سورة البقرة : وأول مبدوء به الكلام في نزولها وفضلها وما جاء فيها ; وهكذا كل سورة
إن وجدنا لها ذلك ; فنقول : سورة البقرة مدنية , نزلت في مدد شتى . وقيل : هي أول
سورة نزلت بالمدينة , إلا قوله تعالى : { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } [
البقرة : 281 ] فإنه آخر آية نزلت من السماء , ونزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى
; وآيات الربا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن . وهذه السورة فضلها عظيم وثوابها
جسيم . ويقال لها : فسطاط القرآن ; قاله خالد بن معدان . وذلك لعظمها وبهائها , وكثرة
أحكامها ومواعظها . وتعلمها عمر رضي الله عنه بفقهها وما تحتوي عليه في اثنتي عشرة
سنة , وابنه عبد الله في ثماني سنين كما تقدم . قال ابن العربي : سمعت بعض أشياخي
يقول : فيها ألف أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر . وبعث رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعثا وهم ذوو عدد وقدم عليهم أحدثهم سنا لحفظه سورة البقرة , وقال له : ( اذهب
فأنت أميرهم ) أخرجه الترمذي عن أبي هريرة وصححه . وروى مسلم عن أبي أمامة الباهلي
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة
وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة ) , قال معاوية : بلغني أن البطلة : السحرة . وروي
أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تجعلوا بيوتكم مقابر
إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ) . وروى الدارمي عن عبد الله
قال : ما من بيت يقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط . وقال : إن لكل
شيء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة , وإن لكل شيء لبابا وإن لباب القرآن المفصل
. قال أبو محمد الدارمي . اللباب : الخالص . وفي صحيح البستي عن سهل بن سعد قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة
ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال ومن قرأها نهارا لم يدخل
الشيطان بيته ثلاثة أيام ) . قال أبو حاتم البستي : قوله صلى الله عليه وسلم : ( لم
يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام ) أراد : مردة الشياطين . وروى الدارمي في مسنده عن
الشعبي قال قال عبد الله : من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك
البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح ; أربعا من أولها وآية الكرسي وآيتين بعدها وثلاثا
خواتيمها , أولها : { لله ما في السموات } [ البقرة : 284 ] . وعن الشعبي عنه : لم
يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شيء يكرهه , ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق . وقال
المغيرة بن سبيع - وكان من أصحاب عبد الله - : لم ينس القرآن . وقال إسحاق بن عيسى :
لم ينس ما قد حفظ . قال أبو محمد الدارمي : منهم من يقول : المغيرة بن سميع . وفي
كتاب الاستيعاب لابن عبد البر : وكان لبيد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن
كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة من شعراء الجاهلية , أدرك الإسلام فحسن إسلامه وترك
قول الشعر في الإسلام , وسأله عمر في خلافته عن شعره واستنشده ; فقرأ سورة البقرة ;
فقال : إنما سألتك عن شعرك ; فقال : ما كنت لأقول بيتا من الشعر بعد إذ علمني الله
البقرة وآل عمران ; فأعجب عمر قوله ; وكان عطاؤه ألفين فزاده خمسمائة . وقد قال كثير
من أهل الأخبار : إن لبيدا لم يقل شعرا منذ أسلم . وقال بعضهم : لم يقل في الإسلام
إلا قوله : الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا قال ابن عبد
البر : وقد قيل إن هذا البيت لقردة بن نفاثة السلولي , وهو أصح عندي . وقال غيره :
بل البيت الذي قال في الإسلام : ما عاتب المرء الكريم كنفسه والمرء يصلحه القرين
الصالح وسيأتي ما ورد في آية الكرسي وخواتيم البقرة , ويأتي في أول سورة آل عمران
زيادة بيان لفضل هذه السورة ; إن شاء الله تعالى . اختلف أهل التأويل في الحروف التي
في أوائل السورة ; فقال عامر الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين : هي سر الله
في القرآن , ولله في كل كتاب من كتبه سر . فهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى
بعلمه , ولا يجب أن يتكلم فيها , ولكن نؤمن بها ونقرأ كما جاءت . وروي هذا القول عن
أبي بكر الصديق وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما . وذكر أبو الليث السمرقندي عن
عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا : الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر . وقال
أبو حاتم : لم نجد الحروف المقطعة في القرآن إلا في أوائل السور , ولا ندري ما أراد
الله جل وعز بها . قلت : ومن هذا المعنى ما ذكره أبو بكر الأنباري : حدثنا الحسن بن
الحباب حدثنا أبو بكر بن أبي طالب حدثنا أبو المنذر الواسطي عن مالك بن مغول عن
سعيد بن مسروق عن الربيع بن خثيم قال : إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه
بعلم ما شاء , وأطلعكم على ما شاء , فأما ما استأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا
تسألوا عنه , وأما الذي أطلعكم عليه فهو الذي تسألون عنه وتخبرون به , وما بكل
القرآن تعلمون , ولا بكل ما تعلمون تعملون . قال أبو بكر : فهذا يوضح أن حروفا من
القرآن سترت معانيها عن جميع العالم , اختبارا من الله عز وجل وامتحانا ; فمن آمن
بها أثيب وسعد , ومن كفر وشك أثم وبعد . حدثنا أبو يوسف بن يعقوب القاضي حدثنا محمد
بن أبي بكر حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن عمارة عن حريث بن ظهير
عن عبد الله قال : ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب , ثم قرأ : { الذين يؤمنون
بالغيب } [ البقرة : 3 ] . قلت : هذا القول في المتشابه وحكمه , وهو الصحيح على ما
يأتي بيانه في ( آل عمران ) إن شاء الله تعالى . وقال جمع من العلماء كبير : بل يجب
أن نتكلم فيها , ونلتمس الفوائد التي تحتها , والمعاني التي تتخرج عليها ; واختلفوا
في ذلك على أقوال عديدة ; فروي عن ابن عباس وعلي أيضا : أن الحروف المقطعة في
القرآن اسم الله الأعظم , إلا أنا لا نعرف تأليفه منها . وقال قطرب والفراء وغيرهما
: هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من
حروف هي التي منها بناء كلامهم ; ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج
عن كلامهم . قال قطرب : كانوا ينفرون عند استماع القرآن , فلما سمعوا : { الم { و }
المص { استنكروا هذا اللفظ , فلما أنصتوا له صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم بالقرآن
المؤتلف ليثبته في أسماعهم وآذانهم ويقيم الحجة عليهم . وقال قوم : روي أن المشركين
لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة وقالوا : { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } [
فصلت : 26 ] نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم
الحجة . وقال جماعة : هي حروف دالة على أسماء أخذت منها وحذفت بقيتها ; كقول ابن
عباس وغيره : الألف من الله , واللام من جبريل , والميم من محمد صلى الله عليه وسلم
. وقيل : الألف مفتاح اسمه الله , واللام مفتاح اسمه لطيف , والميم مفتاح اسمه مجيد
. وروى أبو الضحى عن ابن عباس في قوله : { الم { قال : أنا الله أعلم , { الر { أنا
الله أرى , { المص { أنا الله أفصل . فالألف تؤدي عن معنى أنا , واللام تؤدي عن اسم
الله , والميم تؤدي عن معنى أعلم . واختار هذا القول الزجاج وقال : أذهب إلى أن كل
حرف منها يؤدي عن معنى ; وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة نظما لها ووضعا بدل
الكلمات التي الحروف منها , كقوله : فقلت لها قفي فقالت قاف أراد : قالت وقفت . وقال
زهير : بالخير خيرات وإن شرا فشر ولا أريد الشر إلا أن تا أراد : وإن شرا فشر . وأراد
: إلا أن تشاء . وقال آخر : نادوهم ألا الجموا ألا تا قالوا جميعا كلهم ألا فا أراد
: ألا تركبون , قالوا : ألا فاركبوا . وفي الحديث : ( من أعان على قتل مسلم بشطر
كلمة ) قال شقيق : هو أن يقول في اقتل : اق ; كما قال عليه السلام ( كفى بالسيف شا
) معناه : شافيا . وقال زيد بن أسلم : هي أسماء للسور . وقال الكلبي : هي أقسام أقسم
الله - تعالى - بها لشرفها وفضلها , وهي من أسمائه ; عن ابن عباس أيضا , ورد بعض
العلماء هذا القول فقال : لا يصح أن يكون قسما لأن القسم معقود على حروف مثل : إن
وقد ولقد وما ; ولم يوجد ها هنا حرف من هذه الحروف , فلا يجوز أن يكون يمينا . والجواب
أن يقال : موضع القسم قوله تعالى : { لا ريب فيه { فلو أن إنسانا حلف فقال : والله
هذا الكتاب لا ريب فيه ; لكان الكلام سديدا , وتكون { لا { جواب القسم . فثبت أن قول
الكلبي وما روي عن ابن عباس سديد صحيح . فإن قيل : ما الحكمة في القسم من الله تعالى
, وكان القوم في ذلك الزمان على صنفين : مصدق , ومكذب ; فالمصدق يصدق بغير قسم ,
والمكذب لا يصدق مع القسم ؟ . قيل له : القرآن نزل بلغة العرب ; والعرب إذا أراد
بعضهم أن يؤكد كلامه أقسم على كلامه ; والله تعالى أراد أن يؤكد عليهم الحجة فأقسم
أن القرآن من عنده . وقال بعضهم : { الم { أي أنزلت عليك هذا الكتاب من اللوح
المحفوظ . وقال ابتعثك في قوله : { الم { قال اسم من أسماء القرآن . وروي عن محمد بن
علي الترمذي أنه قال : إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص
في الحروف التي ذكرها في أول السورة , ولا يعرف ذلك إلا نبي أو ولي , ثم بين ذلك في
جميع السورة ليفقه الناس . وقيل غير هذا من الأقوال ; فالله أعلم . والوقف على هذه
الحروف على السكون لنقصانها إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها . واختلف : هل
لها محل من الإعراب ؟ فقيل : لا ; لأنها ليست أسماء متمكنة , ولا أفعالا مضارعة ;
وإنما هي بمنزلة حروف التهجي فهي محكية . هذا مذهب الخليل وسيبويه . ومن قال : إنها
أسماء السور فموضعها عنده الرفع على أنها عنده خبر ابتداء مضمر ; أي هذه { الم } ;
كما تقول : هذه سورة البقرة . أو تكون رفعا على الابتداء والخبر ذلك ; كما تقول :
زيد ذلك الرجل . وقال ابن كيسان النحوي : { الم { في موضع نصب ; كما تقول : اقرأ }
الم { أو عليك { الم } . وقيل : في موضع خفض بالقسم ; لقول ابن عباس : إنها أقسام
أقسم الله بها .
قيل : المعنى هذا الكتاب . و { ذلك { قد تستعمل في الإشارة إلى حاضر , وإن كان
موضوعا للإشارة إلى غائب ; كما قال تعالى في الإخبار عن نفسه جل وعز : { ذلك عالم
الغيب والشهادة العزيز الرحيم } [ السجدة : 6 ] ; ومنه قول خفاف بن ندبة : أقول له
والرمح يأطر متنه تأمل خفافا إنني أنا ذلكا أي أنا هذا . فـ { ذلك { إشارة إلى
القرآن , موضوع موضع هذا , تلخيصه : الم هذا الكتاب لا ريب فيه . وهذا قول أبي عبيدة
وعكرمة وغيرهما ; ومنه قوله تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم } [ الأنعام : 83
] { تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق } [ البقرة : 252 ] أي هذه ; لكنها لما انقضت
صارت كأنها بعدت فقيل تلك . وفي البخاري { وقال معمر ذلك الكتاب هذا القرآن } .{ هدى
للمتقين { بيان ودلالة ; كقوله : { ذلكم حكم الله يحكم بينكم } [ الممتحنة : 10 ]
هذا حكم الله . قلت : وقد جاء { هذا { بمعنى { ذلك } ; ومنه قوله عليه السلام في
حديث أم حرام : ( يركبون ثبج هذا البحر ) أي ذلك البحر ; والله أعلم . وقيل : هو على
بابه إشارة إلى غائب . واختلف في ذلك الغائب على أقوال عشرة ; فقيل : { ذلك الكتاب }
أي الكتاب الذي كتبت على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق لا ريب فيه ; أي
لا مبدل له . وقيل : ذلك الكتاب ; أي الذي كتبت على نفسي في الأزل ( أن رحمتي سبقت
غضبي ) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما
قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده أن رحمتي تغلب غضبي ) في
رواية : ( سبقت ) . وقيل : إن الله تعالى قد كان وعد نبيه عليه السلام أن ينزل عليه
كتابا لا يمحوه الماء ; فأشار إلى ذلك الوعد كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار
المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله نظر إلى أهل الأرض
فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك
وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان ) الحديث . وقيل : الإشارة إلى
ما قد نزل من القرآن بمكة . وقيل : إن الله تبارك وتعالى لما أنزل على نبيه صلى الله
عليه وسلم بمكة : { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } [ المزمل : 5 ] لم يزل رسول الله
صلى الله عليه وسلم مستشرفا لإنجاز هذا الوعد من ربه عز وجل ; فلما أنزل عليه
بالمدينة : { الم . ذلك الكتاب لا ريب فيه } [ البقرة : 1 - 2 ] كان فيه معنى هذا
القرآن الذي أنزلته عليك بالمدينة , ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك بمكة . وقيل
: إن { ذلك { إشارة إلى ما في التوراة والإنجيل . و { الم { اسم للقرآن ; والتقدير
هذا القرآن ذلك الكتاب المفسر في التوراة والإنجيل ; يعني أن التوراة والإنجيل
يشهدان بصحته ويستغرق ما فيهما ويزيد عليهما ما ليس فيهما . وقيل : إن { ذلك الكتاب
{ إشارة إلى التوراة والإنجيل كليهما ; والمعنى : الم ذانك الكتابان أو مثل ذينك
الكتابين ; أي هذا القرآن جامع لما في ذينك الكتابين ; فعبر بـ { ذلك { عن الاثنين
بشاهد من القرآن ; قال الله تبارك وتعالى : { إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين
ذلك } [ البقرة : 68 ] أي عوان بين تينك : الفارض والبكر ; وسيأتي . وقيل : إن { ذلك
{ إشارة إلى اللوح المحفوظ . وقال الكسائي : { ذلك { إشارة إلى القرآن الذي في
السماء لم ينزل بعد . وقيل : إن الله تعالى قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد
صلى الله عليه وسلم كتابا ; فالإشارة إلى ذلك الوعد . قال المبرد : المعنى هذا
القرآن ذلك الكتاب الذي كنتم تستفتحون به على الذين كفروا . وقيل : إلى حروف المعجم
في قول من قال : { الم { الحروف التي تحديتكم بالنظم منها . والكتاب مصدر من كتب
يكتب إذا جمع ; ومنه قيل : كتيبة ; لاجتماعها . وتكتبت الخيل صارت كتائب . وكتبت
البغلة : إذا جمعت بين شفري رحمها بحلقة أو سير ; قال : لا تأمنن فزاريا حللت به
على قلوصك واكتبها بأسيار والكتبة ( بضم الكاف ) : الخرزة , والجمع كتب . والكتب :
الخرز . قال ذو الرمة : وفراء غرفية أثأى خوارزها مشلشل ضيعته بينها الكتب والكتاب :
هو خط الكاتب حروف المعجم مجموعة أو متفرقة ; وسمي كتابا وإن كان مكتوبا ; كما قال
الشاعر : تؤمل رجعة مني وفيها كتاب مثل ما لصق الغراء والكتاب : الفرض والحكم
والقدر ; قال الجعدي : يا بنة عمي كتاب الله أخرجني عنكم وهل أمنعن الله ما فعلا
لَا رَيْبَ نفي عام ; ولذلك نصب الريب به . وفي الريب ثلاثة معان : أحدها : الشك ;
قال عبد الله بن الزبعرى : ليس في الحق يا أميمة ريب إنما الريب ما يقول الجهول
وثانيها : التهمة ; قال جميل : بثينة قالت يا جميل أربتني فقلت كلانا يا بثين مريب
وثالثها : الحاجة ; قال : قضينا من تهامة كل ريب وخيبر ثم أجمعنا السيوفا فكتاب
الله تعالى لا شك فيه ولا ارتياب ; والمعنى : أنه في ذاته حق وأنه منزل من عند الله
, وصفة من صفاته , غير مخلوق ولا محدث , وإن وقع ريب للكفار . وقيل : هو خبر ومعناه
النهي ; أي لا ترتابوا , وتم الكلام كأنه قال ذلك الكتاب حقا . وتقول : رابني هذا
الأمر إذا أدخل عليك شكا وخوفا . وأراب : صار ذا ريبة ; فهو مريب . ورابني أمره . وريب
الدهر : صروفه . فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ فيه ست مسائل : الأولى - قوله تعالى :
{ فيه { الهاء في { فيه { في موضع خفض بفي , وفيه خمسة أوجه ; أجودها : فيه هدى
ويليه فيه هدى ( بضم الهاء بغير واو ) وهي قراءة الزهري وسلام أبي المنذر . ويليه
فيهي هدى ( بإثبات الياء ) وهي قراءة ابن كثير . ويجوز فيهو هدى ( بالواو ) . ويجوز
فيه هدى ( مدغما ) وارتفع { هدى { على الابتداء والخبر { فيه } . والهدى في كلام
العرب معناه الرشد والبيان ; أي فيه كشف لأهل المعرفة ورشد وزيادة بيان وهدى . الثانية
: الهدى هديان : هدى دلالة , وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم ; قال الله تعالى :
{ ولكل قوم هاد } [ الرعد : 7 ] . وقال : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } [ الشورى :
52 ] فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه ; وتفرد هو سبحانه
بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق , فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : { إنك لا
تهدي من أحببت } [ القصص : 56 ] فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب ;
ومنه قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] وقوله : { ويهدي من
يشاء } [ فاطر : 8 ] والهدى : الاهتداء , ومعناه راجع إلى معنى الإرشاد كيفما تصرفت
. قال أبو المعالي : وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان
والطرق المفضية إليها ; من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين : { فلن يضل أعمالهم . سيهديهم
" [ محمد : 4 - 5 ] ومنه قوله تعالى : { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } [ الصافات : 23
] معناه فاسلكوهم إليها . الثالثة : الهدى لفظ مؤنث قال الفراء : بعض بني أسد تؤنث
الهدى فتقول : هذه هدى حسنة . وقال اللحياني : هو مذكر ; ولم يعرب لأنه مقصور والألف
لا تتحرك , ويتعدى بحرف وبغير حرف وقد مضى في { الفاتحة } , تقول : هديته الطريق
وإلى الطريق والدار وإلى الدار ; أي عرفته . الأولى لغة أهل الحجاز , والثانية حكاها
الأخفش . وفي التنزيل : { اهدنا الصراط المستقيم { و } الحمد لله الذي هدانا لهذا }
[ الأعراف : 43 ] وقيل : إن الهدى اسم من أسماء النهار , لأن الناس يهتدون فيه
لمعايشهم وجميع مآربهم ; ومنه قول ابن مقبل : حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة و
يخشعن في الآل غلفا أو يصلينا الرابعة : قوله تعالى : { للمتقين { خص الله تعالى
المتقين بهدايته وإن كان هدى للخلق أجمعين تشريفا لهم ; لأنهم آمنوا وصدقوا بما فيه
. وروي عن أبي روق أنه قال : { هدى للمتقين { أي كرامة لهم ; يعني إنما أضاف إليهم
إجلالا لهم وكرامة لهم وبيانا لفضلهم . وأصل { للمتقين } : للموتقيين بياءين مخففتين
, حذفت الكسرة من الياء الأولى لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين وأبدلت الواو
تاء على أصلهم في اجتماع الواو والتاء وأدغمت التاء في التاء فصار للمتقين . الخامسة
: التقوى يقال أصلها في اللغة قلة الكلام ; حكاه ابن فارس . قلت ومنه الحديث ( التقي
ملجم والمتقي فوق المؤمن والطائع ) وهو الذي يتقي بصالح عمله وخالص دعائه عذاب الله
تعالى , مأخوذ من اتقاء المكروه بما تجعله حاجزا بينك وبينه ; كما قال النابغة :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد وقال آخر : فألقت قناعا دونه
الشمس واتقت بأحسن موصولين كف ومعصم وخرج أبو محمد عبد الغني الحافظ من حديث سعيد
بن زربي أبي عبيدة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال : قال يوما
لابن أخيه : يا بن أخي ترى الناس ما أكثرهم ؟ قال : نعم ; قال : لا خير فيهم إلا
تائب أو تقي ثم قال : يا بن أخي ترى الناس ما أكثرهم ؟ قلت : بلى ; قال : لا خير
فيهم إلا عالم أو متعلم . وقال أبو يزيد البسطامي : المتقي من إذا قال قال لله , ومن
إذا عمل عمل لله . وقال أبو سليمان الداراني : المتقون الذين نزع الله عن قلوبهم حب
الشهوات . وقيل : المتقي الذي اتقى الشرك وبرئ من النفاق . قال ابن عطية : وهذا فاسد
; لأنه قد يكون كذلك وهو فاسق . وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبيا عن التقوى ;
فقال : هل أخذت طريقا ذا شوك ؟ قال : نعم : قال فما عملت فيه ؟ قال : تشمرت وحذرت ;
قال : فذاك التقوى . وأخذ هذا المعنى ابن المعتز فنظمه : خل الذنوب صغيرها وكبيرها
ذاك التقى واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من
الحصى السادسة : التقوى فيها جماع الخير كله , وهي وصية الله في الأولين والآخرين ,
وهي خير ما يستفيده الإنسان ; كما قال أبو الدرداء وقد قيل له : إن أصحابك يقولون
الشعر وأنت ما حفظ عنك شيء ; فقال : يريد المرء أن يؤتى مناه ويأبى الله إلا ما
أرادا يقول المرء فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفادا وروى ابن ماجه في سننه
عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : ( ما استفاد المؤمن بعد
تقوى الله خيرا له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته وإن نظر إليها سرته وإن أقسم
عليها أبرته , وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله ) . والأصل في التقوى : وقوى على
وزن فعلى فقلبت الواو تاء من وقيته أقيه أي منعته ; ورجل تقي أي خائف ; أصله وقي ;
وكذلك تقاة كانت في الأصل وقاة ; كما قالوا : تجاه وتراث , والأصل وجاه ووراث .
الَّذِينَ في موضع خفض نعت { للمتقين } , ويجوز الرفع على القطع أي هم الذين ,
ويجوز النصب على المدح . يُؤْمِنُونَ يصدقون . والإيمان في اللغة : التصديق ; وفي
التنزيل : { وما أنت بمؤمن لنا } [ يوسف : 17 ] أي بمصدق ; ويتعدى بالباء واللام ;
كما قال : { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } [ آل عمران : 73 ] { فما آمن لموسى } [
يونس : 83 ] وروى حجاج بن حجاج الأحول - ويلقب بزق العسل - قال سمعت قتادة يقول :
يا بن آدم , إن كنت لا تريد أن تأتي الخير إلا عن نشاط فإن نفسك مائلة إلى السأمة
والفترة والملة ; ولكن المؤمن هو المتحامل , والمؤمن هو المتقوي , والمؤمن هو
المتشدد , وإن المؤمنين هم العجاجون إلى الله الليل والنهار ; والله ما يزال المؤمن
يقول : ربنا في السر والعلانية حتى استجاب لهم في السر والعلانية . بِالْغَيْبِ
الغيب في كلام العرب كل ما غاب عنك , وهو من ذوات الياء يقال منه : غابت الشمس تغيب
; والغيبة معروفة . وأغابت المرأة فهي مغيبة إذا غاب عنها زوجها , ووقعنا في غيبة
وغيابة , أي هبطة من الأرض ; والغيابة : الأجمة , وهي جماع الشجر يغاب فيها , ويسمى
المطمئن من الأرض : الغيب ; لأنه غاب عن البصر . واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا
; فقالت فرقة : الغيب في هذه الآية : الله سبحانه . وضعفه ابن العربي . وقال آخرون :
القضاء والقدر . وقال آخرون : القرآن وما فيه من الغيوب . وقال آخرون : الغيب كل ما
أخبر به الرسول عليه السلام مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر
والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار . قال ابن عطية : وهذه الأقوال لا
تتعارض بل يقع الغيب على جميعها . قلت : وهذا الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث
جبريل عليه السلام حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم : فأخبرني عن الإيمان . قال : (
أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ) . قال :
صدقت . وذكر الحديث . وقال عبد الله بن مسعود : ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب , ثم
قرأ : { الذين يؤمنون بالغيب } [ البقرة : 3 ] . قلت : وفي التنزيل : { وما كنا
غائبين } [ الأعراف : 7 ] وقال : { الذين يخشون ربهم بالغيب } [ الأنبياء : 49 ]
فهو سبحانه غائب عن الأبصار , غير مرئي في هذه الدار , غير غائب بالنظر والاستدلال
; فهم يؤمنون أن لهم ربا قادرا يجازي على الأعمال , فهم يخشونه في سرائرهم وخلواتهم
التي يغيبون فيها عن الناس , لعلمهم باطلاعه عليهم , وعلى هذا تتفق الآي ولا تتعارض
, والحمد لله . وقيل : { بالغيب { أي بضمائرهم وقلوبهم بخلاف المنافقين ; وهذا قول
حسن . وقال الشاعر : وبالغيب آمنا وقد كان قومنا يصلون للأوثان قبل محمد وَيُقِيمُونَ
الصَّلَاةَ معطوف جملة على جملة . وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها في
أوقاتها ; على ما يأتي بيانه . يقال : قام الشيء أي دام وثبت , وليس من القيام على
الرجل ; وإنما هو من قولك : قام الحق أي ظهر وثبت ; قال الشاعر : وقامت الحرب بنا
على ساق وقال آخر : وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا حتى تقيم الخيل سوق طعان وقيل : "
يقيمون { يديمون , وأقامه أي أدامه ; وإلى هذا المعنى أشار عمر بقوله : ( من حفظها
وحافظ عليها حفظ دينه , ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع .) إقامة الصلاة معروفة ; وهي
سنة عند الجمهور , وأنه لا إعادة على تاركها . وعند الأوزاعي وعطاء ومجاهد وابن أبي
ليلى هي واجبة , وعلى من تركها الإعادة ; وبه قال أهل الظاهر , وروي عن مالك ,
واختاره ابن العربي قال : لأن في حديث الأعرابي ( وأقم ) فأمره بالإقامة كما أمره
بالتكبير والاستقبال والوضوء . قال : فأما أنتم الآن وقد وقفتم على الحديث فقد تعين
عليكم أن تقولوا بإحدى روايتي مالك الموافقة للحديث , وهي أن الإقامة فرض . قال ابن
عبد البر قوله صلى الله عليه وسلم : ( وتحريمها التكبير ) دليل على أنه لم يدخل في
الصلاة من لم يحرم , فما كان قبل الإحرام فحكمه ألا تعاد منه الصلاة إلا أن يجمعوا
على شيء فيسلم للإجماع كالطهارة والقبلة والوقت ونحو ذلك . وقال بعض علمائنا : من
تركها عمدا أعاد الصلاة , وليس ذلك لوجوبها إذ لو كان ذلك لاستوى سهوها وعمدها ,
وإنما ذلك للاستخفاف بالسنن , والله أعلم . واختلف العلماء فيمن سمع الإقامة هل يسرع
أو لا ؟ فذهب الأكثر إلى أنه لا يسرع وإن خاف فوت الركعة لقوله عليه السلام : ( إذا
أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما
فاتكم فأتموا ) . رواه أبو هريرة أخرجه مسلم . وعنه أيضا قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : ( إذا ثوب بالصلاة فلا يسع إليها أحدكم ولكن ليمش وعليه السكينة
والوقار صل ما أدركت واقض ما سبقك ) . وهذا نص . ومن جهة المعنى أنه إذا أسرع انبهر
فشوش عليه دخوله في الصلاة وقراءتها وخشوعها . وذهب جماعة من السلف منهم ابن عمر
وابن مسعود على اختلاف عنه أنه إذا خاف فواتها أسرع . وقال إسحاق : يسرع إذا خاف
فوات الركعة ; وروي عن مالك نحوه , وقال : لا بأس لمن كان على فرس أن يحرك الفرس ;
وتأوله بعضهم على الفرق بين الماشي والراكب ; لأن الراكب لا يكاد أن ينبهر كما
ينبهر الماشي . قلت : واستعمال سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل حال أولى ,
فيمشي كما جاء الحديث وعليه السكينة والوقار ; لأنه في صلاة , ومحال أن يكون خبره
صلى الله عليه وسلم على خلاف ما أخبر ; فكما أن الداخل في الصلاة يلزم الوقار
والسكون كذلك الماشي , حتى يحصل له التشبه به فيحصل له ثوابه . ومما يدل على صحة هذا
ما ذكرناه من السنة , وما خرجه الدارمي في مسنده قال : حدثنا محمد بن يوسف قال
حدثنا سفيان عن محمد بن عجلان عن المقبري عن كعب بن عجرة قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : ( إذا توضأت فعمدت إلى المسجد فلا تشبكن بين أصابعك فإنك في صلاة
) . فمنع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وهو صحيح مما هو أقل من الإسراع وجعله
كالمصلي ; وهذه السنن تبين معنى قوله تعالى : { فاسعوا إلى ذكر الله } [ الجمعة : 9
] وأنه ليس المراد به الاشتداد على الأقدام , وإنما عنى العمل والفعل ; هكذا فسره
مالك . وهو الصواب في ذلك والله أعلم . واختلف العلماء في تأويل قوله عليه السلام : (
وما فاتكم فأتموا ) وقوله : ( واقض ما سبقك ) هل هما بمعنى واحد أو لا ؟ فقيل : هما
بمعنى واحد وأن القضاء قد يطلق ويراد به التمام , قال الله تعالى : { فإذا قضيت
الصلاة } [ الجمعة : 10 ] وقال : { فإذا قضيتم مناسككم } [ البقرة : 200 ] . وقيل :
معناهما مختلف , وهو الصحيح ; ويترتب على هذا الخلاف خلاف فيما يدركه الداخل هل هو
أول صلاته أو آخرها ؟ فذهب إلى الأول جماعة من أصحاب مالك - منهم ابن القاسم -
ولكنه يقضي ما فاته بالحمد وسورة , فيكون بانيا في الأفعال قاضيا في الأقوال . قال
ابن عبد البر : وهو المشهور من المذهب . وقال ابن خويز منداد : وهو الذي عليه
أصحابنا , وهو قول الأوزاعي والشافعي ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل والطبري وداود
بن علي . وروى أشهب وهو الذي ذكره ابن عبد الحكم عن مالك , ورواه عيسى عن ابن القاسم
عن مالك , أن ما أدرك فهو آخر صلاته , وأنه يكون قاضيا في الأفعال والأقوال ; وهو
قول الكوفيين . قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب : وهو مشهور مذهب مالك . قال ابن عبد
البر : من جعل ما أدرك أول صلاته فأظنهم راعوا الإحرام ; لأنه لا يكون إلا في أول
الصلاة , والتشهد والتسليم لا يكون إلا في آخرها ; فمن هاهنا قالوا : إن ما أدرك
فهو أول صلاته , مع ما ورد في ذلك من السنة من قوله : ( فأتموا ) والتمام هو الآخر
. واحتج الآخرون بقوله : ( فاقضوا ) والذي يقضيه هو الفائت , إلا أن رواية من روى }
فأتموا { أكثر , وليس يستقيم على قول من قال : إن ما أدرك أول صلاته ويطرد , إلا ما
قاله عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون والمزني وإسحاق وداود من أنه يقرأ مع الإمام
بالحمد وسورة إن أدرك ذلك معه ; وإذا قام للقضاء قرأ بالحمد وحدها ; فهؤلاء اطرد
على أصلهم قولهم وفعلهم , رضي الله عنهم . الإقامة تمنع من ابتداء صلاة نافلة , قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ) خرجه
مسلم وغيره ; فأما إذا شرع في نافلة فلا يقطعها ; لقوله تعالى : { ولا تبطلوا
أعمالكم } [ محمد : 33 ] وخاصة إذا صلى ركعة منها . وقيل : يقطعها لعموم الحديث في
ذلك . والله أعلم . واختلف العلماء فيمن دخل المسجد ولم يكن ركع ركعتي الفجر ثم أقيمت
الصلاة ; فقال مالك : يدخل مع الإمام ولا يركعهما ; وإن كان لم يدخل المسجد فإن لم
يخف فوات ركعة فليركع خارج المسجد , ولا يركعهما في شيء من أفنية المسجد - التي
تصلى فيها الجمعة - اللاصقة بالمسجد ; وإن خاف أن تفوته الركعة الأولى فليدخل وليصل
معه ; ثم يصليهما إذا طلعت الشمس إن أحب ; ولأن يصليهما إذا طلعت الشمس أحب إلي
وأفضل من تركهما وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن خشي أن تفوته الركعتان ولا يدرك
الإمام قبل رفعه من الركوع في الثانية دخل معه , وإن رجا أن يدرك ركعة صلى ركعتي
الفجر خارج المسجد , ثم يدخل مع الإمام وكذلك قال الأوزاعي ; إلا أنه يجوز ركوعهما
في المسجد ما لم يخف فوت الركعة الأخيرة . وقال الثوري : إن خشي فوت ركعة دخل معهم
ولم يصلهما وإلا صلاهما وإن كان قد دخل المسجد . وقال الحسن بن حي ويقال ابن حيان :
إذا أخذ المقيم في الإقامة فلا تطوع إلا ركعتي الفجر . وقال الشافعي : من دخل المسجد
وقد أقيمت الصلاة دخل مع الإمام ولم يركعهما لا خارج المسجد ولا في المسجد . وكذلك
قال الطبري وبه قال أحمد بن حنبل وحكي عن مالك ; وهو الصحيح في ذلك ; لقوله عليه
السلام . ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ) . وركعتا الفجر إما سنة , وإما
فضيلة , وإما رغيبة ; والحجة عند التنازع حجة السنة . ومن حجة قول مالك المشهور وأبي
حنيفة ما روي عن ابن عمر أنه جاء والإمام يصلي صلاة الصبح فصلاهما في حجرة حفصة ,
ثم إنه صلى مع الإمام . ومن حجة الثوري فتضيفوه ما روي عن عبد الله بن مسعود أنه دخل
المسجد . وقد أقيمت الصلاة فصلى إلى أسطوانة في المسجد ركعتي الفجر , ثم دخل الصلاة
بمحضر من حذيفة وأبي موسى رضي الله عنهما . قالوا : ( وإذا جاز أن يشتغل بالنافلة عن
المكتوبة خارج المسجد جاز له ذلك في المسجد ) , روى مسلم عن عبد الله بن مالك ابن
بحينة قال : أقيمت صلاة الصبح فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي والمؤذن
يقيم , فقال : ( أتصلي الصبح أربعا ) ! وهذا إنكار منه صلى الله عليه وسلم على
الرجل لصلاته ركعتي الفجر في المسجد والإمام يصلي , ويمكن أن يستدل به أيضا على أن
ركعتي الفجر إن وقعت في تلك الحال صحت ; لأنه عليه السلام لم يقطع عليه صلاته مع
تمكنه من ذلك , والله أعلم . الصلاة أصلها في اللغة الدعاء , مأخوذة من صلى يصلي إذا
دعا ; ومنه قوله عليه السلام : ( إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا
فليطعم وإن كان صائما فليصل ) أي فليدع . وقال بعض العلماء : إن المراد الصلاة
المعروفة , فيصلي ركعتين وينصرف , والأول أشهر وعليه من العلماء الأكثر . ولما ولدت
أسماء عبد الله بن الزبير أرسلته إلى النبي صلى الله عليه وسلم , قالت أسماء : ثم
مسحه وصلى عليه , أي دعا له . وقال تعالى : { وصل عليهم } [ التوبة : 103 ] أي ادع
لهم . وقال الأعشى : تقول بنتي وقد قربت مرتحلا يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك
مثل الذي صليت فاغتمضي نوما فإن لجنب المرء مضطجعا وقال الأعشى أيضا : وقابلها
الريح في دنها وصلى على دنها وارتسم ارتسم الرجل : كبر ودعا , قال في الصحاح , وقال
قوم : هي مأخوذة من الصلا وهو عرق في وسط الظهر ويفترق عند العجب فيكتنفه , ومنه
أخذ المصلي في سبق الخيل ; لأنه يأتي في الحلبة ورأسه عند صلوى السابق , فاشتقت
الصلاة منه , إما لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل , وإما لأن
الراكع تثنى صلواه . والصلا : مغرز الذنب من الفرس , والاثنان صلوان . والمصلي : تالي
السابق ; لأن رأسه عند صلاه . وقال علي رضي الله عنه : سبق رسول الله صلى الله عليه
وسلم وصلى أبو بكر وثلث عمر . وقيل : هي مأخوذة من اللزوم , ومنه صلي بالنار إذا
لزمها , ومنه { تصلى نارا حامية } [ الغاشية : 4 ] . وقال الحارث بن عباد : لم أكن
من جناتها علم الله وإني بحرها اليوم صال أي ملازم لحرها , وكأن المعنى على هذا
ملازمة العبادة على الحد الذي أمر الله تعالى به . وقيل : هي مأخوذة من صليت العود
بالنار إذا قومته ولينته بالصلاء . والصلاء : صلاء النار بكسر الصاد ممدود , فإن
فتحت الصاد قصرت , فقلت صلا النار , فكأن المصلي يقوم نفسه بالمعاناة فيها ويلين
ويخشع , قال نجيد : فلا تعجل بأمرك واستدمه فما صلى عصاك كمستديم والصلاة : الدعاء
والصلاة : الرحمة , ومنه : ( اللهم صل على محمد ) الحديث . والصلاة : العبادة , ومنه
قوله تعالى : { وما كان صلاتهم عند البيت } [ الأنفال : 35 ] الآية , أي عبادتهم . والصلاة
: النافلة , ومنه قوله تعالى : { وأمر أهلك بالصلاة } [ طه : 132 ] . والصلاة
التسبيح , ومنه قوله تعالى : { فلولا أنه كان من المسبحين } [ الصافات : 143 ] أي
من المصلين . ومنه سبحة الضحى . وقد قيل في تأويل { نسبح بحمدك } [ البقرة : 30 ]
نصلي . والصلاة : القراءة , ومنه قوله تعالى : { ولا تجهر بصلاتك } [ الإسراء : 110
] فهي لفظ مشترك . والصلاة : بيت يصلى فيه , قاله ابن فارس . وقد قيل : إن الصلاة اسم
علم وضع لهذه العبادة , فإن الله تعالى لم يخل زمانا من شرع , ولم يخل شرع من صلاة
, حكاه أبو نصر وحكي . قلت : فعلى هذا القول لا اشتقاق لها , وعلى قول الجمهور وهي :
- اختلف الأصوليون هل هي مبقاة على أصلها اللغوي الوضعي الابتدائي , وكذلك الإيمان
والزكاة والصيام والحج , والشرع إنما تصرف بالشروط والأحكام , أو هل تلك الزيادة من
الشرع تصيرها موضوعة كالوضع الابتدائي من قبل الشرع . هنا اختلافهم والأول أصح ; لأن
الشريعة ثبتت بالعربية , والقرآن نزل بها بلسان عربي مبين , ولكن للعرب تحكم في
الأسماء , كالدابة وضعت لكل ما يدب , ثم خصصها العرف بالبهائم فكذلك لعرف الشرع
تحكم في الأسماء , والله أعلم . واختلف في المراد بالصلاة هنا , فقيل : الفرائض . وقيل
: الفرائض والنوافل معا , وهو الصحيح ; لأن اللفظ عام والمتقي يأتي بهما . الصلاة
سبب للرزق , قال الله تعالى : { وأمر أهلك بالصلاة } [ طه : 132 ] الآية , على ما
يأتي بيانه في { طه { إن شاء الله تعالى . وشفاء من وجع البطن وغيره , روى ابن ماجه
عن أبي هريرة قال : هجر النبي صلى الله عليه وسلم فهجرت فصليت ثم جلست , فالتفت إلي
النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( أشكمت درده ) قلت : نعم يا رسول الله , قال : (
قم فصل فإن في الصلاة شفاء ) . في رواية : ( أشكمت درد ) يعني تشتكي بطنك بالفارسية
, وكان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة . الصلاة لا تصح إلا بشروط
وفروض , فمن شروطها : الطهارة , وسيأتي بيان أحكامها في سورة النساء والمائدة . وستر
العورة , يأتي في الأعراف القول فيها إن شاء الله تعالى . وأما فروضها : فاستقبال
القبلة , والنية , وتكبيرة الإحرام والقيام لها , وقراءة أم القرآن والقيام لها ,
والركوع والطمأنينة فيه , ورفع الرأس من الركوع والاعتدال فيه , والسجود والطمأنينة
فيه , ورفع الرأس من السجود , والجلوس بين السجدتين والطمأنينة فيه , والسجود
الثاني والطمأنينة فيه . والأصل في هذه الجملة حديث أبي هريرة في الرجل الذي علمه
النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة لما أخل بها , فقال له : ( إذا قمت إلى الصلاة
فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم كبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى
تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن
جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ) خرجه مسلم . ومثله حديث رفاعة بن رافع , أخرجه
المسروقي وغيره . قال علماؤنا : فبين قوله صلى الله عليه وسلم أركان الصلاة , وسكت
عن الإقامة ورفع اليدين وعن حد القراءة وعن تكبير الانتقالات , وعن التسبيح في
الركوع والسجود , وعن الجلسة الوسطى , وعن التشهد وعن الجلسة الأخيرة وعن السلام . أما
الإقامة وتعيين الفاتحة فقد مضى الكلام فيهما . وأما رفع اليدين فليس بواجب عند
جماعة العلماء وعامة الفقهاء ; لحديث أبي هريرة وحديث رفاعة بن رافع . وقال داود
وبعض أصحابه بوجوب ذلك عند تكبيرة الإحرام . وقال بعض أصحابه : الرفع عند الإحرام
وعند الركوع وعند الرفع من الركوع واجب , وإن من لم يرفع يديه فصلاته باطلة , وهو
قول الحميدي , ورواية عن الأوزاعي . واحتجوا بقوله عليه السلام : ( صلوا كما
رأيتموني أصلي ) أخرجه البخاري . قالوا : فوجب علينا أن نفعل كما رأيناه يفعل ; لأنه
المبلغ عن الله مراده . وأما التكبير ما عدا تكبيرة الإحرام فمسنون عند الجمهور
للحديث المذكور . وكان ابن قاسم صاحب مالك يقول : من أسقط من التكبير في الصلاة ثلاث
تكبيرات فما فوقها سجد قبل السلام , وإن لم يسجد بطلت صلاته , وإن نسي تكبيرة واحدة
أو اثنتين سجد أيضا للسهو , فإن لم يفعل فلا شيء عليه , وروي عنه أن التكبيرة
الواحدة لا سهو على من سها فيها . وهذا يدل على أن عظم التكبير وجملته عنده فرض ,
وأن اليسير منه متجاوز عنه . وقال أصبغ بن الفرج وعبد الله بن عبد الحكم : ليس على
من لم يكبر في الصلاة من أولها إلى آخرها شيء إذا كبر تكبيرة الإحرام , فإن تركه
ساهيا سجد للسهو , فإن لم يسجد فلا شيء عليه , ولا ينبغي لأحد أن يترك التكبير
عامدا ; لأنه سنة من سنن الصلاة , فإن فعل فقد أساء ولا شيء عليه وصلاته ماضية . قلت
: هذا هو الصحيح , وهو الذي عليه جماعة فقهاء الأمصار من الشافعيين والكوفيين
وجماعة أهل الحديث والمالكيين غير من ذهب مذهب ابن القاسم . وقد ترجم البخاري رحمه
الله ( باب إتمام التكبير في الركوع والسجود ) وساق حديث مطرف بن عبد الله قال :
صليت خلف علي بن أبي طالب أنا وعمران بن حصين , فكان إذا سجد كبر , وإذا رفع رأسه
كبر , وإذا نهض من الركعتين كبر , فلما قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين فقال :
لقد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم , أو قال : لقد صلى بنا صلاة محمد صلى
الله عليه وسلم . وحديث عكرمة قال : رأيت رجلا عند المقام يكبر في كل خفض ورفع ,
وإذا قام وإذا وضع , فأخبرت ابن عباس فقال : أوليس تلك صلاة النبي صلى الله عليه
وسلم لا أم لك فدلك البخاري رحمه الله بهذا الباب على أن التكبير لم يكن معمولا به
عندهم . روى أبو إسحاق السبيعي عن يزيد بن أبي مريم عن أبي موسى الأشعري قال : صلى
بنا علي يوم الجمل صلاة أذكرنا بها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم , كان يكبر
في كل خفض ورفع , وقيام وقعود , قال أبو موسى : فإما نسيناها وإما تركناها عمدا . قلت
: أتراهم أعادوا الصلاة ! فكيف يقال من ترك التكبير بطلت صلاته ! ولو كان ذلك لم
يكن فرق بين السنة والفرض , والشيء إذا لم يجب أفراده لم يجب جميعه , وبالله
التوفيق . وأما التسبيح في الركوع والسجود فغير واجب عند الجمهور للحديث المذكور ,
وأوجبه إسحاق بن راهويه , وأن من تركه أعاد الصلاة ; لقوله عليه السلام : ( أما
الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم ) . وأما
الجلوس والتشهد فاختلف العلماء في ذلك , فقال مالك وأصحابه : الجلوس الأول والتشهد
له سنتان . وأوجب جماعة من العلماء الجلوس الأول وقالوا : هو مخصوص من بين سائر
الفروض بأن ينوب عنه السجود كالعرايا من المزابنة , والقراض من الإجارات , وكالوقوف
بعد الإحرام لمن وجد الإمام راكعا . واحتجوا بأنه لو كان سنة ما كان العامد لتركه
تبطل صلاته كما لا تبطل بترك سنن الصلاة . احتج من لم يوجبه بأن قال : لو كان من
فرائض الصلاة لرجع الساهي عنه إليه حتى يأتي به , كما لو ترك سجدة أو ركعة , ويراعى
فيه ما يراعى في الركوع والسجود من الولاء والرتبة , ثم يسجد لسهوه كما يصنع من ترك
ركعة أو سجدة وأتى بهما . وفي حديث عبد الله بن بحينة : أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قام من ركعتين ونسي أن يتشهد فسبح الناس خلفه كيما يجلس فثبت قائما فقاموا ,
فلما فرغ من صلاته سجد سجدتي السهو قبل التسليم , فلو كان الجلوس فرضا لم يسقطه
النسيان والسهو , لأن الفرائض في الصلاة يستوي في تركها السهو والعمد إلا في المؤتم
. واختلفوا في حكم الجلوس الأخير في الصلاة وما الغرض من ذلك . وهي : - على خمسة
أقوال : أحدها : أن الجلوس فرض والتشهد فرض والسلام فرض . وممن قال ذلك الشافعي
وأحمد بن حنبل في رواية , وحكاه أبو مصعب في مختصره عن مالك وأهل المدينة , وبه قال
داود . قال الشافعي : من ترك التشهد الأول والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فلا
إعادة عليه وعليه سجدتا السهو لتركه . وإذا ترك التشهد الأخير ساهيا أو عامدا أعاد . واحتجوا
بأن بيان النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فرض ; لأن أصل فرضها مجمل يفتقر إلى
البيان إلا ما خرج بدليل , وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( صلوا كما رأيتموني أصلي
) . القول الثاني : أن الجلوس والتشهد والسلام ليس بواجب , وإنما ذلك كله سنة مسنونة
, هذا قول بعض البصريين , وإليه ذهب إبراهيم بن علية , وصرح بقياس الجلسة الأخيرة
على الأولى , فخالف الجمهور وشذ , إلا أنه يرى الإعادة على من ترك شيئا من ذلك كله
. ومن حجتهم حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (
إذا رفع الإمام رأسه من آخر سجدة في صلاته ثم أحدث فقد تمت صلاته ) وهو حديث لا يصح
على ما قاله أبو عمر , وقد بيناه في كتاب المقتبس . وهذا اللفظ إنما يسقط السلام لا
الجلوس . القول الثالث : إن الجلوس مقدار التشهد فرض , وليس التشهد ولا السلام بواجب
فرضا . قاله أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين . واحتجوا بحديث ابن المبارك عن
الإفريقي عبد الرحمن بن زياد وهو ضعيف , وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (
إذا جلس أحدكم في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته ) . قال ابن العربي :
وكان شيخنا فخر الإسلام ينشدنا في الدرس : ويرى الخروج من الصلاة بضرطة أين الضراط
من السلام عليكم قال ابن العربي : وسلك بعض علمائنا من هذه المسألة فرعين ضعيفين ,
أما أحدهما : فروى عبد الملك عن عبد الملك أن من سلم من ركعتين متلاعبا , فخرج
البيان أنه إن كان على أربع أنه يجزئه , وهذا مذهب أهل العراق بعينه . وأما الثاني :
فوقع في الكتب المنبوذة أن الإمام إذا أحدث بعد التشهد متعمدا وقبل السلام أنه يجزئ
من خلفه , وهذا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه في الفتوى , وإن عمرت به المجالس للذكرى
. القول الرابع أن الجلوس فرض والسلام فرض , وليس التشهد بواجب . وممن قال هذا مالك
بن أنس وأصحابه وأحمد بن حنبل في رواية . واحتجوا بأن قالوا : ليس شيء من الذكر يجب
إلا تكبيرة الإحرام وقراءة أم القرآن . القول الخامس أن التشهد والجلوس واجبان ,
وليس السلام بواجب , قاله جماعة منهم إسحاق بن راهويه , واحتج إسحاق بحديث ابن
مسعود حين علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وقال له : ( إذا فرغت من هذا
فقد تمت صلاتك وقضيت ما عليك ) . قال الدارقطني : قوله ( إذا فرغت من هذا فقد تمت
صلاتك ) أدرجه بعضهم عن زهير في الحديث , ووصله بكلام النبي صلى الله عليه وسلم ,
وفصله شبابة عن زهير وجعله من كلام ابن مسعود , وقوله أشبه بالصواب من قول من أدرجه
في حديث النبي صلى الله عليه وسلم . وشبابة ثقة . وقد تابعه غسان بن الربيع على ذلك ,
جعل آخر الحديث من كلام ابن مسعود ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم . واختلف
العلماء في السلام , فقيل : واجب , وقيل : ليس بواجب . والصحيح وجوبه لحديث عائشة
وحديث علي الصحيح خرجه أبو داود والترمذي ورواه سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد
بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم ) وهذا الحديث أصل في إيجاب
التكبير والتسليم , وأنه لا يجزئ عنهما غيرهما كما لا يجزئ عن الطهارة غيرها باتفاق
. قال عبد الرحمن بن مهدي : لو افتتح رجل صلاته بسبعين اسما من أسماء الله عز وجل
ولم يكبر تكبيرة الإحرام لم يجزه , وإن أحدث قبل أن يسلم لم يجزه , وهذا تصحيح من
عبد الرحمن بن مهدي لحديث علي , وهو إمام في علم الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه . وحسبك
به وقد اختلف العلماء في وجوب التكبير عند الافتتاح وهي : فقال ابن شهاب الزهري
وسعيد بن المسيب والأوزاعي وعبد الرحمن وطائفة : تكبيرة الإحرام ليست بواجبة . وقد
روي عن مالك في المأموم ما يدل على هذا القول , والصحيح من مذهبه إيجاب تكبيرة
الإحرام وأنها فرض وركن من أركان الصلاة , وهو الصواب وعليه الجمهور , وكل من خالف
ذلك فمحجوج بالسنة . واختلف العلماء في اللفظ الذي يدخل به في الصلاة , فقال مالك
وأصحابه وجمهور العلماء : لا يجزئ إلا التكبير , لا يجزئ منه تهليل ولا تسبيح ولا
تعظيم ولا تحميد . هذا قول الحجازيين وأكثر العراقيين , ولا يجزئ عند مالك إلا }
الله أكبر { لا غير ذلك . وكذلك قال الشافعي وزاد : ويجزئ { الله الأكبر { و } الله
الكبير { والحجة لمالك حديث عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح
الصلاة بالتكبير , والقراءة بـ { الحمد لله رب العالمين } . وحديث علي : وتحريمها
التكبير . وحديث الأعرابي : فكبر . وفي سنن ابن ماجه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي
بن محمد الطنافسي قالا : حدثنا أبو أسامة قال حدثني عبد الحميد بن جعفر قال حدثنا
محمد ابن عمرو بن عطاء , قال سمعت أبا حميد الساعدي يقول : كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة استقبل القبلة ورفع يديه وقال : { الله أكبر { وهذا
نص صريح وحديث صحيح في تعيين لفظ التكبير , قال الشاعر : رأيت الله أكبر كل شيء
محاولة وأعظمه جنودا ثم إنه يتضمن القدم , وليس يتضمنه كبير ولا عظيم , فكان أبلغ
في المعنى , والله أعلم . وقال أبو حنيفة : إن افتتح بلا إله إلا الله يجزيه , وإن
قال : اللهم اغفر لي لم يجزه , وبه قال محمد بن الحسن . وقال أبو يوسف : لا يجزئه
إذا كان يحسن التكبير . وكان الحكم بن عتيبة يقول : إذا ذكر الله مكان التكبير أجزأه
. قال ابن المنذر : ولا أعلمهم يختلفون أن من أحسن القراءة فهلل وكبر ولم يقرأ أن
صلاته فاسدة , فمن كان هذا مذهبه فاللازم له أن يقول لا يجزيه مكان التكبير غيره ,
كما لا يجزئ مكان القراءة غيرها . وقال أبو حنيفة : يجزئه التكبير بالفارسية وإن كان
يحسن العربية . قال ابن المنذر : لا يجزيه لأنه خلاف ما عليه جماعات المسلمين ,
وخلاف ما علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته , ولا نعلم أحدا وافقه على ما قال ,
والله أعلم . واتفقت الأمة على وجوب النية عند تكبيرة الإحرام إلا شيئا روي عن بعض
أصحابنا يأتي الكلام عليه في آية الطهارة , وحقيقتها قصد التقرب إلى الآمر بفعل ما
أمر به على الوجه المطلوب منه . قال ابن العربي : والأصل في كل نية أن يكون عقدها مع
التلبس بالفعل المنوي بها , أو قبل ذلك بشرط استصحابها , فإن تقدمت النية وطرأت
غفلة فوقع التلبس بالعبادة في تلك الحالة لم يعتد بها , كما لا يعتد بالنية إذا
وقعت بعد التلبس بالفعل , وقد رخص في تقديمها في الصوم لعظم الحرج في اقترانها
بأوله . قال ابن العربي : وقال لنا أبو الحسن القروي بثغر عسقلان : سمعت إمام
الحرمين يقول : يحضر الإنسان عند التلبس بالصلاة النية , ويجرد النظر في الصانع
وحدوث العالم والنبوات حتى ينتهي نظره إلى نية الصلاة , قال : ولا يحتاج ذلك إلى
زمان طويل , وإنما يكون ذلك في أوحى لحظة ; لأن تعليم الجمل يفتقر إلى الزمان
الطويل , وتذكارها يكون في لحظة , ومن تمام النية أن تكون مستصحبة على الصلاة كلها
, إلا أن ذلك لما كان أمرا يتعذر عليه سمح الشرع في عزوب النية في أثنائها . سمعت
شيخنا أبا بكر الفهري بالمسجد الأقصى يقول قال محمد بن سحنون : رأيت أبي سحنون ربما
يكمل الصلاة فيعيدها , فقلت له ما هذا ؟ فقال : عزبت نيتي في أثنائها فلأجل ذلك
أعدتها . قلت : فهذه جملة من أحكام الصلاة , وسائر أحكامها يأتي بيانها في مواضعها
من هذا الكتاب بحول الله تعالى , فيأتي ذكر الركوع وصلاة الجماعة والقبلة والمبادرة
إلى الأوقات , وبعض صلاة الخوف في هذه السورة , ويأتي ذكر قصر الصلاة وصلاة الخوف ,
في { النساء { والأوقات في { هود وسبحان والروم { وصلاة الليل في { المزمل { وسجود
التلاوة في { الأعراف { وسجود الشكر في { ص { كل في موضعه إن شاء الله تعالى .
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ رزقناهم : أعطيناهم , والرزق عند أهل السنة ما
صح الانتفاع به حلالا كان أو حراما , خلافا للمعتزلة في قولهم : إن الحرام ليس برزق
; لأنه لا يصح تملكه , وأن الله لا يرزق الحرام وإنما يرزق الحلال , والرزق لا يكون
إلا بمعنى الملك . قالوا : فلو نشأ صبي مع اللصوص ولم يأكل شيئا إلا ما أطعمه اللصوص
إلى أن بلغ وقوي وصار لصا , ثم لم يزل يتلصص ويأكل ما تلصصه إلى أن مات , فإن الله
لم يرزقه شيئا إذ لم يملكه , وإنه يموت ولم يأكل من رزق الله شيئا . وهذا فاسد ,
والدليل عليه أن الرزق لو كان بمعنى التمليك لوجب ألا يكون الطفل مرزوقا , ولا
البهائم التي ترتع في الصحراء , ولا السخال من البهائم ; لأن لبن أمهاتها ملك
لصاحبها دون السخال . ولما اجتمعت الأمة على أن الطفل والسخال والبهائم مرزوقون ,
وأن الله تعالى يرزقهم مع كونهم غير مالكين علم أن الرزق هو الغذاء ولأن الأمة
مجمعة على أن العبيد والإماء مرزوقون , وأن الله تعالى يرزقهم مع كونهم غير مالكين
, فعلم أن الرزق ما قلناه لا ما قالوه . والذي يدل على أنه لا رازق سواه قوله الحق :
{ هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض } [ فاطر : 3 ] وقال : { إن الله هو
الرزاق ذو القوة المتين } [ الذاريات : 58 ] وقال : { وما من دابة في الأرض إلا على
الله رزقها } [ هود : 6 ] وهذا قاطع , فالله تعالى رازق حقيقة وابن آدم رازق تجوزا
; لأنه يملك ملكا منتزعا كما بيناه في الفاتحة , مرزوق حقيقة كالبهائم التي لا ملك
لها , إلا أن الشيء إذا كان مأذونا له في تناوله فهو حلال حكما , وما كان منه غير
مأذون له في تناوله فهو حرام حكما , وجميع ذلك رزق . وقد خرج بعض النبلاء من قوله
تعالى : { كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور } [ سبأ : 15 ] فقال :
ذكر المغفرة يشير إلى أن الرزق قد يكون فيه حرام . قوله تعالى : { ومما رزقناهم }
الرزق مصدر رزق يرزق رزقا ورزقا , فالرزق بالفتح المصدر , وبالكسر الاسم , وجمعه
أرزاق , والرزق : العطاء . والرازقية : ثياب كتان بيض . وارتزق الجند : أخذوا أرزاقهم
. والرزقة : المرة الواحدة , هكذا قال أهل اللغة . وقال ابن السكيت : الرزق بلغة أزد
شنوءة : الشكر , وهو قوله عز وجل : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } [ الواقعة : 82 ]
أي شكركم التكذيب . ويقول : رزقني أي شكرني . قوله تعالى : { ينفقون { ينفقون :
يخرجون . والإنفاق : إخراج المال من اليد , ومنه نفق البيع : أي خرج من يد البائع
إلى المشتري . ونفقت الدابة : خرجت روحها , ومنه النافقاء لجحر اليربوع الذي يخرج
منه إذا أخذ من جهة أخرى . ومنه المنافق ; لأنه يخرج من الإيمان أو يخرج الإيمان من
قلبه . ونيفق السراويل معروفة وهو مخرج الرجل منها . ونفق الزاد : فني وأنفقه صاحبه . وأنفق
القوم : فني زادهم , ومنه قوله تعالى : { إذا لأمسكتم خشية الإنفاق } [ الإسراء :
100 ] . واختلف العلماء في المراد بالنفقة هاهنا , فقيل : الزكاة المفروضة - روي عن
ابن عباس - لمقارنتها الصلاة . وقيل : نفقة الرجل على أهله - روي عن ابن مسعود - لأن
ذلك أفضل النفقة . روى مسلم عن أبي هريرة قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين
ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك ) . وروي عن سلام قال ,
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على
عياله ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله عز وجل ودينار ينفقه على أصحابه
في سبيل الله ) قال أبو قلابة : وبدأ بالعيال [ ثم ] قال أبو قلابة : وأي رجل أعظم
أجرا من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم أو ينفعهم الله به ويغنيهم . وقيل : المراد
صدقة التطوع - روي عن الضحاك نظرا إلى أن الزكاة لا تأتي إلا بلفظها المختص بها وهو
الزكاة , فإذا جاءت بلفظ غير الزكاة احتملت الفرض والتطوع , فإذا جاءت بلفظ الإنفاق
لم تكن إلا التطوع . قال الضحاك : كانت النفقة قربانا يتقربون بها إلى الله جل وعز
على قدر جدتهم حتى نزلت فرائض الصدقات والناسخات في { براءة } . وقيل : إنه الحقوق
الواجبة العارضة في الأموال ما عدا الزكاة ; لأن الله تعالى لما قرنه بالصلاة كان
فرضا , ولما عدل عن لفظها كان فرضا سواها . وقيل : هو عام وهو الصحيح ; لأنه خرج
مخرج المدح في الإنفاق مما رزقوا , وذلك لا يكون إلا من الحلال , أي يؤتون ما
ألزمهم الشرع من زكاة وغيرها مما يعن في بعض الأحوال مع ما ندبهم إليه . وقيل :
الإيمان بالغيب حظ القلب . وإقام الصلاة حظ البدن . ومما رزقناهم ينفقون حظ المال ,
وهذا ظاهر . وقال بعض المتقدمين في تأويل قوله تعالى : { ومما رزقناهم ينفقون { أي
مما علمناهم يعلمون , حكاه أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري .
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ قيل : المراد مؤمنو أهل الكتاب , كعبد الله بن سلام وفيه
نزلت , ونزلت الأولى في مؤمني العرب . وقيل : الآيتان جميعا في المؤمنين , وعليه
فإعراب { الذين { خفض على العطف , ويصح أن يكون رفعا على الاستئناف أي وهم الذين . ومن
جعلها في صنفين فإعراب { الذين { رفع بالابتداء , وخبره { أولئك على هدى { ويحتمل
الخفض عطفا . بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني القرآن وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
يعني الكتب السالفة , بخلاف ما فعله اليهود والنصارى حسب ما أخبر الله عنهم في قوله
: { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا } [ البقرة : 91 ]
الآية . ويقال : لما نزلت هذه الآية : { الذين يؤمنون بالغيب { قالت اليهود والنصارى
: نحن آمنا بالغيب , فلما قال : { ويقيمون الصلاة } [ البقرة : 3 ] قالوا : نحن
نقيم الصلاة , فلما قال { ومما رزقناهم ينفقون { قالوا : نحن ننفق ونتصدق , فلما
قال : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك { نفروا من ذلك . وفي حديث
أبي ذر قال قلت : يا رسول الله كم كتابا أنزل الله ؟ قال : ( مائة كتاب وأربعة كتب
أنزل الله على شيث خمسين صحيفة وعلى أخنوع ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف
وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ) . الحديث
أخرجه الحسين الآجري وأبو حاتم البستي . وهنا مسألة : إن قال قائل : كيف يمكن
الإيمان بجميعها مع تنافي أحكامها ؟ قيل له فيه جوابان : أحدهما - أن الإيمان بأن
جميعها نزل من عند الله , وهو قول من أسقط التعبد بما تقدم من الشرائع . الثاني - أن
الإيمان بما لم ينسخ منها , وهذا قول من أوجب التزام الشرائع المتقدمة , على ما
يأتي بيانه إن شاء الله تعالى . وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي وبالبعث والنشر
هم عالمون . واليقين : العلم دون الشك , يقال منه : يقنت الأمر ( بالكسر ) يقنا ,
وأيقنت واستيقنت وتيقنت كله بمعنى , وأنا على يقين منه . وإنما صارت الياء واوا في
قولك : موقن , للضمة قبلها , وإذا صغرته رددته إلى الأصل فقلت مييقن والتصغير يرد
الأشياء إلى أصولها وكذلك الجمع . وربما عبروا باليقين عن الظن , ومنه قول علمائنا
في اليمين اللغو : هو أن يحلف بالله على أمر يوقنه ثم يتبين له أنه خلاف ذلك فلا
شيء عليه , قال الشاعر : تحسب هواس وأيقن أنني بها مفتد من واحد لا أغامره يقول :
تشمم الأسد ناقتي , يظن أنني مفتد بها منه , وأستحمي نفسي فأتركها له ولا أقتحم
المهالك بمقاتلته فأما الظن بمعنى اليقين فورد في التنزيل وهو في الشعر كثير ,
وسيأتي . والآخرة مشتقة من التأخر لتأخرها عنا وتأخرنا عنها , كما أن الدنيا مشتقة
من الدنو , على ما يأتي .
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ قال النحاس أهل نجد يقولون : ألاك , وبعضهم
يقول : ألالك , الكاف للخطاب . قال الكسائي : من قال أولئك فواحده ذلك , ومن قال
ألاك فواحده ذاك , وألالك مثل أولئك , وأنشد ابن السكيت : ألالك قومي لم يكونوا
أشابة وهل يعظ الضليل إلا ألالكا وربما قالوا : أولئك في غير العقلاء , قال الشاعر
: ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام وقال تعالى : { إن السمع
والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا } [ الإسراء : 36 ] وقال علماؤنا : إن في
قوله تعالى : { من ربهم { ردا على القدرية في قولهم : يخلقون إيمانهم وهداهم ,
تعالى الله عن قولهم , ولو كان كما قالوا لقال : { من أنفسهم } , وقد تقدم الكلام
فيه وفي الهدى فلا معنى لإعادة ذلك . وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { هم { يجوز
أن يكون مبتدأ ثانيا وخبره { المفلحون } , والثاني وخبره خبر الأول , ويجوز أن تكون
{ هم { زائدة - يسميها البصريون فاصلة والكوفيون عمادا - و { المفلحون { خبر }
أولئك } . والفلح أصله في اللغة الشق والقطع , قال الشاعر : إن الحديد بالحديد يفلح
أي يشق , ومنه فلاحة الأرضين إنما هو شقها للحرث , قاله أبو عبيد ولذلك سمي الأكار
فلاحا . ويقال للذي شقت شفته السفلى أفلح , وهو بين الفلحة , فكأن المفلح قد قطع
المصاعب حتى نال مطلوبه . وقد يستعمل في الفوز والبقاء , وهو أصله أيضا في اللغة ,
ومنه قول الرجل لامرأته : استفلحي بأمرك , معناه فوزي بأمرك , وقال الشاعر : لو كان
حي مدرك الفلاح أدركه ملاعب الرماح وقال الأضبط بن قريع السعدي في الجاهلية الجهلاء
: لكل هم من الهموم سعه والمسي والصبح لا فلاح معه يقول : ليس مع كر الليل والنهار
بقاء . وقال آخر : نحل بلادا كلها حل قبلنا ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير أي البقاء :
وقال عبيد : أفلح بما شئت فقد يدرك بالض عف وقد يخدع الأريب أي وقال بما شئت من كيس
وحمق فقد يرزق الأحمق ويحرم العاقل . فمعنى { وأولئك هم المفلحون } : أي الفائزون
بالجنة والباقون فيها . وقال ابن أبي إسحاق : المفلحون هم الذين أدركوا ما طلبوا
ونجوا من شر ما منه هربوا , والمعنى واحد . وقد استعمل الفلاح في السحور , ومنه
الحديث : حتى كاد يفوتنا الفلاح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلت : وما الفلاح
؟ قال : السحور . أخرجه أبو داود . فكأن معنى الحديث أن السحور به بقاء الصوم فلهذا
سماه فلاحا . والفلاح ( بتشديد اللام ) : المكاري في قول القائل : لها رطل تكيل
الزيت فيه وفلاح يسوق لها حمارا ثم الفلاح في العرف : الظفر بالمطلوب , والنجاة من
المرهوب . مسألة : إن قال كيف قرأ حمزة : عليهم وإليهم ولديهم , ولم يقرأ من ربهم
ولا فيهم ولا جنتيهم ؟ فالجواب أن عليهم وإليهم ولديهم الياء فيه منقلبة من ألف ,
والأصل علاهم ولداهم وإلاهم فأقرت الهاء على ضمتها , وليس ذلك في فيهم ولا من ربهم
ولا جنتيهم , ووافقه الكسائي في { عليهم الذلة { و } إليهم اثنين { على ما هو معروف
من القراءة عنهما .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لما ذكر المؤمنين وأحوالهم ذكر الكافرين ومآلهم . والكفر
ضد الإيمان وهو المراد في الآية . وقد يكون بمعنى جحود النعمة والإحسان , ومنه قوله
عليه السلام في النساء في حديث الكسوف : ( ورأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع
ورأيت أكثر أهلها النساء ) قيل : بم يا رسول الله ؟ قال : ( بكفرهن ) , قيل أيكفرن
بالله ؟ قال : ( يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت
منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط ) أخرجه البخاري وغيره . وأصل الكفر في كلام
العرب : الستر والتغطية , ومنه قول الشاعر : في ليلة كفر النجوم غمامها أي سترها . ومنه
سمي الليل كافرا , لأنه يغطي كل شيء بسواده , قال الشاعر : فتذكرا ثقلا رثيدا بعدما
ألقت ذكاء يمينها في كافر ذكاء ( بضم الذال والمد ) : اسم للشمس , ومنه قول الآخر :
فوردت قبل انبلاج الفجر وابن ذكاء كامن في كفر أي في ليل . والكافر أيضا : البحر
والنهر العظيم . والكافر : الزارع , والجمع كفار , قال الله تعالى : { كمثل غيث أعجب
الكفار نباته } [ الحديد : 20 ] . يعني الزراع لأنهم يغطون الحب . ورماد مكفور : سفت
الريح عليه التراب . والكافر من الأرض : ما بعد عن الناس لا يكاد ينزله ولا يمر به
أحد , ومن حل بتلك المواضع فهم أهل الكفور . ويقال الكفور : القرى . سَوَاءٌ
عَلَيْهِمْ معناه معتدل عندهم الإنذار وتركه , أي سواء عليهم هذا . وجيء بالاستفهام
من أجل التسوية , ومثله قوله تعالى : { سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين } [
الشعراء : 136 ] . وقال الشاعر : وليل يقول الناس من ظلماته سواء صحيحات العيون
وعورها أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الإنذار الإبلاغ
والإعلام , ولا يكاد يكون إلا في تخويف يتسع زمانه للاحتراز , فإن لم يتسع زمانه
للاحتراز كان إشعارا ولم يكن إنذارا , قال الشاعر : أنذرت عمرا وهو في مهل قبل
الصباح فقد عصى عمرو وتناذر بنو فلان هذا الأمر إذا خوفه بعضهم بعضا . واختلف
العلماء في تأويل هذه الآية , فقيل : هي عامة ومعناها الخصوص فيمن حقت عليه كلمة
العذاب , وسبق في علم الله أنه يموت على كفره . أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس
من هذه حاله دون أن يعين أحدا . وقال ابن عباس والكلبي : نزلت في رؤساء اليهود ,
منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما . وقال الربيع بن أنس : نزلت فيمن قتل
يوم بدر من قادة الأحزاب , والأول أصح , فإن من عين أحدا فإنما مثل بمن كشف الغيب
عنه بموته على الكفر , وذلك داخل في ضمن الآية . قوله تعالى { لا يؤمنون { موضعه رفع
خبر { إن { أي إن الذين كفروا لا يؤمنون . وقيل : خبر { إن }{ سواء { وما بعده يقوم
مقام الصلة , قاله ابن كيسان . وقال محمد بن يزيد : { سواء { رفع بالابتداء , "
أأنذرتهم أم لم تنذرهم { الخبر , والجملة خبر { إن } . قال النحاس : أي إنهم تبالهوا
فلم تغن فيهم النذارة شيئا . واختلف القراء في قراءة { أأنذرتهم { فقرأ أهل المدينة
وأبو عمرو والأعمش وعبد الله بن أبي إسحاق : { آنذرتهم { بتحقيق الأولى وتسهيل
الثانية , واختارها الخليل وسيبويه , وهي لغة قريش وسعد بن بكر , وعليها قول الشاعر
: أيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النقا آنت أم أم سالم هجاء { آنت { ألف واحدة . وقال
آخر : تطاللت فاستشرفته فعرفته فقلت له آنت زيد الأرانب وروي عن ابن محيصن أنه قرأ
: { أنذرتهم أم لم تنذرهم { بهمزة لا ألف بعدها , فحذف لالتقاء الهمزتين , أو لأن
أم تدل على الاستفهام , كما قال الشاعر : تروح من الحي أم تبتكر وماذا يضيرك لو
تنتظر أراد : أتروح , فاكتفى بأم من الألف . وروي عن ابن أبي إسحاق أنه قرأ : "
أأنذرتهم { فحقق الهمزتين وأدخل بينهما ألفا لئلا يجمع بينهما . قال أبو حاتم :
ويجوز أن تدخل بينهما ألفا وتخفف الثانية , وأبو عمرو ونافع يفعلان ذلك كثيرا . وقرأ
حمزة وعاصم والكسائي بتحقيق الهمزتين : { أأنذرتهم { وهو اختيار أبي عبيد , وذلك
بعيد عند الخليل . وقال سيبويه : يشبه في الثقل ضننوا . قال الأخفش : ويجوز تخفيف
الأولى من الهمزتين وذلك رديء ; لأنهم إنما يخففون بعد الاستثقال , وبعد حصول
الواحدة . قال أبو حاتم : ويجوز تخفيف الهمزتين جميعا . فهذه سبعة أوجه من القراءات ,
ووجه ثامن يجوز في غير القرآن ; لأنه مخالف للسواد . قال الأخفش سعيد : تبدل من
الهمزة هاء تقول : هأنذرتهم , كما يقال هياك وإياك , وقال الأخفش في قوله تعالى : "
ها أنتم } [ آل عمران : 66 ] إنما هو أأنتم .
خَتَمَ اللهُ بين سبحانه في هذه الآية المانع لهم من الإيمان بقوله : { ختم الله
" . والختم مصدر ختمت الشيء ختما فهو مختوم ومختم , شدد للمبالغة , ومعناه التغطية
على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء , ومنه : ختم الكتاب والباب وما يشبه
ذلك , حتى لا يوصل إلى ما فيه , ولا يوضع فيه غير ما فيه . وقال أهل المعاني : وصف
الله تعالى قلوب الكفار بعشرة أوصاف : بالختم والطبع والضيق والمرض والرين والموت
والقساوة والانصراف والحمية والإنكار . فقال في الإنكار : { قلوبهم منكرة وهم
مستكبرون } [ النحل : 22 ] . وقال في الحمية : { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم
الحمية } .[ الفتح : 26 ] وقال في الانصراف : { ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم
قوم لا يفقهون } [ التوبة : 127 ] . وقال في القساوة : { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر
الله } [ الزمر : 22 ] . وقال : { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك } [ البقرة : 74 ] . وقال
في الموت : { أو كان ميتا فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] . وقال : { إنما يستجيب
الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله } [ الأنعام : 36 ] . وقال في الرين : { كلا بل
ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } .[ المطففين : 14 ] . وقال في المرض : { في قلوبهم
مرض } .[ محمد : 29 ] وقال في الضيق : { ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا } .[
الأنعام : 125 ] . وقال في الطبع : { فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون } [ المنافقون :
3 ] . وقال : { بل طبع الله عليها بكفرهم } [ النساء : 155 ] . وقال في الختم : { ختم
الله على قلوبهم } .[ البقرة : 7 ] . وسيأتي بيانها كلها في مواضعها إن شاء الله
تعالى . الختم يكون محسوسا كما بينا , ومعنى كما في هذه الآية . فالختم على القلوب :
عدم الوعي عن الحق - سبحانه - مفهوم مخاطباته والفكر في آياته . وعلى السمع : عدم
فهمهم للقرآن إذا تلي عليهم أو دعوا إلى وحدانيته . وعلى الأبصار : عدم هدايتها
للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته , هذا معنى قول ابن عباس وابن مسعود وقتادة
وغيرهم . في هذه الآية أدل دليل وأوضح سبيل على أن الله سبحانه خالق الهدى والضلال ,
والكفر والإيمان , فاعتبروا أيها السامعون , وتعجبوا أيها المفكرون من عقول القدرية
القائلين بخلق إيمانهم وهداهم , فإن الختم هو الطبع فمن أين لهم الإيمان ولو جهدوا
, وقد طبع على قلوبهم , وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة , فمتى يهتدون , أو من
يهديهم من بعد الله إذا أضلهم وأصمهم وأعمى أبصارهم { ومن يضلل الله فما له من هاد
" [ الزمر : 23 ] وكان فعل الله ذلك عدلا فيمن أضله وخذله , إذ لم يمنعه حقا وجب له
فتزول صفة العدل , وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم . فإن
قالوا : إن معنى الختم والطبع والغشاوة التسمية والحكم والإخبار بأنهم لا يؤمنون ,
لا الفعل . قلنا : هذا فاسد ; لأن حقيقة الختم والطبع إنما هو فعل ما يصير به القلب
مطبوعا مختوما , لا يجوز أن تكون حقيقته التسمية والحكم , ألا ترى أنه إذا قيل :
فلان طبع الكتاب وختمه , كان حقيقة أنه فعل ما صار به الكتاب مطبوعا ومختوما , لا
التسمية والحكم . هذا ما لا خلاف فيه بين أهل اللغة , ولأن الأمة مجمعة على أن الله
تعالى قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم , كما قال تعالى
: { بل طبع الله عليها بكفرهم } [ النساء : 155 ] . وأجمعت الأمة على أن الطبع
والختم على قلوبهم من جهة النبي عليه السلام والملائكة والمؤمنين ممتنع , فلو كان
الختم والطبع هو التسمية والحكم لما امتنع من ذلك الأنبياء والمؤمنون ; لأنهم كلهم
يسمون الكفار بأنهم مطبوع على قلوبهم , وأنهم مختوم عليها وأنهم في ضلال لا يؤمنون
, ويحكمون عليهم بذلك . فثبت أن الختم والطبع هو معنى غير التسمية والحكم , وإنما هو
معنى يخلقه الله في القلب يمنع من الإيمان به , دليله قوله تعالى : { كذلك نسلكه في
قلوب المجرمين . لا يؤمنون به } [ الحجر : 12 ] . وقال : { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن
يفقهوه } [ الأنعام : 25 ] . أي لئلا يفقهوه , وما كان مثله . عَلَى قُلُوبِهِمْ فيه
دليل على فضل القلب على جميع الجوارح . والقلب للإنسان وغيره . وخالص كل شيء وأشرفه
قلبه , فالقلب موضع الفكر . وهو في الأصل مصدر قلبت الشيء أقلبه قلبا إذا رددته على
بداءته . وقلبت الإناء : رددته على وجهه . ثم نقل هذا اللفظ فسمي به هذا العضو الذي
هو أشرف الحيوان , لسرعة الخواطر إليه , ولترددها عليه , كما قيل : ما سمي القلب
إلا من تقلبه فاحذر على القلب من قلب وتحويل ثم لما نقلت العرب هذا المصدر لهذا
العضو الشريف التزمت فيه تفخيم قافه , تفريقا بينه وبين أصله . روى ابن ماجه عن أبي
موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( مثل القلب مثل ريشة تقلبها
الرياح بفلاة ) . ولهذا المعنى كان عليه الصلاة والسلام يقول : ( اللهم يا مثبت
القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك ) . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله مع عظيم
قدره وجلال منصبه فنحن أولى بذلك اقتداء به , قال الله تعالى : { واعلموا أن الله
يحول بين المرء وقلبه } [ الأنفال : 24 ] . وسيأتي . الجوارح وإن كانت تابعة للقلب
فقد يتأثر القلب - وإن كان رئيسها وملكها - بأعمالها للارتباط الذي بين الظاهر
والباطن , قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الرجل ليصدق فتنكت في قلبه نكتة بيضاء وإن
الرجل ليكذب الكذبة فيسود قلبه ) . وروى الترمذي وصححه عن أبي هريرة : ( إن الرجل
ليصيب الذنب فيسود قلبه فإن هو تاب صقل قلبه ) . قال : وهو الرين الذي ذكره الله في
القرآن في قوله : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } [ المطففين : 14 ] . وقال
مجاهد : القلب كالكف يقبض منه بكل ذنب إصبع , ثم يطبع . قلت : وفي قول مجاهد هذا ,
وقوله عليه السلام : ( إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد
الجسد كله ألا وهي القلب ) دليل على أن الختم يكون حقيقيا , والله أعلم . وقد قيل :
إن القلب يشبه الصنوبرة , وهو يعضد قول مجاهد , والله أعلم . وقد روى مسلم عن حذيفة
قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر :
حدثنا أن ( الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا
من السنة ) . ثم حدثنا عن رفع الأمانة قال : ( ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من
قلبه فيظل أثرها مثل الوكت ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل
المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء - ثم أخذ حصى فدحرجه
على رجله فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان
رجلا أمينا حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من
خردل من إيمان ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما , المرء على
دينه ولئن كان نصرانيا أو يهوديا المرء على ساعيه وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم
إلا فلانا وفلانا ) . ففي قوله : ( الوكت ) وهو الأثر اليسير . ويقال للبسر إذا وقعت
فيه نكتة من الإرطاب : قد وكت , فهو موكت . وقوله : ( المجل ) , وهو أن يكون بين
الجلد واللحم ماء , وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( كجمر دحرجته ) أي
دورته على رجلك فنفط . ( فتراه منتبرا ) أي مرتفعا - ما يدل على أن ذلك كله محسوس في
القلب يفعل فيه , وكذلك الختم والطبع , والله أعلم . وفي حديث حذيفة قال سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب
أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى يصير على قلبين
على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت يحملنكم والأرض والآخر أسود مرباد كالكوز
مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه .. .) وذكر الحديث (
مجخيا ) : يعني مائلا . القلب قد يعبر عنه بالفؤاد والصدر , قال الله تعالى : { كذلك
لنثبت به فؤادك } [ الفرقان : 32 ] وقال : { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] يعني
في الموضعين قلبك . وقد يعبر به عن العقل , قال الله تعالى : { إن في ذلك لذكرى لمن
كان له قلب } [ ق : 37 ] أي عقل ; لأن القلب محل العقل في قول الأكثرين . والفؤاد
محل القلب , والصدر محل الفؤاد , والله أعلم . وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى
أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ استدل بها من فضل السمع على البصر لتقدمه عليه , وقال
تعالى : { قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم } [ الأنعام : 46 ] . وقال : { وجعل
لكم السمع والأبصار والأفئدة } [ السجدة : 9 ] . قال : والسمع يدرك به من الجهات
الست , وفي النور والظلمة , ولا يدرك بالبصر إلا من الجهة المقابلة , وبواسطة من
ضياء وشعاع وقال أكثر المتكلمين بتفضيل البصر على السمع ; لأن السمع لا يدرك به إلا
الأصوات والكلام , والبصر يدرك به الأجسام والألوان والهيئات كلها . قالوا : فلما
كانت تعلقاته أكثر كان أفضل , وأجازوا الإدراك بالبصر من الجهات الست . إن قال قائل
: لم جمع الأبصار ووحد السمع ؟ قيل له : إنما وحده لأنه مصدر يقع للقليل والكثير ,
يقال : سمعت الشيء أسمعه سمعا وسماعا , فالسمع مصدر سمعت , والسمع أيضا اسم للجارحة
المسموع بها سميت بالمصدر . وقيل : إنه لما أضاف السمع إلى الجماعة دل على أنه يراد
به أسماع الجماعة , كما قال الشاعر : بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها
فصليب إنما يريد جلودها فوحد ; لأنه قد علم أنه لا يكون للجماعة جلد واحد . وقال آخر
في مثله : لا تنكر القتل وقد سبينا في حلقكم عظم وقد شجينا يريد في حلوقكم , ومثله
قول الآخر : كأنه وجه تركيين قد غضبا مستهدف لطعان غير تذبيب وإنما يريد وجهين ,
فقال وجه تركيين ; لأنه قد علم أنه لا يكون للاثنين وجه واحد , ومثله كثير جدا . وقرئ
: { وعلى أسماعهم { ويحتمل أن يكون المعنى وعلى مواضع سمعهم ; لأن السمع لا يختم
وإنما يختم موضع السمع , فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وقد يكون السمع
بمعنى الاستماع , يقال : سمعك حديثي - أي استماعك إلى حديثي - يعجبني , ومنه قول ذي
الرمة يصف ثورا تسمع إلى صوت صائد وكلاب : وقد توجس ركزا مقفر ندس بنبأة الصوت ما
في سمعه كذب أي ما في استماعه كذب , أي هو صادق الاستماع . والندس : الحاذق . والنبأة
: الصوت الخفي , وكذلك الركز . والسمع ( بكسر السين وإسكان الميم ) : ذكر الإنسان
بالجميل , يقال : ذهب سمعه في الناس أي ذكره . والسمع أيضا : ولد الذئب من الضبع . والوقف
هنا : { وعلى سمعهم } . و { غشاوة { رفع على الابتداء وما قبله خبر . والضمائر في }
قلوبهم { وما عطف عليه لمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن من كفار قريش , وقيل من
المنافقين , وقيل من اليهود , وقيل من الجميع , وهو أصوب ; لأنه يعم . فالختم على
القلوب والأسماع . والغشاوة على الأبصار . والغشاء : الغطاء . وهي : ومنه غاشية السرج
, وغشيت الشيء أغشيه . قال النابغة : هلا سألت بني الصلاب ما حسبي إذا الدخان تغشى
الأشمط البرما وقال آخر : صحبتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
قال ابن كيسان : فإن جمعت غشاوة قلت : غشاء بحذف الهاء . وحكى الفراء : غشاوي مثل
أداوي . وقرئ : { غشاوة { بالنصب على معنى وجعل , فيكون من باب قوله : علفتها تبنا
وماء باردا وقول الآخر : يا ليت زوجك قد غدا متقلدا سيفا ورمحا المعنى وأسقيتها ماء
, وحاملا رمحا ; لأن الرمح لا يتقلد . قال الفارسي : ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في
حال سعة واختيار , فقراءة الرفع أحسن , وتكون الواو عاطفة جملة على جملة . قال : ولم
أسمع من الغشاوة فعلا متصرفا بالواو . وقال بعض المفسرين : الغشاوة على الأسماع
والأبصار , والوقف على { قلوبهم } . وقال آخرون : الختم في الجميع , والغشاوة هي
الختم , فالوقف على هذا على { غشاوة } . وقرأ الحسن { غشاوة { بضم الغين , وقرأ أبو
جويبر بفتحها , وروي عن أبي عمرو : غشوة , رده إلى أصل المصدر . قال ابن كيسان :
ويجوز لشيبة وغشوة وأجودها غشاوة , كذلك تستعمل العرب في كل ما كان مشتملا على
الشيء , نحو عمامة وكنانة وقلادة وعصابة وغير ذلك . وَلَهُمْ أي للكافرين المكذبين
عَذَابٌ عَظِيمٌ نعته . والعذاب مثل الضرب بالسوط والحرق بالنار والقطع بالحديد ,
إلى غير ذلك مما يؤلم الإنسان . وفي التنزيل : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين }
[ النور : 2 ] وهو مشتق من الحبس والمنع , يقال في اللغة : أعذبه عن كذا أي احبسه
وامنعه , ومنه سمي عذوبة الماء ; لأنها قد أعذبت . واستعذب بالحبس في الوعاء ليصفو
ويفارقه ما خالطه , ومنه قول علي رضي الله عنه : أعذبوا نساءكم عن الخروج , أي
الأبطح . وعنه رضي الله عنه وقد شيع سرية فقال : أعذبوا عن ذكر النساء [ أنفسكم ]
فإن ذلك يكسركم عن الغزو , وكل من منعته شيئا فقد أعذبته , وفي المثل : { لألجمنك
لجاما معذبا { أي مانعا عن ركوب الناس . ويقال : أعذب أي امتنع . وأعذب غيره , فهو
لازم ومتعد , فسمي العذاب عذابا لأن صاحبه يحبس ويمنع عنه جميع ما يلائم الجسد من
الخير ويهال عليه أضدادها .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ فيه سبع مسائل : الأولى : روى ابن زريع عن مجاهد قال : نزلت أربع
آيات من سورة البقرة في المؤمنين , واثنتان في نعت الكافرين , وثلاث عشرة في
المنافقين . وروى أسباط عن جريج في قوله : { ومن الناس { قال : هم المنافقون . وقال
علماء الصوفية : الناس اسم جنس , واسم الجنس لا يخاطب به الأولياء . الثانية :
واختلف النحاة في لفظ الناس , فقيل : هو اسم من أسماء الجموع , جمع إنسان وإنسانة ,
على غير اللفظ , وتصغيره نويس . فالناس من النوس وهو الحركة , يقال : ناس ينوس أي
تحرك , ومنه حديث أم زرع : { أناس من حلي أذني } . وقيل : أصله من نسي , فأصل ناس
نسي قلب فصار نيس تحركت الياء فانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا , ثم دخلت الألف واللام
فقيل : الناس . قال ابن عباس : نسي آدم عهد الله فسمي إنسانا . وقال عليه السلام : (
نسي آدم فنسيت ذريته ) . وفي التنزيل : { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي } [ طه :
115 ] وسيأتي وعلى هذا فالهمزة زائدة , قال الشاعر : لا تنسين تلك العهود فإنما
سميت إنسانا لأنك ناسي وقال آخر : فإن نسيت عهودا منك سالفة فاغفر فأول ناس أول
الناس وقيل : سمي إنسانا لأنسه بحواء . وقيل : لأنسه بربه , فالهمزة أصلية , قال
الشاعر : وما سمي الإنسان إلا لأنسه ولا القلب إلا أنه يتقلب الثالثة : لما ذكر
الله جل وتعالى المؤمنين أولا , وبدأ بهم لشرفهم وفضلهم , ذكر الكافرين في مقابلتهم
, إذ الكفر والإيمان طرفان . ثم ذكر المنافقين بعدهم وألحقهم بالكافرين قبلهم , لنفي
الإيمان عنهم بقوله الحق : { وما هم بمؤمنين } . ففي هذا رد على الكرامية حيث قالوا
: إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب , واحتجوا بقوله تعالى : { فأثابهم
الله بما قالوا } [ المائدة : 85 ] . ولم يقل : بما قالوا وأضمروا , وبقوله عليه
السلام : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني
دماءهم وأموالهم ) . وهذا منهم قصور وجمود , وترك نظر لما نطق به القرآن والسنة من
العمل مع القول والاعتقاد , وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان
معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان ) . أخرجه ابن ماجه في سننه . فما ذهب إليه
محمد بن كرام السجستاني وأصحابه هو النفاق وعين الشقاق , ونعوذ بالله من الخذلان
وسوء الاعتقاد . الرابعة : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : المؤمن ضربان : مؤمن يحبه
الله ويواليه , ومؤمن لا يحبه الله ولا يواليه , بل يبغضه ويعاديه , فكل من علم
الله أنه يوافي بالإيمان , فالله محب له , موال له , راض عنه . وكل من علم الله أنه
يوافي بالكفر , فالله مبغض له , ساخط عليه , معاد له , لا لأجل إيمانه , ولكن لكفره
وضلاله الذي يوافي به . والكافر ضربان : كافر يعاقب لا محالة , وكافر لا يعاقب . فالذي
يعاقب هو الذي يوافي بالكفر , فالله ساخط عليه معاد له . والذي لا يعاقب هو الموافي
بالإيمان , فالله غير ساخط على هذا ولا مبغض له , بل محب له موال , لا لكفره لكن
لإيمانه الموافي به . فلا يجوز أن يطلق القول وهي : الخامسة : بأن المؤمن يستحق
الثواب , والكافر يستحق العقاب , بل يجب تقييده بالموافاة , ولأجل هذا قلنا : إن
الله راض عن عمر في الوقت الذي كان يعبد الأصنام , ومريد لثوابه ودخوله الجنة , لا
لعبادته الصنم , لكن لإيمانه الموافي به . وإن الله تعالى ساخط على إبليس في حال
عبادته , لكفره الموافي به . وخالفت القدرية في هذا وقالت : إن الله لم يكن ساخطا
على إبليس وقت عبادته , ولا راضيا عن عمر وقت عبادته للصنم . وهذا فاسد , لما ثبت أن
الله سبحانه عالم بما يوافي به إبليس لعنه الله , وبما يوافي به عمر رضي الله عنه
فيما لم يزل , فثبت أنه كان ساخطا على إبليس محبا لعمر . ويدل عليه إجماع الأمة على
أن الله سبحانه وتعالى غير محب لمن علم أنه من أهل النار , بل هو ساخط عليه , وأنه
محب لمن علم أنه من أهل الجنة , وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وإنما
الأعمال بالخواتيم ) ولهذا قال علماء الصوفية : ليس الإيمان ما يتزين به العبد قولا
وفعلا , لكن الإيمان جري السعادة في سوابق الأزل , وأما ظهوره على الهياكل فربما
يكون عاريا , وربما يكون حقيقة . قلت : هذا كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله
بن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : ( إن أحدكم
يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة
مثل ذلك ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله
وعمله وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون
بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم
ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل
بعمل أهل الجنة فيدخلها ) . فإن قيل وهي : - السادسة : فقد خرج الإمام الحافظ أبو
محمد عبد الغني بن سعيد المصري من حديث محمد بن سعيد الشامي المصلوب في الزندقة ,
وهو محمد بن أبي قيس , عن سليمان بن موسى وهو الأشدق , عن مجاهد بن جبر عن ابن عباس
أخبرنا أبو رزين العقيلي قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لأشربن أنا
وأنت يا أبا رزين من لبن لم يتغير طعمه ) قال قلت : كيف يحيي الله الموتى ؟ قال : (
أما مررت بأرض لك مجدبة ثم مررت بها مخصبة ثم مررت بها مجدبة ثم مررت بها مخصبة )
قلت : بلى . قال : ( كذلك النشور ) قال قلت : كيف لي أن أعلم أني مؤمن ؟ قال : ( ليس
أحد من هذه الأمة - قال ابن أبي قيس : أو قال من أمتي - عمل حسنة وعلم أنها حسنة
وأن الله جازيه بها خيرا أو عمل سيئة وعلم أنها سيئة وأن الله جازيه بها شرا أو
يغفرها إلا مؤمن ) . قلت : وهذا الحديث وإن كان سنده ليس بالقوي فإن معناه صحيح وليس
بمعارض لحديث ابن مسعود , فإن ذلك موقوف على الخاتمة , كما قال عليه السلام : (
وإنما الأعمال بالخواتيم ) . وهذا إنما يدل على أنه مؤمن في الحال , والله أعلم . السابعة
: قال علماء اللغة : إنما سمي المنافق منافقا لإظهاره غير ما يضمر , تشبيها
باليربوع , له جحر يقال له : النافقاء , وآخر يقال له : القاصعاء . وذلك أنه يخرق
الأرض حتى إذا كاد يبلغ ظاهر الأرض أرق التراب , فإذا رابه ريب دفع ذلك التراب
برأسه فخرج , فظاهر جحره تراب , وباطنه حفر . وكذلك المنافق ظاهره إيمان , وباطنه
كفر , وقد تقدم هذا المعنى .
يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا قال علماؤنا : معنى { يخادعون الله { أي
يخادعونه عند أنفسهم وعلى ظنهم . وقيل : قال ذلك لعملهم عمل المخادع . وقيل : في
الكلام حذف , تقديره : يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم , عن الحسن وغيره . وجعل
خداعهم لرسوله خداعا له , لأنه دعاهم برسالته , وكذلك إذا خادعوا المؤمنين فقد
خادعوا الله . ومخادعتهم : ما أظهروه من الإيمان خلاف ما أبطنوه من الكفر , ليحقنوا
دماءهم وأموالهم , ويظنون أنهم قد نجوا وخدعوا , قاله جماعة من المتأولين . وقال أهل
اللغة : أصل الخدع في كلام العرب الفساد , حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي . وأنشد : أبيض
اللون لذيذ طعمه طيب الريق إذا الريق خدع قلت : فـ { يخادعون الله { على هذا , أي
يفسدون إيمانهم وأعمالهم فيما بينهم وبين الله تعالى بالرياء . وكذا جاء مفسرا عن
النبي صلى الله عليه وسلم على ما يأتي . وفي التنزيل : { يراءون الناس } .[ النساء :
142 ] وقيل : أصله الإخفاء , ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء , حكاه ابن فارس
وغيره . وتقول العرب : انخدع الضب في جحره . وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
نفي وإيجاب , أي ما تحل عاقبة الخدع إلا بهم . ومن كلامهم : من خدع من لا يخدع فإنما
يخدع نفسه . وهذا صحيح , لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن , وأما من عرف
البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه . ودل هذا على أن المنافقين لم
يعرفوا الله ; إذ لو عرفوه لعرفوا أنه لا يخدع , وقد تقدم من قوله عليه السلام أنه
قال : ( لا تخادع الله فإنه من يخادع الله يخدعه الله ونفسه يخدع لو يشعر ) قالوا :
يا رسول الله , وكيف يخادع الله ؟ قال : ( تعمل بما أمرك الله به وتطلب به غيره ) . وسيأتي
بيان الخدع من الله تعالى كيف هو عند قوله تعالى : { الله يستهزئ بهم } [ البقرة :
15 ] . وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : { يخادعون { في الموضعين , ليتجانس اللفظان
. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر : { يخدعون { الثاني . والمصدر خدع ( بكسر
الخاء ) وخديعة , حكى ذلك أبو زيد . وقرأ مورق العجلي : { يخدعون الله } ( بضم الياء
وفتح الخاء وتشديد الدال ) على التكثير . وقرأ أبو طالوت عبد السلام بن شداد
والجارود بضم الياء وإسكان الخاء وفتح الدال , على معنى وما يخدعون إلا عن أنفسهم ,
فحذف حرف الجر , كما قال تعالى : { واختار موسى قومه } [ الأعراف : 155 ] أي من
قومه . وَمَا يَشْعُرُونَ أي يفطنون أن وبال خدعهم راجع عليهم , فيظنون أنهم قد
نجوا بخدعهم وفازوا , وإنما ذلك في الدنيا , وفي الآخرة يقال لهم : { ارجعوا وراءكم
فالتمسوا نورا } [ الحديد : 13 ] على ما يأتي . قال أهل اللغة : شعرت بالشيء أي فطنت
له , ومنه الشاعر لفطنته ; لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره من غريب المعاني . ومنه
قولهم : ليت شعري , أي ليتني علمت .
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ابتداء وخبر . والمرض عبارة مستعارة للفساد الذي في عقائدهم
. وذلك إما أن يكون شكا ونفاقا , وإما جحدا وتكذيبا . والمعنى : قلوبهم مرضى لخلوها
عن العصمة والتوفيق والرعاية والتأييد . قال ابن فارس اللغوي : المرض كل ما خرج به
الإنسان عن حد الصحة من علة أو نفاق أو تقصير في أمر . والقراء مجمعون على فتح الراء
من { مرض { إلا ما روى الأصمعي عن أبي عمرو أنه سكن الراء . فَزَادَهُمُ اللهُ
مَرَضًا قيل : هو دعاء عليهم . ويكون معنى الكلام : زادهم الله شكا ونفاقا جزاء على
كفرهم وضعفا عن الانتصار وعجزا عن القدرة , كما قال الشاعر : يا مرسل الريح جنوبا
وصبا إذ غضبت زيد فزدها غضبا أي لا تهدها على الانتصار فيما غضبت منه . وعلى هذا
يكون في الآية دليل على جواز الدعاء على المنافقين والطرد لهم ; لأنهم شر خلق الله
. وقيل : هو إخبار من الله تعالى عن زيادة مرضهم , أي فزادهم الله مرضا إلى مرضهم ,
كما قال في آية أخرى : { فزادتهم رجسا إلى رجسهم } [ التوبة : 125 ] . وقال أرباب
المعاني : { في قلوبهم مرض { أي بسكونهم إلى الدنيا وحبهم لها وغفلتهم عن الآخرة
وإعراضهم عنها . وقوله : { فزادهم الله مرضا { أي وكلهم إلى أنفسهم , وجمع عليهم
هموم الدنيا فلم يتفرغوا من ذلك إلى اهتمام بالدين .{ ولهم عذاب أليم { بما يفنى
عما يبقى . وقال الجنيد : علل القلوب من اتباع الهوى , كما أن علل الجوارح من مرض
البدن . وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ { أليم { في كلام العرب معناه مؤلم أي موجع , مثل
السميع بمعنى المسمع , قال ذو الرمة يصف إبلا : ونرفع من صدور شمردلات يصك وجوهها
وهج أليم وآلم إذا أوجع . والإيلام : الإيجاع . والألم : الوجع , وقد ألم يألم ألما . والتألم
: التوجع . ويجمع أليم على ألماء مثل كريم وكرماء , وآلام مثل أشراف . بِمَا كَانُوا
يَكْذِبُونَ ما مصدرية , أي بتكذيبهم الرسل وردهم على الله جل وعز وتكذيبهم بآياته
, قاله أبو حاتم . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف , ومعناه بكذبهم وقولهم آمنا
وليسوا بمؤمنين . مسألة : واختلف العلماء في إمساك النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل
المنافقين مع علمه بنفاقهم على أربعة أقوال : القول الأول : قال بعض العلماء : إنما
لم يقتلهم ; لأنه لم يعلم حالهم أحد سواه . وقد اتفق العلماء على بكرة أبيهم على أن
القاضي لا يقتل بعلمه , وإنما اختلفوا في سائر الأحكام . قال ابن العربي : وهذا
منتقض , فقد قتل بالمجذر بن زياد الحارث بن سويد بن الصامت ; لأن المجذر قتل أباه
بالصبا يوم بعاث , فأسلم الحارث وأغفله يوم أحد فقتله , فأخبر به جبريل النبي صلى
الله عليه وسلم فقتله به ; لأن قتله كان غيلة , وقتل الغيلة حد من حدود الله . قلت :
وهذه غفلة من هذا الإمام ; لأنه إن ثبت الإجماع المذكور فليس بمنتقض بما ذكر ; لأن
الإجماع لا ينعقد ولا يثبت إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي ,
وعلى هذا فتكون تلك قضية في عين بوحي , فلا يحتج بها أو منسوخة بالإجماع . والله
أعلم . القول الثاني : قال أصحاب الشافعي : إنما لم يقتلهم لأن الزنديق وهو الذي يسر
الكفر ويظهر الإيمان يستتاب ولا يقتل . قال ابن العربي : وهذا وهم , فإن النبي صلى
الله عليه وسلم لم يستتبهم ولا نقل ذلك أحد , ولا يقول أحد إن استتابة الزنديق
واجبة , وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم معرضا عنهم مع علمه بهم . فهذا المتأخر من
أصحاب الشافعي الذي قال : إن استتابة الزنديق جائزة قال قولا لم يصح لأحد . القول
الثالث : إنما لم يقتلهم مصلحة لتأليف القلوب عليه لئلا تنفر عنه , وقد أشار صلى
الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله لعمر : ( معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل
أصحابي ) أخرجه البخاري ومسلم . وقد كان يعطي للمؤلفة قلوبهم مع علمه بسوء اعتقادهم
تألفا , وهذا هو قول علمائنا وغيرهم . قال ابن عطية . وهي طريقة أصحاب مالك رحمه الله
في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين , نص على هذا محمد بن الجهم
والقاضي إسماعيل الأبهري وابن الماجشون , واحتج بقوله تعالى : { لئن لم ينته
المنافقون والذين في قلوبهم مرض } [ الأحزاب : 60 ] إلى قوله : { وقتلوا تقتيلا } [
الأحزاب : 61 ] . قال قتادة : معناه إذا هم أعلنوا النفاق . قال مالك رحمه الله :
النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة فينا اليوم , فيقتل الزنديق
إذا شهد عليه بها دون استتابة , وهو أحد قولي الشافعي . قال مالك : وإنما كف رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه ; إذ لم
يشهد على المنافقين . قال القاضي إسماعيل : لم يشهد على عبد الله ابن أبي إلا زيد بن
أرقم وحده , ولا على الجلاس بن سويد إلا عمير بن سعد ربيبه , ولو شهد على أحد منهم
رجلان بكفره ونفاقه لقتل . وقال الشافعي رحمه الله محتجا للقول الآخر : السنة فيمن
شهد عليه بالزندقة فجحد وأعلن بالإيمان وتبرأ من كل دين سوى الإسلام أن ذلك يمنع من
إراقة دمه . وبه قال أصحاب الرأي وأحمد الطبري وغيرهم . قال الشافعي وأصحابه . وإنما
منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع
العلم بنفاقهم ; لأن ما يظهرونه يجب ما قبله . وقال الطبري : جعل الله تعالى الأحكام
بين عباده على الظاهر , وتولى الحكم في سرائرهم دون أحد من خلقه , فليس لأحد أن
يحكم بخلاف ما ظهر ; لأنه حكم بالظنون , ولو كان ذلك لأحد كان أولى الناس به رسول
الله صلى الله عليه وسلم , وقد حكم للمنافقين بحكم المسلمين بما أظهروا , ووكل
سرائرهم إلى الله . وقد كذب الله ظاهرهم في قوله : { والله يشهد إن المنافقين
لكاذبون } [ المنافقون : 1 ] قال ابن عطية : ينفصل المالكيون عما لزموه من هذه
الآية بأنها لم تعين أشخاصهم فيها , وإنما جاء فيها توبيخ لكل مغموص عليه بالنفاق ,
وبقي لكل واحد منهم أن يقول : لم أرد بها وما أنا إلا مؤمن , ولو عين أحد لما جب
كذبه شيئا . قلت : هذا الانفصال فيه نظر , فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم
أو كثيرا منهم بأسمائهم وأعيانهم بإعلام الله تعالى إياه , وكان حذيفة يعلم ذلك
بإخبار النبي عليه السلام إياه حتى كان عمر رضي الله عنه يقول له : يا حذيفة هل أنا
منهم ؟ فيقول له : لا . القول الرابع : وهو أن الله تعالى كان قد حفظ أصحاب نبيه
عليه السلام بكونه ثبتهم أن يفسدهم المنافقون أو يفسدوا دينهم فلم يكن في تبقيتهم
ضرر , وليس كذلك اليوم ; لأنا لا نأمن من الزنادقة أن يفسدوا عامتنا وجهالنا .
وَإِذَا في موضع نصب على الظرف والعامل فيها { قالوا { وهي تؤذن بوقوع الفعل
المنتظر . قال الجوهري : { إذا { اسم يدل على زمان مستقبل , ولم تستعمل إلا مضافة
إلى جملة , تقول : أجيئك إذا احمر البسر , وإذا قدم فلان . والذي يدل على أنها اسم
وقوعها موقع قولك : آتيك يوم يقدم فلان , فهي ظرف وفيها معنى المجازاة . وجزاء الشرط
ثلاثة : الفعل والفاء وإذا , فالفعل قولك : إن تأتني آتك . والفاء : إن تأتني فأنا
أحسن إليك . وإذا كقوله تعالى : { وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون } [
الروم : 36 ] . ومما جاء من المجازاة بإذا في الشعر قول قيس بن الخطيم : إذا قصرت
أسيافنا كان وصلها خطانا إلى أعدائنا فنضارب فعطف { فنضارب { بالجزم على { كان }
لأنه مجزوم , ولو لم يكن مجزوما لقال : فنضارب , بالنصب . وقد تزاد على { إذا }{ ما
{ تأكيدا , فيجزم بها أيضا , ومنه قول الفرزدق . فقام أبو ليلى إليه ابن ظالم وكان
إذا ما يسلل السيف يضرب قال سيبويه : والجيد ما قال كعب بن زهير : وإذا ما تشاء
تبعث منها مغرب الشمس ناشطا مذعورا يعني أن الجيد ألا يجزم بإذا , كما لم يجزم في
هذا البيت . وحكي عن المبرد أنها في قولك في المفاجأة : خرجت فإذا زيد , ظرف مكان ,
لأنها تضمنت جثة . وهذا مردود ; لأن المعنى خرجت فإذا حضور زيد , فإنما تضمنت المصدر
كما يقتضيه سائر ظروف الزمان , ومنه قولهم : { اليوم خمر وغدا أمر { فمعناه وجود
خمر ووقوع أمر . قِيلَ لَهُمْ من القول وأصله قول , نقلت كسرة الواو إلى القاف
فانقلبت الواو ياء . ويجوز : { قيل لهم { بإدغام اللام في اللام وجاز الجمع بين
ساكنين ; لأن الياء حرف مد ولين . قال الأخفش : ويجوز { قيل { بضم القاف والياء . وقال
الكسائي : ويجوز إشمام القاف الضم ليدل على أنه لما لم يسم فاعله , وهي لغة قيس ,
وكذلك جيء وغيض وحيل وسيق وسيء وسيئت . وكذلك روى هشام عن ابن عباس , ورويس عن يعقوب
. وأشم منها نافع سيء وسيئت خاصة . وزاد ابن ذكوان : حيل وسيق , وكسر الباقون في
الجميع . فأما هذيل وبنو دبير من أسد وبني فقعس فيقولون : { قول { بواو ساكنة . لَا
تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ { لا { نهي . والفساد ضد الصلاح , وحقيقته العدول عن
الاستقامة إلى ضدها . فسد الشيء يفسد فسادا وفسودا وهو فاسد وفسيد . والمعنى في الآية
: لا تفسدوا في الأرض بالكفر وموالاة أهله , وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى
الله عليه وسلم والقرآن . وقيل : كانت الأرض قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم
فيها الفساد , ويفعل فيها بالمعاصي , فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع
الفساد وصلحت الأرض . فإذا عملوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها , كما
قال في آية أخرى : { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } [ الأعراف : 56 ] . قوله : "
في الأرض { الأرض مؤنثة , وهي اسم جنس , وكان حق الواحدة منها أن يقال أرضة ,
ولكنهم لم يقولوا . والجمع أرضات ; لأنهم قد يجمعون المؤنث الذي ليست فيه هاء
التأنيث بالتاء كقولهم : عرسات . ثم قالوا أرضون فجمعوا بالواو والنون , والمؤنث لا
يجمع بالواو والنون إلا أن يكون منقوصا كثبة وظبة , ولكنهم جعلوا الواو والنون عوضا
من حذفهم الألف والتاء وتركوا فتحة الراء على حالها , وربما سكنت . وقد تجمع على
أروض . وزعم أبو الخطاب أنهم يقولون : أرض وآراض , كما قالوا : أهل وآهال . والأراضي
أيضا على غير قياس , كأنهم جمعوا آرضا . وكل ما سفل فهو أرض . وأرض أريضة , أي زكية
بينة الأراضة . وقد أرضت بالضم , أي زكت . قال أبو عمرو : نزلنا أرضا أريضة , أي
معجبة للعين , ويقال : لا أرض لك , كما يقال : لا أم لك . والأرض : أسفل قوائم
الدابة , قال عدي يصف فرسا : ولم يقلب أرضها البيطار ولا لحبليه بها حبار أي أثر
والأرض : النفضة والرعدة . روى حماد بن سلمة عن قتادة عن عبد الله بن الحارث قال :
زلزلت الأرض بالبصرة , فقال ابن عباس : والله ما أدري أزلزلت الأرض أم بي أرض ؟ أي
أم بي رعدة , وقال ذو الرمة يصف صائدا : إذا توجس ركزا من سنابكها أو كان صاحب أرض
أو به الموم والأرض : الزكام . وقد آرضه الله إيراضا , أي أزكمه فهو مأروض . وفسيل
مستأرض , وودية مستأرضة ( بكسر الراء ) وهو أن يكون له عرق في الأرض , فأما إذا نبت
على جذع النخل فهو الراكب . والإراض ( بالكسر ) : بساط ضخم من صوف أو وبر . ورجل أريض
, أي متواضع خليق للخير . قال الأصمعي يقال : هو آرضهم أن يفعل ذلك , أي أخلقهم . وشيء
عريض أريض إتباع له , وبعضهم يفرده ويقول : جدي أريض أي سمين . قَالُوا إِنَّمَا
نَحْنُ مُصْلِحُونَ { نحن { أصل { نحن { نحن قلبت حركة الحاء على النون وأسكنت
الحاء , قاله هشام بن معاوية النحوي . وقال الزجاج : { نحن { لجماعة , ومن علامة
الجماعة الواو , والضمة من جنس الواو , فلما اضطروا إلى حركة { نحن { لالتقاء
الساكنين حركوها بما يكون للجماعة . قال : لهذا ضموا واو الجمع في قوله عز وجل : "
أولئك الذين اشتروا الضلالة } [ البقرة : 16 ] وقال محمد بن يزيد : { نحن { مثل قبل
وبعد ; لأنها متعلقة بالإخبار عن اثنين وأكثر , فـ { أنا { للواحد { نحن { للتثنية
والجمع , وقد يخبر به المتكلم عن نفسه في قوله : نحن قمنا , قال الله تعالى : { نحن
قسمنا بينهم معيشتهم } [ الزخرف : 32 ] والمؤنث في هذا إذا كانت متكلمة بمنزلة
المذكر , تقول المرأة : قمت وذهبت , وقمنا وذهبنا , وأنا فعلت ذاك , ونحن فعلنا . هذا
كلام العرب فاعلم . قوله تعالى : { مصلحون { اسم فاعل من أصلح . والصلاح : ضد الفساد
. وصلح الشيء ( بضم اللام وفتحها ) لغتان , قال ابن السكيت . والصلوح ( بضم الصاد )
مصدر صلح ( بضم اللام ) , قال الشاعر : فكيف بإطراقي إذا ما شتمتني وما بعد شتم
الوالدين صلوح وصلاح من أسماء مكة . والصلح ( بكسر الصاد ) : نهر . وإنما قالوا ذلك
على ظنهم ; لأن إفسادهم عندهم إصلاح , أي أن ممالأتنا للكفار إنما نريد بها الإصلاح
بينهم وبين المؤمنين . قال ابن عباس وغيره .
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ ردا عليهم وتكذيبا لقولهم . قال أرباب المعاني
: من أظهر الدعوى كذب , ألا ترى أن الله عز وجل يقول : ألا إنهم هم المفسدون وهذا
صحيح . وكسرت { إن { لأنها مبتدأة , قاله النحاس . وقال علي بن سليمان . يجوز فتحها ,
كما أجاز سيبويه : حقا أنك منطلق , بمعنى ألا . و { هم { يجوز أن يكون مبتدأ و }
المفسدون { خبره والمبتدأ وخبره خبر { إن } . ويجوز أن تكون { هم { توكيدا للهاء
والميم في { إنهم } . ويجوز أن تكون فاصلة - والكوفيون يقولون عمادا - و { المفسدون
{ خبر { إن } , والتقدير ألا إنهم المفسدون , كما تقدم في قوله : { وأولئك هم
المفلحون } [ لقمان : 5 ] . وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ قال ابن كيسان يقال : ما على
من لم يعلم أنه مفسد من الذم , إنما يذم إذا علم أنه مفسد ثم أفسد على علم , قال :
ففيه جوابان : أحدهما - أنهم كانوا يعملون الفساد سرا ويظهرون الصلاح وهم لا يشعرون
أن أمرهم يظهر عند النبي صلى الله عليه وسلم . والوجه الآخر : أن يكون فسادهم عندهم
صلاحا وهم لا يشعرون أن ذلك فساد , وقد عصوا الله ورسوله في تركهم تبيين الحق
واتباعه { ولكن { حرف تأكيد واستدراك ولا بد فيه من نفي وإثبات , إن كان قبله نفي
كان بعده إيجاب , وإن كان قبله إيجاب كان بعده نفي . ولا يجوز الاقتصار بعده على اسم
واحد إذا تقدم الإيجاب , ولكنك تذكر جملة مضادة لما قبلها كما في هذه الآية , وقولك
: جاءني زيد لكن عمرو لم يجئ , ولا يجوز جاءني زيد لكن عمرو ثم تسكت ; لأنهم قد
استغنوا ببل في مثل هذا الموضع عن لكن , وإنما يجوز ذلك إذا تقدم النفي كقولك : ما
جاءني زيد لكن عمرو .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قوله تعالى : { وإذا قيل لهم }
يعني المنافقين في قول مقاتل وغيره .{ آمنوا كما آمن الناس { أي صدقوا بمحمد صلى
الله عليه وسلم وشرعه , كما صدق المهاجرون والمحققون من أهل يثرب . وألف { آمنوا }
ألف قطع ; لأنك تقول : يؤمن , والكاف في موضع نصب ; لأنها نعت لمصدر محذوف , أي
إيمانا كإيمان الناس . قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ
هُمُ السُّفَهَاءُ يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم , عن ابن عباس . وعنه أيضا :
مؤمنو أهل الكتاب . وهذا القول من المنافقين إنما كانوا يقولونه في خفاء واستهزاء
فأطلع الله نبيه والمؤمنين على ذلك , وقرر أن السفه ورقة الحلوم وفساد البصائر إنما
هي في حيزهم وصفة لهم , وأخبر أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون للرين الذي على
قلوبهم . وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت في شأن اليهود , أي وإذا
قيل لهم - يعني اليهود - آمنوا كما آمن الناس : عبد الله بن سلام وأصحابه , قالوا
أنؤمن كما آمن السفهاء يعني الجهال والخرقاء . وأصل السفه في كلام العرب : الخفة
والرقة , يقال : ثوب سفيه إذا كان رديء النسج خفيفه , أو كان باليا رقيقا . وتسفهت
الريح الشجر : مالت به , قال ذو الرمة : مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر
الرياح النواسم وتسفهت الشيء : استحقرته . والسفه : ضد الحلم . ويقال : إن السفه أن
يكثر الرجل شرب الماء فلا يروى . ويجوز في همزتي السفهاء أربعة أوجه , أجودها أن
تحقق الأولى وتقلب الثانية واوا خالصة , وهي قراءة أهل المدينة والمعروف من قراءة
أبي عمرو . وإن شئت خففتهما جميعا فجعلت الأولى بين الهمزة والواو وجعلت الثانية
واوا خالصة . وإن شئت خففت الأولى وحققت الثانية . وإن شئت حققتهما جميعا . وَلَكِنْ
لَا يَعْلَمُونَ مثل { ولكن لا يشعرون } , وقد تقدم . والعلم معرفة المعلوم على ما
هو به , تقول : علمت الشيء أعلمه علما عرفته , وعالمت الرجل فعلمته أعلمه ( بالضم
في المستقبل ) . غلبته بالعلم .
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا أنزلت هذه الآية في ذكر
المنافقين . أصل لقوا : لقيوا , نقلت الضمة إلى القاف وحذفت الياء لالتقاء الساكنين
. وقرأ محمد بن السميقع اليماني : { لاقوا الذين آمنوا } . والأصل لاقيوا , تحركت
الياء وقبلها فتحة انقلبت ألفا , اجتمع ساكنان الألف والواو فحذفت الألف لالتقاء
الساكنين ثم حركت الواو بالضم . وإن قيل : لم ضمت الواو في لاقوا في الإدراج وحذفت
من لقوا ؟ فالجواب : أن قبل الواو التي في لقوا ضمة فلو حركت الواو بالضم لثقل على
اللسان النطق بها فحذفت لثقلها , وحركت في لاقوا لأن قبلها فتحة . وَإِذَا خَلَوْا
إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إن قيل : لم وصلت { خلوا { بـ { إلى
{ وعرفها أن توصل بالباء ؟ قيل له : { خلوا { هنا بمعنى ذهبوا وانصرفوا , ومنه قول
الفرزدق : كيف تراني قالبا مجني أضرب أمري ظهره لبطن قد قتل الله زيادا عني لما
أنزله منزلة صرف . وقال قوم : { إلى { بمعنى مع , وفيه ضعف . وقال قوم : { إلى }
بمعنى الباء , وهذا يأباه الخليل وسيبويه . وقيل : المعنى وإذا خلوا من المؤمنين إلى
شياطينهم , فـ { إلى { على بابها . والشياطين جمع شيطان على التكسير , وقد تقدم
القول في اشتقاقه ومعناه في الاستعاذة . واختلف المفسرون في المراد بالشياطين هنا ,
فقال ابن عباس والسدي : هم رؤساء الكفر . وقال الكلبي : هم شياطين الجن . وقال جمع من
المفسرين : هم الكهان . ولفظ الشيطنة الذي معناه البعد عن الإيمان والخبر يعم جميع
من ذكر . والله أعلم . إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ أي مكذبون بما ندعى إليه . وقيل
: ساخرون . والهزء : السخرية واللعب , يقال : هزئ به واستهزأ , قال الراجز : قد هزئت
مني أم طيسله قالت أراه معدما لا مال له وقيل : أصل الاستهزاء : الانتقام , كما قال
الآخر : قد استهزءوا منهم بألفي مدجج سراتهم وسط الصحاصح جثم .
اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ أي ينتقم منهم ويعاقبهم , ويسخر بهم ويجازيهم على
استهزائهم , فسمى العقوبة باسم الذنب . هذا قول الجمهور من العلماء , والعرب تستعمل
ذلك كثيرا في كلامهم , من ذلك قول عمرو بن كلثوم : ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل
فوق جهل الجاهلينا فسمى انتصاره جهلا , والجهل لا يفتخر به ذو عقل , وإنما قاله
ليزدوج الكلام فيكون أخف على اللسان من المخالفة بينهما . وكانت العرب إذا وضعوا
لفظا بإزاء لفظ جوابا له وجزاء ذكروه بمثل لفظه , وإن كان مخالفا له في معناه ,
وعلى ذلك جاء القرآن والسنة . وقال الله عز وجل : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } [
الشورى : 40 ] . وقال : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } [
البقرة : 194 ] والجزاء لا يكون سيئة . والقصاص لا يكون اعتداء ; لأنه حق وجب ,
ومثله : { ومكروا ومكر الله } [ آل عمران : 54 ] . و { إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا
" [ الطارق : 15 - 16 ] . و { إنما نحن مستهزئون . الله يستهزئ بهم { وليس منه سبحانه
مكر ولا هزء إنما هو جزاء لمكرهم واستهزائهم وجزاء كيدهم , وكذلك { يخادعون الله
وهو خادعهم } [ النساء : 142 ] .{ فيسخرون منهم سخر الله منهم } [ التوبة : 79 ] . وقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا يمل حتى تملوا ولا يسأم حتى تسأموا )
. قيل : حتى بمعنى الواو أي وتملوا . وقيل المعنى وأنتم تملون . وقيل : المعنى لا يقطع
عنكم ثواب أعمالكم حتى تقطعوا العمل . وقال قوم : إن الله تعالى يفعل بهم أفعالا هي
في تأمل البشر هزء وخدع ومكر , حسب ما روي : ( إن النار تجمد كما تجمد الإهالة
فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم ) . وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في
قوله تعالى : { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا { هم منافقو أهل الكتاب , فذكرهم
وذكر استهزاءهم , وأنهم إذا خلوا إلى شياطينهم يعني رؤساءهم في الكفر - على ما تقدم
قالوا : إنا معكم على دينكم { إنما نحن مستهزئون { بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
.{ الله يستهزئ بهم { في الآخرة , يفتح لهم باب جهنم من الجنة , ثم يقال لهم :
تعالوا , فيقبلون يسبحون في النار , والمؤمنون على الأرائك - وهي السرر - في الحجال
ينظرون إليهم , فإذا انتهوا إلى الباب سد عنهم , فيضحك المؤمنون منهم , فذلك قول
الله عز وجل : { الله يستهزئ بهم { أي في الآخرة , ويضحك المؤمنون منهم حين غلقت
دونهم الأبواب , فذلك قوله تعالى : { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون . على
الأرائك ينظرون } [ المطففين : 34 - 35 ] إلى أهل النار { هل ثوب الكفار ما كانوا
يفعلون } [ المطففين : 36 ] . وقال قوم : الخداع من الله والاستهزاء هو استدراجهم
بدرور النعم الدنيوية عليهم , فالله سبحانه وتعالى يظهر لهم من الإحسان في الدنيا
خلاف ما يغيب عنهم , ويستر عنهم من عذاب الآخرة , فيظنون أنه راض عنهم , وهو تعالى
قد حتم عذابهم , فهذا على تأمل البشر كأنه استهزاء ومكر وخداع , ودل على هذا
التأويل قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا رأيتم الله عز وجل يعطي العبد ما يحب وهو
مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج ) . ثم نزع بهذه الآية : { فلما نسوا ما
ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم
مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } [ الأنعام : 44 - 45
] . وقال بعض العلماء في قوله تعالى : { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } : [ الأعراف :
182 ] كلما أحدثوا ذنبا أحدث لهم نعمة . وَيَمُدُّهُمْ أي يطيل لهم المدة ويمهلهم
ويملي لهم , كما قال : { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما } [ آل عمران : 178 ] وأصله
الزيادة . قال يونس بن حبيب : يقال مد لهم في الشر , وأمد في الخير , قال الله تعالى
: { وأمددناكم بأموال وبنين } .[ الإسراء : 6 ] . وقال : { وأمددناهم بفاكهة ولحم
مما يشتهون } [ الطور : 22 ] . وحكي عن الأخفش : مددت له إذا تركته , وأمددته إذا
أعطيته . وعن الفراء واللحياني : مددت , فيما كانت زيادته من مثله , يقال : مد النهر
النهر , وفي التنزيل : { والبحر يمده من بعده سبعة أبحر } [ لقمان : 27 ] . وأمددت ,
فيما كانت زيادته من غيره , كقولك : أمددت الجيش بمدد , ومنه : { يمددكم ربكم بخمسة
آلاف من الملائكة } .[ آل عمران : 125 ] . وأمد الجرح ; لأن المدة من غيره , أي صارت
فيه مدة . فِي طُغْيَانِهِمْ كفرهم وضلالهم . وأصل الطغيان مجاوزة الحد , ومنه قوله
تعالى : { إنا لما طغى الماء } [ الحاقة : 11 ] أي ارتفع وعلا وتجاوز المقدار الذي
قدرته الخزان . وقوله في فرعون : { إنه طغى } [ طه : 24 ] أي أسرف في الدعوى حيث قال
: { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] . والمعنى في الآية : يمدهم بطول العمر حتى
يزيدوا في الطغيان فيزيدهم في عذابهم . يَعْمَهُونَ يعمون . وقال مجاهد : أي يترددون
متحيرين في الكفر . وحكى أهل اللغة : عمه الرجل يعمه عموها وعمها فهو عمه وعامه إذا
حار , ويقال رجل عامه وعمه : حائر متردد , وجمعه عمه . وذهبت إبله العمهى إذا لم يدر
أين ذهبت . والعمى في العين , والعمه في القلب , وفي التنزيل : { فإنها لا تعمى
الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } [ الحج : 46; .
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى قال سيبويه : ضمت الواو في
{ اشتروا { فرقا بينها وبين الواو الأصلية , نحو : { وأن لو استقاموا على الطريقة }
.[ الجن : 16 ] . وقال ابن كيسان : الضمة في الواو أخف من غيرها لأنها من جنسها . وقال
الزجاج : حركت بالضم كما فعل في { نحن } . وقرأ ابن أبي إسحاق ويحيى بن يعمر بكسر
الواو على أصل التقاء الساكنين . وروى أبو زيد الأنصاري عن قعنب أبي السمال العدوي
أنه قرأ بفتح الواو لخفة الفتحة وإن كان ما قبلها مفتوحا . وأجاز الكسائي همز الواو
وضمها كأدؤر واشتروا : من الشراء . والشراء هنا مستعار . والمعنى استحبوا الكفر على
الإيمان , كما قال : { فاستحبوا العمى على الهدى } [ فصلت : 17 ] فعبر عنه بالشراء
; لأن الشراء إنما يكون فيما يحبه مشتريه . فأما أن يكون معنى شراء المعاوضة فلا ;
لأن المنافقين لم يكونوا مؤمنين فيبيعون إيمانهم . وقال ابن عباس : أخذوا الضلالة
وتركوا الهدى . ومعناه استبدلوا واختاروا الكفر على الإيمان . وإنما أخرجه بلفظ
الشراء توسعا ; لأن الشراء والتجارة راجعان إلى الاستبدال , والعرب تستعمل ذلك في
كل من استبدل شيئا بشيء . قال أبو ذؤيب : فإن تزعميني كنت أجهل فيكم فإني شريت الحلم
بعدك بالجهل وأصل الضلالة : الحيرة . ويسمى النسيان ضلالة لما فيه من الحيرة , قال
جل وعز : { فعلتها إذا وأنا من الضالين } [ الشعراء : 20 ] أي الناسين . ويسمى
الهلاك ضلالة , كما قال عز وجل : { وقالوا أإذا ضللنا في الأرض } [ السجدة : 10 ] .
فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ أسند تعالى الربح إلى التجارة على عادة العرب في
قولهم : ربح بيعك , وخسرت صفقتك , وقولهم : ليل قائم , ونهار صائم , والمعنى : ربحت
وخسرت في بيعك , وقمت في ليلك وصمت في نهارك , أي فما ربحوا في تجارتهم . وقال
الشاعر : نهارك هائم وليلك نائم كذلك في الدنيا تعيش البهائم ابن كيسان : ويجوز
تجارة وتجائر , وضلالة وضلائل . وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ في اشترائهم الضلالة . وقيل
: في سابق علم الله . والاهتداء ضد الضلال , وقد تقدم .
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فمثلهم رفع بالابتداء والخبر في
الكاف , فهي اسم , كما هي في قول الأعشى : أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب
فيه الزيت والفتل وقول امرئ القيس : ورحنا من الماء يجنب وسطنا ولاث فيه العين طورا
وترتقي أراد مثل الطعن , وبمثل ابن الماء . ويجوز أن يكون الخبر محذوفا , تقديره
مثلهم مستقر كمثل , فالكاف على هذا حرف . والمثل والمثل والمثيل واحد ومعناه الشبيه
. والمتماثلان : المتشابهان , هكذا قال أهل اللغة . قوله { الذي { يقع للواحد والجمع
. قال ابن الشجري هبة الله بن علي : ومن العرب من يأتي بالجمع بلفظ الواحد , كما قال
: وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد وقيل في قول الله تعالى
{ والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون } [ الزمر : 33 ] : إنه بهذه اللغة ,
وكذلك قوله : { مثلهم كمثل الذي { قيل : المعنى كمثل الذين استوقدوا , ولذلك قال :
{ ذهب الله بنورهم } , فحمل أول الكلام على الواحد , وآخره على الجمع . فأما قوله
تعالى : { وخضتم كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] فإن الذي ها هنا وصف لمصدر محذوف
تقديره وخضتم كالخوض الذي خاضوا . وقيل : إنما وحد { الذي { و } استوقد { لأن
المستوقد كان واحدا من جماعة تولى الإيقاد لهم , فلما ذهب الضوء رجع عليهم جميعا
فقال { بنورهم } . واستوقد بمعنى أوقد , مثل استجاب بمعنى أجاب , فالسين والتاء
زائدتان , قاله الأخفش , ومنه قول الشاعر : وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم
يستجبه عند ذاك مجيب أي يجبه . واختلف النحاة في جواب لما , وفي عود الضمير من }
نورهم } , فقيل : جواب لما محذوف وهو طفئت , والضمير في { نورهم { على هذا
للمنافقين , والإخبار بهذا عن حال تكون في الآخرة , كما قال تعالى : { فضرب بينهم
بسور له باب } [ الحديد : 13 ] . وقيل : جوابه { ذهب } , والضمير في { نورهم { عائد
على { الذي } , وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد ; لأن بقاء المستوقد في
ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده . والمعنى المراد بالآية ضرب مثل
للمنافقين , وذلك أن ما يظهرونه من الإيمان الذي تثبت لهم به أحكام المسلمين من
المنائح والتوارث والغنائم والأمن على أنفسهم وأولادهم وأموالهم بمثابة من أوقد
نارا في ليلة مظلمة فاستضاء بها ورأى ما ينبغي أن يتقيه وأمن منه , فإذا طفئت عنه
أو ذهبت وصل إليه الأذى وبقي متحيرا , فكذلك المنافقون لما آمنوا اغتروا بكلمة
الإسلام , ثم يصيرون بعد الموت إلى العذاب الأليم - كما أخبر التنزيل : { إن
المنافقين في الدرك الأسفل من النار } [ النساء : 145 ] - ويذهب نورهم , ولهذا
يقولون : { انظرونا نقتبس من نوركم } [ الحديد : 13 ] . وقيل : إن إقبال المنافقين
إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار , وانصرافهم عن مودتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها . وقيل
غير هذا . قوله : { نارا { النار مؤنثة وهي من النور وهو أيضا الإشراق . وهي من الواو
; لأنك تقول في التصغير : نويرة , وفي الجمع نور وأنوار ونيران , انقلبت الواو ياء
لكسر ما قبلها . وضاءت وأضاءت لغتان , يقال : ضاء القمر يضوء ضوءا وأضاء يضيء , يكون
لازما ومتعديا . وقرأ محمد بن السميقع : ضاءت بغير ألف , والعامة بالألف , قال
الشاعر : أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه فَلَمَّا
أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ { ما { زائدة مؤكدة . وقيل : مفعولة بـ أضاءت . و { حوله }
ظرف مكان , والهاء في موضع خفض بإضافته إليها . ذَهَبَ وأذهب لغتان من الذهاب , وهو
زوال الشيء . اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ أي أبقاهم . فِي ظُلُمَاتٍ جمع ظلمة
. وقرأ الأعمش : { ظلمات { بإسكان اللام على الأصل . ومن قرأها بالضم فللفرق بين
الاسم والنعت . وقرأ أشهب أتيته : { ظلمات { بفتح اللام . قال البصريون : أبدل من
الضمة فتحة لأنها أخف . وقال الكسائي : { ظلمات { جمع الجمع , جمع ظلم . لَا
يُبْصِرُونَ فعل مستقبل في موضع الحال , كأنه قال : غير مبصرين , فلا يجوز الوقف
على هذا على { ظلمات } .
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ { صم { أي هم صم , فهو خبر ابتداء مضمر . وفي قراءة عبد الله بن
مسعود وحفصة : صما بكما عميا , فيجوز النصب على الذم , كما قال تعالى : { ملعونين
أينما ثقفوا } [ الأحزاب : 61 ] , وكما قال : { وامرأته حمالة الحطب } [ المسد : 4
] , وكما قال الشاعر : سقوني الخمر ثم تكنفوني عداة الله من كذب وزور فنصب { عداة
الله { على الذم . فالوقف على { يبصرون { على هذا المذهب صواب حسن . ويجوز أن ينصب
صما بـ { تركهم } , كأنه قال : وتركهم صما بكما عميا , فعلى هذا المذهب لا يحسن
الوقف على { يبصرون } . والصمم في كلام العرب : الانسداد , يقال : قناة صماء إذا لم
تكن مجوفة . وصممت القارورة إذا سددتها . فالأصم : من انسدت خروق مسامعه . والأبكم :
الذي لا ينطق ولا يفهم , فإذا فهم فهو الأخرس . وقيل : الأخرس والأبكم واحد . ويقال :
رجل أبكم وبكيم , أي أخرس بين الخرس والبكم , قال : فليت لساني كان نصفين منهما
بكيم ونصف عند مجرى الكواكب والعمى : ذهاب البصر , وقد عمي فهو أعمى , وقوم عمي ,
وأعماه الله . وتعامى الرجل : أرى ذلك من نفسه . وعمي عليه الأمر إذا التبس , ومنه
قوله تعالى : { فعميت عليهم الأنباء يومئذ } [ القصص : 66 ] . وليس الغرض مما ذكرناه
نفي الإدراكات عن حواسهم جملة , وإنما الغرض نفيها من جهة ما , تقول : فلان أصم عن
الخنا . ولقد أحسن الشاعر حيث قال : أصم عما ساءه سميع وقال آخر : وعوراء الكلام
صممت عنها ولو أني أشاء بها سميع وقال الدارمي : أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يواري
جارتي الجدر وقال بعضهم في وصاته لرجل يكثر الدخول على الملوك : هفان إذا ما دخلت
أعمى واخرج إذا ما خرجت أخرس وقال قتادة : { صم { عن استماع الحق , { بكم { عن
التكلم به , { عمي { عن الإبصار له . قلت : وهذا المعنى هو المراد في وصف النبي صلى
الله عليه وسلم ولاة آخر الزمان في حديث جبريل ( وإذا رأيت الحفاة العراة الصم
البكم ملوك الأرض فذاك من أشراطها ) . والله أعلم . فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أي إلى
الحق لسابق علم الله تعالى فيهم . يقال : رجع بنفسه رجوعا , ورجعه غيره , وهذيل تقول
: أرجعه غيره . وقوله تعالى : { يرجع بعضهم إلى بعض القول } [ سبأ : 31 ] أي
يتلاومون فيما بينهم , حسب ما بينه التنزيل في سورة { سبأ } .
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ قال الطبري : { أو { بمعنى الواو , وقاله الفراء . وأنشد
: وقد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها وقال آخر : نال الخلافة أو
كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر أي وكانت . وقيل : { أو { للتخيير أي مثلوهم
بهذا أو بهذا , لا على الاقتصار على أحد الأمرين , والمعنى أو كأصحاب صيب . والصيب :
المطر . واشتقاقه من صاب يصوب إذا نزل , قال علقمة : فلا تعدلي بيني وبين مغمر سقتك
روايا المزن حيث تصوب وأصله : صيوب , اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون
فقلبت الواو ياء وأدغمت , كما فعلوا في ميت وسيد وهين ولين . وقال بعض الكوفيين :
أصله صويب على مثال فعيل . قال النحاس : { لو كان كما قالوا لما جاز إدغامه , كما لا
يجوز إدغام طويل . وجمع صيب صيايب . والتقدير في العربية : مثلهم كمثل الذي استوقد
نارا أو كمثل صيب } . قوله تعالى : { من السماء { السماء تذكر وتؤنث , وتجمع على
أسمية وسموات وسمي , على فعول , قال العجاج : تلفه الرياح والسمي والسماء : كل ما
علاك فأظلك , ومنه قيل لسقف البيت : سماء . والسماء : المطر , سمي به لنزوله من
السماء . قال حسان بن ثابت : ديار من بني الحسحاس قفر تعفيها الروامس والسماء وقال
آخر : إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا ويسمى الطين والكلأ أيضا
سماء , يقال : ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم . يريدون الكلأ والطين . ويقال لظهر
الفرس أيضا سماء لعلوه , قال : وأحمر كالديباج أما سماؤه فريا وأما أرضه فمحول
والسماء : ما علا . والأرض : ما سفل , على ما تقدم . فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ
وَبَرْقٌ قوله تعالى : { فيه ظلمات { ابتداء وخبر { ورعد وبرق { معطوف عليه . وقال
ظلمات بالجمع إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة الدجن , وهو الغيم , ومن حيث تتراكب
وتتزايد جمعت . وقد مضى ما فيه من اللغات فلا معنى للإعادة , وكذا كل ما تقدم إن شاء
الله تعالى . واختلف العلماء في الرعد , ففي الترمذي عن ابن عباس قال : سألت اليهود
النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو ؟ قال : ( ملك من الملائكة موكل بالسحاب
معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله ) . فقالوا : فما هذا الصوت الذي
نسمع ؟ قال : ( زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر الله ) قالوا : صدقت . الحديث
بطوله . وعلى هذا التفسير أكثر العلماء . فالرعد : اسم الصوت المسموع , وقاله علي رضي
الله عنه , وهو المعلوم في لغة العرب , وقد قال لبيد في جاهليته : فجعني الرعد
والصواعق بال فارس يوم الكريهة النجد وروي عن ابن عباس أنه قال : الرعد ريح تختنق
بين السحاب فتصوت ذلك الصوت . واختلفوا في البرق , فروي عن علي وابن مسعود وابن عباس
رضوان الله عليهم : البرق مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب . قلت : وهو الظاهر
من حديث الترمذي . وعن ابن عباس أيضا هو سوط من نور بيد الملك يزجر به السحاب . وعنه
أيضا البرق ملك يتراءى . وقالت الفلاسفة : الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب . والبرق ما
ينقدح من اصطكاكها . وهذا مردود لا يصح به نقل , والله أعلم . ويقال : أصل الرعد من
الحركة , ومنه الرعديد للجبان . وارتعد : اضطرب , ومنه الحديث : ( فجيء بهما ترعد
فرائصهما ) الحديث . أخرجه أبو داود . والبرق أصله من البريق والضوء , ومنه البراق :
دابة ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وركبها الأنبياء عليهم
السلام قبله . ورعدت السماء من الرعد , وبرقت من البرق . ورعدت المرأة وبرقت : تحسنت
وتزينت . ورعد الرجل وبرق : تهدد وأوعد , قال ابن أحمر : يا جل ما بعدت عليك بلادنا
وطلابنا فابرق بأرضك وارعد وأرعد القوم وأبرقوا : أصابهم رعد وبرق . وحكى أبو عبيدة
وأبو عمرو : أرعدت السماء وأبرقت , وأرعد الرجل وأبرق إذا تهدد وأوعد , وأنكره
الأصمعي . واحتج عليه بقول الكميت : أبرق وأرعد يا يزيـ د فما وعيدك لي بضائر فقال :
ليس الكميت بحجة . فائدة : روى ابن عباس قال : كنا مع عمر بن الخطاب في سفرة بين
المدينة والشام ومعنا كعب الأحبار , قال : فأصابتنا ريح وأصابنا رعد ومطر شديد وبرد
, وفرق الناس . قال فقال لي كعب : إنه من قال حين يسمع الرعد : سبحان من يسبح الرعد
بحمده والملائكة من خيفته , عوفي مما يكون في ذلك السحاب والبرد والصواعق . قال :
فقلتها أنا وكعب , فلما أصبحنا واجتمع الناس قلت لعمر : يا أمير المؤمنين , كأنا
كنا في غير ما كان فيه الناس قال : وما ذاك ؟ قال : فحدثته حديث كعب . قال : سبحان
الله أفلا قلتم لنا فنقول كما قلتم في رواية فإذا بردة قد أصابت أنف عمر فأثرت به . وستأتي
هذه الرواية في سورة { الرعد { إن شاء الله . ذكر الروايتين أبو بكر بن علي بن ثابت
الخطيب في روايات الصحابة عن التابعين رحمة الله عليهم أجمعين . وعن ابن عمر أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الرعد والصواعق قال : ( اللهم لا تقتلنا
بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك ) . يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي
آذَانِهِمْ جعلهم أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن فيؤمنوا به وبمحمد عليه
السلام , وذلك عندهم كفر والكفر موت . وفي واحد الأصابع خمس لغات : إصبع بكسر الهمزة
وفتح الباء , وأصبع بفتح الهمزة وكسر الباء , ويقال بفتحهما جميعا , وضمهما جميعا ,
وبكسرهما جميعا , /و هي مؤنثة . وكذلك الأذن وتخفف وتثقل وتصغر , فيقال : أذينة . ولو
سميت بها رجلا ثم صغرته قلت : أذين , فلم تؤنث لزوال التأنيث عنه بالنقل إلى المذكر
فأما قولهم : أذينة في الاسم العلم فإنما سمي به مصغرا , والجمع آذان . وتقول :
أذنته إذا ضربت أذنه . ورجل أذن : إذا كان يسمع كلام كل أحد , يستوي فيه الواحد
والجمع . وأذاني : عظيم الأذنين . ونعجة أذناء , وكبش آذن . وأذنت النعل وغيرها تأذينا
: إذا جعلت لها أذنا . وأذنت الصبي : عركت أذنه . مِنَ الصَّوَاعِقِ أي من أجل
الصواعق . والصواعق جمع صاعقة . قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : إذا اشتد غضب الرعد
الذي هو الملك طار النار من فيه وهي الصواعق . وكذا قال الخليل , قال : هي الواقعة
الشديدة من صوت الرعد , يكون معها أحيانا قطعة نار تحرق ما أتت عليه . وقال أبو زيد
: الصاعقة نار تسقط من السماء في رعد شديد . وحكى الخليل عن قوم : الساعقة ( بالسين
) . وقال أبو بكر النقاش : يقال صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد . وقرأ الحسن : من }
الصواقع } ( بتقديم القاف ) , ومنه قول أبي النجم : يحكون بالمصقولة القواطع تشقق
البرق عن الصواقع قال النحاس : وهي لغة تميم وبعض بني ربيعة . ويقال : صعقتهم السماء
إذا ألقت عليهم . الصاعقة . والصاعقة أيضا صيحة العذاب , قال الله عز وجل : { فأخذتهم
صاعقة العذاب الهون } [ فصلت : 17 ] ويقال : صعق الرجل صعقة وتصعاقا , أي غشي عليه
, ومنه قوله تعالى : { وخر موسى صعقا } [ الأعراف : 143 ] فأصعقه غيره . قال ابن
مقبل : ترى النعرات الزرق تحت لبانه أحاد ومثنى أصعقتها صواهله وقوله تعالى : "
فصعق من في السموات ومن في الأرض } [ الزمر : 68 ] أي مات . وشبه الله تعالى في هذه
الآية أحوال المنافقين بما في الصيب من الظلمات والرعد والبرق والصواعق . فالظلمات
مثل لما يعتقدونه من الكفر , والرعد والبرق مثل لما يخوفون به . وقيل : مثل الله
تعالى القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال عليهم , والعمى هو الظلمات , وما فيه من
الوعيد والزجر هو الرعد , وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أحيانا أن
تبهرهم هو البرق . والصواعق , مثل لما في القرآن من الدعاء إلى القتال في العاجل
والوعيد في الآجل . وقيل : الصواعق تكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة
وغيرهما . حَذَرَ الْمَوْتِ حذر وحذار بمعنى , وقرئ بهما . قال سيبويه : هو منصوب ,
لأنه موقوع له أي مفعول من أجله , وحقيقته أنه مصدر , وأنشد سيبويه : وأغفر عوراء
الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما وقال الفراء : هو منصوب على التمييز ,
والموت : ضد الحياة . وقد مات يموت , ويمات أيضا , قال الراجز : بنيتي سيدة البنات
عيشي ولا يؤمن أن تماتي فهو ميت وميت , وقوم موتى وأموات وميتون وميتون . والموات (
بالضم ) : الموت . والموات ( بالفتح ) : ما لا روح فيه . والموات أيضا : الأرض التي
لا مالك لها من الآدميين ولا ينتفع بها أحد . والموتان ( بالتحريك ) : خلاف الحيوان
, يقال : اشتر الموتان , ولا تشتر الحيوان , أي اشتر الأرضين والدور , ولا تشتر
الرقيق والدواب . والموتان ( بالضم ) : موت يقع في الماشية , يقال : وقع في المال
موتان . وأماته الله وموته , شدد للمبالغة . وقال : فعروة مات موتا مستريحا فهأنذا
أموت كل يوم وأماتت الناقة إذا مات ولدها , فهي مميت ومميتة . قال أبو عبيد : وكذلك
المرأة , وجمعها مماويت . قال ابن السكيت : أمات فلان إذا مات له ابن أو بنون . والمتماوت
من صفة الناسك المرائي وموت مائت , كقولك : ليل لائل , يؤخذ من لفظه ما يؤكد به . والمستميت
للأمر : المسترسل له , قال رؤبة : وزبد البحر له كتيت والليل فوق الماء مستميت
المستميت أيضا : المستقتل الذي لا يبالي في الحرب من الموت , وفي الحديث : ( أرى
القوم مستميتين ) وهم الذين يقاتلون على الموت . والموتة ( بالضم ) : جنس من الجنون
والصرع يعتري الإنسان , فإذا أفاق عاد إليه كمال عقله كالنائم والسكران . ومؤتة (
بضم الميم وهمز الواو ) : اسم أرض قتل بها جعفر بن أبي طالب عليه السلام . وَاللهُ
مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ابتداء وخبر , أي لا يفوتونه . يقال : أحاط السلطان بفلان
إذا أخذه أخذا حاصرا من كل جهة , قال الشاعر : أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا بما قد
رأوا مالوا جميعا إلى السلم ومنه قوله تعالى : { وأحيط بثمره } [ الكهف : 42 ] . وأصله
محيط , نقلت حركة الياء إلى الحاء فسكنت . فالله سبحانه محيط بجميع المخلوقات , أي
هي في قبضته وتحت قهره , كما قال : { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة } [ الزمر :
67 ] . وقيل : { محيط بالكافرين { أي عالم بهم . دليله : { وأن الله قد أحاط بكل شيء
علما } [ الطلاق : 12 ] . وقيل : مهلكهم وجامعهم . دليله قوله تعالى : { إلا أن يحاط
بكم } [ يوسف : 66 ] أي إلا أن تهلكوا جميعا . وخص الكافرين بالذكر لتقدم ذكرهم في
الآية . والله أعلم .
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ { يكاد { معناه يقارب , يقال : كاد يفعل
كذا إذا قارب ولم يفعل . ويجوز في غير القرآن : يكاد أن يفعل , كما قال رؤبة : قد
كاد من طول البلى أن يمصحا مشتق من المصح وهو الدرس . والأجود أن تكون بغير { أن } ;
لأنها لمقاربة الحال , و { أن { تصرف الكلام إلى الاستقبال , وهذا متناف , قال الله
عز وجل : { يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار } [ النور : 43 ] . ومن كلام العرب : كاد
النعام يطير , وكاد العروس يكون أميرا , لقربهما من تلك الحال . وكاد فعل متصرف على
فعل يفعل . وقد جاء خبره بالاسم وهو قليل , قال : تأبط شرا فأبت إلى فهم وما كدت
آئبا وكم مثلها فارقتها وهي تصفر . ويجري مجرى كاد كرب وجعل وقارب وطفق , في كون
خبرها بغير { أن } , قال الله عز وجل : { وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } [الأعراف
: 22 ] لأنها كلها بمعنى الحال والمقاربة , والحال لا يكون معها { أن } , فاعلم . قوله
تعالى : { يخطف أبصارهم { الخطف : الأخذ بسرعة , ومنه سمي الطير خطافا لسرعته . فمن
جعل القرآن مثلا للتخويف فالمعنى أن خوفهم مما ينزل بهم يكاد يذهب أبصارهم . ومن
جعله مثلا للبيان الذي في القرآن فالمعنى أنهم جاءهم من البيان ما بهرهم . ويخطف
ويخطف لغتان قرئ بهما . وقد خطفه ( بالكسر ) يخطفه خطفا , وهي اللغة الجيدة , واللغة
الأخرى حكاها الأخفش : خطف يخطف . الجوهري : وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف . وقد قرأ
بها يونس في قوله تعالى { يكاد البرق يخطفأبصارهم { وقال النحاس : في { يخطف { سبعة
أوجه , القراءة الفصيحة : يخطف . وقرأ علي بن الحسين ويحيى بن وثاب : يخطف بكسر
الطاء , قال سعيد الأخفش : هي لغة . وقرأ الحسن وقتادة وعاصم الجحدري وأبو رجاء
العطاردي بفتح الياء وكسر الخاء والطاء . وروي عن الحسن أيضا أنه قرأ بفتح الخاء . قال
الفراء : وقرأ بعض أهل المدينة بإسكان الخاء وتشديد الطاء . قال الكسائي والأخفش
والفراء : يجوز { يخطف { بكسر الياء والخاء والطاء . فهذه ستة أوجه موافقة للخط . والسابعة
حكاها عبد الوارث قال : رأيت في مصحف أبي بن كعب { يتخطف } , وزعم سيبويه والكسائي
أن من قرأ { يخطف { بكسر الخاء والطاء فالأصل عنده يختطف , ثم أدغم التاء في الطاء
فالتقى ساكنان فكسرت الخاء لالتقاء الساكنين . قال سيبويه : ومن فتح الخاء ألقى حركة
التاء عليها . وقال الكسائي : ومن كسر الياء فلأن الألف في اختطف مكسورة . فأما ما
حكاه الفراء عن أهل المدينة من إسكان الخاء والإدغام فلا يعرف ولا يجوز , لأنه جمع
بين ساكنين . قال النحاس وغيره . قلت : وروي عن الحسن أيضا وأبي رجاء { يخطف } . قال
ابن مجاهد : وأظنه غلطا , واستدل على ذلك بأن { خطف الخطفة { لم يقرأه أحد بالفتح
.{ أبصارهم { جمع بصر , وهي حاسة الرؤية . والمعنى : تكاد حجج القرآن وبراهينه
الساطعة تبهرهم . ومن جعل { البرق { مثلا للتخويف فالمعنى أن خوفهم مما ينزل بهم
يكاد يذهب أبصارهم . كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ
عَلَيْهِمْ قَامُوا { كلما { منصوب لأنه ظرف . وإذا كان { كلما { بمعنى { إذا { فهي
موصولة والعامل فيه { مشوا { وهو جوابه , ولا يعمل فيه { أضاء } ; لأنه في صلة ما . والمفعول
في قول المبرد محذوف , التقدير عنده : كلما أضاء لهم البرق الطريق . وقيل : يجوز أن
يكون فعل وأفعل بمعنى , كسكت وأسكت , فيكون أضاء وضاء سواء فلا يحتاج إلى تقدير حذف
مفعول . قال الفراء : يقال ضاء وأضاء , وقد تقدم . والمعنى أنهم كلما سمعوا القرآن
وظهرت لهم الحجج أنسوا ومشوا معه , فإذا نزل من القرآن ما يعمون فيه ويضلون به أو
يكلفونه { قاموا { أي ثبتوا على نفاقهم , عن ابن عباس . وقيل : المعنى كلما صلحت
أحوالهم في زروعهم ومواشيهم وتوالت النعم قالوا : دين محمد دين مبارك , وإذا نزلت
بهم مصيبة وأصابتهم شدة سخطوا وثبتوا في نفاقهم , عن ابن مسعود وقتادة . قال النحاس
: وهذا قول حسن , ويدل على صحته : { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير
اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه } [ الحج : 11 ] وقال علماء الصوفية : هذا
مثل ضربه الله تعالى لمن لم تصح له أحوال الإرادة بدءا , فارتقى من تلك الأحوال
بالدعاوى إلى أحوال الأكابر , كأن تضيء عليه أحوال الإرادة لو صححها بملازمة آدابها
, فلما مزجها بالدعاوى أذهب الله عنه تلك الأنوار وبقي في ظلمات دعاويه لا يبصر
طريق الخروج منها . وروي عن ابن عباس أن المراد اليهود , لما نصر النبي صلى الله
عليه وسلم ببدر طمعوا وقالوا : هذا والله النبي الذي بشرنا به موسى لا ترد له راية
, فلما نكب بأحد ارتدوا وشكوا , وهذا ضعيف . والآية في المنافقين , وهذا أصح عن ابن
عباس , والمعنى يتناول الجميع . وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ
وَأَبْصَارِهِمْ { لو { حرف تمن وفيه معنى الجزاء , وجوابه اللام . والمعنى : ولو
شاء الله لأطلع المؤمنين عليهم فذهب منهم عز الإسلام بالاستيلاء عليهم وقتلهم
وإخراجهم من بينهم . وخص السمع والبصر لتقدم ذكرهما في الآية أولا , أو لأنهما أشرف
ما في الإنسان . وقرئ { بأسماعهم { على الجمع , وقد تقدم الكلام في هذا . إِنَّ
اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عموم , ومعناه عند المتكلمين فيما يجوز وصفه
تعالى بالقدرة عليه . وأجمعت الأمة على تسمية الله تعالى بالقدير , فهو سبحانه قدير
قادر مقتدر . والقدير أبلغ في الوصف من القادر , قاله الزجاجي . وقال الهروي :
والقدير والقادر بمعنى واحد , يقال : قدرت على الشيء أقدر قدرا وقدرا ومقدرة ومقدرة
وقدرانا , أي قدرة . والاقتدار على الشيء : القدرة عليه . فالله جل وعز قادر مقتدر
قدير على كل ممكن يقبل الوجود والعدم . فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الله تعالى قادر
, له قدرة بها فعل ويفعل ما يشاء على وفق علمه واختياره . ويجب عليه أيضا أن يعلم أن
للعبد قدرة يكتسب بها ما أقدره الله تعالى عليه على مجرى العادة , وأنه غير مستبد
بقدرته . وإنما خص هنا تعالى صفته التي هي القدرة بالذكر دون غيرها ; لأنه تقدم ذكر
فعل مضمنه الوعيد والإخافة , فكان ذكر القدرة مناسبا لذلك . والله أعلم . فهذه عشرون
آية على عدد الكوفيين , أربع آيات في وصف المؤمنين , ثم تليها آيتان في ذكر
الكافرين , وبقيتها في المنافقين . وقد تقدمت الرواية فيها عن ابن جريج , وقاله
مجاهد أيضا .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا قال علقمة ومجاهد : كل آية أولها { يا أيها الناس
{ فإنما نزلت بمكة , وكل آية أولها { يأيها الذين آمنوا { فإنما نزلت بالمدينة . قلت
: وهذا يرده أن هذه السورة والنساء مدنيتان وفيهما يا أيها الناس . وأما قولهما في }
يا أيها الذين آمنوا } [ النساء : 19 ] الآية فصحيح . وقال عروة بن الزبير : ما كان
من حد أو فريضة فإنه نزل بالمدينة , وما كان من ذكر الأمم والعذاب فإنه نزل بمكة . وهذا
واضح . و { يا { في قوله : { يا أيها { حرف نداء { أي { منادى مفرد مبني على الضم ;
لأنه منادى في اللفظ , و { ها { للتنبيه .{ الناس { مرفوع صفة لأي عند جماعة
النحويين , ما عدا المازني فإنه أجاز النصب قياسا على جوازه في . يا هذا الرجل . وقيل
: ضمت { أي { كما ضم المقصود المفرد , وجاءوا بـ { ها { عوضا عن ياء أخرى , وإنما
لم يأتوا بياء لئلا ينقطع الكلام فجاءوا بـ { ها { حتى يبقى الكلام متصلا . قال
سيبويه : كأنك كررت { يا { مرتين وصار الاسم بينهما , كما قالوا : ها هو ذا . وقيل
لما تعذر عليهم الجمع بين حرفي تعريف أتوا في الصورة بمنادى مجرد عن حرف تعريف ,
وأجروا عليه المعرف باللام المقصود بالنداء , والتزموا رفعه ; لأنه المقصود بالنداء
, فجعلوا إعرابه بالحركة التي كان يستحقها لو باشرها النداء تنبيها على أنه المنادى
, فاعلمه . واختلف من المراد بالناس هنا على قولين : أحدهما : الكفار الذين لم
يعبدوه , يدل عليه قوله { وإن كنتم في ريب } [ البقرة : 23 ] الثاني : أنه عام في
جميع الناس , فيكون خطابه للمؤمنين باستدامة العبادة , وللكافرين بابتدائها . وهذا
حسن . قوله تعالى : { اعبدوا { أمر بالعبادة له . والعبادة هنا عبارة عن توحيده
والتزام شرائع دينه . وأصل العبادة الخضوع والتذلل , يقال : طريق معبدة إذا كانت
موطوءة بالأقدام . قال طرفة : وظيفا وظيفا فوق مور معبد والعبادة : الطاعة . والتعبد
: التنسك . وعبدت فلانا : اتخذته عبدا . رَبَّكُمُ الَّذِي خص تعالى خلقه لهم من بين
سائر صفاته إذ كانت العرب مقرة بأن الله خلقها , فذكر ذلك حجة عليهم وتقريعا لهم . وقيل
: ليذكرهم بذلك نعمته عليهم . وفي أصل الخلق وجهان : أحدهما : التقدير , يقال : خلقت
الأديم للسقاء إذا قدرته قبل القطع , قال الشاعر : ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم
يخلق ثم لا يفري وقال الحجاج : ما خلقت إلا فريت , ولا وعدت إلا وفيت . الثاني :
الإنشاء والاختراع والإبداع , قال الله تعالى : { وتخلقون إفكا } [ العنكبوت : 17 ]
. خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ فيقال إذا ثبت عندهم خلقهم ثبت عندهم خلق غيرهم ,
فالجواب : أنه إنما يجري الكلام على التنبيه والتذكير ليكون أبلغ في العظة , فذكرهم
من قبلهم ليعلموا أن الذي أمات من قبلهم , وهو خلقهم يميتهم , وليفكروا فيمن مضى
قبلهم كيف كانوا , وعلى أي الأمور مضوا من إهلاك من أهلك , وليعلموا أنهم يبتلون
كما ابتلوا . والله أعلم . قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ { لعل { متصلة بـ اعبدوا لا بـ
خلقكم ; لأن من ذرأه الله لجهنم لم يخلقه ليتقي . وهذا وما كان مثله فيما ورد في
كلام الله تعالى من قوله : { لعلكم تعقلون , لعلكم تشكرون , لعلكم تذكرون , لعلكم
تهتدون { فيه ثلاث تأويلات . الأول : أن { لعل { على بابها من الترجي والتوقع ,
والترجي والتوقع إنما هو في حيز البشر , فكأنه قيل لهم : افعلوا ذلك على الرجاء
منكم والطمع أن تعقلوا وأن تذكروا وأن تتقوا . هذا قول سيبويه ورؤساء اللسان قال
سيبويه في قوله عز وجل : { اذهبا إلى فرعون إنه طغى . فقولا له قولا لينا لعله يتذكر
أو يخشى } [ طه : 43 - 44 ] قال معناه : اذهبا على طمعكما ورجائكما أن يتذكر أو
يخشى . واختار هذا القول أبو المعالي . الثاني : أن العرب استعملت { لعل { مجردة من
الشك بمعنى لام كي . فالمعنى لتعقلوا ولتذكروا ولتتقوا , وعلى ذلك يدل قول الشاعر :
وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق فلما كففنا الحرب كانت عهودكم
كلمع سراب في الملا متألق المعنى : كفوا الحروب لنكف , ولو كانت { لعل { هنا شكا لم
يوثقوا لهم كل موثق , وهذا القول عن قطرب والطبري . الثالث : أن تكون { لعل { بمعنى
التعرض للشيء , كأنه قيل : افعلوا ذلك متعرضين لأن تعقلوا , أو لأن تذكروا أو لأن
تتقوا . والمعنى في قوله { لعلكم تتقون { أي لعلكم أن تجعلوا بقبول ما أمركم الله به
وقاية بينكم وبين النار . وهذا من قول العرب : اتقاه بحقه إذا استقبله به , فكأنه
جعل دفعه حقه إليه وقاية له من المطالبة , ومنه قول علي رضي الله عنه : كنا إذا
احمر البأس اتقينا بالنبي صلى الله عليه وسلم , أي جعلناه وقاية لنا من العدو . وقال
عنترة : ولقد كررت المهر يدمى نحره حتى اتقتني الخيل بابني حذيم .