
الكبائر , وقد أجمع المسلمون على عصمتهم منها , وإنما اختلفوا في الصغائر على ما
تقدم ويأتي . العاشرة : روى البخاري عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول : ( لم يبق من النبوة إلا المبشرات ) قالوا : وما المبشرات ؟ قال :
( الرؤيا الصالحة ) وهذا الحديث بظاهره يدل على أن الرؤيا بشرى على الإطلاق وليس
كذلك ; فإن الرؤيا الصادقة قد تكون منذرة من قبل الله تعالى لا تسر رائيها , وإنما
يريها الله تعالى المؤمن رفقا به ورحمة , ليستعد لنزول البلاء قبل وقوعه ; فإن أدرك
تأولها بنفسه , وإلا سأل عنها من له أهلية ذلك . وقد رأى الشافعي رضي الله عنه وهو
بمصر رؤيا لأحمد بن حنبل تدل على محنته فكتب إليه بذلك ليستعد لذلك , وقد تقدم في [
يونس ] في تفسير قوله تعالى : { لهم البشرى في الحياة الدنيا } [ يونس : 64 ] أنها
الرؤيا الصالحة . وهذا وحديث البخاري مخرجه على الأغلب , والله أعلم . الحادية عشر :
روى البخاري عن أبي سلمة قال : لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت أبا قتادة يقول
: وأنا كنت لأرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (
الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب وإذا رأى ما
يكره فليتعوذ بالله من شرها وليتفل ثلاث مرات ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره )
. قال علماؤنا : فجعل الله الاستعاذة منها مما يرفع أذاها ; ألا ترى قول أبي قتادة :
إني كنت لأرى الرؤيا هي أثقل علي من الجبل , فلما سمعت بهذا الحديث كنت لا أعدها
شيئا . وزاد مسلم من رواية جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا
رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من الشيطان ثلاثا
وليتحول عن جنبه الذي كان عليه ) . وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : ( إذا رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل ) . قال علماؤنا : وهذا كله ليس بمتعارض
; وإنما هذا الأمر بالتحول , والصلاة زيادة , فعلى الرائي أن يفعل الجميع , والقيام
إلى الصلاة يشمل الجميع ; لأنه إذا صلى تضمن فعله للصلاة جميع تلك الأمور ; لأنه
إذا قام إلى الصلاة تحول عن جنبه , وإذا تمضمض تفل وبصق , وإذا قام إلى الصلاة تعوذ
ودعا وتضرع لله تعالى في أن يكفيه شرها في حال هي أقرب الأحوال إلى الإجابة ; وذلك
السحر من الليل .
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ الكاف في موضع نصب ; لأنها نعت لمصدر محذوف , وكذلك
الكاف في قوله : { كما أتمها على أبويك من قبل }{ و }{ ما }{ كافة . وقيل : { وكذلك }
أي كما أكرمك بالرؤيا فكذلك يجتبيك , ويحسن إليك بتحقيق الرؤيا . قال مقاتل :
بالسجود لك . الحسن : بالنبوة . والاجتباء اختيار معالي الأمور للمجتبى , وأصله من
جبيت الشيء أي حصلته , ومنه جبيت الماء في الحوض ; قاله النحاس . وهذا ثناء من الله
تعالى على يوسف عليه السلام , وتعديد فيما عدده عليه من النعم التي آتاه الله تعالى
; من التمكين في الأرض , وتعليم تأويل الأحاديث ; وأجمعوا أن ذلك في تأويل الرؤيا
. قال عبد الله بن شداد بن الهاد : كان تفسير رؤيا يوسف صلى الله عليه وسلم بعد
أربعين سنة ; وذلك منتهى الرؤيا . وعنى بالأحاديث ما يراه الناس في المنام , وهي
معجزة له ; فإنه لم يلحقه فيها خطأ . وكان يوسف عليه السلام أعلم الناس بتأويلها ,
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم نحو ذلك , وكان الصديق رضي الله عنه من أعبر الناس
لها , وحصل لابن سيرين فيها التقدم العظيم , والطبع والإحسان , ونحوه أو قريب منه
كان سعيد بن المسيب فيما ذكروا . وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ أي
أحاديث الأمم والكتب ودلائل التوحيد , فهو إشارة إلى النبوة , وهو المقصود بقوله :
{ ويتم نعمته عليك "وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ أي بالنبوة . وقيل : بإخراج إخوتك
إليك ; وقيل : بإنجائك من كل مكروه . وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ أعلمه الله تعالى أنه
سيعطي بني يعقوب كلهم النبوة ; قاله جماعة من المفسرين . كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى
أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ بالخلة , وإنجائه من النار . وَإِسْحَاقَ
بالنبوة . وقيل : من الذبح ; قاله عكرمة . إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ بما يعطيك . حَكِيمٌ
في فعله بك .
يعني , من سأل عن حديثهم . وقرأ أهل مكة }{ آية }{ على التوحيد ; واختار أبو عبيد }
آيات }{ على الجمع ; قال : لأنها خير كثير . قال النحاس : و }{ آية }{ هنا قراءة حسنة ,
أي لقد كان للذين سألوا عن خبر يوسف آية فيما خبروا به , لأنهم سألوا النبي صلى
الله عليه وسلم وهو بمكة فقالوا : أخبرنا عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج ابنه
إلى مصر , فبكى عليه حتى عمي ؟ - ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب , ولا من يعرف خبر
الأنبياء ; وإنما وجه اليهود إليهم من المدينة يسألونه عن هذا - فأنزل الله عز وجل
سورة [ يوسف ] جملة واحدة ; فيها كل ما في التوراة من خبر وزيادة , فكان ذلك آية
للنبي صلى الله عليه وسلم , بمنزلة إحياء عيسى ابن مريم عليه السلام الميت .{ آيات
{ موعظة ; وقيل : عبرة . وروي أنها في بعض المصاحف }{ عبرة } . وقيل : بصيرة . وقيل :
عجب ; تقول فلان آية في العلم والحسن أي عجب . قال الثعلبي في تفسيره : لما بلغت
الرؤيا إخوة يوسف حسدوه ; وقال ابن زيد : كانوا أنبياء , وقالوا : ما يرضى أن يسجد
له إخوته حتى يسجد له أبواه ! فبغوه بالعداوة , وقد تقدم رد هذا القول . قال الله
تعالى : { لقد كان في يوسف وإخوته }{ وأسماؤهم : روبيل وهو أكبرهم , وشمعون ولاوي
ويهوذا وزيالون ويشجر , وأمهم ليا بنت ليان , وهي بنت خال يعقوب , وولد له من
سريتين أربعة نفر ; دان ونفتالي وجاد وآشر , ثم توفيت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل
, فولدت له يوسف وبنيامين , فكان بنو يعقوب اثني عشر رجلا . قال السهيلي : وأم يعقوب
اسمها رفقا , وراحيل ماتت في نفاس بنيامين , وليان بن ناهر بن آزر هو خال يعقوب
. وقيل : في اسم الأمتين ليا وتلتا , كانت إحداهما لراحيل , والأخرى لأختها ليا ,
وكانتا قد وهبتاهما ليعقوب , وكان يعقوب قد جمع بينهما , ولم يحل لأحد بعده ; لقول
الله تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف } [ النساء : 23 ] . وقد تقدم
الرد على ما قاله ابن زيد , والحمد لله .
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ }{ يوسف }{ رفع بالابتداء ; واللام للتأكيد , وهي
التي يتلقى بها القسم ; أي والله ليوسف .{ وأخوه }{ عطف عليه . أَحَبُّ إِلَى
أَبِينَا مِنَّا خبره , ولا يثنى ولا يجمع لأنه بمعنى الفعل ; وإنما قالوا هذا لأن
خبر المنام بلغهم فتآمروا في كيده . وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي جماعة , وكانوا عشرة
. والعصبة ما بين الواحد إلى العشرة , وقيل : إلى الخمسة عشر . وقيل : ما بين
الأربعين إلى العشرة ; ولا واحد لها من لفظها كالنفر والرهط . إِنَّ أَبَانَا لَفِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ لم يريدوا ضلال الدين , إذ لو أرادوه لكانوا كفارا ; بل أرادوا لفي
ذهاب عن وجه التدبير , في إيثار اثنين على عشرة مع استوائهم في الانتساب إليه . وقيل
: لفي خطأ بين بإيثاره يوسف وأخاه علينا .
اقْتُلُوا يُوسُفَ في الكلام حذف ; أي قال قائل منهم : { اقتلوا يوسف }{ ليكون أحسم
لمادة الأمر . أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا أي في أرض , فأسقط الخافض وانتصب الأرض ;
وأنشد سيبويه فيما حذف منه }{ في } : لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق
الثعلب قال النحاس : إلا أنه في الآية حسن كثير ; لأنه يتعدى إلى مفعولين , أحدهما
بحرف , فإذا حذفت الحرف تعدى الفعل إليه . والقائل قيل : هو شمعون , قال وهب بن منبه
. وقال كعب الأحبار ; دان . وقال مقاتل : روبيل ; والله أعلم . والمعنى أرضا تبعد عن
أبيه ; فلا بد من هذا الإضمار لأنه كان عند أبيه في أرض . يَخْلُ جزم لأنه جواب
الأمر ; معناه : يخلص ويصفو . لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ فيقبل عليكم بكليته
. وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد الذنب , وقيل : من بعد يوسف . قَوْمًا
صَالِحِينَ أي تائبين ; أي تحدثوا توبة بعد ذلك فيقبلها الله منكم ; وفي هذا دليل
على أن توبة القاتل مقبولة , لأن الله تعالى لم ينكر هذا القول منهم . وقيل : { صالحين }{ أي يصلح شأنكم عند أبيكم من غير أثرة ولا تفضيل .
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ القائل هو يهوذا , وهو أكبر ولد
يعقوب ; قاله ابن عباس . وقيل : روبيل , وهو ابن خالته , وهو الذي قال : { فلن أبرح
الأرض } [ يوسف : 80 ] الآية . وقيل : شمعون . وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ
قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة }{ في غيابة الجب } . وقرأ أهل المدينة }{ في
غيابات الجب }{ واختار أبو عبيد التوحيد ; لأنه على موضع واحد ألقوه فيه , وأنكر
الجمع لهذا . قال النحاس : وهذا تضييق في اللغة ; }{ وغيابات }{ على الجمع يجوز من
وجهين : حكى سيبويه سير عليه عشيانات وأصيلانات , يريد عشية وأصيلا , فجعل كل وقت
منها عشية وأصيلا ; فكذا جعل كل موضع مما يغيب غيابة . والآخر - أن يكون في الجب
غيابات ( جماعة ) . ويقال : غاب يغيب غيبا وغيابة وغيابا ; كما قال الشاعر : ألا
فالبثا شهرين أو نصف ثالث أنا ذاكما قد غيبتني غيابيا قال الهروي : والغيابة شبه
لجف أو طاق في البئر فويق الماء , يغيب الشيء عن العين . وقال ابن عزيز : كل شيء غيب
عنك شيئا فهو غيابة . قلت : ومنه قيل للقبر غيابة ; قال الشاعر : فإن أنا يوما
غيبتني غيابتي فسيروا بسيري في العشيرة والأهل والجب الركية التي لم تطو , فإذا
طويت فهي بئر ; قال الأعشى : لئن كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم
وسميت جبا لأنها قطعت في الأرض قطعا ; وجمع الجب جببة وجباب وأجباب ; وجمع بين
الغيابة والجب لأنه أراد ألقوه في موضع مظلم من الجب حتى لا يلحقه نظر الناظرين
. قيل : هو بئر بيت المقدس , وقيل : هو بالأردن ; قاله وهب بن منبه . مقاتل : وهو على
ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب . يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ
فَاعِلِينَ فيه اثني عشرة مسألة الأولى : جزم على جواب الأمر . وقرأ مجاهد وأبو رجاء
والحسن وقتادة : { تلتقطه }{ بالتاء , وهذا محمول على المعنى ; لأن بعض السيارة
سيارة ; وقال سيبويه : سقطت بعض أصابعه , وأنشد : وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما
شرقت صدر القناة من الدم وقال آخر : أرى مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من
الهلال ولم يقل شرق ولا أخذت . والسيارة الجمع الذي يسيرون في الطريق للسفر ; وإنما
قال القائل هذا حتى لا يحتاجوا إلى حمله إلى موضع بعيد ويحصل المقصود ; فإن من
التقطه من السيارة يحمله إلى موضع بعيد ; وكان هذا وجها في التدبير حتى لا يحتاجوا
إلى الحركة بأنفسهم , فربما لا يأذن لهم أبوهم , وربما يطلع على قصدهم . الثانية :
وفي هذا ما يدل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء لا أولا ولا آخرا ; لأن الأنبياء
لا يدبرون في قتل مسلم , بل كانوا مسلمين , فارتكبوا معصية ثم تابوا . وقيل : كانوا
أنبياء , ولا يستحيل في العقل زلة نبي , فكانت هذه زلة منهم ; وهذا يرده أن
الأنبياء معصومون من الكبائر على ما قدمناه . وقيل : ما كانوا في ذلك الوقت أنبياء
ثم نبأهم الله ; وهذا أشبه , والله أعلم . الثالثة : قال ابن وهب قال مالك : طرح
يوسف في الجب وهو غلام , وكذلك روى ابن القاسم عنه , يعني أنه كان صغيرا ; والدليل
عليه قوله تعالى : { لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة }{ قال
: ولا يلتقط إلا الصغير ; وقوله : { وأخاف أن يأكله الذئب } [ يوسف : 13 ] وذلك أمر
يختص بالصغار ; وقولهم : { أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون } [ يوسف :
12 ] . الرابعة : الالتقاط تناول الشيء من الطريق ; ومنه اللقيط واللقطة , ونحن
نذكر من أحكامها ما دلت عليه الآية والسنة , وما قال في ذلك أهل العلم واللغة ; قال
ابن عرفة : الالتقاط وجود الشيء على غير طلب , ومنه قوله تعالى : { يلتقطه بعض
السيارة }{ أي يجده من غير أن يحتسبه . وقد اختلف العلماء في اللقيط ; فقيل : أصله
الحرية لغلبة الأحرار على العبيد ; وروي عن الحسن بن علي أنه قضى بأن اللقيط حر ,
وتلا }{ وشروه بثمن بخس دراهم معدودة } [ يوسف : 20 ] وإلى هذا ذهب أشهب صاحب مالك ;
وهو قول عمر بن الخطاب , وكذلك روي عن علي وجماعة . وقال إبراهيم النخعي : إن نوى
رقه فهو مملوك , وإن نوى الحسبة فهو حر . وقال مالك في موطئه : الأمر عندنا في
المنبوذ أنه حر , وأن ولاءه لجماعة المسلمين , هم يرثونه ويعقلون عنه , وبه قال
الشافعي ; واحتج بقوله عليه السلام : ( وإنما الولاء لمن أعتق ) قال : فنفى الولاء
عن غير المعتق . واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن اللقيط لا يوالي أحدا , ولا
يرثه أحد بالولاء . وقال أبو حنيفة وأصحابه وأكثر الكوفيين : اللقيط يوالي من شاء ,
فمن والاه فهو يرثه ويعقل عنه ; وعند أبي حنيفة له أن ينتقل بولائه حيث شاء , ما لم
يعقل عنه الذي والاه , فإن عقل عنه جناية لم يكن له أن ينتقل عنه بولائه أبدا . وذكر
أبو بكر بن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه : المنبوذ حر , فإن أحب أن يوالي الذي
التقطه والاه , وإن أحب أن يوالي غيره والاه ; ونحوه عن عطاء , وهو قول ابن شهاب
وطائفة من أهل المدينة , وهو حر . قال ابن العربي : إنما كان أصل اللقيط الحرية
لغلبة الأحرار على العبيد , فقضى بالغالب , كما حكم أنه مسلم أخذا بالغالب ; فإن
كان في قرية فيها نصارى ومسلمون قال ابن القاسم : يحكم بالأغلب ; فإن وجد عليه زي
اليهود فهو يهودي , وإن وجد عليه زي النصارى فهو نصراني , وإلا فهو مسلم , إلا أن
يكون أكثر أهل القرية على غير الإسلام . وقال غيره : لو لم يكن فيها إلا مسلم واحد
قضي للقيط بالإسلام تغليبا لحكم الإسلام الذي يعلو ولا يعلى عليه , وهو مقتضى قول
أشهب ; قال أشهب : هو مسلم أبدا . لأني أجعله مسلما على كل حال , كما أجعله حرا على
كل حال . واختلف الفقهاء في المنبوذ تدل البينة على أنه عبد ; فقالت طائفة من أهل
المدينة : لا يقبل قولها في ذلك , وإلى هذا ذهب أشهب لقول عمر : هو حر ; ومن قضي
بحريته لم تقبل البينة في أنه عبد . وقال ابن القاسم : تقبل البينة في ذلك وهو قول
الشافعي والكوفي . الخامسة : قال مالك في اللقيط : إذا أنفق عليه الملتقط ثم أقام
رجل البينة أنه ابنه فإن الملتقط يرجع على الأب إن كان طرحه متعمدا , وإن لم يكن
طرحه ولكنه ضل منه فلا شيء على الأب , والملتقط متطوع بالنفقة . وقال أبو حنيفة :
إذا أنفق على اللقيط فهو متطوع , إلا أن يأمره الحاكم . وقال الأوزاعي : كل من أنفق
على من لا تجب عليه نفقة رجع بما أنفق . وقال الشافعي : إن لم يكن للقيط مال وجبت
نفقته في بيت المال , فإن لم يكن ففيه قولان : أحدهما - يستقرض له في ذمته . والثاني
- يقسط على المسلمين من غير عوض . السادسة : وأما اللقطة والضوال فقد اختلف العلماء
في حكمهما ; فقالت طائفة من أهل العلم : اللقطة والضوال سواء في المعنى , والحكم
فيهما سواء ; وإلى هذا ذهب أبو جعفر الطحاوي , وأنكر قول أبي عبيد القاسم بن سلام -
أن الضالة لا تكون إلا في الحيوان واللقطة في غير الحيوان - وقال هذا غلط ; واحتج
بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الإفك للمسلمين : ( إن أمكم ضلت قلادتها ) فأطلق
ذلك على القلادة . السابعة : أجمع العلماء على أن اللقطة ما لم تكن تافها يسيرا أو
شيئا لا بقاء لها فإنها تعرف حولا كاملا , وأجمعوا أن صاحبها إن جاء فهو أحق بها من
ملتقطها إذا ثبت له أنه صاحبها , وأجمعوا أن ملتقطها إن أكلها بعد الحول وأراد
صاحبها أن يضمنه فإن ذلك له , وإن تصدق بها فصاحبها مخير بين التضمين وبين أن ينزل
على أجرها , فأي ذلك تخير كان ذلك له بإجماع ; ولا تنطلق يد ملتقطها عليها بصدقة ,
ولا تصرف قبل الحول . وأجمعوا أن ضالة الغنم المخوف عليها له أكلها . الثامنة :
واختلف الفقهاء في الأفضل من تركها أو أخذها ; فمن ذلك أن في الحديث دليلا على
إباحة التقاط اللقطة وأخذ الضالة ما لم تكن إبلا . وقال في الشاة : ( لك أو لأخيك أو
للذئب ) يحضه على أخذها , ولم يقل في شيء دعوه حتى يضيع أو يأتيه ربه . ولو كان ترك
اللقطة أفضل لأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال في ضالة الإبل , والله
أعلم . وجملة مذهب أصحاب مالك أنه في سعة , إن شاء أخذها وإن شاء تركها ; هذا قول
إسماعيل بن إسحاق رحمه الله . وقال المزني عن الشافعي : لا أحب لأحد ترك اللقطة إن
وجدها إذا كان أمينا عليها ; قال : وسواء قليل اللقطة وكثيرها . التاسعة : روى
الأئمة مالك وغيره عن زيد بن خالد الجهني قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فسأله عن اللقطة فقال : ( اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها
وإلا فشأنك بها ) قال : فضالة الغنم يا رسول الله ؟ قال : ( لك أو لأخيك أو للذئب )
قال : فضالة الإبل ؟ قال : ( ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر
حتى يلقاها ربها ) . وفي حديث أبي قال : ( احفظ عددها ووعاءها ووكاءها فإن جاء
صاحبها وإلا فاستمتع بها ) ففي هذا الحديث زيادة العدد ; خرجه مسلم وغيره . وأجمع
العلماء أن عفاص اللقطة ووكاءها من إحدى علاماتها وأدلها عليها ; فإذا أتى صاحب
اللقطة بجميع أوصافها دفعت له ; قال ابن القاسم : يجبر على دفعها ; فإن جاء مستحق
يستحقها ببينة أنها كانت له لم يضمن الملتقط شيئا , وهل يحلف مع الأوصاف أو لا ؟
قولان : الأول لأشهب , والثاني لابن القاسم , ولا تلزمه بينة عند مالك وأصحابه
وأحمد بن حنبل وغيرهم . وقال أبو حنيفة والشافعي : لا تدفع له إلا إذا أقام بينة
أنها له ; وهو بخلاف نص الحديث ; ولو كانت البينة شرطا في الدفع لما كان لذكر
العفاص والوكاء والعدد معنى ; فإنه يستحقها بالبينة على كل حال ; ولما جاز سكوت
النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك , فإنه تأخير البيان عن وقت الحاجة . والله أعلم .
العاشرة : نص الحديث على الإبل والغنم وبين حكمهما , وسكت عما عداهما من الحيوان
. وقد اختلف علماؤنا في البقر هل تلحق بالإبل أو بالغنم ؟ قولان ; وكذلك اختلف
أئمتنا في التقاط الخيل والبغال والحمير , وظاهر قول ابن القاسم أنها تلتقط , وقال
أشهب وابن كنانة : لا تلتقط ; وقول ابن القاسم أصح ; لقوله عليه السلام : ( احفظ
على أخيك المؤمن ضالته ) . الحادية عشر : واختلف العلماء في النفقة على الضوال ;
فقال مالك فيما ذكر عنه ابن القاسم : إن أنفق الملتقط على الدواب والإبل وغيرها فله
أن يرجع على صاحبها بالنفقة , وسواء أنفق عليها بأمر السلطان أو بغير أمره ; قال :
وله أن يحبس بالنفقة ما أنفق عليه ويكون أحق به كالرهن . وقال الشافعي : إذا أنفق
على الضوال من أخذها فهو متطوع ; حكاه عنه الربيع . وقال المزني عنه : إذا أمره
الحاكم بالنفقة كانت دينا , وما ادعى قبل منه إذا كان مثله قصدا . وقال أبو حنيفة :
إذا أنفق على اللقطة والإبل بغير أمر القاضي فهو متطوع , وإن أنفق بأمر القاضي فذلك
دين على صاحبها إذا جاء , وله أن يحبسها إذا حضر صاحبها , والنفقة عليها ثلاثة أيام
ونحوها , حتى يأمر القاضي ببيع الشاة وما أشبهها ويقضي بالنفقة . الثانية عشر : ليس
في قوله صلى الله عليه وسلم في اللقطة بعد التعريف : ( فاستمتع بها ) أو ( فشأنك
بها ) أو ( فهي لك ) أو ( فاستنفقها ) أو ( ثم كلها ) أو ( فهو مال الله يؤتيه من
يشاء ) على ما في صحيح مسلم وغيره , ما يدل على التمليك , وسقوط الضمان عن الملتقط
إذا جاء ربها ; فإن في حديث زيد بن خالد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم : (
فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء صاحبها يوما من الدهر فأدها إليه )
في رواية ( ثم كلها فإن جاء صاحبها فأدها إليه ) خرجه البخاري ومسلم . وأجمع العلماء
على أن صاحبها متى جاء فهو أحق بها , إلا ما ذهب إليه داود من أن الملتقط يملك
اللقطة بعد التعريف ; لتلك الظواهر , ولا التفات لقوله ; لمخالفة الناس , ولقوله
عليه السلام : ( فأدها إليه ) .
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى قيل للحسن : أيحسد المؤمن ؟
قال : ما أنساك ببني يعقوب . ولهذا قيل : الأب جلاب والأخ سلاب ; فعند ذلك أجمعوا
على التفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال . وقالوا ليعقوب : { يا أبانا ما لك لا
تأمنا على يوسف }{ وقيل : لما تفاوضوا وافترقوا على رأي المتكلم الثاني عادوا إلى
يعقوب عليه السلام وقالوا هذا القول . وفيه دليل على أنهم سألوه قبل ذلك أن يخرج
معهم يوسف فأبى على ما يأتي . قرأ يزيد بن القعقاع وعمرو بن عبيد والزهري }{ لا تأمنا
{ بالإدغام , وبغير إشمام وهو القياس ; لأن سبيل ما يدغم أن يكون ساكنا . وقرأ طلحة
بن مصرف }{ لا تأمننا }{ بنونين ظاهرتين على الأصل . وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رزين -
وروي عن الأعمش - { ولا تيمنا }{ بكسر التاء , وهي لغة تميم ; يقولون : أنت تضرب ;
وقد تقدم . وقرأ سائر الناس بالإدغام والإشمام ليدل على حال , الحرف قبل
إدغامهيُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ أي في حفظه وحيطته حتى نرده إليك . قال مقاتل : في
الكلام تقديم وتأخير ; وذلك أن إخوة يوسف قالوا لأبيهم : { أرسله معنا غدا }{ الآية
; فحينئذ قال أبوهم : { إني ليحزنني أن تذهبوا به } [ يوسف : 13 ] فقالوا حينئذ
جوابا لقوله }{ ما لك لا تأمنا على يوسف }{ الآية .
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا إلى الصحراء .{ غدا }{ ظرف , والأصل عند سيبويه غدو , وقد
نطق به على الأصل ; قال النضر بن شميل : ما بين الفجر وصلاة الصبح يقال له غدوة ,
وكذا بكرة . يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ بالنون وإسكان العين قراءة أهل البصرة . والمعروف من
قراءة أهل مكة .{ نرتع }{ بالنون وكسر العين . وقراءة أهل الكوفة .{ يرتع ويلعب }
بالياء وإسكان العين . وقراءة أهل المدينة بالياء وكسر العين ; القراءة الأولى من
قول العرب رتع الإنسان والبعير إذا أكلا كيف شاءا ; والمعنى : نتسع في الخصب ; وكل
مخصب راتع ; قال : فارعي فزارة لا هناك المرتع وقال آخر : ترتع ما غفلت حتى إذا
ادكرت فإنما هي إقبال وإدبار وقال آخر : أكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة
الرتاعا أي الراتعة لكثرة المرعى . وروى معمر عن قتادة }{ ترتع }{ تسعى ; قال النحاس :
أخذه من قوله : { إنا ذهبنا نستبق }{ لأن المعنى : نستبق في العدو إلى غاية بعينها ;
وكذا }{ يرتع }{ بإسكان العين , إلا أنه ليوسف وحده صلى الله عليه وسلم . و }{ يرتع }
بكسر العين من رعي الغنم , أي ليتدرب بذلك ويترجل ; فمرة يرتع , ومرة يلعب لصغره
. وقال القتبي }{ نرتع }{ نتحارس ونتحافظ , ويرعى بعضنا بعضا ; من قولك : رعاك الله ;
أي حفظك .{ ونلعب }{ من اللعب وقيل لأبي عمرو بن العلاء : كيف قالوا }{ ونلعب }{ وهم
أنبياء ؟ فقال : لم يكونوا يومئذ أنبياء . وقيل : المراد باللعب المباح من الانبساط
, لا اللعب المحظور الذي هو ضد الحق ; ولذلك لم ينكر يعقوب قولهم }{ ونلعب } . ومنه
قوله عليه السلام : ( فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك ) . وقرأ مجاهد وقتادة : { يرتع }
على معنى يرتع مطيته , فحذف المفعول ; }{ ويلعب }{ بالرفع على الاستئناف ; والمعنى :
هو ممن يلعبوَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ من كل ما تخاف عليه . ثم يحتمل أنهم كانوا
يخرجون ركبانا , ويحتمل أنهم كانوا رجالة . وقد نقل أنهم حملوا يوسف على أكتافهم ما
دام يعقوب يراهم , ثم لما غابوا عن عينه طرحوه ليعدو معهم إضرارا به .
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ في موضع رفع ; أي ذهابكم به . أخبر
عن حزنه لغيبته . وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وذلك أنه رأى في منامه أن
الذئب شد على يوسف , فلذلك خافه عليه ; قاله الكلبي . وقيل : إنه رأى في منامه كأنه
على ذروة جبل , وكأن يوسف في بطن الوادي , فإذا عشرة من الذئاب قد احتوشته تريد
أكله , فدرأ عنه واحد , ثم انشقت الأرض فتوارى يوسف فيها ثلاثة أيام ; فكانت العشرة
إخوته , لما تمالئوا على قتله , والذي دافع عنه أخوه الأكبر يهوذا , وتواريه في
الأرض هو مقامه في الجب ثلاثة أيام . وقيل : إنما قال ذلك لخوفه منهم عليه , وأنه
أرادهم بالذئب ; فخوفه إنما كان من قتلهم له , فكنى عنهم بالذئب مساترة لهم ; قال
ابن عباس : فسماهم ذئابا . وقيل : ما خافهم عليه , ولو خافهم لما أرسله معهم , وإنما
خاف الذئب ; لأنه أغلب ما يخاف في الصحاري . والذئب مأخوذ من تذاءبت الريح إذا جاءت
من كل وجه ; كذا قال أحمد بن يحيى ; قال : والذئب مهموز لأنه يجيء من كل وجه . وروى
ورش عن نافع }{ الذيب }{ بغير همز , لما كانت الهمزة ساكنة وقبلها كسرة فخففها صارت
ياء . وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ أي مشغلون بالرعي .
قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي جماعة نرى الذئب ثم لا
نرده عنه . إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ أي في حفظنا أغنامنا ; أي إذا كنا لا نقدر على
دفع الذئب عن أخينا فنحن أعجز أن ندفعه عن أغنامنا . وقيل : { لخاسرون }{ لجاهلون
بحقه . وقيل : لعاجزون .
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ }{ أن
{ في موضع نصب ; أي على أن يجعلوه في غيابة الجب . قيل في القصة : إن يعقوب عليه
السلام لما أرسله معهم أخذ عليهم ميثاقا غليظا ليحفظنه , وسلمه إلى روبيل وقال : يا
روبيل إنه صغير , وتعلم يا بني شفقتي عليه ; فإن جاع فأطعمه , وإن عطش فاسقه , وإن
أعيا فاحمله ثم عجل برده إلي . قال : فأخذوا يحملونه على أكتافهم , لا يضعه واحد إلا
رفعه آخر , ويعقوب يشيعهم ميلا ثم رجع ; فلما انقطع بصر أبيهم عنهم رماه الذي كان
يحمله إلى الأرض حتى كاد ينكسر , فالتجأ إلى آخر فوجد عند كل واحد منهم أشد مما عند
الآخر من الغيظ والعسف ; فاستغاث بروبيل وقال : ( أنت أكبر إخوتي , والخليفة من بعد
والدي علي , وأقرب الإخوة إلي , فارحمني وارحم ضعفي ) فلطمه لطمة شديدة وقال : لا
قرابة بيني وبينك , فادع الأحد عشر كوكبا فلتنجك منا ; فعلم أن حقدهم من أجل رؤياه
, فتعلق بأخيه يهوذا وقال : يا أخي ارحم ضعفي وعجزي وحداثة سني , وارحم قلب أبيك
يعقوب ; فما أسرع ما تناسيتم وصيته ونقضتم عهده ; فرق قلب يهوذا فقال : والله لا
يصلون إليك أبدا ما دمت حيا , ثم قال : يا إخوتاه إن قتل النفس التي حرم الله من
أعظم الخطايا , فردوا هذا الصبي إلى أبيه , ونعاهده ألا يحدث والده بشيء مما جرى
أبدا ; فقال له إخوته : والله ما تريد إلا أن تكون لك المكانة عند يعقوب , والله
لئن لم تدعه لنقتلنك معه , قال : فإن أبيتم إلا ذلك فهاهنا هذا الجب الموحش القفر ,
الذي هو مأوى الحيات والهوام فألقوه فيه , فإن أصيب بشيء من ذلك فهو المراد , وقد
استرحتم من دمه , وإن انفلت على أيدي سيارة يذهبون به إلى أرض فهو المراد ; فأجمع
رأيهم على ذلك ; فهو قول الله تعالى : { فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة
الجب }{ وجواب }{ لما }{ محذوف ; أي فلما ذهبوا به وأجمعوا على طرحه في الجب عظمت
فتنتهم . وقيل : جواب }{ لما }{ قولهم : { قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق } [ يوسف :
17 ] . وقيل : التقدير فلما ذهبوا به من عند أبيهم وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب
جعلوه فيها , هذا على مذهب البصريين ; وأما على قول الكوفيين فالجواب .{ أوحينا }
والواو مقحمة , والواو عندهم تزاد مع لما وحتى ; قال الله تعالى : { حتى إذا جاءوها
وفتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ] أي فتحت وقوله : { حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور }
[ هود : 40 ] أي فار . قال امرؤ القيس : فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى أي انتحى ;
ومنه قوله تعالى : { فلما أسلما وتله للجبين وناديناه } [ الصافات : 103 - 104 ] أي
ناديناه . ومما ذكر من قصته إذ ألقي في الجب ما ذكره السدي وغيره أن إخوته لما
جعلوا يدلونه في البئر , تعلق بشفير البئر , فربطوا يديه ونزعوا قميصه ; فقال : يا
إخوتاه ردوا علي قميصي أتوارى به في هذا الجب , فإن مت كان كفني , وإن عشت أواري به
عورتي ; فقالوا : ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا فلتؤنسك وتكسك ; فقال : إني لم
أر شيئا , فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يسقط فيموت ; فكان في
البئر ماء فسقط فيه , ثم آوى إلى صخرة فقام عليها . وقيل : إن شمعون هو الذي قطع
الحبل إرادة أن يتفتت على الصخرة , وكان جبريل تحت ساق العرش , فأوحى الله إليه أن
أدرك عبدي ; قال جبريل : فأسرعت وهبطت حتى عارضته بين الرمي والوقوع فأقعدته على
الصخرة سالما . وكان ذلك الجب مأوى الهوام ; فقام على الصخرة وجعل يبكي , فنادوه ,
فظن أنها رحمة عليه أدركتهم , فأجابهم ; فأرادوا أن يرضخوه بالصخرة فمنعهم يهوذا ,
وكان يهوذا يأتيه بالطعام ; فلما وقع عريانا نزل جبريل إليه ; وكان إبراهيم حين
ألقي في النار عريانا أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه , فكان ذلك عند
إبراهيم , ثم ورثه إسحاق , ثم ورثه يعقوب , فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في
تعويذة وجعله في عنقه , فكان لا يفارقه ; فلما ألقي في الجب عريانا أخرج جبريل ذلك
القميص فألبسه إياه . قال وهب : فلما قام على الصخرة قال : يا إخوتاه إن لكل ميت
وصية , فاسمعوا وصيتي , قالوا : وما هي ؟ قال : إذا اجتمعتم كلكم فأنس بعضكم بعضا
فاذكروا وحشتي , وإذا أكلتم فاذكروا جوعي , وإذا شربتم فاذكروا عطشي , وإذا رأيتم
غريبا فاذكروا غربتي , وإذا رأيتم شابا فاذكروا شبابي ; فقال له جبريل : يا يوسف كف
عن هذا واشتغل بالدعاء , فإن الدعاء عند الله بمكان ; ثم علمه فقال : قل اللهم يا
مؤنس كل غريب , ويا صاحب كل وحيد , ويا ملجأ كل خائف , ويا كاشف كل كربة , ويا عالم
كل نجوى , ويا منتهى كل شكوى , ويا حاضر كل ملإ , يا حي يا قيوم أسألك أن تقذف
رجاءك في قلبي , حتى لا يكون لي هم ولا شغل غيرك , وأن تجعل لي من أمري فرجا ومخرجا
, إنك على كل شيء قدير ; فقالت الملائكة : إلهنا نسمع صوتا ودعاء , الصوت صوت صبي ,
والدعاء دعاء نبي . وقال الضحاك : نزل جبريل عليه السلام على يوسف وهو في الجب فقال
له : ألا أعلمك كلمات إذا أنت قلتهن عجل الله لك خروجك من هذا الجب ؟ فقال : نعم
فقال له : قل يا صانع كل مصنوع , ويا جابر كل كسير , ويا شاهد كل نجوى , ويا حاضر
كل ملإ , ويا مفرج كل كربة , ويا صاحب كل غريب , ويا مؤنس كل وحيد , ايتني بالفرج
والرجاء , واقذف رجاءك في قلبي حتى لا أرجو أحدا سواك ; فرددها يوسف في ليلته مرارا
; فأخرجه الله في صبيحة يومه ذلك من الجب . وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ
لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا دليل على نبوته في ذلك الوقت . قال الحسن
ومجاهد والضحاك وقتادة : أعطاه الله النبوة وهو في الجب على حجر مرتفع عن الماء
. وقال الكلبي : ألقي في الجب , وهو ابن ثماني عشرة سنة , فما كان صغيرا ; ومن قال
كان صغيرا فلا يبعد في العقل أن يتنبأ الصغير ويوحى إليه . وقيل : كان وحي إلهام
كقوله : { وأوحى ربك إلى النحل } [ النحل : 68 ] . وقيل : كان مناما , والأول أظهر -
والله أعلم - وأن جبريل جاءه بالوحي . { لتنبئنهم بأمرهم هذا }{ فيه وجهان : أحدهما
: أنه أوحى إليه أنه سيلقاهم ويوبخهم على ما صنعوا ; فعلى هذا يكون الوحي بعد
إلقائه في الجب تقوية لقلبه , وتبشيرا له بالسلامة . الثاني : أنه أوحى إليه بالذي
يصنعون به ; فعلى هذا يكون الوحي قبل إلقائه في الجب إنذارا لهوَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ أنك يوسف ; وذلك أن الله تعالى أمره لما أفضى إليه الأمر بمصر ألا يخبر
أباه وإخوته بمكانه . وقيل : بوحي الله تعالى بالنبوة ; قاله ابن عباس ومجاهد . وقيل
: { الهاء }{ ليعقوب ; أوحى الله تعالى إليه ما فعلوه بيوسف , وأنه سيعرفهم بأمره ,
وهم لا يشعرون بما أوحى الله إليه , والله أعلم .
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : { عشاء
{ أي ليلا , وهو ظرف يكون في موضع الحال ; وإنما جاءوا عشاء ليكونوا أقدر على
الاعتذار في الظلمة , ولذا قيل : لا تطلب الحاجة بالليل , فإن الحياء في العينين ,
ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار ; فروي أن يعقوب عليه السلام لما سمع
بكاءهم قال : ما بكم ؟ أجرى في الغنم شيء ؟ قالوا : لا . قال : فأين يوسف ؟ قالوا :
ذهبنا نستبق فأكله الذئب , فبكى وصاح وقال : أين قميصه ؟ على ما يأتي بيانه إن شاء
الله . وقال السدي وابن حبان : إنه لما قالوا أكله الذئب خر مغشيا عليه , فأفاضوا
عليه الماء فلم يتحرك , ونادوه فلم يجب ; قال وهب : ولقد وضع يهوذا يده على مخارج
نفس يعقوب فلم يحس بنفس , ولم يتحرك له عرق ; فقال لهم يهوذا : ويل لنا من ديان يوم
الدين ضيعنا أخانا , وقتلنا أبانا , فلم يفق يعقوب إلا ببرد السحر , فأفاق ورأسه في
حجر روبيل ; فقال : يا روبيل ألم ائتمنك على ولدي ؟ ألم أعهد إليك عهدا ؟ فقال : يا
أبت كف عني بكاءك أخبرك ; فكف يعقوب بكاءه فقال : يا أبت }{ إنا ذهبنا نستبق وتركنا
يوسف عند متاعنا فأكله الذئب } . الثانية : قال علماؤنا : هذه الآية دليل على أن
بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله , لاحتمال أن يكون تصنعا ; فمن الخلق من يقدر على
ذلك , ومنهم من لا يقدر . وقد قيل : إن الدمع المصنوع لا يخفى ; كما قال حكيم : إذا
اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى .
قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا فيه سبع مسائل الأولى : { نستبق }{ نفتعل ,
من , المسابقة . وقيل : أي ننتضل ; وكذا في قراءة عبد الله }{ إنا ذهبنا ننتضل }{ وهو
نوع من المسابقة ; قاله الزجاج . وقال الأزهري : النضال في السهام , والرهان في
الخيل , والمسابقة تجمعهما . قال القشيري أبو نصر : { نستبق }{ أي في الرمي , أو على
الفرس ; أو على الأقدام ; والغرض من المسابقة على الأقدام تدريب النفس على العدو ,
لأنه الآلة في قتال العدو , ودفع الذئب عن الأغنام . وقال السدي وابن حبان : { نستبق
{ نشتد جريا لنرى أينا أسبق . قال ابن العربي : المسابقة شرعة في الشريعة , وخصلة
بديعة , وعون على الحرب ; وقد فعلها صلى الله عليه وسلم بنفسه وبخيله , وسابق عائشة
رضي الله عنها على قدميه فسبقها ; فلما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقها
فسبقته ; فقال لها : ( هذه بتلك ) . قلت : وسابق سلمة بن الأكوع رجلا لما رجعوا من
ذي قرد إلى المدينة فسبقه سلمة ; خرجه مسلم . الثانية : وروى مالك عن نافع عن ابن
عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء وكان
أمدها ثنية الوداع , وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق ,
وأن عبد الله بن عمر كان ممن سابق بها ; وهذا الحديث مع صحته في هذا الباب تضمن
ثلاثة شروط ; فلا تجوز المسابقة بدونها , وهي : أن المسافة لا بد أن تكون معلومة
. الثاني : أن تكون الخيل متساوية الأحوال . الثالث : ألا يسابق المضمر مع غير المضمر
في أمد واحد وغاية واحدة . والخيل التي يجب أن تضمر ويسابق عليها , وتقام هذه السنة
فيها هي الخيل المعدة لجهاد العدو لا لقتال المسلمين في الفتن . الثالثة : وأما
المسابقة بالنصال والإبل ; فروى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال : سافرنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه , ومنا من ينتضل , وذكر
الحديث . وخرج النسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا سبق
إلا في نصل أو خف أو حافر ) . وثبت ذكر النصل من حديث ابن أبي ذئب عن نافع بن أبي
نافع عن أبي هريرة , ذكره النسائي ; وبه يقول فقهاء الحجاز والعراق . وروى البخاري
عن أنس قال : كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى العضباء لا تسبق - قال حميد :
أو لا تكاد تسبق - فجاء أعرابي على قعود فسبقها , فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه ;
فقال : ( حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه ) . الرابعة : أجمع
المسلمون على أن السبق لا يجوز على وجه الرهان إلا في الخف , والحافر والنصل ; قال
الشافعي : ما عدا هذه الثلاثة فالسبق فيها قمار . وقد زاد أبو البختري القاضي في
حديث الخف والحافر والنصل }{ أو جناح }{ وهي لفظة وضعها للرشيد , فترك العلماء حديثه
لذلك ولغيره من موضوعاته ; فلا يكتب العلماء حديثه بحال . وقد روي عن مالك أنه قال :
لا سبق إلا في الخيل والرمي , لأنه قوة على أهل الحرب ; قال : وسبق الخيل أحب إلينا
من سبق الرمي . وظاهر الحديث يسوي بين السبق على النجب والسبق على الخيل . وقد منع
بعض العلماء الرهان في كل شيء إلا في الخيل ; لأنها التي كانت عادة العرب المراهنة
عليها . وروي عن عطاء أن المراهنة في كل شيء جائزة ; وقد تؤول قوله ; لأن حمله على
العموم في كل شيء يؤدي إلى إجازة القمار , وهو محرم باتفاق . الخامسة : لا يجوز
السبق في الخيل والإبل إلا في غاية معلومة وأمد معلوم , كما ذكرنا , وكذلك الرمي لا
يجوز السبق فيه إلا بغاية معلومة ورشق معلوم , ونوع من الإصابة ; مشترط خسقا أو
إصابة بغير شرط . والأسباق ثلاثة : سبق يعطيه الوالي أو الرجل غير الوالي من ماله
متطوعا فيجعل للسابق شيئا معلوما ; فمن سبق أخذه . وسبق يخرجه أحد المتسابقين دون
صاحبه , فإن سبقه صاحبه أخذه , وإن سبق هو صاحبه أخذه , وحسن أن يمضيه في الوجه
الذي أخرجه له , ولا يرجع إلى ماله ; وهذا مما لا خلاف فيه . والسبق الثالث : اختلف
فيه ; وهو أن يخرج كل واحد منهما شيئا مثل ما يخرجه صاحبه , فأيهما سبق أحرز سبقه
وسبق صاحبه ; وهذا الوجه لا يجوز حتى يدخلا بينهما محللا لا يأمنا أن يسبقهما ; فإن
سبق المحلل أحرز السبقين جميعا وأخذهما وحده , وإن سبق أحد المتسابقين أحرز سبقه
وأخذ سبق صاحبه ; ولا شيء للمحلل فيه , ولا شيء عليه . وإن سبق الثاني منهما الثالث
كان كمن لم يسبق واحد منهما . وقال أبو علي بن خيران - من أصحاب الشافعي - : وحكم
الفرس المحلل أن يكون مجهولا جريه ; وسمي محللا لأنه يحلل السبق للمتسابقين أو له
. واتفق العلماء على أنه إن لم يكن بينهما محلل واشترط كل واحد من المتسابقين أنه إن
سبق أخذ سبقه وسبق صاحبه أنه قمار , ولا يجوز . وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس
بقمار ومن أدخله وهو يأمن أن يسبق فهو قمار ) . وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب قال :
ليس برهان الخيل بأس إذا دخل فيها محلل , فإن سبق أخذ السبق , وإن سبق لم يكن عليه
شيء ; وبهذا قال الشافعي وجمهور أهل العلم . واختلف في ذلك قول مالك ; فقال مرة لا
يجب المحلل في الخيل , ولا نأخذ فيه بقول سعيد , ثم قال : لا يجوز إلا بالمحلل ;
وهو الأجود من قوله . السادسة : ولا يحمل على الخيل والإبل في المسابقة إلا محتلم ,
ولو ركبها أربابها كان أولى ; وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : لا
يركب الخيل في السباق إلا أربابها . وقال الشافعي : وأقل السبق أن يسبق بالهادي أو
بعضه ; أو بالكفل أو بعضه . والسبق من الرماة على هذا النحو عنده ; وقول محمد بن
الحسن في هذا الباب نحو قول الشافعي . السابعة : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه سابق , أبا بكر وعمر رضي الله عنهما , فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم ,
وصلى أبو بكر وثلث عمر ; ومعنى وصلى أبو بكر : يعني أن رأس فرسه كان عند صلا فرس
رسول الله صلى الله عليه وسلم , والصلوان موضع العجز . نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا
يُوسُفَ عِنْدَ أي عند ثيابنا وأقمشتنا حارسا لها . مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ وذلك أنهم
لما سمعوا أباهم يقول : { وأخاف أن يأكله الذئب }{ أخذوا ذلك من فيه فتحرموا به ;
لأنه كان أظهر المخاوف عليه . الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ أي بمصدق . لَنَا
وَلَوْ كُنَّا أي وإن كنا ; قاله المبرد وابن إسحاق .{ صادقين }{ في قولنا ; ولم
يصدقهم يعقوب لما ظهر له منهم من قوة التهمة وكثرة الأدلة على خلاف ما قالوه على ما
يأتي بيانه . وقيل : { ولو كنا صادقين }{ أي ولو كنا عندك من أهل الثقة والصدق ما
صدقتنا , ولاتهمتنا في هذه القضية , لشدة محبتك في يوسف ; قال معناه الطبري والزجاج
وغيرهما .
وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ فيه ثلاث مسائل الأولى : قوله تعالى }{ بدم
كذب }{ قال مجاهد : كان دم سخلة أو جدي ذبحوه . وقال قتادة : كان دم ظبية ; أي جاءوا
على قميصه بدم مكذوب فيه , فوصف الدم بالمصدر , فصار تقديره : بدم ذي كذب ; مثل : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] والفاعل والمفعول قد يسميان بالمصدر ; يقال : هذا ضرب
الأمير , أي مضروبه وماء سكب أي مسكوب , وماء غور أي غائر , ورجل عدل أي عادل . وقرأ
الحسن وعائشة : { بدم كدب }{ بالدال غير المعجمة , أي بدم طري ; يقال للدم الطري
الكدب . وحكي أنه المتغير ; قاله الشعبي . والكدب أيضا البياض الذي يخرج في أظفار
الأحداث ; فيجوز أن يكون شبه الدم في القميص بالبياض الذي يخرج في الظفر من جهة
اختلاف اللونين . الثانية : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : لما أرادوا أن يجعلوا
الدم علامة على صدقهم قرن الله بهذه العلامة علامة تعارضها , وهي سلامة القميص من
التنييب ; إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص ويسلم القميص من التخريق
; ولما تأمل يعقوب عليه السلام القميص فلم يجد فيه خرقا ولا أثرا استدل بذلك على
كذبهم , وقال لهم : متى كان هذا الذئب حكيما يأكل يوسف ولا يخرق القميص ! قاله ابن
عباس وغيره ; روى إسرائيل عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان الدم دم
سخلة . وروى سفيان عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما نظر إليه قال كذبتم ; لو
كان الذئب أكله لخرق القميص . وحكى الماوردي أن في القميص ثلاث آيات : حين جاءوا
عليه بدم كذب , وحين قد قميصه من دبر , وحين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيرا . قلت :
وهذا مردود ; فإن القميص الذي جاءوا عليه بالدم غير القميص الذي قد , وغير القميص
الذي أتاه البشير به . وقد قيل : إن القميص الذي قد هو الذي أتي به فارتد بصيرا ,
على ما يأتي بيانه آخر السورة إن شاء الله تعالى . وروي أنهم قالوا له : بل اللصوص
قتلوه ; فاختلف قولهم فاتهمهم , فقال لهم يعقوب : تزعمون أن الذئب أكله , ولو أكله
لشق قميصه قبل أن يفضي إلى جلده , وما أرى بالقميص من شق ; وتزعمون أن اللصوص قتلوه
, ولو قتلوه لأخذوا قميصه ; هل يريدون إلا ثيابه ؟ ! فقالوا عند ذلك : { وما أنت
بمؤمن لنا ولو كنا صادقين }{ عن الحسن وغيره ; أي لو كنا موصوفين بالصدق لاتهمتنا .
الثالثة : استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات في مسائل من الفقه كالقسامة
وغيرها , وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام استدل على كذبهم بصحة القميص ; وهكذا
يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت , فما ترجح منها قضى بجانب
الترجيح , وهي قوة التهمة ; ولا خلاف بالحكم بها , قاله ابن العربي . روي أن يعقوب
لما قالوا له : { فأكله الذئب }{ قال لهم : ألم يترك الذئب له عضوا فتأتوني به
أستأنس به ؟ ! ألم يترك لي ثوبا أشم فيه رائحته ؟ قالوا : بلى ! هذا قميصه ملطوخ
بدمه ; فذلك قوله تعالى : { وجاءوا على قميصه بدم كذب }{ فبكى يعقوب عند ذلك وقال ,
لبنيه : أروني قميصه , فأروه فشمه وقبله , ثم جعل يقلبه فلا يرى فيه شقا ولا تمزيقا
, فقال : والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت كاليوم ذئبا أحكم منه ; أكل ابني
واختلسه من قميصه ولم يمزقه عليه ; وعلم أن الأمر ليس كما قالوا , وأن الذئب لم
يأكله , فأعرض عنهم كالمغضب باكيا حزينا وقال : يا معشر ولدي ! دلوني على ولدي ;
فإن كان حيا رددته إلي , وإن كان ميتا كفنته ودفنته , فقيل قالوا حينئذ : ألم تروا
إلى أبينا كيف يكذبنا في مقالتنا ! تعالوا نخرجه من الجب ونقطعه عضوا عضوا , ونأت
أبانا بأحد أعضائه فيصدقنا في مقالتنا ويقطع يأسه ; فقال يهوذا : والله لئن فعلتم
لأكونن لكم عدوا ما بقيت , ولأخبرن أباكم بسوء صنيعكم ; قالوا : فإذا منعتنا من هذا
فتعالوا نصطد له ذئبا , قال : فاصطادوا ذئبا ولطخوه بالدم , وأوثقوه بالحبال , ثم
جاءوا به يعقوب وقالوا : يا أبانا ! إن هذا الذئب الذي يحل بأغنامنا ويفترسها ,
ولعله الذي أفجعنا بأخينا لا نشك فيه , وهذا دمه عليه , فقال يعقوب : أطلقوه ;
فأطلقوه , وتبصبص له الذئب ; فأقبل يدنو منه ويعقوب يقول له : ادن ادن ; حتى ألصق
خده بخده فقال له يعقوب : أيها الذئب ! لم فجعتني بولدي وأورثتني حزنا طويلا ؟ ! ثم
قال اللهم أنطقه , فأنطقه الله تعالى فقال : والذي اصطفاك نبيا ما أكلت لحمه , ولا
مزقت جلده , ولا نتفت شعرة من شعراته , ووالله ! ما لي بولدك عهد , وإنما أنا ذئب
غريب أقبلت من نواحي مصر في طلب أخ لي فقد , فلا أدري أحي هو أم ميت , فاصطادني
أولادك وأوثقوني , وإن لحوم الأنبياء حرمت علينا وعلى جميع الوحوش , وتالله لا أقمت
في بلاد يكذب فيها أولاد الأنبياء على الوحوش ; فأطلقه يعقوب وقال : والله لقد
أتيتم بالحجة على أنفسكم ; هذا ذئب بهيم خرج يتبع ذمام أخيه , وأنتم ضيعتم أخاكم ,
وقد علمت أن الذئب بريء مما جئتم به . قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ
أَمْرًا }{ قال بل سولت لكم }{ أي زينت لكم .{ أنفسكم أمرا }{ غير ما تصفون وتذكرون .
قال ابن أبي رفاعة : ينبغي لأهل الرأي أن يتهموا رأيهم عند ظن يعقوب صلى الله عليه
وسلم وهو نبي ; حين قال له بنوه : { إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله
الذئب }{ قال : { بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل }{ فأصاب هنا , ثم قالوا له : { إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين } [ يوسف : 81 ] قال : { بل سولت لكم أنفسكم أمرا }{ فلم يصب . فَصَبْرٌ جَمِيلٌ قال الزجاج : أي فشأني والذي
اعتقده صبر جميل . وقال قطرب : أي فصبري صبر جميل . وقيل : أي فصبر جميل أولى بي ;
فهو مبتدأ وخبره محذوف . ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصبر الجميل
فقال : ( هو الذي لا شكوى معه ) . وسيأتي له مزيد بيان آخر السورة إن شاء الله . قال
أبو حاتم : قرأ عيسى بن عمر فيما زعم سهل بن يوسف }{ فصبرا جميلا }{ قال : وكذا قرأ
الأشهب العقيلي ; قال وكذا . في مصحف أنس وأبي صالح . قال المبرد : { فصبر جميل }
بالرفع أولى من النصب ; لأن المعنى : قال رب عندي صبر جميل ; قال : وإنما النصب على
المصدر , أي فلأصبرن صبرا جميلا ; قال : شكا إلي جملي طول السرى صبرا جميلا فكلانا
مبتلى والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى . وقيل : المعنى لا أعاشركم على
كآبة الوجه وعبوس الجبين , بل أعاشركم على ما كنت عليه معكم ; وفي هذا ما يدل على
أنه عفا عن مؤاخذتهم . وعن حبيب بن أبي ثابت أن يعقوب كان قد سقط حاجباه على عينيه ;
فكان يرفعهما بخرقة ; فقيل له : ما هذا ؟ قال : طول الزمان وكثرة الأحزان ; فأوحى
الله إليه أتشكوني يا يعقوب ؟ ! قال : يا رب ! خطيئة أخطأتها فاغفر لي . وَاللهُ
الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }{ والله المستعان }{ ابتداء وخبر .{ على ما
تصفون }{ أي على احتمال ما تصفون من الكذب .
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ أي رفقة مارة يسيرون من الشام إلى مصر فأخطئوا الطريق وهاموا
حتى نزلوا قريبا من الجب , وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران , إنما هو للرعاة
والمجتاز , وكان ماؤه ملحا فعذب حين ألقي فيه يوسف . فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فذكر
على المعنى ; ولو قال : فأرسلت واردها لكان على اللفظ , مثل }{ وجاءت } . والوارد
الذي يرد الماء يستقي للقوم ; وكان اسمه - فيما ذكر المفسرون - مالك بن دعر , من
العرب العاربة . فَأَدْلَى دَلْوَهُ أي أرسله ; يقال : أدلى دلوه إذا أرسلها ليملأها
, ودلاها أي أخرجها : عن الأصمعي وغيره . ودلا - من ذات الواو - يدلو دلوا , أي جذب
وأخرج , وكذلك أدلى إذا أرسل , فلما ثقل ردوه إلى الياء , لأنها أخف من الواو ; قال
الكوفيون . وقال الخليل وسيبويه : لما جاوز ثلاثة أحرف رجع إلى الياء , اتباعا
للمستقبل . وجمع دلو في أقل العدد أدل فإذا كثرت قلت : دلي ودلي ; فقلبت الواو ياء ,
إلا أن الجمع بابه التغيير , وليفرق بين الواحد والجمع ; ودلاء أيضا . قَالَ يَا
بُشْرَى هَذَا فتعلق يوسف بالحبل , فلما خرج إذا غلام كالقمر ليلة البدر , أحسن ما
يكون من الغلمان . قال صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء من صحيح مسلم : ( فإذا
أنا بيوسف إذا هو قد أعطي شطر الحسن ) . وقال كعب الأحبار : كان يوسف حسن الوجه ,
جعد الشعر , ضخم العينين , مستوي الخلق , أبيض اللون , غليظ الساعدين والعضدين ,
خميص البطن , صغير السرة , إذا ابتسم رأيت النور من ضواحكه , وإذا تكلم رأيت في
كلامه شعاع الشمس من ثناياه , لا يستطيع أحد وصفه ; وكان حسنه كضوء النهار عند
الليل , وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه الله ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب
المعصية , وقيل : إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة ; وكانت قد أعطيت سدس الحسن ;
فلما رآه مالك بن دعر قال : { يا بشراي هذا غلام }{ هذه قراءة أهل المدينة وأهل
البصرة ; إلا ابن أبي إسحاق فإنه قرأ }{ يا بشري هذا غلام }{ فقلب الألف ياء , لأن
هذه الياء يكسر ما قبلها , فلما لم يجز كسر الألف كان قلبها عوضا . وقرأ أهل الكوفة
{ يا بشرى }{ غير مضاف ; وفي معناه قولان : أحدهما : اسم الغلام , والثاني : معناه
يا أيتها البشرى هذا حينك وأوانك . قال قتادة والسدي : لما أدلى المدلي دلوه تعلق
بها يوسف فقال : يا بشرى هذا غلام ; قال قتادة : بشر أصحابه بأنه وجد عبدا . وقال
السدي : نادى رجلا اسمه بشرى . قال النحاس : قول قتادة أولى ; لأنه لم يأت في القرآن
تسمية أحد إلا يسيرا ; وإنما يأتي بالكناية كما قال عز وجل : { ويوم يعض الظالم على
يديه } [ الفرقان : 27 ] وهو عقبة بن أبي معيط , وبعده }{ يا ويلتى ليتني لم اتخذ
فلانا خليلا } [ الفرقان : 28 ] وهو أمية بن خلف ; قاله النحاس . والمعنى في نداء
البشرى : التبشير لمن حضر ; وهو أوكد من قولك تبشرت , كما تقول : يا عجباه ! أي يا
عجب هذا من أيامك ومن آياتك , فاحضر ; وهذا مذهب سيبويه , وكذا قال السهيلي . وقيل :
هو كما تقول : واسروراه ! وأن البشرى مصدر من الاستبشار : وهذا أصح ; لأنه لو كان
اسما علما لم يكن مضافا إلى , ضمير المتكلم ; وعلى هذا يكون }{ بشراي }{ في موضع نصب
, لأنه نداء مضاف ; ومعنى النداء هاهنا التنبيه , أي انتبهوا لفرحتي وسروري ; وعلى
قول السدي يكون في موضع رفع كما تقول : يا زيد هذا غلام . ويجوز أن يكون محله نصبا
كقولك : يا رجلا , وقوله : { يا حسرة على العباد } [ يس : 30 ] ولكنه لم ينون }
بشرى }{ لأنه لا ينصرف . غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا
الهاء كناية عن يوسف عليه السلام ; فأما الواو فكناية عن إخوته . وقيل : عن التجار
الذين اشتروه , وقيل : عن الوارد وأصحابه .{ بضاعة }{ نصب على الحال . قال مجاهد :
أسره مالك بن دعر وأصحابه من التجار الذين معهم في الرفقة , وقالوا لهم : هو بضاعة
استبضعناها بعض أهل الشام أو أهل هذا الماء إلى مصر ; وإنما قالوا هذا خيفة الشركة
. وقال ابن عباس : أسره إخوة يوسف بضاعة لما استخرج من الجب ; وذلك أنهم جاءوا
فقالوا : بئس ما صنعتم ! هذا عبد لنا أبق , وقالوا ليوسف بالعبرانية : إما أن تقر
لنا بالعبودية فنبيعك من هؤلاء , وإما أن نأخذك فنقتلك ; فقال : أنا أقر لكم
بالعبودية , فأقر لهم فباعوه منهم . وقيل : إن يهوذا وصى أخاه يوسف بلسانهم أن اعترف
لإخوتك بالعبودية فإني أخشى إن لم تفعل قتلوك ; فلعل الله أن يجعل لك مخرجا , وتنجو
من القتل , فكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته ; فقال مالك : والله ما هذه سمة
العبيد ! , قالوا : هو تربى في حجورنا , وتخلق بأخلاقنا , وتأدب بآدابنا ; فقال :
ما تقول يا غلام ؟ قال : صدقوا ! تربيت في حجورهم , وتخلقت بأخلاقهم ; فقال مالك :
إن بعتموه مني اشتريته منكم ; فباعوه منه .
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : { الذين يوفون بعهد الله }{ هذا من صفة ذوي الألباب , أي إنما
يتذكر أولو الألباب الموفون بعهد الله . والعهد اسم للجنس ; أي بجميع عهود الله ,
وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده ; ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع الفروض
, وتجنب جميع المعاصي . وقوله : { ولا ينقضون الميثاق }{ يحتمل أن يريد به جنس
المواثيق , أي إذا عقدوا في طاعة الله عهدا لم ينقضوه . قال قتادة : تقدم الله إلى
عباده في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية ; ويحتمل أن يشير إلى ميثاق بعينه
, هو الذي أخذه الله على عباده حين أخرجهم من صلب أبيهم آدم . وقال القفال : هو ما
ركب في عقولهم من دلائل التوحيد والنبوات . الثانية : روى أبو داود وغيره عن عوف بن
مالك قال : ( كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ) سبعة أو ثمانية أو تسعة فقال
: ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا : قد
بايعناك حتى قالها ثلاثا ; فبسطنا أيدينا فبايعناه , فقال قائل : يا رسول الله !
إنا قد بايعناك فعلى ماذا نبايعك ؟ قال : ( أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا
وتصلوا الصلوات الخمس وتسمعوا وتطيعوا وأسر كلمة خفية - قال : لا تسألوا الناس شيئا
) . قال : ولقد كان بعض أولئك النفر يسقط - سوطه فما يسأل أحدا أن يناوله إياه . قال
ابن العربي : من أعظم المواثيق في الذكر ألا يسأل سواه ; فقد كان أبو حمزة
الخراساني من كبار العباد سمع أن أناسا بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا
يسألوا أحدا شيئا , الحديث ; فقال أبو حمزة : رب ! إن هؤلاء عاهدوا نبيك إذ رأوه ,
وأنا أعاهدك ألا أسأل أحدا شيئا ; قال : فخرج حاجا من الشام يريد مكة فبينما هو
يمشي في الطريق من الليل إذ بقي عن أصحابه لعذر ثم أتبعهم , فبينما هو يمشي إليهم
إذ سقط في بئر على حاشية الطريق ; فلما حل في قعره قال : أستغيث لعل أحدا يسمعني
. ثم قال : إن الذي عاهدته يراني ويسمعني , والله ! لا تكلمت بحرف للبشر , ثم لم
يلبث إلا يسيرا إذ مر بذلك البئر نفر , فلما رأوه على حاشية الطريق قالوا : إنه
لينبغي سد هذا البئر ; ثم قطعوا خشبا ونصبوها على فم البئر وغطوها بالتراب ; فلما
رأى ذلك أبو حمزة قال : هذه مهلكة , ثم أراد أن يستغيث بهم , ثم قال : والله ! لا
أخرج منها أبدا ; ثم رجع إلى نفسه فقال : أليس قد عاهدت من يراك ؟ فسكت وتوكل , ثم
استند في قعر البئر مفكرا في أمره , فإذا بالتراب يقع عليه ; والخشب يرفع عنه ,
وسمع في أثناء ذلك من يقول : هات يدك ! قال : فأعطيته يدي فأقلني في مرة واحدة إلى
فم البئر ; فخرجت فلم أر أحدا ; فسمعت هاتفا يقول : كيف رأيت ثمرة التوكل ; وأنشد :
نهاني حيائي منك أن أكشف الهوى فأغنيتني بالعلم منك عن الكشف تلطفت في أمري فأبديت
شاهدي إلى غائبي واللطف يدرك باللطف تراءيت لي بالعلم حتى كأنما تخبرني بالغيب أنك
في كف أراني وبي من هيبتي لك وحشة فتؤنسني باللطف منك وبالعطف وتحيي محبا أنت في
الحب حتفه وذا عجب كيف الحياة مع الحتف قال ابن العربي : هذا رجل عاهد الله فوجد
الوفاء على التمام والكمال , فاقتدوا به إن شاء الله تهتدوا . قال أبو الفرج الجوزي
: سكوت هذا الرجل في هذا المقام على التوكل بزعمه إعانة على نفسه , وذلك لا يحل ;
ولو فهم معنى التوكل لعلم أنه لا ينافي استغاثته في تلك الحالة ; كما لم يخرج رسول
الله صلى الله عليه وسلم من التوكل بإخفائه الخروج من مكة , واستئجاره دليلا ,
واستكتامه ذلك الأمر , واستتاره في الغار , وقوله لسراقة : ( اخف عنا ) . فالتوكل
الممدوح لا ينال بفعل محظور ; وسكوت هذا الواقع في البئر محظور عليه , وبيان ذلك أن
الله تعالى قد خلق للآدمي آلة يدفع عنه بها الضرر , وآلة يجتلب بها النفع , فإذا
عطلها مدعيا للتوكل كان ذلك جهلا بالتوكل , وردا لحكمة التواضع ; لأن التوكل إنما
هو اعتماد القلب على الله تعالى , وليس من ضرورته قطع الأسباب ; ولو أن إنسانا جاع
فلم يسأل حتى مات دخل النار ; قاله سفيان الثوري وغيره , لأنه قد دل على طريقة
السلامة , فإذا تقاعد عنها أعان على نفسه . وقال أبو الفرج : ولا التفات إلى قول أبي
حمزة : { فجاء أسد فأخرجني }{ فإنه إن صح ذلك فقد يقع مثله اتفاقا وقد يكون لطفا من
الله تعالى بالعبد الجاهل , ولا ينكر أن يكون الله تعالى لطف به , إنما ينكر فعله
الذي هو كسبه , وهو إعانته على نفسه التي هي وديعة لله تعالى عنده , وقد أمره
بحفظها .
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ قيل : الاشتراء هنا بمعنى
الاستبدال ; إذ لم يكن ذلك عقدا , مثل : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } .[
البقرة : 16 ] وقيل : إنهم ظنوه في ظاهر الحال اشتراء , فجرى هذا اللفظ على ظاهر
الظن . قال الضحاك : هذا الذي اشتراه ملك مصر , ولقبه العزيز . السهيلي : واسمه قطفير
. وقال ابن إسحاق : إطفير بن رويحب اشتراه لامرأته راعيل ; ذكره الماوردي . وقيل :
كان اسمها زليخاء . وكان الله ألقى محبة يوسف على قلب العزيز , فأوصى به أهله ; ذكره
القشيري . وقد ذكر القولين في اسمها الثعلبي وغيره . وقال ابن عباس : إنما اشتراه
قطفير وزير ملك مصر , وهو الريان بن الوليد . وقيل : الوليد بن الريان , وهو رجل من
العمالقة . وقيل : هو فرعون موسى ; لقول موسى : { ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات }
[ غافر : 34 ] وأنه عاش أربعمائة سنة . وقيل : فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف , على
ما يأتي في [ غافر ] بيانه . وكان هذا العزيز الذي اشترى يوسف على خزائن الملك ;
واشترى يوسف من مالك بن دعر بعشرين دينارا , وزاده حلة ونعلين . وقيل : اشتراه من
أهل الرفقة . وقيل : تزايدوا في ثمنه فبلغ أضعاف وزنه مسكا وعنبرا وحريرا وورقا
وذهبا ولآلئ وجواهر لا يعلم قيمتها إلا الله ; فابتاعه قطفير من مالك بهذا الثمن ;
قاله وهب بن منبه . وقال وهب أيضا وغيره : ولما اشترى مالك بن دعر يوسف من إخوته كتب
بينهم وبينه كتابا : هذا ما اشترى مالك بن دعر من بني يعقوب , وهم فلان وفلان
مملوكا لهم بعشرين درهما , وقد شرطوا له أنه آبق , وأنه لا ينقلب به إلا مقيدا
مسلسلا , وأعطاهم على ذلك عهد الله . قال : فودعهم يوسف عند ذلك , وجعل يقول : حفظكم
الله وإن ضيعتموني , نصركم الله وإن خذلتموني , رحمكم الله وإن لم ترحموني ; قالوا
: فألقت الأغنام ما في بطونها دما عبيطا لشدة هذا التوديع , وحملوه على قتب بغير
غطاء ولا وطاء , مقيدا مكبلا مسلسلا , فمر على مقبرة آل كنعان فرأى قبر أمه - وقد
كان وكل به أسود يحرسه فغفل الأسود - فألقى يوسف نفسه على قبر أمه فجعل يتمرغ
ويعتنق القبر ويضطرب ويقول : يا أماه ! ارفعي رأسك تري ولدك مكبلا مقيدا مسلسلا
مغلولا ; فرقوا بيني وبين والدي , فاسألي الله أن يجمع بيننا في مستقر رحمته إنه
أرحم الراحمين , فتفقده الأسود على البعير فلم يره , فقفا أثره , فإذا هو بياض على
قبر , فتأمله فإذا هو إياه , فركضه برجله في التراب ومرغه وضربه ضربا وجيعا ; فقال
له : لا تفعل ! والله ما هربت ولا أبقت وإنما مررت بقبر أمي فأحببت أن أودعها , ولن
أرجع إلى ما تكرهون ; فقال الأسود : والله إنك لعبد سوء , تدعو أباك مرة وأمك أخرى
! فهلا كان هذا عند مواليك ; فرفع يديه إلى السماء وقال : اللهم إن كانت لي عندك
خطيئة أخلقت بها وجهي فأسألك بحق آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن تغفر لي وترحمني ;
فضجت الملائكة في السماء , ونزل جبريل فقال له : يا يوسف غض صوتك فلقد أبكيت ملائكة
السماء أفتريد أن أقلب الأرض فأجعل عاليها سافلها ؟ قال : تثبت يا جبريل , فإن الله
حليم لا يعجل ; فضرب الأرض بجناحه فأظلمت , وارتفع الغبار , وكسفت الشمس , وبقيت
القافلة لا يعرف بعضها بعضا ; فقال رئيس القافلة : من أحدث منكم حدثا ؟ - فإني
أسافر منذ كيت وكيت ما أصابني قط مثل هذا - فقال الأسود : أنا لطمت ذلك الغلام
العبراني فرفع يده إلى السماء وتكلم بكلام لا أعرفه , ولا أشك أنه دعا علينا ; فقال
له : ما أردت إلا هلاكنا ايتنا به , فأتاه به , فقال له : يا غلام لقد لطمك فجاءنا
ما رأيت ; فإن كنت تقتص فاقتص ممن شئت , وإن كنت تعفو فهو الظن بك ; قال : قد عفوت
رجاء أن يعفو الله عني ; فانجلت الغبرة , وظهرت الشمس , وأضاء مشارق الأرض ومغاربها
, وجعل التاجر يزوره بالغداة والعشي ويكرمه , حتى وصل إلى مصر فاغتسل في نيلها
وأذهب الله عنه كآبة السفر , ورد عليه جماله , ودخل به البلد نهارا فسطع نوره على
الجدران , وأوقفوه للبيع فاشتراه قطفير وزير الملك ; قاله ابن عباس على ما تقدم .
وقيل : إن هذا الملك لم يمت حتى آمن واتبع يوسف على دينه , ثم مات الملك ويوسف
يومئذ على خزائن الأرض ; فملك بعده قابوس وكان كافرا , فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى
. أَكْرِمِي مَثْوَاهُ أي منزله ومقامه بطيب المطعم واللباس الحسن ; وهو مأخوذ من
ثوى بالمكان أي أقام به ; وقد تقدم في [ آل عمران ] وغيره . عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا
أي يكفينا بعض المهمات إذا بلغ . أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا قال ابن عباس : كان حصورا
لا يولد له , وكذا قال ابن إسحاق : كان قطفير لا يأتي النساء ولا يولد له . فإن قيل
: كيف قال }{ أو نتخذه ولدا }{ وهو ملكه , والولدية مع العبدية تتناقض ؟ قيل له :
يعتقه ثم يتخذه ولدا بالتبني ; وكان التبني في الأمم معلوما عندهم , وكذلك كان في
أول الإسلام , على ما يأتي بيانه في [ الأحزاب ] إن شاء الله تعالى . وقال عبد الله
بن مسعود : أحسن الناس فراسة ثلاثة ; العزيز حين تفرس في يوسف فقال : { عسى أن
ينفعنا أو نتخذه ولدا }{ وبنت شعيب حين قالت لأبيها في موسى }{ استأجره إن خير من
استأجرت القوي الأمين } [ القصص : 26 ] , وأبو بكر حين استخلف عمر . قال ابن العربي
: عجبا للمفسرين في اتفاقهم على جلب هذا الخبر والفراسة هي علم غريب على ما يأتي
بيانه في سورة [ الحجر ] وليس كذلك فيما نقلوه ; لأن الصديق إنما ولى عمر بالتجربة
في الأعمال , والمواظبة على الصحبة وطولها , والاطلاع على ما شاهد منه من العلم
والمنة , وليس ذلك من طريق الفراسة ; وأما بنت شعيب فكانت معها العلامة البينة على
ما يأتي بيانه في [ القصص ] . وأما أمر العزيز فيمكن أن يجعل فراسة ; لأنه لم يكن
معه علامة ظاهرة . والله أعلم . وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ الكاف
في موضع نصب ; أي وكما أنقذناه من إخوته ومن الجب فكذلك مكنا له ; أي عطفنا عليه
قلب الملك الذي اشتراه حتى تمكن من الأمر والنهي في البلد الذي الملك مستول عليه
. وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ أي فعلنا ذلك تصديقا لقول يعقوب : { ويعلمك من تأويل الأحاديث } . وقيل : المعنى مكناه لنوحي إليه بكلام منا , ونعلمه
تأويله . وتفسيره , وتأويل الرؤيا , وتم الكلام . وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ
الهاء راجعة إلى الله تعالى ; أي لا يغلب الله شيء , بل هو الغالب على أمر نفسه
فيما يريده أن يقول له : كن فيكون . وقيل : ترجع إلى يوسف ; أي الله غالب على أمر
يوسف يدبره ويحوطه ولا يكله إلى غيره , حتى لا يصل إليه كيد كائد . وقالت الحكماء
في هذه الآية : { والله غالب على أمره }{ حيث أمره يعقوب ألا يقص رؤياه على إخوته
فغلب أمر الله حتى قص , ثم أراد إخوته قتله فغلب أمر الله حتى صار ملكا وسجدوا بين
يديه , ثم أراد الإخوة أن يخلو لهم وجه أبيهم فغلب أمر الله حتى ضاق عليهم قلب
أبيهم , وافتكره بعد سبعين سنة أو ثمانين سنة , فقال : { يا أسفا على يوسف }{ ثم
تدبروا أن يكونوا من بعده قوما صالحين , أي تائبين فغلب أمر الله حتى نسوا الذنب
وأصروا عليه حتى أقروا بين يدي يوسف في آخر الأمر بعد سبعين سنة , وقالوا لأبيهم :
{ إنا كنا خاطئين } [ يوسف : 97 ] ثم أرادوا أن يخدعوا أباهم بالبكاء والقميص فغلب
أمر الله فلم ينخدع , وقال : { بل سولت لكم أنفسكم أمرا } [ يوسف : 18 ] ثم احتالوا
في أن تزول محبته من قلب , أبيهم فغلب أمر الله فازدادت المحبة والشوق في قلبه , ثم
دبرت امرأة العزيز أنها إن ابتدرته بالكلام غلبته , فغلب أمر الله حتى قال العزيز :
{ استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين } [ يوسف : 29 ] , ثم دبر يوسف أن يتخلص من
السجن بذكر الساقي فغلب أمر الله فنسي الساقي , ولبث يوسف في السجن بضع سنين
. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أي لا يطلعون على غيبه . وقيل :
المراد بالأكثر الجميع ; لأن أحدا لا يعلم الغيب . وقيل : هو مجرى على ظاهره ; إذ قد
يطلع من يريد على بعض غيبه . وقيل : المعنى }{ ولكن أكثر الناس لا يعلمون }{ أن الله
غالب على أمره , وهم المشركون ومن لا يؤمن بالقدر .
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ }{ أشده }{ عند سيبويه جمع , واحده شدة . وقال الكسائي :
واحده شد ; كما قال الشاعر : عهدي به شد النهار كأنما خضب اللبان ورأسه بالعظلم
وزعم أبو عبيد أنه لا واحد له من لفظه عند العرب ; ومعناه استكمال القوة ثم يكون
النقصان بعد . وقال مجاهد وقتادة : الأشد ثلاث وثلاثون سنة . وقال ربيعة وزيد بن أسلم
ومالك بن أنس : الأشد بلوغ الحلم ; وقد مضى ما للعلماء في هذا في [ النساء ] و [
الأنعام ] مستوفى . آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا قيل : جعلناه المستولي على الحكم ,
فكان يحكم في سلطان الملك ; أي وآتيناه علما بالحكم . وقال مجاهد : العقل والفهم
والنبوة . وقيل : الحكم النبوة , والعلم علم الدين ; وقيل : علم الرؤيا ; ومن قال :
أوتي النبوة صبيا قال : لما بلغ أشده زدناه فهما وعلما . وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ يعني المؤمنين . وقيل : الصابرين على النوائب كما صبر يوسف ; قاله
الضحاك . وقال الطبري : هذا وإن كان مخرجه ظاهرا على كل محسن فالمراد به محمد صلى
الله عليه وسلم ; يقول الله تعالى : كما فعلت هذا بيوسف بعد أن قاسى ما قاسى ثم
أعطيته ما أعطيته , كذلك أنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة , وأمكن لك في
الأرض .
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وهي امرأة العزيز , طلبت
منه أن يواقعها . وأصل المراودة الإرادة والطلب برفق ولين . والرود والرياد طلب الكلأ
; وقيل : هي من رويد ; يقال : فلان يمشي رويدا , أي برفق ; فالمراودة الرفق في
الطلب ; يقال في الرجل : راودها عن نفسها , وفي المرأة راودته عن نفسه . والرود
التأني ; يقال : أرودني أمهلني . وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ غلق للكثير , ولا يقال :
غلق الباب ; وأغلق يقع للكثير والقليل ; كما قال الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء :
ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها حتى أتيت أبا عمرو بن عمار يقال : إنها كانت سبعة أبواب
غلقتها ثم دعته إلى نفسها . وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ أي هلم وأقبل وتعال ; ولا مصدر له
ولا تصريف . قال النحاس : فيها سبع قراءات ; فمن أجل ما فيها وأصحه إسنادا ما رواه
الأعمش عن أبي وائل قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقرأ }{ هيت لك }{ قال فقلت : إن
قوما يقرءونها }{ هيت لك }{ فقال : إنما أقرأ كما علمت . قال أبو جعفر : وبعضهم يقول
عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم , ولا يبعد ذلك ; لأن قوله :
إنما أقرأ كما علمت يدل على أنه مرفوع , وهذه القراءة بفتح التاء والهاء هي الصحيحة
من قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة ; وبها قرأ أبو عمرو بن
العلاء وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي . قال عبد الله ابن مسعود : لا تقطعوا في
القرآن ; فإنما هو مثل قول أحدكم : هلم وتعال . وقرأ ابن أبي إسحاق النحوي }{ قالت
هيت لك }{ بفتح الهاء وكسر التاء . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وابن كثير }{ هيت لك }
بفتح الهاء وضم التاء ; قال طرفة : ليس قومي بالأبعدين إذا ما قال داع من العشيرة
هيت فهذه ثلاث قراءات الهاء فيهن مفتوحة . وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع }{ وقالت هيت لك
{ بكسر الهاء وفتح التاء . وقرأ يحيى بن وثاب }{ وقالت هيت لك }{ بكسر الهاء وبعدها
ياء ساكنة والتاء مضمومة . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس ومجاهد
وعكرمة : { وقالت هئت لك }{ بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة والتاء مضمومة . وعن ابن
عامر وأهل الشام : { وقالت هئت }{ بكسر الهاء وبالهمزة وبفتح التاء ; قال أبو جعفر :
{ هئت لك }{ بفتح التاء لالتقاء الساكنين , لأنه صوت نحو مه وصه يجب ألا يعرب ,
والفتح خفيف ; لأن قبل التاء ياء مثل , أين وكيف ; ومن كسر التاء فإنما كسرها لأن
الأصل الكسر ; لأن الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر , ومن ضم فلأن فيه معنى الغاية ;
أي قالت : دعائي لك , فلما حذفت الإضافة بني على الضم ; مثل حيث وبعد . وقراءة أهل
المدينة فيها قولان : أحدهما : أن يكون الفتح لالتقاء الساكنين كما مر . والآخر : أن
يكون فعلا من هاء يهيء مثل جاء يجيء ; فيكون المعنى في }{ هئت }{ أي حسنت هيئتك ,
ويكون }{ لك }{ من كلام آخر , كما تقول : لك أعني . ومن همز . وضم التاء فهو فعل بمعنى
تهيأت لك ; وكذلك من قرأ }{ هيت لك } . وأنكر أبو عمرو هذه القراءة ; قال أبو عبيدة -
معمر بن المثنى : سئل أبو عمرو عن قراءة من قرأ بكسر الهاء وضم التاء مهموزا فقال
أبو عمرو : باطل ; جعلها من تهيأت ! اذهب فاستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن هل
تعرف أحدا يقول هذا ؟ ! وقال الكسائي أيضا : لم تحك }{ هئت }{ عن العرب . قال عكرمة :
{ هئت لك }{ أي تهيأت لك وتزينت وتحسنت , وهي قراءة غير مرضية ; لأنها لم تسمع في
العربية . قال النحاس : وهي جيدة عند البصريين ; لأنه يقال : هاء الرجل يهاء ويهيء
هيأة فهاء يهيء مثل جاء يجيء وهئت مثل جئت . وكسر الهاء في }{ هيت }{ لغة لقوم يؤثرون
كسر الهاء على فتحها . قال الزجاج : أجود القراءات }{ هيت }{ بفتح الهاء والتاء ; قال
طرفة : ليس قومي بالأبعدين إذا ما قال داع من العشيرة هيت بفتح الهاء والتاء . وقال
الشاعر في علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أبلغ أمير المؤمن ين أخا العراق إذا
أتيتا إن العراق وأهله سلم إليك فهيت هيتا قال ابن عباس والحسن : { هيت }{ كلمة
بالسريانية تدعوه إلى نفسها . وقال السدي : معناها بالقبطية هلم لك . قال أبو عبيد :
كان الكسائي يقول : هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز معناه تعال ; قال أبو
عبيد : فسألت شيخا عالما من حوران فذكر أنها لغتهم ; وبه قال عكرمة . وقال مجاهد
وغيره : هي لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها , وهي كلمة حث وإقبال على الأشياء ; قال
الجوهري : يقال هوت به وهيت به إذا صاح به ودعاه ; قال : قد رابني أن الكري أسكتا
لو كان معنيا بها لهيتا أي صاح ; وقال آخر : يحدو بها كل فتى هيات قَالَ مَعَاذَ
اللهِ أي أعوذ بالله وأستجير به مما دعوتني إليه ; وهو مصدر , أي أعوذ بالله
معاذا ; فيحذف المفعول وينتصب المصدر بالفعل المحذوف , ويضاف المصدر إلى اسم الله
كما يضاف المصدر إلى المفعول , كما تقول : مررت بزيد مرور عمرو أي كمروري بعمرو
. إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ }{ إنه ربي
{ يعني زوجها , أي هو سيدي أكرمني فلا أخونه ; قاله مجاهد وابن إسحاق والسدي . وقال
الزجاج : أي إن الله ربي تولاني بلطفه , فلا أرتكب ما حرمه . وفي الخبر أنها قالت له
: يا يوسف ! ما أحسن صورة وجهك ! قال : في الرحم صورني ربي ; قالت : يا يوسف ما
أحسن شعرك ! قال : هو أول شيء يبلى مني في قبري ; قالت : يا يوسف ! ما أحسن عينيك ؟
قال : بهما أنظر إلى ربي . قالت : يا يوسف ! ارفع بصرك فانظر في وجهي , قال : إني
أخاف العمى في آخرتي . قالت يا يوسف ! أدنو منك وتتباعد مني ؟ ! قال : أريد بذلك
القرب من ربي . قالت : يا يوسف ! القيطون فرشته لك فادخل معي , قال : القيطون لا
يسترني من ربي . قالت : يا يوسف ! فراش الحرير قد فرشته لك , قم فاقض حاجتي , قال :
إذا يذهب من الجنة نصيبي ; إلى غير ذلك من كلامها وهو يراجعها ; إلى أن هم بها .
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا وقد ذكر بعضهم ما زال النساء يملن إلى يوسف
ميل شهوة حتى نبأه الله , فألقى عليه هيبة النبوة ; فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه
. واختلف العلماء في همه . ولا خلاف أن همها كان المعصية , وأما يوسف فهم بها }{ لولا
أن رأى برهان ربه }{ ولكن لما رأى البرهان ما هم ; وهذا لوجوب العصمة للأنبياء ; قال
الله تعالى : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين }{ فإذا في
الكلام تقديم وتأخير ; أي لولا أن رأى برهان ربه هم بها . قال أبو حاتم : كنت أقرأ
غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله : { ولقد همت به وهم بها }{ الآية ,
قال أبو عبيدة : هذا على التقديم والتأخير ; كأنه أراد ولقد همت به ولولا أن رأى
برهان ربه لهم بها . وقال أحمد بن يحيى : أي همت زليخاء بالمعصية وكانت مصرة , وهم
يوسف ولم يواقع ما هم به ; فبين الهمتين فرق , ذكر هذين القولين الهروي في كتابه
. قال جميل : هممت بهم من بثينة لو بدا شفيت غليلات الهوى من فؤاديا آخر : هممت ولم
أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله فهذا كله حديث نفس من غير عزم . وقيل :
هم بها تمنى زوجيتها . وقيل : هم بها أي بضربها ودفعها عن نفسه , والبرهان كفه عن
الضرب ; إذ لو ضربها لأوهم أنه قصدها بالحرام فامتنعت فضربها . وقيل : إن هم يوسف
كان معصية , وأنه جلس منها مجلس الرجل من امرأته , وإلى هذا القول ذهب معظم
المفسرين وعامتهم , فيما ذكر القشيري أبو نصر , وابن الأنباري والنحاس والماوردي
وغيرهم . قال ابن عباس : حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن , وعنه : استلقت , على
قفاها وقعد بين رجليها ينزع ثيابه . وقال سعيد بن جبير : أطلق تكة سراويله . وقال
مجاهد : حل السراويل حتى بلغ الأليتين , وجلس منها مجلس الرجل من امرأته . قال ابن
عباس : ولما قال : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } [ يوسف : 52 ] قال له جبريل :
ولا حين هممت بها يا يوسف ؟ ! فقال عند ذلك : { وما أبرئ نفسي } [ يوسف : 53 ]
. قالوا : والانكفاف في مثل هذه الحالة دال على الإخلاص , وأعظم للثواب . قلت : وهذا
كان سبب ثناء الله تعالى على ذي الكفل حسب , ما يأتي بيانه في [ ص ] إن شاء الله
تعالى . وجواب }{ لولا }{ على هذا محذوف ; أي لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما هم به ;
ومثله }{ كلا لو تعلمون علم اليقين } [ التكاثر : 5 ] وجوابه لم تتنافسوا ; قال ابن
عطية : روي هذا القول عن ابن عباس وجماعة من السلف , وقالوا : الحكمة في ذلك أن
يكون مثلا للمذنبين ليروا أن توبتهم ترجع إلى عفو الله تعالى كما رجعت ممن هو خير
منهم ولم يوبقه القرب من الذنب , وهذا كله على أن هم يوسف بلغ فيما روت هذه الفرقة
إلى أن جلس بين رجلي زليخاء وأخذ في حل ثيابه وتكته ونحو ذلك , وهي قد استلقت له ;
حكاه الطبري . وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : وابن عباس ومن دونه لا يختلفون في أنه
هم بها , وهم أعلم بالله وبتأويل كتابه , وأشد تعظيما للأنبياء من أن يتكلموا فيهم
بغير علم . وقال الحسن : إن الله عز وجل لم يذكر معاصي الأنبياء ليعيرهم بها ; ولكنه
ذكرها لكيلا تيأسوا من التوبة . قال الغزنوي : مع أن زلة الأنبياء حكما : زيادة
الوجل , وشدة الحياء بالخجل , والتخلي عن عجب , العمل , والتلذذ بنعمة العفو بعد
الأمل , وكونهم أئمة رجاء أهل الزلل . قال القشيري أبو نصر : وقال قوم جرى من يوسف
هم , وكان ذلك الهم حركة طبع من غير تصميم للعقد على الفعل ; وما كان من هذا القبيل
لا يؤخذ به العبد , وقد يخطر بقلب المرء وهو صائم شرب الماء البارد ; وتناول الطعام
اللذيذ ; فإذا لم يأكل ولم يشرب , ولم يصمم عزمه على الأكل والشرب لا يؤاخذ بما هجس
في النفس ; والبرهان صرفه عن هذا الهم حتى لم يصر عزما مصمما . قلت : هذا قول حسن ;
وممن قال به الحسن . قال ابن عطية : الذي أقول به في هذه الآية إن كون يوسف نبيا في
وقت هذه النازلة لم يصح , ولا تظاهرت به رواية ; وإذا كان كذلك فهو مؤمن قد أوتي
حكما وعلما , ويجوز عليه الهم الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته وأن يستصحب الخاطر
الرديء على ما في ذلك من الخطيئة ; وإن فرضناه نبيا في ذلك الوقت فلا يجوز عليه
عندي إلا الهم الذي هو خاطر , ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حل تكته ونحوه ; لأن
العصمة مع النبوة . وما روي من أنه قيل له : تكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل
السفهاء . فإنما معناه العدة بالنبوة فيما بعد . قلت : ما ذكره من هذا التفصيل صحيح
; لكن قوله تعالى : { وأوحينا إليه } [ يوسف : 15 ] يدل على أنه كان نبيا على ما
ذكرناه , وهو قول جماعة من العلماء ; وإذا كان نبيا فلم يبق إلا أن يكون الهم الذي
هم به ما يخطر في النفس ولا يثبت في الصدر ; وهو الذي رفع الله فيه المؤاخذة عن
الخلق , إذ لا قدرة للمكلف على دفعه ; ويكون قوله : { وما أبرئ نفسي } [ يوسف : 53
] - إن كان من قول يوسف - أي من هذا الهم , أو يكون ذلك منه على طريق التواضع
والاعتراف , لمخالفة النفس لما زكي به قبل وبرئ ; وقد أخبر الله تعالى عن حال يوسف
من حين بلوغه فقال : { ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما } [ يوسف : 22 ] على ما
تقدم بيانه ; وخبر الله تعالى صدق , ووصفه صحيح , وكلامه حق ; فقد عمل يوسف بما
علمه الله من تحريم الزنا ومقدماته ; وخيانة السيد والجار والأجنبي في أهله ; فما
تعرض لامرأة العزيز , ولا أجاب إلى المراودة , بل أدبر عنها وفر منها ; حكمة خص بها
, وعملا بمقتضى ما علمه الله . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قالت الملائكة رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو
أبصر به فقال ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما
تركها من جراي ) . وقال عليه السلام مخبرا عن ربه : ( إذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها
كتبت حسنة ) . فإن كان ما يهم به العبد من السيئة يكتب له بتركها حسنة فلا ذنب ; وفي
الصحيح : ( إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به ) وقد
تقدم . قال ابن العربي : كان بمدينة السلام إمام من أئمة الصوفية , - وأي إمام -
يعرف بابن عطاء ! تكلم يوما على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما نسب إليه من مكروه
; فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة فقال : يا شيخ ! يا سيدنا
! فإذا يوسف هم وما تم ؟ قال : نعم ! لأن العناية من ثم . فانظر إلى حلاوة العالم
والمتعلم , وانظر إلى فطنة العامي في سؤاله , وجواب العالم في اختصاره واستيفائه ;
ولذلك قال علماء الصوفية : إن فائدة قوله : { ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما } [
يوسف : 22 ] إنما أعطاه ذلك إبان غلبة الشهوة لتكون له سببا للعصمة . قلت : وإذا
تقررت عصمته وبراءته بثناء الله تعالى عليه فلا يصح ما قال مصعب بن عثمان : إن
سليمان بن يسار كان من أحسن الناس وجها , فاشتاقته امرأة فسامته نفسها فامتنع عليها
وذكرها , فقالت : إن لم تفعل لأشهرنك ; فخرج وتركها , فرأى في منامه يوسف الصديق
عليه السلام جالسا فقال : أنت يوسف ؟ فقال : أنا يوسف الذي هممت , وأنت سليمان الذي
لم تهم ؟ ! فإن هذا يقتضي أن تكون درجة الولاية أرفع من درجة النبوة وهو محال ; ولو
قدرنا يوسف غير نبي فدرجته الولاية , فيكون محفوظا كهو ; ولو غلقت على سليمان
الأبواب , وروجع في المقال والخطاب , والكلام والجواب مع طول الصحبة لخيف عليه
الفتنة , وعظيم المحنة , والله أعلم . لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ }{ أن }
في موضع رفع أي لولا رؤية برهان ربه والجواب محذوف . لعلم السامع ; أي لكان ما كان
. وهذا البرهان غير مذكور في القرآن ; فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن
زليخاء قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب , فقال : ما
تصنعين ؟ قالت : أستحي من إلهي هذا أن يراني في هذه الصورة ; فقال يوسف : أنا أولى
أن أستحي من الله ; وهذا أحسن ما قيل فيه , لأن فيه إقامة الدليل . وقيل : رأى
مكتوبا في سقف البيت }{ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا } [ الإسراء : 32
] . وقال ابن عباس : بدت كف مكتوب عليها }{ وإن عليكم لحافظين } [ الانفطار : 10 ]
وقال قوم : تذكر عهد الله وميثاقه . وقيل : نودي يا يوسف ! أنت مكتوب في ديوان
الأنبياء وتعمل عمل السفهاء ؟ ! وقيل : رأى صورة يعقوب على الجدران عاضا على أنملته
يتوعده فسكن , وخرجت شهوته من أنامله ; قاله قتادة ومجاهد والحسن والضحاك . وأبو
صالح وسعيد بن جبير . وروى الأعمش عن مجاهد قال : حل سراويله فتمثل له يعقوب , وقال
له : يا يوسف ! فولى هاربا . وروى سفيان عن أبي حصين عن سعيد بن جبير قال : مثل له
يعقوب فضرب صدره فخرجت شهوته من أنامله , قال مجاهد : فولد لكل واحد من أولاد يعقوب
اثنا عشر ذكرا إلا يوسف لم يولد له إلا غلامان , ونقص بتلك الشهوة ولده ; وقيل غير
هذا . وبالجملة : فذلك البرهان آية من آيات الله أراها الله يوسف حتى قوي إيمانه ,
وامتنع عن المعصية . كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ الكاف من }
كذلك }{ يجوز أن تكون رفعا , بأن يكون خبر ابتداء محذوف , التقدير : البراهين كذلك ,
ويكون نعتا لمصدر محذوف ; أي أريناه البراهين رؤية كذلك . والسوء الشهوة , والفحشاء
المباشرة . وقيل : السوء الثناء القبيح , والفحشاء الزنا . وقيل : السوء خيانة صاحبه
, والفحشاء ركوب الفاحشة . وقيل : السوء عقوبة الملك العزيز . إِنَّهُ مِنْ
عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر }{ المخلصين }{ بكسر
اللام ; وتأويلها الذين أخلصوا طاعة الله . وقرأ الباقون بفتح اللام , وتأويلها :
الذين أخلصهم الله لرسالته ; وقد كان يوسف صلى الله عليه وسلم بهاتين الصفتين ;
لأنه كان مخلصا في طاعة الله تعالى , مستخلصا لرسالة الله تعالى .
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ قال العلماء : وهذا من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه
المعاني ; وذلك أنه لما رأى برهان ربه هرب منها فتعاديا , هي لترده إلى نفسها , وهو
ليهرب عنها , فأدركته قبل أن يخرج . وحذفت الألف من }{ استبقا }{ في اللفظ لسكونها
وسكون اللام بعدها ; كما يقال : جاءني عبد الله في التثنية ; ومن العرب من يقول :
جاءني عبدا الله بإثبات الألف بغير همز , يجمع بين ساكنين ; لأن الثاني مدغم ,
والأول حرف مد ولين . ومنهم من يقول : عبدا الله بإثبات الألف والهمز , كما تقول في
الوقف . وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ أي من خلفه ; قبضت في أعلى قميصه فتخرق
القميص عند طوقه , ونزل التخريق إلى أسفل القميص . والاستباق طلب السبق إلى الشيء ;
ومنه السباق . والقد القطع , وأكثر ما يستعمل فيما كان طولا ; قال النابغة : تقد
السلوقي المضاعف نسجه وتوقد بالصفاح نار الحباحب والقط بالطاء يستعمل فيما كان عرضا
. وقال المفضل بن حرب : قرأت في مصحف }{ فلما رأى قميصه عط من دبره }{ أي شق . قال
يعقوب : العط الشق في الجلد الصحيح والثوب الصحيح . في الآية دليل على القياس
والاعتبار , والعمل بالعرف والعادة ; لما ذكر من قد القميص مقبلا ومدبرا , وهذا أمر
انفرد به المالكية في كتبهم ; وذلك أن القميص إذا جبذ من خلف تمزق من تلك الجهة ,
وإذا جبذ من قدام تمزق من تلك الجهة , وهذا هو الأغلب . وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا
لَدَى الْبَابِ أي وجدا العزيز عند الباب , وعني بالسيد الزوج , والقبط يسمون الزوج
سيدا . يقال : ألفاه وصادفه ووارطه ووالطه ولاطه كله بمعنى واحد ;قَالَتْ مَا
جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا فلما رأت زوجها طلبت وجها للحيلة وكادت ف }
قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا }{ أي زنى . إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ تقول : يضرب ضربا
وجيعا . و }{ ما جزاء }{ ابتداء , وخبره }{ أن يسجن } . أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ عطف على
موضع }{ أن يسجن }{ لأن المعنى : إلا السجن . ويجوز أو عذابا أليما بمعنى : أو يعذب
عذابا أليما ; قاله الكسائي .
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي قال العلماء : لما برأت نفسها ; ولم تكن
صادقة في حبه - لأن من شأن المحب إيثار المحبوب - قال : { هي راودتني عن نفسي }{ نطق
يوسف بالحق في مقابلة بهتها وكذبها عليه . قال نوف الشامي وغيره : كأن يوسف عليه
السلام لم يبن عن كشف القضية , فلما بغت به غضب فقال الحق . وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ
أَهْلِهَا لأنهما لما تعارضا في القول احتاج الملك إلى شاهد ليعلم الصادق من الكاذب
, فشهد شاهد من أهلها . أي حكم حاكم من أهلها ; لأنه حكم منه وليس بشهادة . وقد اختلف
في هذا الشاهد على أقوال أربعة : الأول - أنه طفل في المهد تكلم ; قال السهيلي :
وهو الصحيح ; للحديث الوارد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم , وهو قوله : ( لم
يتكلم في المهد إلا ثلاثة . . .) وذكر فيهم شاهد يوسف . وقال القشيري أبو نصر : قيل
فيه : كان صبيا في المهد في الدار وهو ابن خالتها ; وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تكلم أربعة وهم صغار . . .) فذكر منهم
شاهد يوسف ; فهذا قول . الثاني - أن الشاهد قد القميص ; رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد
, وهو مجاز صحيح من جهة اللغة ; فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال ; وقد تضيف
العرب الكلام إلى الجمادات وتخبر عنها بما هي عليه من الصفات , وذلك كثير في
أشعارها وكلامها ; ومن أحلاه قول بعضهم : قال الحائط للوتد لم تشقني ؟ قال له : سل
من يدقني . إلا أن قول الله تعالى بعد }{ من أهلها }{ يبطل أن يكون القميص . الثالث -
أنه خلق من خلق الله تعالى ليس بإنسي ولا بجني ; قاله مجاهد أيضا , وهذا يرده قوله
تعالى : { من أهلها } . الرابع - أنه رجل حكيم ذو عقل كان الوزير يستشيره في أموره ,
وكان من جملة أهل المرأة وكان مع زوجها فقال : قد سمعت الاستبدار والجلبة من وراء
الباب , وشق القميص , فلا يدرى أيكما كان قدام صاحبه ; فإن كان شق القميص من قدامه
فأنت صادقة , وإن كان من خلفه فهو صادق , فنظروا إلى القميص فإذا هو مشقوق من خلف ;
هذا قول الحسن وعكرمة وقتادة والضحاك ومجاهد أيضا والسدي . قال السدي : كان ابن عمها
; وروي عن ابن عباس , وهو الصحيح في الباب , والله أعلم . وروي عن ابن عباس - رواه
عنه إسرائيل عن سماك عن عكرمة - قال : كان رجلا ذا لحية . وقال سفيان عن جابر عن ابن
أبي مليكة عن ابن عباس أنه قال : كان من خاصة الملك . وقال عكرمة : لم يكن بصبي ,
ولكن كان رجلا حكيما . وروى سفيان عن منصور عن مجاهد قال : كان رجلا . قال أبو جعفر
النحاس : والأشبه بالمعنى - والله أعلم - أن يكون رجلا عاقلا حكيما شاوره الملك
فجاء بهذه الدلالة ; ولو كان طفلا لكانت شهادته ليوسف صلى الله عليه وسلم تغني عن
أن يأتي بدليل من العادة ; لأن كلام الطفل آية معجزة , فكانت أوضح من الاستدلال
بالعادة ; وليس هذا بمخالف للحديث ( تكلم أربعة وهم صغار ) منهم صاحب يوسف , يكون
المعنى : صغيرا ليس بشيخ ; وفي هذا دليل آخر وهو : أن ابن عباس رضي الله عنهما روى
الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم , وقد تواترت الرواية عنه أن صاحب يوسف ليس
بصبي . قلت : قد روي عن ابن عباس وأبي هريرة وابن جبير وهلال بن يساف والضحاك أنه
كان صبيا في المهد ; إلا أنه لو كان صبيا تكلم لكان الدليل نفس كلامه , دون أن
يحتاج إلى استدلال بالقميص , وكان يكون ذلك خرق عادة , ونوع معجزة ; والله أعلم
. وسيأتي من تكلم في المهد من الصبيان في سورة [ البروج ] إن شاء الله . إذا تنزلنا
على أن يكون الشاهد طفلا صغيرا فلا يكون فيه دلالة على العمل بالأمارات كما ذكرنا ;
وإذا كان رجلا فيصح أن يكون حجة بالحكم بالعلامة في اللقطة وكثير من المواضع ; حتى
قال مالك في اللصوص : إذا وجدت معهم أمتعة فجاء قوم فادعوها , وليست لهم بينة فإن
السلطان يتلوم لهم في ذلك ; فإن لم يأت غيرهم دفعها إليهم . وقال محمد في متاع البيت
إذا اختلفت فيه المرأة والرجل : إن ما كان للرجال فهو للرجل , وما كان للنساء فهو
للمرأة , وما كان للرجل والمرأة فهو للرجل . وكان شريح وإياس بن معاوية يعملان على
العلامات في الحكومات ; وأصل ذلك هذه الآية , والله أعلم . إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ
قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ كان في موضع جزم بالشرط ,
وفيه من النحو ما يشكل , لأن حروف الشرط ترد الماضي إلى المستقبل , وليس هذا في كان
; فقال المبرد محمد بن يزيد : هذا لقوة كان , وأنه يعبر بها عن جميع الأفعال . وقال
الزجاج : المعنى إن يكن ; أي إن يعلم , والعلم لم يقع , وكذا الكون لأنه يؤدي عن
العلم .{ قد من قبل }{ فخبر عن }{ كان }{ بالفعل الماضي ; كما قال زهير : وكان طوى
كشحا على مستكنة فلا هو أبداها ولم يتقدم وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق }{ من
قبل }{ بضم القاف والباء واللام , وكذا }{ دبر }{ قال الزجاج : يجعلهما غايتين كقبل
وبعد ; كأنه قال : من قبله ومن دبره , فلما حذف المضاف إليه - وهو مراد - صار
المضاف غاية نفسه بعد أن كان المضاف إليه غاية له . ويجوز }{ من قبل }{ ومن دبر }
بفتح الراء واللام تشبيها بما لا ينصرف ; لأنه معرفة ومزال عن بابه . وروى محبوب عن
أبي عمرو }{ من قبل }{ ومن دبر }{ مخففان مجروران .
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ بين في
مواضع أن اقتراح الآيات على الرسل جهل , بعد أن رأوا آية واحدة تدل على الصدق ,
والقائل , عبد الله بن أبي أمية وأصحابه حين طالبوا النبي صلى الله عليه وسلم
بالآيات . قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ عز وجل }{ يضل من يشاء }{ أي كما
أضلكم بعد ما أنزل من الآيات وحرمكم الاستدلال بها يضلكم عند نزول غيرها . وَيَهْدِي
إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ أي من رجع . والهاء في }{ إليه }{ للحق , أو للإسلام , أو لله
عز وجل ; على تقدير : ويهدي إلى دينه وطاعته من رجع إليه بقلبه . وقيل : هي للنبي
صلى الله عليه وسلم .
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ قيل :
قال لها ذلك العزيز عند قولها : { ما جزاء من أراد بأهلك سوءا } [ يوسف : 25 ]
. وقيل : قاله لها الشاهد . والكيد : المكر والحيلة , وقد تقدم في [ الأنفال ]إِنَّ
كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ وإنما قال }{ عظيم }{ لعظم فتنتهن واحتيالهن في التخلص من ورطتهن
. وقال مقاتل عن يحيى بن أبي كثير عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : ( إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان لأن الله تعالى يقول : { إن كيد
الشيطان كان ضعيفا } [ النساء : 76 ] وقال : { إن كيدكن عظيم } .
يُوسُفُ القائل هذا هو الشاهد . و }{ يوسف }{ نداء مفرد , أي يا يوسف , فحذف . أَعْرِضْ
عَنْ هَذَا أي لا تذكره لأحد واكتمه . وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ أقبل عليها فقال :
وأنت استغفري زوجك من ذنبك لا يعاقبك . إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ولم يقل
من الخاطئات لأنه قصد الإخبار عن المذكر والمؤنث , فغلب المذكر ; والمعنى : من
الناس الخاطئين , أو من القوم الخاطئين ; مثل : { إنها كانت من قوم كافرين } [
النمل : 43 ] { وكانت من القانتين } [ التحريم : 12 ] . وقيل : إن القائل ليوسف أعرض
ولها استغفري زوجها الملك ; وفيه قولان : أحدهما : أنه لم يكن غيورا ; فلذلك , كان
ساكنا . وعدم الغيرة في كثير من أهل مصر موجود . الثاني : أن الله تعالى سلبه الغيرة
وكان فيه لطف بيوسف حتى كفي بادرته وعفا عنها .
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ويقال : { نسوة }{ بضم النون , وهي قراءة الأعمش
والمفضل والسلمي , والجمع الكثير نساء . ويجوز : وقالت نسوة , وقال نسوة , مثل قالت
الأعراب وقال الأعراب ; وذلك أن القصة انتشرت في أهل مصر فتحدث النساء . امْرَأَةُ
الْعَزِيزِ قيل : امرأة ساقي العزيز , وامرأة خبازه , وامرأة صاحب دوابه , وامرأة
صاحب سجنه . وقيل : امرأة الحاجب ; عن ابن عباس وغيره . تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ
نَفْسِهِ الفتى في كلام العرب الشاب , والمرأة فتاة . وقال قتادة : { فتاها }{ وهو
فتى زوجها , لأن يوسف كان عندهم في حكم المماليك , وكان ينفذ أمرها فيه . وقال مقاتل
عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال : إن امرأة العزيز استوهبت زوجها يوسف
فوهبه لها , وقال : ما تصنعين به ؟ قالت : أتخذه ولدا ; قال : هو لك ; فربته حتى
أيفع وفي نفسها منه ما في نفسها , فكانت تنكشف له وتتزين وتدعوه من وجه اللطف فعصمه
الله . قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا قيل : شغفها غلبها . وقيل : دخل حبه في شغافها ; عن
مجاهد . وغيره . وروى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال : دخل تحت شغافها . وقال
الحسن : الشغف باطن القلب . السدي وأبو عبيد : شغاف القلب غلافه , وهو جلدة عليه
. وقيل : هو وسط القلب ; والمعنى في هذه الأقوال متقارب , والمعنى : وصل حبه إلى
شغافها فغلب عليه ; قال النابغة : وقد حال هم دون ذلك داخل دخول الشغاف تبتغيه
الأصابع وقد قيل : إن الشغاف داء ; وأنشد الأصمعي للراجز : يتبعها وهي له شغاف وقرأ
أبو جعفر بن محمد وابن محيصن والحسن }{ شعفها }{ بالعين غير معجمة ; قال ابن الأعرابي
: معناه أحرق حبه قلبها ; قال : وعلى الأول العمل . قال الجوهري : وشعفه الحب أحرق
قلبه . وقال أبو زيد : أمرضه . وقد شعف بكذا فهو مشعوف . وقرأ الحسن }{ قد شعفها }{ قال
: بطنها حبا . قال النحاس : معناه عند أكثر أهل اللغة قد ذهب بها كل مذهب ; لأن شعاف
الجبال . أعاليها ; وقد شغف بذلك شغفا بإسكان الغين إذا أولع به ; إلا أن أبا عبيدة
أنشد بيت امرئ القيس : لتقتلني وقد شعفت فؤادها كما شعف المهنوءة الرجل الطالي قال
: فشبهت لوعة الحب وجواه بذلك . وروي عن الشعبي أنه قال : الشغف بالغين المعجمة حب ,
والشعف بالعين غير المعجمة جنون . قال النحاس : وحكي }{ قد شغفها }{ بكسر الغين , ولا
يعرف في كلام العرب إلا }{ شغفها }{ بفتح الغين , وكذا }{ شعفها }{ أي تركها مشعوفة
. وقال سعيد بن أبي عروبة عن الحسن : الشغاف حجاب القلب , والشعاف سويداء القلب ,
فلو وصل الحب إلى الشعاف لماتت ; وقال الحسن : ويقال إن الشغاف الجلدة اللاصقة
بالقلب التي لا ترى , وهي الجلدة البيضاء , فلصق حبه بقلبها كلصوق الجلدة بالقلب
. إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ أي في هذا الفعل .
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أي بغيبتهن إياها , واحتيالهن في ذمها . وقيل :
إنها أطلعتهن واستأمنتهن فأفشين سرها , فسمي ذلك مكرا . أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ في
الكلام حذف ; أي أرسلت إليهن تدعوهن إلى وليمة لتوقعهن فيما وقعت فيه ; فقال مجاهد
عن ابن عباس : إن امرأة العزيز قالت لزوجها إني أريد أن أتخذ طعاما فأدعو هؤلاء
النسوة ; فقال لها : افعلي ; فاتخذت طعاما , ثم نجدت لهن البيوت ; نجدت أي زينت ;
والنجد ما ينجد به البيت من المتاع أي يزين , والجمع نجود عن أبي عبيد ; والتنجيد
التزيين ; وأرسلت إليهن أن يحضرن طعامها , ولا تتخلف منكن امرأة ممن سميت . قال وهب
بن منبه : إنهن كن أربعين امرأة فجئن على كره منهن , وقد قال فيهن أمية بن أبي
الصلت : حتى إذا جئنها قسرا ومهدت لهن أنضادا وكبابا ويروى : أنماطا . قال وهب بن
منبه : فجئن وأخذن مجالسهن . وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً أي هيأت لهن مجالس
يتكئن عليها . قال ابن جبير : في كل مجلس جام فيه عسل وأترج وسكين حاد . وقرأ مجاهد
وسعيد بن جبير }{ متكا }{ مخففا غير مهموز , والمتك هو الأترج بلغة القبط , وكذلك
فسره مجاهد روى سفيان عن منصور عن مجاهد قال : المتكأ مثقلا هو الطعام , والمتك
مخففا هو الأترج ; وقال الشاعر : نشرب الإثم بالصواع جهارا وترى المتك بيننا
مستعارا وقد تقول أزد شنوءة : الأترجة المتكة ; قال الجوهري : المتك ما تبقيه
الخاتنة . وأصل المتك الزماورد . والمتكاء من النساء التي لم تخفض . قال الفراء :
حدثني شيخ من ثقات أهل البصرة أن المتك مخففا الزماورد . وقال بعضهم : إنه الأترج ;
حكاه الأخفش . ابن زيد : أترجا وعسلا يؤكل به ; قال الشاعر : فظللنا بنعمة واتكأنا
وشربنا الحلال من قلله أي أكلنا . النحاس : قوله تعالى : { وأعتدت }{ من العتاد ; وهو
كل ما جعلته عدة لشيء .{ متكأ }{ أصح ما قيل فيه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس قال : مجلسا , وأما قول جماعة من أهل , التفسير إنه الطعام فيجوز على تقدير :
طعام متكأ , مثل : { واسأل القرية } ; ودل على هذا الحذف }{ وآتت كل واحدة منهن
سكينا }{ لأن حضور النساء معهن سكاكين إنما هو لطعام يقطع بالسكاكين ; كذا قال في
كتاب }{ إعراب القرآن }{ له . وقال في كتاب }{ معاني القرآن }{ له : وروى معمر عن قتادة
قال : { المتكأ }{ الطعام . وقيل : { المتكأ }{ كل ما اتكئ عليه عند طعام أو شراب أو
حديث ; وهذا هو المعروف عند أهل اللغة , إلا أن الروايات قد صحت بذلك . وحكى القتبي
أنه يقال : اتكأنا عند فلان أي أكلنا , والأصل في }{ متكأ }{ موتكأ , ومثله متزن
ومتعد ; لأنه من وزنت , ووعدت ووكأت , ويقال : اتكأ يتكئ اتكاء . وَآتَتْ كُلَّ
وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا مفعولان ; وحكى الكسائي والفراء أن السكين يذكر
ويؤنث , وأنشد الفراء : فعيث في السنام غداة قر بسكين موثقة النصاب الجوهري :
والغالب عليه التذكير , وقال : يرى ناصحا فيما بدا فإذا خلا فذلك سكين على الحلق
حاذق الأصمعي : لا يعرف في السكين إلا التذكير . وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ بضم
التاء لالتقاء الساكنين ; لأن الكسرة تثقل إذا كان بعدها ضمة , وكسرت التاء على
الأصل . قيل : إنها قالت لهن : لا تقطعن ولا تأكلن حتى أعلمكن , ثم قالت لخادمها :
إذا قلت لك ادع إيلا فادع يوسف ; وإيل : صنم كانوا يعبدونه , وكان يوسف عليه السلام
يعمل في الطين , وقد شد مئزره , وحسر عن ذراعيه ; فقالت للخادم : ادع لي إيلا ; أي
ادع لي الرب ; وإيل بالعبرانية الرب ; قال : فتعجب النسوة وقلن : كيف يجيء ؟ !
فصعدت الخادم فدعت يوسف , فلما انحدر قالت لهن : اقطعن ما معكن . فَلَمَّا
رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ واختلف في معنى }{ أكبرنه }{ فروى جويبر عن الضحاك عن ابن
عباس : أعظمنه وهبنه ; وعنه أيضا أمنين وأمذين من الدهش ; وقال الشاعر : إذا ما
رأين الفحل من فوق قارة صهلن وأكبرن المني المدفقا وقال ابن سمعان عن عدة من أصحابه
: إنهم قالوا أمذين عشقا ; وهب بن منبه : عشقنه حتى مات منهن عشر في ذلك المجلس
دهشا وحيرة ووجدا بيوسف . وقيل : معناه حضن من الدهش ; قاله قتادة ومقاتل والسدي ;
قال الشاعر : نأتي النساء على أطهارهن ولا نأتي النساء إذا أكبرن إكبارا وأنكر ذلك
أبو عبيدة وغيره وقالوا : ليس ذلك في كلام العرب , ولكنه يجوز أن يكن حضن من شدة
إعظامهن له , وقد تفزع المرأة فتسقط ولدها أو تحيض . قال الزجاج يقال أكبرنه , ولا
يقال حضنه , فليس الإكبار بمعنى الحيض ; وأجاب الأزهري فقال : يجوز أكبرت بمعنى
حاضت ; لأن المرأة إذا حاضت في الابتداء خرجت من حيز الصغر إلى الكبر ; قال :
والهاء في }{ أكبرنه }{ يجوز أن تكون هاء الوقف لا هاء الكناية , وهذا مزيف , لأن هاء
الوقف تسقط في الوصل , وأمثل منه قول ابن الأنباري : إن الهاء كناية عن مصدر الفعل
, أي أكبرن إكبارا , بمعنى حضن حيضا . وعلى قول ابن عباس الأول تعود الهاء إلى يوسف
; أي أعظمن يوسف وأجللنه . وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ بالمدى حتى بلغت السكاكين إلى
العظم ; قاله وهب بن منبه . سعيد بن جبير : لم يخرج عليهن حتى زينته , فخرج عليهن
فجأة فدهشن فيه , وتحيرن لحسن وجهه وزينته وما عليه , فجعلن يقطعن أيديهن , ويحسبن
أنهن يقطعن الأترج ; قال مجاهد : قطعنها حتى ألقينها . وقيل : خدشنها . وروى ابن أبي
نجيح عن مجاهد قال : حزا بالسكين , قال النحاس : يريد مجاهد أنه ليس قطعا تبين منه
اليد , إنما هو خدش وحز , وذلك معروف في اللغة أن يقال إذا خدش الإنسان يد صاحبه
قطع يده . وقال عكرمة : { أيديهن }{ أكمامهن , وفيه بعد . وقيل : أناملهن ; أي ما وجدن
ألما في القطع والجرح , أي لشغل قلوبهن بيوسف , والتقطيع يشير إلى الكثرة , فيمكن
أن ترجع الكثرة إلى واحدة جرحت يدها في موضع , ويمكن أن يرجع إلى عددهن . وَقُلْنَ
حَاشَ لِلَّهِ أي معاذ الله . وروى الأصمعي عن نافع أنه قرأ كما قرأ أبو عمرو بن
العلاء .{ وقلن حاشا لله }{ بإثبات الألف وهو الأصل , ومن حذفها جعل اللام في }{ لله
{ عوضا منها . وفيها أربع لغات ; يقال : حاشاك وحاشا لك وحاش لك وحشا لك . ويقال :
حاشا زيد وحاشا زيدا ; قال النحاس : وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد
يقول : النصب أولى ; لأنه قد صح أنها فعل لقولهم حاش لزيد , والحرف لا يحذف منه ;
وقد قال , النابغة : ولا أحاشي من الأقوام من أحد وقال بعضهم : حاش حرف , وأحاشى
فعل . ويدل على كون حاشا فعلا وقوع حرف الجر بعدها . وحكى أبو زيد عن أعرابي : اللهم
اغفر لي ولمن يسمع , حاشا الشيطان وأبا الأصبغ ; فنصب بها . وقرأ الحسن }{ وقلن حاش
لله }{ بإسكان الشين , وعنه أيضا }{ حاش الإله } . ابن مسعود وأبي : { حاش الله }{ بغير
لام , ومنه قول الشاعر : حاشا أبي ثوبان إن به ضنا عن الملحاة والشتم قال الزجاج :
وأصل الكلمة من الحاشية , والحشا بمعنى الناحية , تقول : كنت في حشا فلان أي في
ناحيته ; فقولك : حاشا لزيد أي تنحى زيد من هذا وتباعد عنه , والاستثناء إخراج
وتنحية عن جملة المذكورين . وقال أبو علي : هو فاعل من المحاشاة ; أي حاشا يوسف وصار
في حاشية وناحية مما قرف به , أو من أن يكون بشرا ; فحاشا وحاش في الاستثناء حرف جر
عند سيبويه , وعلى ما قال المبرد وأبو علي فعل . مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا
إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ قال الخليل وسيبويه : { ما }{ بمنزلة ليس ; تقول : ليس زيد
قائما , و }{ ما هذا بشرا }{ و }{ ما هن أمهاتهم } [ المجادلة : 2 ] . وقال الكوفيون :
لما حذفت الباء نصبت ; وشرح هذا - فيما قاله أحمد بن يحيى , - إنك إذا قلت : ما زيد
بمنطلق , فموضع الباء موضع نصب , وهكذا سائر حروف الخفض ; فلما حذفت الباء نصبت
لتدل على محلها , قال : وهذا قول الفراء , قال : ولم تعمل }