اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ قال عبد الله بن مسعود : الكهف ومريم وطه
والأنبياء من العتاق الأول , وهن من تلادي يريد من قديم ما كسب وحفظ من القرآن
كالمال التلاد . وروي أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبني جدارا
فمر به آخر في يوم نزول هذه السورة , فقال الذي كان يبني الجدار : ماذا نزل اليوم
من القرآن ؟ فقال الآخر : نزل }{ اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون }{ فنفض يده
من البنيان , وقال : والله لا بنيت أبدا وقد اقترب الحساب }{ اقترب }{ أي قرب الوقت
الذي يحاسبون فيه على أعمالهم . { للناس }{ قال ابن عباس : المراد بالناس هنا
المشركون بدليل قوله تعالى : { إلا استمعوه وهم يلعبون }{ إلى قوله : { أفتأتون
السحر وأنتم تبصرون } . وقيل : الناس عموم وإن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار
قريش ; يدل على ذلك ما بعد من الآيات ; ومن علم اقتراب الساعة قصر أمله , وطابت
نفسه بالتوبة , ولم يركن إلى الدنيا , فكأن ما كان لم يكن إذا ذهب , وكل آت قريب ,
والموت لا محالة آت ; وموت كل إنسان قيام ساعته ; والقيامة أيضا قريبة بالإضافة إلى
ما مضى من الزمان , فما بقي من الدنيا أقل مما مضى . وقال الضحاك : معنى }{ اقترب
للناس حسابهم }{ أي عذابهم يعني أهل مكة ; لأنهم استبطئوا ما وعدوا به من العذاب
تكذيبا , وكان قتلهم يوم بدر . النحاس : ولا يجوز في الكلام اقترب حسابهم للناس ;
لئلا يتقدم مضمر على مظهر لا يجوز أن ينوي به التأخير . وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ
مُعْرِضُونَ ابتداء وخبر . ويجوز النصب في غير القرآن على الحال . وفيه وجهان :
أحدهما : { وهم في غفلة معرضون }{ يعني بالدنيا عن الآخرة . الثاني : عن التأهب
للحساب وعما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وهذا الواو عند سيبويه بمعنى }{ إذ }
وهي التي يسميها النحويون واو الحال ; كما قال الله تبارك وتعالى : { يغشى طائفة
منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم } [ آل عمران : 154 ] .
قوله تعالى : { محدث }{ نعت ل }{ ذكر } . وأجاز الكسائي والفراء }{ محدثا }{ بمعنى ما
يأتيهم محدثا ; نصب على الحال . وأجاز الفراء أيضا رفع }{ محدث }{ على النعت للذكر ;
لأنك لو حذفت }{ من }{ رفعت ذكرا ; أي ما يأتيهم ذكر من ربهم محدث ; يريد في النزول
وتلاوة جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم , فإنه كان ينزل سورة بعد سورة , وآية
بعد آية , كما كان ينزله الله تعالى عليه في وقت بعد وقت ; لا أن القرآن مخلوق
. وقيل : الذكر ما يذكرهم به النبي صلى الله عليه وسلم ويعظهم به . وقال : { من ربهم
{ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق إلا بالوحي , فوعظ النبي صلى الله عليه
وسلم وتحذيره ذكر , وهو محدث ; قال الله تعالى : { فذكر إنما أنت مذكر } [ الغاشية
: 21 ] . ويقال : فلان في مجلس الذكر . وقيل : الذكر الرسول نفسه ; قاله الحسين بن
الفضل بدليل ما في سياق الآية }{ هل هذا إلا بشر مثلكم } [ الأنبياء : 3 ] ولو أراد
بالذكر القرآن لقال : هل هذا إلا أساطير الأولين ; ودليل هذا التأويل قوله تعالى :
{ ويقولون إنه لمجنون . وما هو إلا ذكر للعالمين } [ القلم : 51 - 52 ] يعني محمدا
صلى الله عليه وسلم . وقال : { قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا } [ الطلاق : 10 - 11
] .{ إلا استمعوه }{ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم , أو القرآن من النبي صلى الله
عليه وسلم أو من أمته .{ وهم يلعبون }{ الواو واو الحال يدل عليه }{ لاهية قلوبهم }
ومعنى }{ يلعبون }{ أي يلهون . وقيل : يشتغلون ; فإن حمل تأويله على اللهو احتمل ما
يلهون به وجهين : أحدهما : بلذاتهم . الثاني : بسماع ما يتلى عليهم . وإن حمل تأويله
على الشغل احتمل ما يتشاغلون به وجهين : أحدهما : بالدنيا لأنها لعب ; كما قال الله
تعالى : { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } [ محمد : 36 ] . الثاني : يتشاغلون بالقدح
فيه , والاعتراض عليه . قال الحسن : كلما جدد لهم الذكر استمروا على الجهل . وقيل :
يستمعون القرآن مستهزئين .
لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ أي ساهية قلوبهم , معرضة عن ذكر الله , متشاغلة عن التأمل
والتفهم ; من قول العرب : لهيت عن ذكر الشيء إذا تركته وسلوت عنه ألهى لهيا ولهيانا
. و }{ لاهية }{ نعت تقدم الاسم , ومن حق النعت أن يتبع المنعوت في جميع الإعراب ,
فإذا تقدم النعت الاسم انتصب كقوله : { خاشعة أبصارهم } [ القلم : 43 ] و }{ ودانية
عليهم ظلالها } [ الإنسان : 14 ] و }{ لاهية قلوبهم }{ قال الشاعر : لعزة موحشا طلل
يلوح كأنه خلل أراد : طلل موحش . وأجاز الكسائي والفراء }{ لاهية قلوبهم }{ بالرفع
بمعنى قلوبهم لاهية . وأجاز غيرهما الرفع على أن يكون خبرا بعد خبر وعلى إضمار مبتدأ
. وقال الكسائي : ويجوز أن يكون المعنى ; إلا استمعوه لاهية قلوبهم . وَأَسَرُّوا
النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي تناجوا فيما بينهم بالتكذيب , ثم بين من هم فقال
: { الذين ظلموا }{ أي الذي أشركوا ; ف }{ الذين ظلموا }{ بدل من الواو في }{ أسروا }
وهو عائد على الناس المتقدم ذكرهم ; ولا يوقف على هذا القول على }{ النجوى } . قال
المبرد وهو كقولك : إن الذين في الدار انطلقوا بنو عبد الله فبنو بدل من الواو في
انطلقوا . وقيل : هو رفع على الذم , أي هم الذين ظلموا . وقيل : على حذف القول ;
التقدير : يقول الذين ظلموا وحذف القول ; مثل }{ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب
سلام عليكم } [ الرعد : 23 - 24 ] . واختار هذا القول النحاس ; قال : والدليل على
صحة هذا الجواب أن بعده }{ هل هذا إلا بشر مثلكم } [ الأنبياء : 3 ] . وقول رابع :
يكون منصوبا بمعنى أعني الذين ظلموا . وأجاز الفراء أن يكون خفضا بمعنى اقترب للناس
الذين ظلموا حسابهم ; ولا يوقف على هذا الوجه على }{ النجوى }{ ويوقف على الوجه
المتقدمة الثلاثة قبله ; فهذه خمسة أقوال . وأجاز الأخفش الرفع على لغة من قال :
أكلوني البراغيث ; وهو حسن ; قال الله تعالى : { ثم عموا وصموا كثير منهم } [
المائدة : 71 ] . وقال الشاعر : بل نال النضال دون المساعي فاهتدين النبال للأغراض
وقال آخر : ولكن ديافي أبوه وأمه بحوران يعصرن السليط أقاربه وقال الكسائي : فيه
تقديم وتأخير ; مجازه : والذين ظلموا أسروا النجوى أبو عبيدة : { أسروا }{ هنا من
الأضداد ; فيحتمل أن يكونوا أخفوا كلامهم , ويحتمل أن يكونوا أظهروه وأعلنوه . هَلْ
هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي تناجوا بينهم وقالوا : هل هذا الذكر الذي هو
الرسول , أو هل هذا الذي يدعوكم إلا بشر مثلكم , لا يتميز عنكم بشيء , يأكل الطعام
, ويمشي في الأسواق كما تفعلون . وما علموا أن الله عز وجل أنه لا يجوز أن يرسل
إليهم إلا بشرا ليتفهموا ويعلمهم . أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ أي إن الذي جاء به محمد
صلى الله عليه وسلم سحر , فكيف تجيئون إليه وتتبعونه ؟ فأطلع الله نبيه عليه السلام
على ما تناجوا به . و }{ السحر }{ في اللغة كل مموه لا حقيقة له ولا صحة . وَأَنْتُمْ
تُبْصِرُونَ أنه إنسان مثلكم مثل : { وأنتم تعقلون }{ لأن العقل البصر بالأشياء
. وقيل : المعنى ; أفتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر . وقيل : المعنى ; أفتعدلون
إلى الباطل وأنتم تعرفون الحق ; ومعنى الكلام التوبيخ .
أي لا يخفى عليه شيء مما يقال في السماء والأرض . وفي مصاحف أهل الكوفة }{ قال ربي }
أي قال محمد ربي يعلم القول ; أي هو عالم بما تناجيتم به . وقيل : إن القراءة الأولى
أولى لأنهم أسروا هذا القول فأظهر الله عز وجل عليه نبيه صلى الله عليه وسلم ,
وأمره أن يقول لهم هذا ; قال النحاس : والقراءتان صحيحتان وهما بمنزلة الآيتين ,
وفيهما من الفائدة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر وأنه قال كما أمر .
بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ قال الزجاج : أي قالوا الذي يأتي به أضغاث أحلام
. وقال غيره : أي قالوا هو أخلاط كالأحلام المختلطة ; أي أهاويل رآها في المنام ;
قال معناه مجاهد وقتادة ; ومنه قول الشاعر : كضغث حلم غر منه حالمه وقال القتبي :
إنها الرؤيا الكاذبة ; وفيه قول الشاعر : أحاديث طسم أو سراب بفدفد ترقرق للساري
وأضغاث حالم وقال اليزيدي : الأضغاث ما لم يكن له تأويل . وقد مضى هذا في }{ يوسف }
. فلما رأوا أن الأمر ليس كما قالوا انتقلوا عن ذلك فقالوا :بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ
هُوَ شَاعِرٌ ثم انتقلوا عن ذلك فقالوا : { بل هو شاعر }{ أي هم متحيرون لا يستقرون
على شيء قالوا مرة سحر , ومرة أضغاث أحلام , ومرة افتراه , ومرة شاعر . وقيل : أي
قال فريق إنه ساحر , وفريق إنه أضغاث أحلام ; وفريق إنه افتراه , وفريق إنه شاعر
. والافتراء الاختلاق ; وقد تقدم . فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ
الْأَوَّلُونَ أي كما أرسل موسى بالعصا وغيرها من الآيات ومثل ناقة صالح . وكانوا
عالمين بأن القرآن ليس بسحر ولا رؤيا ولكن قالوا : ينبغي أن يأتي بآية نقترحها ;
ولم يكن لهم الاقتراح بعدما رأوا آية واحدة . وأيضا إذا لم يؤمنوا بآية هي من جنس ما
هم أعلم الناس به , ولا مجال للشبهة فيها فكيف يؤمنون بآية غيرها , ولو أبرأ الأكمة
والأبرص لقالوا : هذا من باب الطب , وليس ذلك من صناعتنا , وإنما كان سؤالهم تعنتا
إذ كان الله أعطاهم من الآيات ما فيه كفاية . وبين الله عز وجل أنهم لو كانوا يؤمنون
لأعطاهم ما سألوه لقوله عز وجل : { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم
لتولوا وهم معرضون } [ الأنفال : 23 ] .
مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ قال ابن عباس : يريد قوم صالح وقوم فرعون
. أَهْلَكْنَاهَا يريد كان في علمنا هلاكها . أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ يريد يصدقون ; أي
فما آمنوا بالآيات فاستؤصلوا فلو رأى هؤلاء ما اقترحوا لما آمنوا ; لما سبق من
القضاء بأنهم لا يؤمنون أيضا ; وإنما تأخر عقابهم لعلمنا بأن في أصلابهم من يؤمن . و
{ من }{ زائدة في قوله : { من قرية }{ كقوله : { فما منكم من أحد عنه حاجزين } [
الحاقة : 47 ] .
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ هذا رد عليهم في
قولهم : { هل هذا إلا بشر مثلكم } [ الأنبياء : 3 ] وتأنيس لنبيه صلى الله عليه
وسلم ; أي لم يرسل قبلك إلا رجالا . فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ يريد أهل التوراة والإنجيل الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ,
قاله سفيان . وسماهم أهل الذكر ; لأنهم كانوا يذكرون خبر الأنبياء مما لم تعرفه
العرب . وكان كفار قريش يراجعون أهل الكتاب في أمر محمد صلى الله عليه وسلم . وقال
ابن زيد : أراد بالذكر القرآن ; أي فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن ; قال
جابر الجعفي : لما نزلت هذه الآية قال علي رضي الله عنه نحن أهل الذكر . وقد ثبت
بالتواتر أن الرسل كانوا من البشر ; فالمعنى لا تبدءوا بالإنكار وبقولكم ينبغي أن
يكون الرسول من الملائكة , بل ناظروا المؤمنين ليبينوا لكم جواز أن يكون الرسول من
البشر . والملك لا يسمى رجلا ; لأن الرجل يقع على ما له ضد من لفظه ; تقول رجل
وامرأة , ورجل وصبي فقوله : { إلا رجالا }{ من بني آدم . وقرأ حفص وحمزة والكسائي }
نوحي إليهم } . مسألة : لم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها , وأنهم
المراد بقول الله عز وجل : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }{ و أجمعوا على
أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممن يثق بميزه بالقبلة إذا أشكلت عليه ; فكذلك من
لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لا بد له من تقليد عالمه , وكذلك لم يختلف
العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا ; لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحليل
والتحريم .
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ الضمير في }{ جعلناهم }
للأنبياء ; أي لم نجعل الرسل قبلك خارجين عن طباع البشر لا يحتاجون إلى طعام
وشرابوَمَا كَانُوا خَالِدِينَ يريد لا يموتون وهذا جواب لقولهم : { ما هذا إلا بشر
مثلكم } [ المؤمنون : 33 ] وقولهم : { ما لهذا الرسول يأكل الطعام } [ الفرقان : 7
] . و }{ جسدا }{ اسم جنس ; ولهذا لم يقل أجسادا , وقيل : لم يقل أجسادا ; لأنه أراد
وما جعلنا كل واحد منهم جسدا . والجسد البدن ; تقول منه : تجسد كما تقول من الجسم
تجسم . والجسد أيضا الزعفران أو نحوه الصبغ , وهو الدم أيضا ; قاله النابغة : وما
هريق على الأنصاب من جسد وقال الكلبي : والجسد هو المتجسد الذي فيه الروح يأكل
ويشرب ; فعلى مقتضى هذا القول يكون ما لا يأكل ولا يشرب جسما وقال مجاهد : الجسد ما
لا يأكل ولا يشرب ; فعلى مقتضى هذا القول يكون ما يأكل ويشرب نفسا ; ذكره الماوردي
.
ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ يعني الأنبياء ; أي بإنجائهم ونصرهم وإهلاك مكذبيهم
. فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ أي الذين صدقوا الأنبياء . وَأَهْلَكْنَا
الْمُسْرِفِينَ أي المشركين .
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا يعني القرآن . فِيهِ ذِكْرُكُمْ رفع
بالابتداء والجملة في موضع نصب لأنها نعت لكتاب ; والمراد بالذكر هنا الشرف ; أي
فيه شرفكم , مثل }{ وإنه لذكر لك ولقومك } [ الزخرف : 44 ] . ثم نبههم بالاستفهام
الذي معناه التوقيف فقال عز وجل :أَفَلَا تَعْقِلُونَ وقيل : فيه ذكركم أي ذكر أمر
دينكم ; وأحكام شرعكم , وما تصيرون إليه من ثواب وعقاب , أفلا تعقلون هذه الأشياء
التي ذكرناها ؟ ! وقال مجاهد : { فيه ذكركم }{ أي حديثكم . وقيل : مكارم أخلاقكم ,
ومحاسن أعمالكم . وقال سهل بن عبد الله : العمل بما فيه حياتكم . قلت : وهذه الأقوال
بمعنى والأول يعمها ; إذ هي شرف كلها , والكتاب شرف لنبينا عليه السلام ; لأنه
معجزته , وهو شرف لنا إن عملنا بما فيه , دليله قوله عليه السلام : ( القرآن حجة لك
أو عليك ) .
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً }{ وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة
{ يريد مدائن كانت باليمن . وقال أهل التفسير والأخبار : إنه أراد أهل حضور وكان بعث
إليهم نبي اسمه شعيب بن ذي مهدم , وقبر شعيب هذا باليمن بجبل يقال له ضنن كثير
الثلج , وليس بشعيب صاحب مدين ; لأن قصة حضور قبل مدة عيسى عليه السلام , وبعد مئين
من السنين من مدة سليمان عليه السلام , وأنهم قتلوا نبيهم وقتل أصحاب الرس في ذلك
التاريخ نبيا لهم اسمه حنظلة بن صفوان , وكانت حضور بأرض الحجاز من ناحية الشام ,
فأوحى الله إلى أرميا أن ايت بختنصر فأعلمه أني قد سلطته على أرض العرب , وأني
منتقم بك منهم , وأوحى الله إلى أرميا أن احمل معد بن عدنان على البراق إلى أرض
العراق ; كي لا تصيبه النقمة والبلاء معهم , فإني مستخرج من صلبه نبيا في آخر
الزمان اسمه محمد , فحمل معدا وهو ابن اثنتا عشرة سنة , فكان مع بني إسرائيل إلى أن
كبر وتزوج امرأة اسمها معانة ; ثم إن بختنصر نهض بالجيوش , وكمن للعرب في مكان -
وهو أول من اتخذ المكامن فيما ذكروا - ثم شن الغارات على حضور فقتل وسبى وخرب
العامر , ولم يترك بحضور أثرا , ثم انصرف راجعا إلى السواد . و }{ كم }{ في موضع نصب ب
{ قصمنا } . والقصم الكسر ; يقال : قصمت ظهر فلان وانقصمت سنه إذا انكسرت والمعني به
هاهنا الإهلاك . وأما الفصم ( بالفاء ) فهو الصدع في الشيء من غير بينونة ; قال
الشاعر : كأنه دملج من فضة نبه في ملعب من عذارى الحي مفصوم ومنه الحديث ( فيفصم
عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا ) . وقوله : { كانت ظالمة }{ أي كافرة ; يعني أهلها
. والظلم وضع الشيء في غير موضعه , وهم وضعوا الكفر موضع الإيمان . وَأَنْشَأْنَا
بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ أي أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاكهم .
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا أي رأوا عذابنا ; يقال : أحسست منه ضعفا . وقال الأخفش
: { أحسوا }{ خافوا وتوقعوا . إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ أي يهربون ويفرون
. والركض العدو بشدة الوطء . والركض تحريك الرجل ; ومنه قوله تعالى : { اركض برجلك }
[ ص : 42 ] وركضت الفرس برجلي استحثثته ليعدو ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا
وليس بالأصل , والصواب ركض الفرس على ما لم يسم فاعله فهو مركوض .
لَا تَرْكُضُوا أي لا تفروا . وقيل : إن الملائكة نادتهم لما انهزموا استهزاء بهم
وقالت : { لا تركضوا "وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ أي
إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم , والمترف المتنعم ; يقال : أترف على فلان أي وسع
عليه في معاشه . وإنما أترفهم الله عز وجل كما قال : { وأترفناهم في الحياة الدنيا }
[ المؤمنون : 33 ] . لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ أي لعلكم تسألون شيئا من دنياكم ;
استهزاء بهم ; قاله قتادة . وقيل : المعنى }{ لعلكم تسألون }{ عما نزل بكم من العقوبة
فتخبرون به . وقيل : المعنى }{ لعلكم تسئلون }{ أي تؤمنوا كما كنتم تسألون ذلك قبل
نزول البأس بكم ; قيل لهم ذلك استهزاء وتقريعا وتوبيخا .
لما قالت لهم الملائكة : { لا تركضوا }{ ونادت يا لثارات الأنبياء ! ولم يروا شخصا
يكلمهم عرفوا أن الله عز وجل هو الذي سلط عليهم عدوهم بقتلهم النبي الذي بعث فيهم ,
فعند ذلك قالوا }{ يا ويلنا إنا كنا ظالمين }{ فاعترفوا بأنهم ظلموا حين لا ينفع
الاعتراف .
فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ }{ فما زالت تلك دعواهم }{ أي لم يزالوا يقولون : { يا ويلنا إنا كنا ظالمين } . حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا أي بالسيوف كما يحصد
الزرع بالمنجل ; قاله مجاهد . وقال الحسن : أي بالعذاب . خَامِدِينَ أي ميتين
. والخمود الهمود كخمود النار إذا طفئت فشبه خمود الحياة بخمود النار , كما يقال لمن
مات قد طفئ تشبيها بانطفاء النار .
أي عبثا وباطلا ; بل للتنبيه على أن لها خالقا قادرا يجب امتثال أمره , وأنه يجازي
المسيء والمحسن ; أي ما خلقنا السماء والأرض ليظلم بعض الناس بعضا , ويكفر بعضهم ,
ويخالف بعضهم ما أمر به ثم يموتوا ولا يجازوا , ولا يؤمروا في الدنيا بحسن ولا
ينهوا عن قبيح . وهذا اللعب المنفي عن الحكيم ضده الحكمة .
لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لما اعتقد قوم أن له ولدا قال : { لو أردنا
أن نتخذ لهوا }{ واللهو المرأة بلغة اليمن ; قاله قتادة . وقال عقبة بن أبي جسرة -
وجاء طاوس وعطاء ومجاهد يسألونه عن قوله تعالى : { لو أردنا أن نتخذ لهوا } - فقال
: اللهو الزوجة ; وقاله الحسن . وقال ابن عباس : اللهو الولد ; وقاله الحسن أيضا
. قال الجوهري : وقد يكنى باللهو عن الجماع . قلت : ومنه قول امرئ القيس : ألا زعمت
بسباسة اليوم أنني كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي وإنما سمي الجماع لهوا لأنه ملهي
للقلب , كما قال زهير بن أبي سلمى : وفيهن ملهى للصديق ومنظر الجوهري : قوله تعالى
: { لو أردنا أن نتخذ لهوا }{ قالوا امرأة , ويقال : ولدا . لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ
لَدُنَّا أي من عندنا لا من عندكم . قال ابن جريج : من أهل السماء لا من أهل الأرض
. قيل : أراد الرد على من قال إن الأصنام بنات الله ; أي كيف يكون منحوتكم ولدا لنا
. وقال ابن قتيبة : الآية رد على النصارى . إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ قال قتادة ومقاتل
وابن جريج والحسن : المعنى ما كنا فاعلين ; مثل }{ إن أنت إلا نذير } [ فاطر : 23 ]
أي ما أنت إلا نذير . و }{ إن }{ بمعنى الجحد وتم الكلام عند قوله : { لاتخذناه من
لدنا } . وقيل : إنه على معنى الشرط ; أي إن كنا فاعلين ذلك ولكن لسنا بفاعلين ذلك
لاستحالة أن يكون لنا ولد ; إذ لو كان ذلك لم نخلق جنة ولا نارا ولا موتا ولا بعثا
ولا حسابا . وقيل : لو أردنا أن نتخذ ولدا على طريق التبني لاتخذناه من عندنا من
الملائكة . ومال إلى هذا قوم ; لأن الإرادة قد تتعلق بالتبني فأما اتخاذ الولد فهو
محال , والإرادة لا تتعلق بالمستحيل ; ذكره القشيري .
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ القذف الرمي ; أي نرمي بالحق على الباطل
. فَيَدْمَغُهُ أي يقهره ويهلكه . وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ , ومنه
الدامغة . والحق هنا القرآن , والباطل الشيطان في قول مجاهد ; قال : وكل ما في
القرآن من الباطل فهو الشيطان . وقيل : الباطل كذبهم ووصفهم الله عز وجل بغير صفاته
من الولد وغيره . وقيل : أراد بالحق الحجة , وبالباطل شبههم . وقيل : الحق المواعظ ,
والباطل المعاصي ; والمعنى متقارب . والقرآن يتضمن الحجة والموعظة . فَإِذَا هُوَ
زَاهِقٌ أي هالك وتالف ; قاله قتادة . وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ أي
العذاب في الآخرة بسبب وصفكم الله بما لا يجوز وصفه . وقال ابن عباس : الويل واد في
جهنم ; وقد تقدم .{ مما تصفون }{ أي مما تكذبون ; عن قتادة ومجاهد ; نظيره }{ سيجزيهم
وصفهم } [ الأنعام : 139 ] أي بكذبهم . وقيل : مما تصفون الله به من المحال وهو
اتخاذه سبحانه الولد .
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي ملكا وخلقا فكيف يجوز أن يشرك به ما
هو عبده وخلقه . وَمَنْ عِنْدَهُ يعني الملائكة الذين ذكرتم أنهم بنات الله . لَا
يَسْتَكْبِرُونَ أي لا يأنفونعَنْ عِبَادَتِهِ والتذلل له . وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ
أي يعيون ; قاله قتادة . مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع بالإعياء والتعب , [
يقال ] : حسر البعير يحسر حسورا أعيا وكل , واستحسر وتحسر مثله , وحسرته أنا حسرا
يتعدى ولا يتعدى , وأحسرته أيضا فهو حسير . وقال ابن زيد : لا يملون . ابن عباس : لا
يستنكفون . وقال أبو زيد : لا يكلون . وقيل : لا يفشلون ; ذكره ابن الأعرابي ;
والمعنى واحد .
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أي يصلون ويذكرون الله وينزهونه دائما . لَا
يَفْتُرُونَ أي لا يضعفون ولا يسأمون , يلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس
. قال عبد الله بن الحرث سألت كعبا فقلت : أما لهم شغل عن التسبيح ؟ أما يشغلهم عنه
شيء ؟ فقال : من هذا ؟ فقلت : من بني عبد المطلب ; فضمني إليه وقال : يا ابن أخي هل
يشغلك شيء عن النفس ؟ ! إن التسبيح لهم بمنزلة النفس . وقد استدل بهذه الآية من قال
: إن الملائكة أفضل من بني آدم . وقد تقدم والحمد لله .
قال المفضل : مقصود هذا الاستفهام الجحد , أي لم يتخذوا آلهة تقدر على الإحياء
. وقيل : { أم }{ بمعنى }{ هل }{ أي هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض يحيون الموتى
. ولا تكون }{ أم }{ هنا بمعنى بل ; لأن ذلك يوجب لهم إنشاء الموتى إلا أن تقدر }{ أم }
مع الاستفهام فتكون }{ أم }{ المنقطعة فيصح المعنى ; قاله المبرد . وقيل : { أم }{ عطف
على المعنى أي أفخلقنا السماء والأرض لعبا , أو هذا الذي أضافوه إلينا من عندنا
فيكون لهم موضع شبهة ؟ أو هل ما اتخذوه من الآلهة في الأرض يحيي الموتى فيكون موضع
شبهة ؟ . وقيل : { لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون } [ الأنبياء : 10
] ثم عطف عليه بالمعاتبة , وعلى هذين التأويلين تكون }{ أم }{ متصلة . وقرأ الجمهور }
ينشرون }{ بضم الياء وكسر الشين من أنشر الله الميت فنشر أي أحياه فحيي . وقرأ الحسن
بفتح الياء ; أي يحيون ولا يموتون .
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا أي لو كان في السموات
والأرضين آلهة غير الله معبودون لفسدتا . قال الكسائي وسيبويه : { إلا }{ بمعنى غير
فلما جعلت إلا في موضع غير أعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غير , كما قال : وكل أخ
مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان وحكى سيبويه : لو كان معنا رجل إلا زيد لهلكنا
. وقال الفراء : { إلا }{ هنا في موضع سوى , والمعنى : لو كان فيهما آلهة سوى الله
لفسد أهلها . وقال غيره : أي لو كان فيهما إلهان لفسد التدبير ; لأن أحدهما إن أراد
شيئا والآخر ضده كان أحدهما عاجزا . وقيل : معنى }{ لفسدتا }{ أي خربتا وهلك من فيهما
بوقوع التنازع بالاختلاف الواقع بين الشركاء . فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ
عَمَّا يَصِفُونَ نزه نفسه وأمر العباد أن ينزهوه عن أن يكون له شريك أو ولد .
قاصمة للقدرية وغيرهم . قال ابن جريج : المعنى لا يسأل الخلق عن قضائه في خلقه وهو
يسأل الخلق عن عملهم ; لأنهم عبيد . بين بهذا أن من يسأل غدا عن أعماله كالمسيح
والملائكة لا يصلح للإلهية . وقيل : لا يؤاخذ على أفعاله وهم يؤاخذون . وروي عن علي
رضي عنه أن رجلا قال له يا أمير المؤمنين : أيحب ربنا أن يعصى ؟ قال : أفيعصى ربنا
قهرا ؟ قال : أرأيت إن منعني . الهدى ومنحني الردى أأحسن إلي أم أساء ؟ قال : إن
منعك حقك فقد أساء , وإن منعك فضله فهو فضله يؤتيه من يشاء . ثم تلا الآية : { لا
يسأل عما يفعل وهم يسألون } . وعن ابن عباس قال : لما بعث الله عز وجل موسى وكلمه ,
وأنزل عليه التوراة , قال : اللهم إنك رب عظيم , لو شئت أن تطاع لأطعت , ولو شئت
ألا تعصى ما عصيت , وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى فكيف هذا يا رب ؟ فأوحى الله
إليه : إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون .
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ أعاد التعجب في
اتخاذ الآلهة من دون الله مبالغة في التوبيخ , أي صفتهم كما تقدم في الإنشاء
والإحياء , فتكون }{ أم }{ بمعنى هل على ما تقدم , فليأتوا بالبرهان على ذلك . وقيل :
الأول احتجاج . من حيث المعقول ; لأنه قال : { هم ينشرون }{ ويحيون الموتى ; هيهات !
والثاني احتجاج بالمنقول , أي هاتوا برهانكم من هذه الجهة , ففي أي كتاب نزل هذا ؟
في القرآن , أم في الكتب المنزلة على سائر الأنبياء ؟هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ
بإخلاص التوحيد في القرآنوَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي في التوراة والإنجيل , وما أنزل
الله من الكتب ; فانظروا هل في كتاب من هذه الكتب أن الله أمر باتخاذ آلهة سواه ؟
فالشرائع لم تختلف فيما يتعلق بالتوحيد , وإنما اختلفت في الأوامر والنواهي وقال
قتادة : الإشارة إلى القرآن ; المعنى : { هذا ذكر من معي }{ بما يلزمهم من الحلال
والحرام }{ وذكر من قبلي }{ من الأمم ممن نجا بالإيمان وهلك بالشرك . وقيل : { ذكر من
معي }{ بما لهم من الثواب على الإيمان والعقاب على الكفر }{ وذكر من قبلي }{ من الأمم
السالفة فيما يفعل بهم في الدنيا , وما يفعل بهم في الآخرة . وقيل : معنى الكلام
الوعيد والتهديد , أي افعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف الغطاء . وحكى أبو حاتم : أن
يحيى بن يعمر وطلحة بن مصرف قرآ }{ هذا ذكر من معي وذكر من قبلي }{ بالتنوين وكسر
الميم , وزعم أنه لا وجه لهذا . وقال أبو إسحاق الزجاج في هذه القراءة : المعنى ;
هذا ذكر مما أنزل إلي ومما هو معي وذكر من قبلي . وقيل : ذكر كائن من قبلي , أي جئت
بما جاءت به الأنبياء من قبلي . بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وقرأ
ابن محيصن والحسن }{ الحق }{ بالرفع بمعنى هو الحق وهذا هو الحق . وعلى هذا يوقف على }
لا يعلمون }{ ولا يوقف عليه على قراءة النصب . فَهُمْ مُعْرِضُونَ أي عن الحق وهو
القرآن , فلا يتأملون حجة التوحيد .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ وقرأ حفص
وحمزة والكسائي }{ نوحي إليه }{ بالنون ; لقوله : { أرسلنا } . أَنَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ أي قلنا للجميع لا إله إلا الله ; فأدلة العقل شاهدة أنه
لا شريك له , والنقل عن جميع الأنبياء موجود , والدليل إما معقول وإما منقول . وقال
قتادة : لم يرسل نبي إلا بالتوحيد , والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن ,
وكل ذلك على الإخلاص والتوحيد .
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ نزلت في خزاعة حيث قالوا :
الملائكة بنات الله , وكانوا يعبدونهم طمعا في شفاعتهم لهم . وروى معمر عن قتادة قال
قالت اليهود - قال معمر في روايته - أو طوائف من الناس : خاتن إلى الجن والملائكة
من الجن , فقال الله عز وجل : { سبحانه }{ تنزيها له . بَلْ عِبَادٌ أي بل هم
عبادمُكْرَمُونَ أي ليس كما زعم هؤلاء الكفار . ويجوز النصب عند الزجاج على معنى بل
اتخذ عبادا مكرمين . وأجازه الفراء على أن يرده على ولد , أي بل لم نتخذهم ولدا , بل
اتخذناهم عبادا مكرمين . والولد هاهنا للجمع , وقد يكون الواحد والجمع ولدا . ويجوز
أن يكون لفظ الولد للجنس , كما يقال لفلان مال .
لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ أي لا يقولون حتى يقول , ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم
. وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ أي بطاعته وأوامره .{ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم
{ أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون ; قاله ابن عباس . وعنه أيضا : { ما بين أيديهم }
الآخرة }{ وما خلفهم }{ الدنيا ; ذكر الأول الثعلبي , والثاني القشيري .
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ قال ابن عباس : هم أهل شهادة أن
لا إله إلا الله . وقال مجاهد : هم كل من رضي الله عنه , والملائكة يشفعون غدا في
الآخرة كما في صحيح مسلم وغيره , وفي الدنيا أيضا ; فإنهم يستغفرون للمؤمنين ولمن
في الأرض , كما نص عليه التنزيل على ما يأتي . وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ
ارْتَضَى يعني الملائكةوَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ يعني من خوفهمُشْفِقُونَ أي خائفون
لا يأمنون مكره .
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ قال قتادة والضحاك وغيرهما :
عني بهذه الآية إبليس حيث ادعى الشركة , ودعا إلى عبادة نفسه وكان من الملائكة ,
ولم يقل أحد من الملائكة إني إله غيره . وقيل : الإشارة إلى جميع الملائكة ,فَذَلِكَ
نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ }{ فذلك نجزيه جهنم }{ أي فذلك القائل وهذا دليل على أنهم وإن
أكرموا بالعصمة فهم متعبدون , وليسوا مضطرين إلى العبادة كما ظنه بعض الجهال . وقد
استدل ابن عباس بهذه الآية على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل أهل السماء . وقد
تقدم في }{ البقرة } . كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ نجزي الظالمين }{ أي كما جزينا
هذا بالنار فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الألوهية والعبادة في غير موضعهما .
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا
رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا قراءة العامة }{ أو لم }{ بالواو . وقرأ ابن كثير وابن محيصن
وحميد وشبل بن عباد }{ ألم تر }{ بغير واو وكذلك هو في مصحف مكة .{ أو لم ير }{ بمعنى
يعلم .{ الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا }{ قال الأخفش : { كانتا }{ لأنهما
صنفان , كما تقول العرب : هما لقاحان أسودان , وكما قال الله عز وجل : { إن الله
يمسك السموات والأرض أن تزولا } [ فاطر : 41 ] قال أبو إسحاق : { كانتا }{ لأنه يعبر
عن السموات بلفظ الواحد بسماء ; ولأن السموات كانت سماء واحدة , وكذلك الأرضون
. وقال : { رتقا }{ ولم يقل رتقين ; لأنه مصدر ; والمعنى كانتا ذواتي رتق . وقرأ الحسن
{ رتقا }{ بفتح التاء . قال عيسى بن عمر : هو صواب وهي لغة . والرتق السد ضد الفتق ,
وقد رتقت الفتق أرتقه فارتتق أي التأم , ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج . قال ابن عباس
والحسن وعطاء والضحاك وقتادة : يعني أنها كانت شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله
بينهما بالهواء . وكذلك قال كعب : خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض ثم خلق
ريحا بوسطها ففتحها بها , وجعل السموات سبعا والأرضين سبعا . وقول ثان قاله مجاهد
والسدي وأبو صالح : كانت السموات مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات ,
وكذلك الأرضين كانت مرتتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبعا . وحكاه القتبي في عيون
الأخبار له , عن إسماعيل بن أبي خالد في قول الله عز وجل : { أو لم ير الذين كفروا
أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما }{ قال : كانت السماء مخلوقة وحدها والأرض
مخلوقة وحدها , ففتق من هذه سبع سموات , ومن هذه سبع أرضين ; خلق الأرض العليا فجعل
سكانها الجن والإنس , وشق فيها الأنهار وأنبت فيها الأثمار , وجعل فيها البحار
وسماها رعاء , مسيرة خمسمائة عام ; ثم خلق الثانية مثلها في العرض والغلظ وجعل فيها
أقواما , أفواههم كأفواه الكلاب وأيديهم أيدي الناس ; وآذانهم آذان البقر وشعورهم
شعور الغنم , فإذا كان عند اقتراب الساعة ألقتهم الأرض إلى يأجوج ومأجوج , واسم تلك
الأرض الدكماء , ثم خلق الأرض الثالثة غلظها مسيرة خمسمائة عام , ومنها هواء إلى
الأرض . الرابعة خلق فيها ظلمة وعقارب لأهل النار مثل البغال السود , ولها أذناب مثل
أذناب الخيل الطوال , يأكل بعضها بعضا فتسلط على بني آدم . ثم خلق الله الخامسة [
مثلها ] في الغلظ والطول والعرض فيها سلاسل وأغلال وقيود لأهل النار . ثم خلق الله
الأرض السادسة واسمها ماد , فيها حجارة سود بهم , ومنها خلقت تربة آدم عليه السلام
, تبعث تلك الحجارة يوم القيامة وكل حجر منها كالطود العظيم , وهي من كبريت تعلق في
أعناق الكفار فتشتعل حتى تحرق وجوههم وأيديهم , فذلك قوله عز وجل : { وقودها الناس
والحجارة } [ البقرة : 24 ] ثم خلق الله الأرض السابعة واسمها عربية وفيها جهنم ,
فيها بابان اسم الواحد سجين والآخر الغلق , فأما سجين فهو مفتوح وإليه ينتهي كتاب
الكفار , وعليه يعرض أصحاب المائدة وقوم فرعون , وأما الغلق فهو مغلق لا يفتح إلى
يوم القيامة . وقد مضى في }{ البقرة }{ أنها سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام
, وسيأتي له في آخر }{ الطلاق }{ زيادة بيان إن شاء الله تعالى . وقول ثالث قاله عكرمة
وعطية وابن زيد وابن عباس أيضا فيما ذكر المهدوي : إن السموات كانت رتقا لا تمطر ,
والأرض كانت رتقا لا تنبت , ففتق السماء بالمطر , والأرض بالنبات ; نظيره قوله عز
وجل : { والسماء ذات الرجع . والأرض ذات الصدع } [ الطارق : 11 - 12 ] . واختار هذا
القول الطبري ; لأن بعده : { وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون } . قلت : وبه
يقع الاعتبار مشاهدة ومعاينة ; ولذلك أخبر بذلك في غير ما آية ; ليدل على كمال
قدرته , وعلى البعث والجزاء . وقيل : يهون عليهم إذا يغضبو ن سخط العداة وإرغامها
ورتق الفتوق وفتق الرتو ق ونقض الأمور وإبرامها وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ
شَيْءٍ حَيٍّ ثلاث تأويلات : أحدها : أنه خلق كل شيء من الماء ; قاله قتادة الثاني
: حفظ حياة كل شيء بالماء . الثالث : وجعلنا من ماء الصلب كل شيء حي ; قاله قطرب .{ وجعلنا }{ بمعنى خلقنا . وروى أبو حاتم البستي في المسند الصحيح له من حديث أبي هريرة
قال : قلت يا رسول الله إذا رأيتك طابت نفسي , وقرت عيني , أنبئني عن كل شيء ; قال
: ( كل شيء خلق من الماء ) الحديث ; قال أبو حاتم قول أبي هريرة : { أنبئني عن كل
شيء }{ أراد به عن كل شيء خلق من الماء , والدليل على صحة هذا جواب المصطفى إياه حيث
قال : ( كل شيء خلق من الماء ) وإن لم يكن مخلوقا . وهذا احتجاج آخر سوى ما تقدم من
كون السموات والأرض رتقا . وقيل : الكل قد يذكر بمعنى البعض كقول : { وأوتيت من كل
شيء } [ النمل : 23 ] وقوله : { تدمر كل شيء } [ الأحقاف : 25 ] والصحيح العموم ;
لقوله عليه السلام : ( كل شيء خلق من الماء ) والله أعلم . أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }
أفلا يؤمنون }{ أي أفلا يصدقون بما يشاهدون , وأن ذلك لم يكن بنفسه , بل لمكون كونه
, ومدبر أوجده , ولا يجوز أن يكون ذلك المكون محدثا .
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أي جبالا ثوابت . أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي لئلا
تميد بهم , ولا تتحرك ليتم القرار عليها ; قاله الكوفيون . وقال البصريون : المعنى
كراهية أن تميد . والميد التحرك والدوران . يقال : ماد رأسه ; أي دار . ومضى في }
النحل }{ مستوفى . وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا يعني في الرواسي ; عن ابن عباس
. والفجاج المسالك . والفج الطريق الواسع بين الجبلين . وقيل : وجعلنا في الأرض فجاجا
أي مسالك ; وهو اختيار الطبري ; لقوله :سُبُلًا تفسير الفجاج ; لأن الفج قد يكون
طريقا نافذا مسلوكا وقد لا يكون . وقيل : ليهتدوا بالاعتبار بها إلى دينهم
. لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي يهتدون إلى السير في الأرض .
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا أي محفوظا من أن يقع ويسقط على الأرض ;
دليله قوله تعالى : { ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه } [ الحج : 65 ]
. وقيل : محفوظا بالنجوم من الشياطين ; قاله الفراء . دليله قوله تعالى : { وحفظناها
من كل شيطان رجيم } [ الحجر : 17 ] . وقيل : محفوظا من الهدم والنقض , وعن أن يبلغه
أحد بحيلة . وقيل : محفوظا فلا يحتاج إلى عماد . وقال مجاهد : مرفوعا . وقيل : محفوظا
من الشرك والمعاصي . وَهُمْ يعني الكفارعَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ قال مجاهد يعني
الشمس والقمر . وأضاف الآيات إلى السماء لأنها مجعولة فيها , وقد أضاف الآيات إلى
نفسه في مواضع , لأنه الفاعل لها . بين أن المشركين غفلوا عن النظر في السموات
وآياتها , من ليلها ونهارها , وشمسها وقمرها , وأفلاكها ورياحها وسحابها , وما فيها
من قدرة الله تعالى , إذ لو نظروا واعتبروا لعلموا أن لها صانعا قادرا فيستحيل أن
يكون له شريك .
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ذكرهم نعمة أخرى : جعل لهم الليل
ليسكنوا فيه , والنهار ليتصرفوا فيه لمعايشهموَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي وجعل الشمس
آية النهار , والقمر آية الليل ; لتعلم الشهور والسنون والحساب , كما تقدم في }
سبحان }{ بيانه . كُلٌّ يعني من الشمس والقمر والنجوم والكواكب والليل والنهارفِي
فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء . قال الله تعالى وهو
أصدق القائلين : { والسابحات سبحا }{ ويقال للفرس الذي يمد يده في الجري سابح . وفيه
من النحو أنه لم يقل : يسبحن ولا تسبح ; فمذهب سيبويه : أنه لما أخبر عنهن بفعل من
يعقل وجعلهن في الطاعة بمنزلة من يعقل , أخبر عنهن بفعل من يعقل وجعلهن في الطاعة
بمنزلة من يعقل , أخبر عنهن بالواو والنون . ونحوه قال الفراء . وقد تقدم هذا المعنى
في }{ يوسف } . وقال الكسائي : إنما قال : { يسبحون }{ لأنه رأس آية , كما قال الله
تعالى : { نحن جميع منتصر } [ القمر : 44 ] ولم يقل منتصرون . وقيل : الجري للفلك
فنسب إليها . والأصح أن السيارة تجري في الفلك , وهي سبعة أفلاك دون السموات المطبقة
, التي هي مجال الملائكة وأسباب الملكوت , فالقمر في الفلك الأدنى , ثم عطارد , ثم
الزهرة , ثم الشمس , ثم المريخ , ثم المشترى , ثم زحل , والثامن فلك البروج , و
التاسع الفلك الأعظم . والفلك واحد أفلاك النجوم . قال أبو عمرو : ويجوز أن يجمع على
فعل مثل أسد وأسد وخشب وخشب . وأصل الكلمة من الدوران , ومنه فلكة المغزل ;
لاستدارتها . ومنه قيل : فلك ثدي المرأة تفليكا , وتفلك استدار . وفي حديث ابن مسعود
: تركت فرسي كأنه يدور في فلك . كأنه لدورانه شبهه بفلك السماء الذي تدور عليه
النجوم . قال ابن زيد : الأفلاك مجاري النجوم والشمس والقمر . قال : وهي بين السماء
والأرض . وقال قتادة : الفلك استدارة في السماء تدور بالنجوم مع ثبوت السماء . وقال
مجاهد : الفلك كهيئة حديد الرحى وهو قطبها . وقال الضحاك : فلكها مجراها وسرعة
مسيرها . وقيل : الفلك موج مكفوف ومجرى الشمس والقمر فيه ; والله أعلم .
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أي دوام البقاء في الدنيا نزلت
حين قالوا : نتربص بمحمد ريب المنون . وذلك أن المشركين كانوا يدفعون نبوته ويقولون
: شاعر نتربص به ريب المنون , ولعله يموت كما مات شاعر بني فلان ; فقال الله تعالى
: قد مات الأنبياء من قبلك , وتولى الله دينه بالنصر والحياطة , فهكذا نحفظ دينك
وشرعك . أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ أي أفهم ; مثل قول الشاعر : رفوني
وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم أي أهم ! فهو استفهام إنكار . وقال
الفراء : جاء بالفاء ليدل على الشرط ; لأنه جواب قولهم سيموت . ويجوز أن يكون جيء
بها ; لأن التقدير فيها : أفهم الخالدون إن مت ! قال الفراء : ويجوز حذف الفاء
وإضمارها ; لأن }{ هم }{ لا يتبين فيها الإعراب . أي إن مت فهم يموتون أيضا , فلا
شماتة في الإماتة . وقرئ }{ مت }{ بكسر الميم وضمها لغتان .
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ الأولى : لما أخبر جل وتعالى عن الباخلين وكفرهم
في قولهم : { إن الله فقير ونحن أغنياء }{ وأمر المؤمنين بالصبر على أذاهم في قوله :
{ لتبلون } [ آل عمران : 186 ] الآية - بين أن ذلك مما ينقضي ولا يدوم ; فإن أمد
الدنيا قريب , ويوم القيامة يوم الجزاء .{ ذائقة الموت }{ من الذوق , وهذا مما لا
محيص عنه للإنسان , ولا محيد عنه لحيوان . وقد قال أمية بن أبي الصلت : من لم يمت
عبطة يمت هرما للموت كأس والمرء ذائقها وقال آخر : الموت باب وكل الناس داخله فليت
شعري بعد الباب ما الدار الثانية قراءة العامة }{ ذائقة الموت }{ بالإضافة . وقرأ
الأعمش ويحيى وابن أبي إسحاق }{ ذائقة الموت }{ بالتنوين ونصب الموت . قالوا : لأنها
لم تذق بعد . وذلك أن اسم الفاعل على ضربين : أحدهما أن يكون بمعنى المضي . والثاني
بمعنى الاستقبال ; فإن أردت الأول لم يكن فيه إلا الإضافة إلى ما بعده ; كقولك :
هذا ضارب زيد أمس , وقاتل بكر أمس ; لأنه يجري مجرى الاسم الجامد وهو العلم , نحو
غلام زيد , وصاحب بكر . قال الشاعر : الحافظ عورة العشيرة لا يأتيهم من ورائهم وكف
وإن أردت الثاني جاز الجر . والنصب والتنوين فيما هذا سبيله هو الأصل ; لأنه يجري
مجرى الفعل المضارع فإن كان الفعل غير متعد , لم يتعد نحو قاتل زيد . وإن كان متعديا
عديته ونصبت به , فتقول . زيد ضارب عمرا بمعنى يضرب عمرا . ويجوز حذف التنوين
والإضافة تخفيفا , كما قال المرار : سل الهموم بكل معطي رأسه ناج مخالط صهبة متعيس
مغتال أحبله مبين عنقه في منكب زبن المطي عرندس فحذف التنوين تخفيفا , والأصل : معط
رأسه بالتنوين والنصب , ومثل هذا أيضا في التنزيل قوله تعالى }{ هل هن كاشفات ضره }
[ الزمر : 38 ] وما كان مثله . الثالثة ثم اعلم أن للموت أسبابا وأمارات , فمن
علامات موت المؤمن عرق الجبين . أخرجه النسائي من حديث بريدة قال سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول : { المؤمن يموت بعرق الجبين } . وقد بيناه في }{ التذكرة }{ فإذا
احتضر لقن الشهادة ; لقوله عليه السلام : ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) لتكون
آخر كلامه فيختم له بالشهادة ; ولا يعاد عليه منها لئلا يضجر . ويستحب قراءة }{ يس }
ذلك الوقت ; لقوله عليه السلام : { اقرءوا يس على موتاكم }{ أخرجه أبو داود . وذكر
الآجري في كتاب النصيحة من حديث أم الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما
من ميت يقرأ عنده سورة يس إلا هون عليه الموت ) . فإذا قضي وتبع البصر الروح - كما
أخبر صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم - وارتفعت العبادات : وزال التكليف , توجهت
على الأحياء أحكام ; منها تغميضه , وإعلام إخوانه الصلحاء بموته ; وكرهه قوم وقالوا
: هو من النعي . والأول أصح , وقد بيناه في غير هذا الموضع . ومنها الأخذ في تجهيزه
بالغسل والدفن لئلا يسرع إليه التغير ; قال صلى الله عليه وسلم لقوم أخروا دفن
ميتهم : ( عجلوا بدفن جيفتكم ) ; وقال : ( أسرعوا بالجنازة ) الحديث , وسيأتي
. الثالثة : فأما غسله فهو سنة لجميع المسلمين حاشا الشهيد على ما تقدم , قيل : غسله
واجب قاله القاضي عبد الوهاب . والأول : مذهب الكتاب , وعلى هذين القولين العلماء
. وسبب الخلاف قوله عليه السلام لأم عطية في غسلها ابنته زينب , على ما في كتاب مسلم
. وقيل : هي أم كلثوم , على ما في كتاب أبي داود : ( اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر
من ذلك إن رأيتن ذلك ) الحديث . وهو الأصل عند العلماء في غسل الموتى . فقيل : المراد
بهذا الأمر بيان حكم الغسل فيكون واجبا . وقيل : المقصود منه تعليم كيفية الغسل فلا
يكون فيه ما يدل على الوجوب . قالوا ويدل عليه قوله : ( إن رأيتن ذلك ) وهذا يقتضي
إخراج ظاهر الأمر عن الوجوب ; لأنه فوضه إلى نظرهن . قيل لهم : هذا فيه بعد ; لأن
ردك ( إن رأيتن ) إلى الأمر , ليس السابق إلى الفهم بل السابق رجوع هذا الشرط إلى
أقرب مذكور , وهو ( أكثر من ذلك ) أو إلى التخيير في الأعداد . وعلى الجملة فلا خلاف
في أن غسل الميت مشروع معمول به في الشريعة لا يترك . وصفته كصفة غسل الجنابة على ما
هو معروف . ولا يجاوز السبع غسلات في غسل الميت بإجماع ; على ما حكاه أبو عمر . فإن
خرج منه شيء بعد السبع غسل الموضع وحده , وحكمه حكم الجنب إذا أحدث بعد غسله . فإذا
فرغ من غسله كفنه في ثيابه وهي : الرابعة والتكفين واجب عند عامة العلماء , فإن كان
له مال فمن رأس ماله عند عامة العلماء , إلا ما حكي عن طاوس أنه قال : من الثلث كان
المال قليلا أو كثيرا . فإن كان الميت ممن تلزم غيره نفقته في حياته من سيد - إن كان
عبدا - أو أب أو زوج أو ابن ; فعلى السيد باتفاق , وعلى الزوج والأب والابن باختلاف
. ثم على بيت المال أو على جماعة المسلمين على الكفاية . والذي يتعين منه بتعيين
الفرض ستر العورة ; فإن كان فيه فضل غير أنه لا يعم جميع الجسد غطي رأسه ووجهه ;
إكراما لوجهه وسترا لما يظهر من تغير محاسنه . والأصل في هذا قصة مصعب بن عمير ,
فإنه ترك يوم أحد نمرة كان إذا غطي رأسه خرجت رجلاه , وإذا غطي رجلاه خرج رأسه ;
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه من
الإذخر ) أخرج الحديث مسلم . والوتر مستحب عند كافة العلماء في الكفن , وكلهم مجمعون
على أنه ليس فيه حد . والمستحب منه البياض ; قال صلى الله عليه وسلم : ( البسوا من
ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم ) أخرجه أبو داود . وكفن صلى
الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف . والكفن في غير البياض جائز إلا
أن يكون حريرا أو خزا . فإن تشاح الورثة في الكفن قضي عليهم في مثل لباسه في جمعته
وأعياده ; قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه ) أخرجه مسلم
. إلا أن يوصي بأقل من ذلك . فإن أوصى بسرف قيل : يبطل الزائد . وقيل : يكون في الثلث
. والأول أصح ; لقوله تعالى : ( ولا تسرفوا ) [ الأنعام : 141 ] . وقال أبو بكر : إنه
للمهلة . فإذا فرغ من غسله وتكفينه ووضع على سريره واحتمله الرجال على أعناقهم وهي :
الخامسة فالحكم الإسراع في المشي ; لقوله عليه السلام : ( أسرعوا بالجنازة فإن تك
صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم ) . لا كما يفعله
اليوم الجهال في المشي رويدا والوقوف بها المرة بعد المرة , وقراءة القرآن بالألحان
إلى ما لا يحل ولا يجوز حسب ما يفعله أهل الديار المصرية بموتاهم . روى النسائي :
أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال حدثنا خالد قال أنبأنا عيينة بن عبد الرحمن قال
حدثني أبي قال : شهدت جنازة عبد الرحمن بن سمرة وخرج زياد يمشي بين يدي السرير ,
فجعل رجال من أهل عبد الرحمن ومواليهم يستقبلون السرير ويمشون على أعقابهم ويقولون
: رويدا رويدا , بارك الله فيكم ! فكانوا يدبون دبيبا , حتى إذا كنا ببعض طريق
المريد لحقنا أبو بكرة رضي الله عنه على بغلة فلما رأى الذين يصنعون حمل عليهم
ببغلته وأهوى إليهم بالسوط فقال : خلوا ! فوالذي أكرم وجه أبي القاسم صلى الله عليه
وسلم لقد رأينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنها لنكاد نرمل بها رملا ,
فانبسط القوم . وروى أبو ماجدة عن ابن مسعود قال سألنا نبينا صلى الله عليه سلم عن
المشي مع الجنازة فقال : ( دون الخبب إن يكن خيرا يعجل إليه وإن يكن غير ذلك فبعدا
لأهل النار ) الحديث . قال أبو عمر : والذي عليه جماعة العلماء في ذلك الإسراع فوق
السجية قليلا , والعجلة أحب إليهم من الإبطاء . ويكره الإسراع الذي يشق على ضعفة
الناس ممن يتبعها . وقال إبراهيم النخعي : بطئوا بها قليلا ولا تدبوا دبيب اليهود
والنصارى . وقد تأول قوم الإسراع في حديث أبي هريرة تعجيل الدفن لا المشي , وليس
بشيء لما ذكرنا . وبالله التوفيق . السادسة وأما الصلاة عليه فهي واجبة على الكفاية
كالجهاد . هذا هو المشهور من مذاهب العلماء : مالك وغيره ; لقوله في النجاشي : (
قوموا فصلوا عليه ) . وقال أصبغ : إنها سنة . وروى عن مالك . وسيأتي لهذا المعنى زيادة
بيان في }{ براءة } . السابعة وأما دفنه في التراب ودسه وستره فذلك واجب ; لقوله
تعالى : { فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه } [ المائدة :
31 ] . وهناك يذكر حكم بنيان القبر وما يستحب منه , وكيفية جعل الميت فيه . ويأتي في
{ الكهف }{ حكم بناء المسجد عليه , إن شاء الله تعالى . فهذه جملة من أحكام الموتى
وما يجب لهم على الأحياء . وعن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا
تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا ) أخرجه مسلم . وفي سنن النسائي عنها
أيضا قالت : ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم هالك بسوء فقال : ( لا تذكروا هلكاكم
إلا بخير ) . وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً }{ فتنة }{ مصدر على غير
اللفظ . أي نختبركم بالشدة والرخاء والحلال والحرام , فننظر كيف شكركم وصبركم
. وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ أي للجزاء بالأعمال .
وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أي ما
يتخذونك . والهزء السخرية ; وقد تقدم وهم المستهزئون المتقدمو الذكر في آخر سورة }
الحجر }{ في قوله : { إنا كفيناك المستهزئين } [ الحجر : 95 ] . كانوا يعيبون من جحد
إلهية أصنامهم وهم جاحدون لإلهية الرحمن ; وهذا غاية الجهل . أَهَذَا الَّذِي أي
يقولون : أهذا الذي ؟ فأضمر القول وهو جواب }{ إذا }{ وقوله : { إن يتخذونك إلا هزوا
{ كلام معترض بين }{ إذا }{ وجوابه . يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ أي بالسوء والعيب . ومنه قول
عنترة . لا تذكري مهري وما أطعمته فيكون جلدك مثل جلد الأجرب أي لا تعيبي مهري
. وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ أي بالقرآن . هُمْ كَافِرُونَ }{ هم }{ الثانية توكيد
كفرهم , أي هم الكافرون مبالغة في وصفهم بالكفر .
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ أي ركب على العجلة فخلق عجولا ; كما قال الله
تعالى : { الله الذي خلقكم من ضعف } [ الروم : 54 ] أي خلق الإنسان ضعيفا . ويقال :
خلق الإنسان من الشر أي شريرا إذا بالغت في وصفه به . ويقال : إنما أنت ذهاب ومجيء
. أي ذاهب جائي . أي طبع الإنسان العجلة , فيستعجل كثيرا من الأشياء وإن كانت مضرة
. ثم قيل : المراد بالإنسان آدم عليه السلام . قال سعيد بن جبير والسدي : لما دخل
الروج في عيني آدم عليه السلام نظر في ثمار الجنة , فلما دخل جوفه اشتهى الطعام ,
فوثب من قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة . فذلك قوله : { خلق الإنسان
من عجل } . وقيل خلق آدم يوم الجمعة . في آخر النهار , فلما أحيا الله رأسه استعجل ,
وطلب تتميم نفخ الروح فيه قبل غروب الشمس ; قاله الكلبي ومجاهد وغيرهما . وقال أبو
عبيدة وكثير من أهل المعاني : العجل الطين بلغة حمير . وأنشدوا : والنخل ينبت بين
الماء والعجل وقيل : المراد بالإنسان الناس كلهم . وقيل المراد : النضر بن الحرث بن
علقمة بن كلدة بن عبد الدار في تفسير ابن عباس ; أي لا ينبغي لمن خلق من الطين
الحقير أن يستهزئ بآيات الله ورسله . وقيل : إنه من المقلوب ; أي خلق العجل من
الإنسان . وهو مذهب أبي عبيدة . النحاس : وهذا القول لا ينبغي أن يجاب به في كتاب
الله ; لأن القلب إنما يقع في الشعر اضطرارا كما قال : كان الزناء فريضة الرجم
ونظيره هذه الآية : { وكان الإنسان عجولا } [ الإسراء : 11 ] وقد مضى في }{ سبحان }
[ الإسراء : 1 ] . سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ هذا يقوي القول الأول
, وأن طبع الإنسان العجلة , وأنه خلق خلقا لا يتمالك , كما قال عليه السلام حسب ما
تقدم في }{ الإسراء } . والمراد بالآيات ما دل على صدق محمد عليه السلام من المعجزات
, وما جعله له من العاقبة المحمودة . وقيل : ما طلبوه من العذاب , فأرادوا الاستعجال
وقالوا : { متى هذا الوعد } [ يونس : 48 ] ؟ وما علموا أن لكل شيء أجلا مضروبا
. نزلت في النضر بن الحرث . وقوله : { إن كان هذا هو الحق } [ الأنفال : 32 ] . وقال
الأخفش سعيد : معنى }{ خلق الإنسان من عجل }{ أي قيل له كن فكان , فمعنى }{ فلا
تستعجلون }{ على هذا القول أنه من يقول للشيء كن فيكون , لا يعجزه إظهار ما استعجلوه
من الآيات .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ أي الموعود , كما يقال : الله رجاؤنا أي مرجونا
. وقيل : معنى }{ الوعد }{ هنا الوعيد , أي الذي يعدنا من العذاب . وقيل : القيامة
. إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ يا معشر المؤمنين .
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا العلم هنا بمعنى المعرفة فلا يقتضي مفعولا ثانيا
مثل }{ لا تعلمونهم الله يعلمهم } [ الأنفال : 60 ] . وجواب }{ لو }{ محذوف , أي لو
علموا الوقت الذيحِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ
ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ وعرفوه لما استعجلوا الوعيد . وقال الزجاج : أي
لعلموا صدق الوعد . وقيل : المعنى لو علموه لما أقاموا على الكفر ولآمنوا . وقال
الكسائي : هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة , أي لو علموه علم يقين لعلموا أن الساعة
آتية . ودل عليه .
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً أي فجأة يعني القيامة . وقيل : العقوبة . وقيل : النار فلا
يتمكنون من حيلةفَتَبْهَتُهُمْ قال الجوهري : بهته بهتا أخذه بغتة , قال الله تعالى
: { بل تأتيهم بغتة فتبهتهم }{ وقال الفراء : { فتبهتهم }{ أي تحيرهم , يقال : بهته
يبهته إذا واجهه بشيء يحيره . وقيل : فتفجأهم . فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا أي
صرفها عن ظهورهم . وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون ويؤخرون لتوبة واعتذار .
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم
وتعزية له . يقول : إن استهزأ بك هؤلاء , فقد استهزئ برسل من قبلك , فاصبر كما صبروا
. ثم وعده النصر فقال :فَحَاقَ أي أحاط وداربِالَّذِينَ بالذين }{ كفرواسَخِرُوا
مِنْهُمْ وهزءوا بهممَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أي جزاء استهزائهم .
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ أي يحرسكم ويحفظكم . والكلاءة الحراسة والحفظ ; كلأه الله
كلاء ( بالكسر ) أي حفظه وحرسه . يقال : اذهب في كلاءة الله ; واكتلأت منهم أي
احترست , قال الشاعر هو ابن هرمة : إن سليمى والله يكلؤها ضنت بشيء ما كان يرزؤها
وقال آخر : أنخت بعيري واكتلأت بعينه وحكى الكسائي والفراء }{ قل من يكلؤكم }{ بفتح
اللام وإسكان الواو . وحكيا }{ من يكلاكم }{ على تخفيف الهمزة في الوجهين , والمعروف
تحقيق الهمزة وهي قراءة العامة . فأما }{ يكلاكم }{ فخطأ من وجهين فيما ذكره النحاس :
أحدهما : أن بدل الهمزة . يكون في الشعر . والثاني : أنهما يقولان في الماضي كليته ,
فينقلب المعنى ; لأن كليته أوجعت كليته , ومن قال لرجل : كلاك الله فقد دعا عليه
بأن يصيبه الله بالوجع في كليته . ثم قيل : مخرج اللفظ مخرج الاستفهام والمراد به
النفي . وتقديره : قل لا حافظ لكمبِاللَّيْلِ إذا نمتموَالنَّهَارِ إذا قمتم وتصرفتم
في أموركم . مِنَ الرَّحْمَنِ أي من عذابه وبأسه ; كقوله تعالى : { فمن ينصرني من
الله } [ هود : 63 ] أي من عذاب الله . والخطاب لمن اعترف منهم بالصانع ; أي إذا
أقررتم بأنه الخالق , فهو القادر على إحلال العذاب الذي تستعجلونه . بَلْ هُمْ عَنْ
ذِكْرِ رَبِّهِمْ أي عن القرآن . وقيل : عن مواعظ ربهم . وقيل : عن معرفته
. مُعْرِضُونَ لاهون غافلون .
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ المعنى : ألهم والميم صلة . تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا أي من
عذابنا . لَا يَسْتَطِيعُونَ يعني الذين زعم هؤلاء الكفار أنهم ينصرونهم لا
يستطيعوننَصْرَ أَنْفُسِهِمْ فكيف ينصرون عابديهم . وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ
قال ابن عباس : يمنعون . وعنه : يجارون ; وهو اختيار الطبري . تقول العرب : أنا لك
جار وصاحب . من فلان ; أي مجير منه ; قال الشاعر : ينادي بأعلى صوته متعوذا ليصحب
منها والرماح دواني وروى معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : { ينصرون }{ أي يحفظون
. قتادة : أي لا يصحبهم الله بخير , ولا يجعل رحمته صاحبا لهم .
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ قال ابن عباس : يريد أهل مكة . أي بسطنا لهم
ولآبائهم في نعيمهاحَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ في النعمة . فظنوا أنها لا
تزول عنهم , فاغتروا وأعرضوا عن تدبر حجج الله عز وجلأَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا
نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أي بالظهور عليها لك يا محمد أرضا
بعد أرض , وفتحها بلدا بعد بلد مما حول مكة ; قال معناه الحسن وغيره . وقيل : بالقتل
والسبي ; حكاه الكلبي . والمعنى واحد . وقد مضى في }{ الرعد }{ الكلام في هذا مستوفى
. أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ يعني , كفار مكة بعد أن نقصنا من أطرافهم , بل أنت تغلبهم
وتظهر عليهم .
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أي أخوفكم وأحذركم بالقرآن . وَلَا يَسْمَعُ
الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ أي من أصم الله قلبه , وختم على سمعه ,
وجعل على بصره غشاوة , عن فهم الآيات وسماع الحق . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ومحمد
بن السميقع }{ ولا يسمع }{ بياء مضمومة وفتح الميم على ما لم يسم فاعله }{ الصم }{ رفعا
أي إن الله لا يسمعهم . وقرأ ابن عامر والسلمي أيضا , وأبو حيوة ويحيى بن الحرث }
ولا تسمع }{ بتاء مضمومة وكسر الميم }{ الصم }{ نصبا ; أي إنك يا محمد }{ لا تسمع الصم
الدعاء } ; فالخطاب للنبي صلي الله عليه وسلم . ورد هذه القراءة بعض أهل اللغة . وقال
: وكان يجب أن يقول : إذا ما تنذرهم . قال النحاس : وذلك جائز ; لأنه قد عرف المعنى
.
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ قال ابن عباس : طرف . قال قتاده
: عقوبة . ابن كيسان : قليل وأدنى شيء ; مأخوذة من نفح المسك . قال قيس بن الخطيم :
وعمرة من سروات النساء تنفح بالمسك أردانها ابن جريج : نصيب ; كما يقال : نفح فلان
لفلان من عطائه , إذا أعطاه نصيبا من المال . قال الشاعر : لما أتيتك أرجو فضل
نائلكم نفحتني نفحة طابت لها العرب أي طابت لها النفس . والنفحة في اللغة الدفعة
اليسيرة ; فالمعنى ولئن مسهم أقل شيء من العذاب . لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا
كُنَّا أي متعدين فيعترفون حين لا ينفعهم الاعتراف .
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ
شَيْئًا الموازين جمع ميزان . فقيل : إنه يدل بظاهره على أن لكل مكلف ميزانا توزن به
أعماله , فتوضع الحسنات في كفة , والسيئات في كفة . وقيل : يجوز أن يكون هناك موازين
للعامل الواحد , يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله ; كما قال : ملك تقوم الحادثات
لعدله فلكل حادثة لها ميزان ويمكن أن يكون ميزانا واحدا عبر عنه بلفظ الجمع . وخرج
اللالكائي الحافظ أبو القاسم في سننه عن أنس يرفعه : ( إن ملكا موكلا بالميزان
فيؤتى بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان فإن رجح نادى الملك بصوت يسمع الخلائق سعد
فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا وإن خف نادى الملك شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها
أبدا ) . وخرج عن حذيفة رضي الله عنه قال : ( صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه
السلام ) وقيل : للميزان كفتان وخيوط ولسان والشاهين ; فالجمع يرجع إليها . وقال
مجاهد وقتادة والضحاك : ذكر الميزان مثل وليس ثم ميزان وإنما هو العدل . والذي وردت
به الأخبار وعليه السواد الأعظم القول الأول . وقد مضى في }{ الأعراف }{ بيان هذا ,
وفي }{ الكهف }{ أيضا . وقد ذكرناه في كتاب }{ التذكرة }{ مستوفى والحمد لله . و }{ القسط
{ العدل أي ليس فيها بخس ولا ظلم كما يكون في وزن الدنيا . و }{ القسط }{ صفة الموازين
ووحد لأنه مصدر ; يقال : ميزان قسط , وميزانان قسط , وموازين قسط . مثل رجال عدل
ورضا . وقرأت فرقة }{ القصط }{ بالصاد .{ ليوم القيامة }{ أي لأهل يوم القيامة . وقيل :
المعنى في يوم القيامة .{ فلا تظلم نفس شيئا }{ أي لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد
في إساءة مسيء . وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ قرأ نافع وشيبة وأبو
جعفر }{ مثقال حبة }{ بالرفع هنا ; وفي }{ لقمان }{ على معنى إن وقع أو حضر ; فتكون كان
تامة ولا تحتاج إلى خبر . الباقون }{ مثقال }{ بالنصب على معنى وإن كان العمل أو ذلك
الشيء مثقال . ومثقال الشيء ميزانه من مثله . أَتَيْنَا بِهَا مقصورة الألف قراءة
الجمهور أي أحضرناها وجئنا بها للمجازاة عليها ولها . يجاء بها أي بالحجة ولو قال به
أي بالمثقال لجاز . وقيل : مثقال الحبة ليس شيئا غير الحبة فلهذا قال : { أتينا بها
" . وقرأ مجاهد وعكرمة }{ آتينا }{ بالمد على معنى جازينا بها . يقال آتى يؤاتي مؤاتاة
. وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ أي محاسبين على ما قدموه من خير وشر . وقيل : { حاسبين }
إذ لا أحد أسرع حسابا منا . والحساب العد . روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها : أن
رجلا قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن لي مملوكين
يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم فكيف أنا منهم ؟ قال : ( يحسب ما
خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك
ولا عليك وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك وإن كان عقابك فوق ذنوبهم
اقتص لهم منك الفضل ) قال : فتنحى الرجل فجعل يبكي ويهتف . فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم ( أما تقرأ كتاب الله تعالى : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا
تظلم نفس شيئا } ) فقال الرجل : والله يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئا خيرا من
مفارقتهم , أشهدك أنهم أحرار كلهم . قال حديث غريب .
وحكي عن ابن عباس وعكرمة }{ الفرقان ضياء }{ بغير واو على الحال . وزعم الفراء . أن حذف
الواو والمجيء بها واحد , كما قال عز وجل : { إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب
وحفظا } [ الصافات : 6 - 7 ] أي حفظا . ورد عليه هذا القول الزجاج . قال : لأن الواو
تجيء لمعنى فلا تزاد . قال : وتفسير }{ الفرقان }{ التوراة ; لأن فيها الفرق بين
الحرام والحلال . قال : { وضياء }{ مثل }{ فيه هدى ونور }{ وقال ابن زيد : { الفرقان }
هنا هو النصر على الأعداء ; دليله قوله تعالى : { وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان
" [ الأنفال : 41 ] يعني يوم بدر . قال الثعلبي : وهذا القول أشبه بظاهر الآية ;
لدخول الواو في الضياء ; فيكون معنى الآية : ولقد أتينا موسى وهارون النصر والتوراة
التي هي الضياء والذكر .
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي غائبين ; لأنهم لم يروا الله تعالى
, بل عرفوا بالنظر . والاستدلال أن لهم ربا قادرا , يجازي على الأعمال فهم يخشونه في
سرائرهم , وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس . وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ أي من
قيامها قبل التوبة . مُشْفِقُونَ أي خائفون وجلون .
وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ يعني القرآنأَفَأَنْتُمْ لَهُ يا معشر
العربمُنْكِرُونَ وهو معجز لا تقدرون على الإتيان بمثله . وأجاز الفراء }{ وهذا ذكر
مباركا أنزلناه }{ بمعنى أنزلناه مباركا .
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ قال الفراء : أي أعطياه هداه . مِنْ قَبْلُ
أي من قبل النبوة ; أي وفقناه للنظر والاستدلال , لما جن عليه الليل فرأى النجم
والشمس والقمر . وقيل : { من قبل }{ أي من قبل موسى وهارون . والرشد على هذا النبوة
. وعلى الأول أكثر أهل التفسير ; كما قال ليحيى : { وآتيناه الحكم صبيا } [ مريم :
12 ] . وقال القرظي : رشده صلاحه . وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ أي إنه أهل لإيتاء الرشد
وصالح للنبوة .
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ قيل : المعنى أي اذكر حين قال لأبيه ; فيكون
الكلام قد تم عند قوله : { وكنا به عالمين } . وقيل : المعنى ; }{ وكنا به عالمين إذ
قال }{ فيكون الكلام متصلا ولا يوقف على قوله : { عالمين } .{ لأبيه }{ وهو آزر }
وقومه }{ نمرود ومن اتبعه . مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ أي الأصنام . والتمثال اسم موضوع
للشيء المصنوع مشبها بخلق من خلق الله تعالى . يقال : مثلت الشيء بالشيء أي شبهته به
. واسم ذلك الممثل تمثال . الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ أي مقيمون على عبادتها
.