سورة النمل مكية كلها في قول الجميع , وهي ثلاث وتسعون آية . وقيل : أربع وتسعون آية
. { طس }{ مضى الكلام في الحروف المقطعة في }{ البقرة }{ وغيرها . و }{ تلك }{ بمعنى هذه
; أي هذه السورة آيات القرآن وآيات كتاب مبين . وذكر القرآن بلفظ المعرفة , وقال : { وكتاب مبين }{ بلفظ النكرة وهما في معنى المعرفة ; كما تقول : فلان رجل عاقل وفلان
الرجل العاقل . والكتاب هو القرآن , فجمع له بين الصفتين : بأنه قرآن وأنه كتاب ;
لأنه ما يظهر بالكتابة , ويظهر بالقراءة . وقد مضى اشتقاقهما في }{ البقرة } . وقال في
سورة الحجر : { الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين } [ يوسف : 1 ] فأخرج الكتاب بلفظ
المعرفة والقرآن بلفظ النكرة ; وذلك لأن القرآن والكتاب اسمان يصلح لكل واحد منهما
أن يجعل معرفة , وأن يجعل صفة . ووصفه بالمبين لأنه بين فيه أمره ونهيه وحلاله
وحرامه ووعده ووعيده ; وقد تقدم .
هدى }{ في موضع نصب على الحال من الكتاب ; أي تلك آيات الكتاب هادية ومبشرة . ويجوز
فيه الرفع على الابتداء ; أي هو هدى . وإن شئت على حذف حرف الصفة ; أي فيه هدى
. ويجوز أن يكون الخبر }{ للمؤمنين } .
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي لا يصدقون بالبعث . زَيَّنَّا
لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ قيل : أعمالهم السيئة حتى رأوها حسنة . وقيل : زينا لهم
أعمالهم الحسنة فلم يعملوها . وقال الزجاج : جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما
هم فيه . فَهُمْ يَعْمَهُونَ أي يترددون في أعمالهم الخبيثة , وفي ضلالتهم . عن ابن
عباس . أبو العالية : يتمادون . قتادة : يلعبون . الحسن : يتحيرون ; قال الراجز :
ومهمه أطرافه في مهمه و أعمى الهدى بالحائرين العمه .
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وهو جهنم . وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ
الْأَخْسَرُونَ }{ في الآخرة }{ تبيين وليس بمتعلق بالأخسرين فإن من الناس من خسر
الدنيا وربح الآخرة , وهؤلاء خسروا الآخرة بكفرهم فهم أخسر كل خاسر .
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ أي يلقى عليك فتلقاه وتعلمه وتأخذه . مِنْ لَدُنْ
حَكِيمٍ عَلِيمٍ }{ لدن }{ بمعنى عند إلا أنها مبنية غير معربة , لأنها لا تتمكن ,
وفيها لغات ذكرت في }{ الكهف } . وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق من
الأقاصيص , وما في ذلك من لطائف حكمته , ودقائق علمه .
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ }{ إذ }{ منصوب بمضمر وهو اذكر ; كأنه قال على أثر قوله
.{ وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم } : خذ يا محمد من آثار حكمته وعلمه قصة
موسى إذ قال لأهله .{ إني آنست نارا "إِنِّي آنَسْتُ نَارًا أي أبصرتها من بعد . قال
الحرث بن حلزة : آنست نبأة وأفزعها القناص عصرا وقد دنا الإمساء سَآتِيكُمْ مِنْهَا
بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ قرأ عاصم وحمزة
والكسائي : { بشهاب قبس }{ بتنوين }{ شهاب } . والباقون بغير تنوين على الإضافة ; أي
بشعلة نار ; واختاره أبو عبيد وأبو حاتم . وزعم الفراء في ترك التنوين أنه بمنزلة
قولهم : ولدار الآخرة , ومسجد الجامع , وصلاة الأولى ; يضاف الشيء إلى نفسه إذا
اختلفت أسماؤه . قال النحاس : إضافة الشيء إلى نفسه محال عند البصريين , لأن معنى
الإضافة في اللغة ضم شيء إلى شيء فمحال أن يضم الشيء إلى نفسه , وإنما يضاف الشيء
إلى الشيء ليتبين به معنى الملك أو النوع , فمحال أن يتبين أنه مالك نفسه أو من
نوعها . و }{ شهاب قبس }{ إضافة النوع والجنس , كما تقول : هذا ثوب خز , وخاتم حديد
وشبهه . والشهاب كل ذي نور ; نحو الكوكب والعود الموقد . والقبس اسم لما يقتبس من جمر
وما أشبهه ; فالمعنى بشهاب من قبس . يقال . أقبست قبسا ; والاسم قبس . كما تقول : قبضت
قبضا . والاسم القبض . ومن قرأ : { بشهاب قبس }{ جعله بدلا منه . المهدوي : أو صفة له ;
لأن القبس يجوز أن يكون اسما غير صفة , ويجوز أن يكون صفة ; فأما كونه غير صفة
فلأنهم قالوا قبسته أقبسه قبسا والقبس المقبوس ; وإذا كان صفة فالأحسن أن يكون نعتا
. والإضافة فيه إذا كان غير صفة أحسن . وهي إضافة النوع إلى جنسه كخاتم فضة وشبهه
. ولو قرئ بنصب قبس على البيان أو الحال كان أحسن . ويجوز في غير القرآن بشهاب قبسا
على أنه مصدر أو بيان أو حال .{ لعلكم تصطلون }{ أصل الطاء تاء فأبدل منها هنا طاء ;
لأن الطاء مطبقة والصاد مطبقة فكان الجمع بينهما حسنا , ومعناه يستدفئون من البرد
. يقال : اصطلى يصطلي إذا استدفأ . قال الشاعر : النار فاكهة الشتاء فمن يرد أكل
الفواكه شاتيا فليصطل الزجاج : كل أبيض ذي نور فهو شهاب . أبو عبيدة : الشهاب النار
. قال أبو النجم : كأنما كان شهابا واقدا أضاء ضوءا ثم صار خامدا أحمد بن يحيى : أصل
الشهاب عود في أحد طرفيه جمرة والآخر لا نار فيه ; وقول النحاس فيه حسن , والشهاب
الشعاع المضيء ومنه الكوكب الذي يمد ضوءه في السماء . وقال الشاعر : في كفه صعدة
مثقفة فيها سنان كشعلة القبس .
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا أي
فلما جاء موسى الذي ظن أنه نار وهي نور ; قاله وهب بن منبه . فلما رأى موسى النار
وقف قريبا منها , فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق , لا
تزداد النار إلا عظما وتضرما , ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسنا ; فعجب منها وأهوى
إليها بضغث في يده ليقتبس منها ; فمالت إليه ; فخافها فتأخر عنها ; ثم لم تزل تطمعه
ويطمع فيها إلى أن وضح أمرها على أنها مأمورة لا يدري من أمرها , إلى أن }{ نودي أن
بورك من في النار ومن حولها } . وقد مضى هذا المعنى في }{ طه } .{ نودي }{ أي ناداه
الله ; كما قال : { وناديناه من جانب الطور الأيمن } [ مريم : 52 ] .{ أن بورك }
قال الزجاج : { أن }{ في موضع نصب ; أي بأنه . قال : ويجوز أن تكون في موضع رفع جعلها
اسم ما لم يسم فاعله . وحكى أبو حاتم أن في قراءة أبي وابن عباس ومجاهد }{ أن بوركت
النار ومن حولها } . قال النحاس : ومثل هذا لا يوجد بإسناد صحيح , ولو صح لكان على
التفسير , فتكون البركة راجعة إلى النار ومن حولها الملائكة وموسى . وحكى الكسائي عن
العرب : باركك الله , وبارك فيك . الثعلبي : العرب تقول باركك الله , وبارك فيك ,
وبارك عليك , وبارك لك , أربع لغات . قال الشاعر : فبوركت مولودا وبوركت ناشئا
وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب الطبري : قال }{ بورك من في النار }{ ولم يقل بورك في
من في النار على لغة من يقول باركك الله . ويقال باركه الله , وبارك له , وبارك عليه
, وبارك فيه بمعنى ; أي بورك على من في النار وهو موسى , أو على من في قرب النار ;
لا أنه كان في وسطها . وقال السدي : كان في النار ملائكة فالتبريك عائد إلى موسى
والملائكة ; أي بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين هم حولها . وهذا تحية من الله
تعالى لموسى وتكرمة له , كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه ; قال
: { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت } [ هود : 73 ] . وقول ثالث قاله ابن عباس
والحسن وسعيد بن جبير : قدس من في النار وهو الله سبحانه وتعالى , عنى به نفسه تقدس
وتعالى . قال ابن عباس ومحمد بن كعب : النار نور الله عز وجل ; نادى الله موسى وهو
في النور ; وتأويل هذا أن موسى عليه السلام رأى نورا عظيما فظنه نارا ; وهذا لأن
الله تعالى ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار لا أنه يتحيز في جهة }{ وهو الذي في
السماء إله وفي الأرض إله } [ الزخرف : 84 ] لا أنه يتحيز فيهما , ولكن يظهر في كل
فعل فيعلم به وجود الفاعل . وقيل على هذا : أي بورك من في النار سلطانه وقدرته . وقيل
: أي بورك ما في النار من أمر الله تعالى الذي جعله علامة . قلت : ومما يدل على صحة
قول ابن عباس ما خرجه مسلم في صحيحه , وابن ماجه في سننه واللفظ له عن أبي موسى قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض
القسط ويرفعه حجابه النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره ) ثم قرأ
أبو عبيدة : { أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين }{ أخرجه
البيهقي أيضا . ولفظ مسلم عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بخمس كلمات ; فقال : ( إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط
ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور
- وفي رواية أبي بكر النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه
) قال أبو عبيد : يقال السبحات إنها جلال وجهه , ومنها قيل : سبحان الله إنما هو
تعظيم له وتنزيه . وقوله : { لو كشفها }{ يعني لو رفع الحجاب عن أعينهم ولم يثبتهم
لرؤيته لاحترقوا وما استطاعوا لها . قال ابن جريج : النار حجاب من الحجب وهي سبعة
حجب ; حجاب العزة , وحجاب الملك , وحجاب السلطان , وحجاب النار , وحجاب النور ,
وحجاب الغمام , وحجاب الماء . وبالحقيقة فالمخلوق المحجوب والله لا يحجبه شيء ;
فكانت النار نورا وإنما ذكره بلفظ النار ; لأن موسى حسبه نارا , والعرب تضع أحدهما
موضع الآخر . وقال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها فأسمعه تعالى كلامه من ناحيتها
, وأظهر له ربوبيته من جهتها . وهو كما روي أنه مكتوب في التوراة : { جاء الله من
سيناء وأشرف من ساعير واستعلى من جبال فاران } . فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها ,
وإشرافه من ساعير بعثه المسيح منها , واستعلاؤه من فاران بعثه محمدا صلى الله عليه
وسلم , وفاران مكة . وسيأتي في }{ القصص }{ بإسماعه سبحانه كلامه من الشجرة زيادة بيان
إن شاء الله تعالى . وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تنزيها وتقديسا لله رب
العالمين . وقد تقدم في غير موضع , والمعنى : أي يقول من حولها : { وسبحان الله }
فحذف . وقيل : إن موسى عليه السلام قاله حين فرغ من سماع النداء ; استعانة بالله
تعالى وتنزيها له ; قاله السدي . وقيل : هو من قول الله تعالى . ومعناه : وبورك فيمن
سبح الله تعالى رب العالمين ; حكاه ابن شجرة .
يَا مُوسَى الهاء عماد وليست بكناية في قول الكوفيين . والصحيح أنها كناية عن الأمر
والشأن . إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الغالب الذي ليس كمثله شيء }{ الحكيم }{ في
أمره وفعله . وقيل : قال موسى يا رب من الذي نادى ؟ فقال له : { إنه }{ أي إني أنا
المنادي لك }{ أنا الله } .
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ قال وهب بن منبه :
ظن موسى أن الله أمره أن يرفضها فرفضها وقيل : إنما قال له ذلك ليعلم موسى أن
المكلم له هو الله , وأن موسى رسوله ; وكل نبي لا بد له من آية في نفسه يعلم بها
نبوته . وفي الآية حذف : أي وألق عصاك فألقاها من يده فصارت حية تهتز كأنها جان ,
وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم . وقال الكلبي : لا صغيرة ولا كبيرة . وقيل : إنها
قلبت له أولا حية صغيرة فلما أنس منها قلبت حية كبيرة . وقيل : انقلبت مرة حية صغيرة
, ومرة حية تسعى وهي الأنثى , ومرة ثعبانا وهو الذكر الكبير من الحيات . وقيل :
المعنى انقلبت ثعبانا تهتز كأنها جان لها عظم الثعبان وخفة الجان واهتزازه وهي حية
تسعى . وجمع الجان جنان ; ومنه الحديث ( نهي عن قتل الجنان التي في البيوت ) . وَلَّى
مُدْبِرًا خائفا على عادة البشروَلَمْ يُعَقِّبْ أي لم يرجع ; قاله مجاهد . وقال
قتادة : لم يلتفت . يَا مُوسَى لَا أي من الحية وضررها . تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ
لَدَيَّ وتم الكلام ثم استثنى استثناء منقطعا فقال : { إلا من ظلم }{ وقيل : إنه
استثناء من محذوف ; والمعنى : إني لا يخاف لدي المرسلون وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم .
فإنه لا يخاف ; قاله الفراء . قال النحاس : استثناء من محذوف محال ; لأنه استثناء من
شيء لم يذكر ولو جاز هذا لجاز إني لأضرب القوم إلا زيدا بمعنى إني لا أضرب القوم
وإنما أضرب غيرهم إلا زيدا ; وهذا ضد البيان , والمجيء بما لا يعرف معناه . وزعم
الفراء أيضا أن بعض النحويين يجعل إلا بمعنى الواو أي ولا من ظلم ; قال : وكل أخ
مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان قال النحاس : وكون }{ إلا }{ بمعنى الواو لا وجه
له ولا يجوز في شيء من الكلام , ومعنى }{ إلا }{ خلاف الواو ; لأنك إذا قلت : جاءني
إخوتك إلا زيدا أخرجت زيدا مما دخل فيه الإخوة فلا نسبة بينهما ولا تقارب . وفي
الآية قول آخر : وهو أن يكون الاستثناء متصلا ; والمعنى إلا من ظلم من المرسلين
بإتيان الصغائر التي لا يسلم منها أحد , سوى ما روي عن يحيى بن زكريا عليه السلام ,
وما ذكره الله تعالى في نبينا عليه السلام في قوله : { ليغفر لك الله ما تقدم من
ذنبك وما تأخر } [ الفتح : 2 ] ذكره المهدوي واختاره النحاس ; وقال : علم الله من
عصى منهم يسر الخيفة فاستثناه فقال : { إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء }{ فإنه يخاف
وإن كنت قد غفرت له . الضحاك : يعني آدم وداود عليهما السلام الزمخشري . كالذي فرط من
آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف , ومن موسى عليه السلام بوكزه القبطي . فإن قال
قائل : فما معنى الخوف بعد التوبة والمغفرة ؟ قيل له : هذه سبيل العلماء بالله عز
وجل أن يكونوا خائفين من معاصيهم وجلين , وهم أيضا لا يأمنون أن يكون قد بقي من
أشراط التوبة شيء لم يأتوا به , فهم يخافون من المطالبة به . وقال الحسن وابن جريج :
قال الله لموسى إني أخفتك لقتلك النفس . قال الحسن : وكانت الأنبياء تذنب فتعاقب
. قال الثعلبي والقشيري والماوردي وغيرهم : فالاستثناء على هذا صحيح ; أي إلا من ظلم
نفسه من النبيين والمرسلين فيما فعل من صغيرة قبل النبوة . وكان موسى خاف من قتل
القبطي وتاب منه . وقد قيل : إنهم بعد النبوة معصومون من الصغائر والكبائر . وقد مضى
هذا في }{ البقرة } . قلت : والأول أصح لتنصلهم من ذلك في القيامة كما في حديث
الشفاعة , وإذا أحدث المقرب حدثا فهو وإن غفر له ذلك الحدث فأثر ذلك الحدث باق ,
وما دام الأثر والتهمة قائمة فالخوف كائن لا خوف العقوبة ولكن خوف العظمة , والمتهم
عند السلطان يجد للتهمة حزازة تؤديه إلى أن يكدر عليه صفاء الثقة . وموسى عليه
السلام قد كان منه الحدث في ذلك الفرعوني , ثم استغفر وأقر بالظلم على نفسه , ثم
غفر له , ثم قال بعد المغفرة : { رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين } [
القصص : 17 ] ثم ابتلي من الغد بالفرعوني الآخر وأراد أن يبطش به , فصار حدثا آخر
بهذه الإرادة . وإنما ابتلي من الغد لقوله : { فلن أكون ظهيرا للمجرمين }{ وتلك كلمة
اقتدار من قوله لن أفعل , فعوقب بالإرادة حين أراد أن يبطش ولم يفعل , فسلط عليه
الإسرائيلي حتى أفشى سره ; لأن الإسرائيلي لما رآه تشمر للبطش ظن أنه يريده , فأفشى
عليه ف }{ قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس } [ القصص : 19 ] فهرب
الفرعوني وأخبر فرعون بما أفشى الإسرائيلي على موسى , وكان القتيل بالأمس مكتوما
أمره لا يدري من قتله , فلما علم فرعون بذلك , وجه في طلب موسى ليقتله , واشتد
الطلب وأخذوا مجامع الطرق ; جاء رجل يسعى ف }{ قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك
ليقتلوك } [ القصص : 20 ] الآية . فخرج كما أخبر الله . فخوف موسى إنما كان من أجل
هذا الحدث ; فهو وإن قربه وبه وأكرمه واصطفاه بالكلام فالتهمة الباقية ولت به ولم
يعقب .
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ
آيَاتٍ قال النحاس أحسن ما قيل فيه أن المعنى : هذه الآية داخلة في تسع آيات
. المهدوي : المعنى : { ألق عصاك }{ وأدخل يدك في جيبك }{ فهما آيتان من تسع آيات
. وقال القشيري معناه : كما تقول خرجت في عشرة نفر وأنت أحدهم . أي خرجت عاشر عشرة . ف
{ في }{ بمعنى }{ من }{ لقربها منها كما تقول خذ لي عشرا من الإبل فيها فحلان أي منها
. وقال الأصمعي في قول امرئ القيس : وهل ينعمن من كان آخر عهده ثلاثين شهرا في ثلاثة
أحوال في بمعنى من . وقيل : في بمعنى مع ; فالآيات عشرة منها اليد , والتسع : الفلق
والعصا والجراد والقمل والطوفان والدم والضفادع والسنين والطمس . وقد تقدم بيان
جميعه . إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ قال الفراء : في الكلام إضمار لدلالة الكلام
عليه , أي إنك مبعوث أو مرسل إلى فرعون وقومه . إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا
فَاسِقِينَ أي خارجين عن طاعة الله ; وقد تقدم .
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً أي واضحة بينة . قال الأخفش : ويجوز
مبصرة وهو مصدر كما يقال : الولد مجبنة . قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ جروا على
عادتهم في التكذيب فلهذا قال .
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا أي تيقنوا
أنها من عند الله وأنها ليست سحرا , ولكنهم كفروا بها وتكبروا أن يؤمنوا بموسى
. وهذا يدل على أنهم كانوا معاندين . و }{ ظلما }{ و }{ علوا }{ منصوبان على نعت مصدر
محذوف , أي وجحدوا بها جحودا ظلما وعلوا . والباء زائدة أي وجحدوها ; قاله أبو عبيدة
. فَانْظُرْ يا محمدكَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي آخر أمر الكافرين
الطاغين , انظر ذلك بعين قلبك وتدبر فيه . الخطاب له والمراد غيره .
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا أي فهما ; قاله قتادة . وقيل :
علما بالدين والحكم وغيرهما كما قال : { وعلمناه صنعة لبوس لكم } [ الأنبياء : 80 ]
. وقيل : صنعة الكيمياء . وهو شاذ . وإنما الذي آتاهما الله النبوة والخلافة في الأرض
والزبور . وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ
عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وفي الآية دليل على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته
وأهله , وأن نعمة العلم من أجل النعم وأجزل القسم , وأن من أوتيه فقد أوتي فضلا على
كثير من عباد الله المؤمنين .{ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم
درجات } [ المجادلة : 11 ] . وقد تقدم هذا في غير موضع .
قال الكلبي : كان لداود صلى الله عليه وسلم تسعة عشر ولدا فورث سليمان من بينهم
نبوته وملكه , ولو كان وراثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء ; وقاله ابن العربي ;
قال : فلو كانت وراثة مال لانقسمت على العدد ; فخص الله سليمان بما كان لداود من
الحكمة والنبوة , وزاده من فضله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده . قال ابن عطية : داود
من بني إسرائيل وكان ملكا وورث سليمان ملكه ومنزلته من النبوة , بمعنى صار إليه ذلك
بعد موت أبيه فسمي ميراثا تجوزا ; وهذا نحو قوله : { العلماء ورثة الأنبياء }
ويحتمل قوله عليه السلام : { إنا معشر الأنبياء لا نورث }{ أن يريد أن ذلك من فعل
الأنبياء وسيرتهم , وإن كان فيهم من ورث ماله ك }{ زكرياء }{ على أشهر الأقوال فيه ;
وهذا كما تقول : إنا معشر المسلمين إنما شغلتنا العبادة , والمراد أن ذلك فعل
الأكثر . ومنه ما حكى سيبويه : إنا معشر العرب أقرى الناس للضيف . قلت : قد تقدم هذا
المعنى في }{ مريم }{ وأن الصحيح القول الأول لقوله عليه السلام : { إنا معشر
الأنبياء لا نورث }{ فهو عام ولا يخرج منه شيء إلا بدليل . قال مقاتل : كان سليمان
أعظم ملكا من داود وأقضى منه , وكان داود أشد تعبدا من سليمان . قال غيره : ولم يبلغ
أحد من الأنبياء ما بلغ ملكه ; فإن الله سبحانه وتعالى سخر له الإنس والجن والطير
والوحش , وآتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين , وورث أباه في الملك والنبوة , وقام
بعده بشريعته , وكل نبي جاء بعد موسى ممن بعث أو لم يبعث فإنما كان بشريعة موسى ,
إلى أن بعث المسيح عليه السلام فنسخها . وبينه وبين الهجرة نحو من ألف وثمانمائة سنة
. واليهود تقول ألف وثلاثمائة واثنتان وستون سنة . وقيل : إن بين موته وبين مولد
النبي صلى الله عليه سلم نحوا من ألف وسبعمائة . واليهود تنقص منها ثلاثمائة سنة ,
وعاش نيفا وخمسين سنة . قوله تعالى : { وقال يا أيها الناس }{ أي قال سليمان لبني
إسرائيل على جهة الشكر لنعم الله }{ علمنا منطق الطير }{ أي تفضل الله علينا على ما
ورثنا من داود من العلم والنبوة والخلافة في الأرض في أن فهمنا من أصوات الطير
المعاني التي في نفوسها . قال مقاتل في الآية : كان سليمان جالسا ذات يوم إذ مر به
طائر يطوف , فقال لجلسائه : أتدرون ما يقول هذا الطائر ؟ إنها قالت لي : السلام
عليك أيها الملك المسلط والنبي لبني إسرائيل ! أعطاك الله الكرامة , وأظهرك على
عدوك , إني منطلق إلى أفراخي ثم أمر بك الثانية ; وإنه سيرجع إلينا الثانية ثم رجع
; فقال إنه يقول : السلام عليك أيها الملك المسلط , إن شئت أن تأذن لي كيما أكتسب
على أفراخي حتى يشبوا ثم آتيك فافعل بي ما شئت . فأخبرهم سليمان بما قال ; وأذن له
فانطلق . وقال فرقد السبخي : مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه ,
فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول هذا البلبل ؟ قالوا لا يا نبي الله . قال إنه يقول :
أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء . ومر بهدهد فوق شجرة وقد نصب له صبي فخا فقال له
سليمان : احذر يا هدهد ! فقال : يا نبي الله ! هذا صبي لا عقل له فأنا أسخر به . ثم
رجع سليمان فوجده قد وقع في حبالة الصبي وهو في يده , فقال : هدهد ما هذا ؟ قال :
ما رأيتها حتى وقعت فيها يا نبي الله . قال : ويحك ! فأنت ترى الماء تحت الأرض أما
ترى الفخ ! قال : يا نبي الله إذا نزل القضاء عمي البصر . وقال كعب . صاح ورشان عند
سليمان بن داود فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا . قال : إنه يقول : لدوا للموت
وابنوا للخراب . وصاحت فاختة , فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا . قال : إنها تقول
: ليت هذا الخلق لم يخلقوا وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا . وصاح عنده طاوس ,
فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا . قال : إنه يقول : كما تدين تدان . وصاح عنده
هدهد فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا . قال : فإنه يقول : من لا يرحم لا يرحم
. وصاح صرد عنده , فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا . قال : إنه يقول : استغفروا
الله يا مذنبين ; فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله . وقيل : إن
الصرد هو الذي دل آدم على مكان البيت . وهو أول من صام ; ولذلك يقال للصرد الصوام ;
روي عن أبي هريرة . وصاحت عنده طيطوى فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا . قال :
إنها تقول : كل حي ميت وكل جديد بال . وصاحت خطافة عنده , فقال : أتدرون ما تقول ؟
قالوا : لا . قال : إنها تقول : قدموا خيرا تجدوه ; فمن ثم نهى رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن قتلها . وقيل : إن آدم خرج من الجنة فاشتكى إلى الله الوحشة , فآنسه
الله تعالى بالخطاف وألزمها البيوت , فهي لا تفارق بني آدم أنسا لهم . قال : ومعها
أربع آيات من كتاب الله عز وجل : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته } [ الحشر
: 21 ] إلى آخرها وتمد صوتها بقوله }{ العزيز الحكيم } [ البقرة : 129 ] . وهدرت
حمامة عند سليمان فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا . قال : إنها تقول : سبحان ربي
الأعلى عدد ما في سمواته وأرضه . وصاح قمري عند سليمان , فقال : أتدرون ما يقول ؟
قالوا : لا . قال إنه يقول : سبحان ربي العظيم المهيمن . وقال كعب : وحدثهم سليمان ,
فقال : الغراب يقول : اللهم العن العشار ; والحدأة تقول : { كل شيء هالك إلا وجهه }
[ القصص : 88 ] . والقطاة تقول : من سكت سلم . والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه
. والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس . والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده . والسرطان يقول
: سبحان المذكور بكل لسان في كل مكان . وقال مكحول : صاح دراج عند سليمان , فقال :
أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا . قال : إنه يقول : { الرحمن على العرش استوى } [ طه :
5 ] . وقال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الديك إذا صاح قال اذكروا الله
يا غافلين ) . وقال الحسن بن علي بن أبي طالب قال النبي صلى الله عليه وسلم : (
النسر إذا صاح قال يا بن آدم عش ما شئت فآخرك الموت وإذا صاح العقاب قال في البعد
من الناس الراحة وإذا صاح القنبر قال إلهي العن مبغضي آل محمد وإذا صاح الخطاف قرأ
: { الحمد لله رب العالمين } [ الفاتحة : 2 ] إلى آخرها فيقول : { ولا الضالين } [
الفاتحة : 7 ] ويمد بها صوته كما يمد القارئ . قال قتادة والشعبي : إنما هذا الأمر
في الطير خاصة , لقوله : { علمنا منطق الطير }{ والنملة طائر إذ قد يوجد له أجنحة
. قال الشعبي : وكذلك كانت هذه النملة ذات جناحين . وقالت فرقة : بل كان في جميع
الحيوان , وإنما ذكر الطير لأنه كان جندا من جند سليمان يحتاجه في التظليل عن الشمس
وفي البعث في الأمور فخص بالذكر لكثرة مداخلته ; ولأن أمر سائر الحيوان نادر وغير
متردد ترداد أمر الطير . وقال أبو جعفر النحاس : والمنطق قد يقع لما يفهم بغير كلام
, والله جل وعز أعلم بما أراد . قال ابن العربي : من قال إنه لا يعلم إلا منطق الطير
فنقصان عظيم , وقد اتفق الناس على أنه كان يفهم كلام من لا يتكلم ويخلق له فيه
القول من النبات , فكان كل نبت يقول له : أنا شجر كذا , أنفع من كذا وأضر من كذا ;
فما ظنك بالحيوان .
فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : { وحشر لسليمان }{ حشر }{ جمع والحشر الجمع
ومنه قوله عز وجل : { وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا } [ الكهف : 47 ] واختلف الناس
في مقدار جند سليمان عليه السلام ; فيقال : كان معسكره مائة فرسخ في مائة : خمسة
وعشرون للجن , وخمسة وعشرون للإنس , وخمسة وعشرون للطير , وخمسة وعشرون للوحش ,
وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية . ابن عطية
: واختلف في معسكره ومقدار جنده اختلافا شديدا غير أن الصحيح أن ملكه كان عظيما ملأ
الأرض , وانقادت له المعمورة كلها .{ فهم يوزعون }{ معناه يرد أولهم إلى آخرهم
ويكفون . قال قتادة : كان لكل صنف وزعة في رتبتهم ومواضعهم من الكرسي ومن الأرض إذا
مشوا فيها . يقال : وزعته أوزعه وزعا أي كففته . والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع
من تقدم منهم . روى محمد بن إسحاق عن أسماء بنت أبي بكر قالت : لما وقف رسول الله
صلى الله عليه وسلم بذي طوى - تعني يوم الفتح - قال أبو قحافة وقد كف بصره يومئذ
لابنته : اظهري بي على أبي قبيس . قالت : فأشرفت به عليه فقال : ما ترين ؟ قالت :
أرى سوادا مجتمعا . قال : تلك الخيل . قالت : وأرى رجلا من السواد مقبلا ومدبرا . قال
: ذلك الوازع يمنعها أن تنتشر . وذكر تمام الخبر . ومن هذا قوله عليه السلام : ( ما
رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك
إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عنه الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر )
قيل : وما رأى يا رسول الله ؟ قال : ( أما أنه رأى جبريل يزع الملائكة ) خرجه
الموطأ . ومن هذا المعنى قول النابغة : على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما
أصح والشيب وازع آخر : ولما تلاقينا جرت من جفوننا دموع وزعنا غربها بالأصابع آخر :
ش ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى /و من الناس إلا وافر العقل كامله ش وقيل : هو من
التوزيع بمعنى التفريق . والقوم أوزاع أي طوائف . وفي القصة : إن الشياطين نسجت له
بساطا فرسخا في فرسخ ذهبا في إبريسم , وكان يوضع له كرسي من ذهب وحوله ثلاثة آلاف
كرسي من ذهب وفضة فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب , والعلماء على كراسي الفضة .
الثانية : في الآية دليل على اتخاذ الإمام والحكام وزعة يكفون الناس ويمنعونهم من
تطاول بعضهم على بعض ; إذ لا يمكن الحكام ذلك بأنفسهم . وقال ابن عون : سمعت الحسن
يقول وهو في مجلس قضائه لما رأى ما يصنع الناس قال : والله ما يصلح هؤلاء الناس إلا
وزعة . وقال الحسن أيضا : لا بد للناس من وازع ; أي من سلطان يكفهم . وذكر ابن القاسم
قال حدثنا مالك أن عثمان بن عفان كان يقول : ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن ;
أي من الناس . قال ابن القاسم : قلت لمالك ما يزع ؟ قال : يكف . قال القاضي أبو بكر
بن العربي : وقد جهل قوم المراد بهذا الكلام , فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان
تردع الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن وهذا جهل بالله وحكمته . قال : فإن الله ما
وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافة قائمة لقوام الخلق , لا زيادة عليها , ولا نقصان
معها , ولا يصلح سواها , ولكن الظلمة خاسوا بها , وقصروا عنها , وأتوا ما أتوا بغير
نية , ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها , فلم يرتدع الخلق بها , ولو حكموا بالعدل
, وأخلصوا النية , لاستقامت الأمور , وصلح الجمهور .
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قال قتادة : ذكر لنا أنه واد بأرض
الشام . وقال كعب : هو بالطائف . قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا
قال الشعبي : كان للنملة جناحان فصارت من الطير , فلذلك علم منطقها ولولا ذلك لما
علمه . وقد مضى هذا ويأتي . وقرأ سليمان التيمي بمكة : { نملة }{ و }{ النمل }{ بفتح
النون وضم الميم . وعنه أيضا ضمهما جميعا . وسميت النملة نملة لتنملها وهو كثرة
حركتها وقلة قرارها . قال كعب : مر سليمان عليه السلام بوادي السدير من أودية الطائف
, فأتى على وادي النمل , فقامت نملة تمشي وهي عرجاء تتكاوس مثل الذئب في العظم ;
فنادت : { يا أيها النمل }{ الآية . الزمخشري : سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال ,
وكانت تمشي وهي عرجاء تتكاوس ; وقيل : كان اسمها طاخية . وقال السهيلي : ذكروا اسم
النملة المكلمة لسليمان عليه السلام , وقالوا اسمها حرميا , ولا أدري كيف يتصور
للنملة اسم علم والنمل لا يسمي بعضهم بعضا , ولا الآدميون يمكنهم تسمية واحدة منهم
باسم علم , لأنه لا يتميز للآدميين بعضهم من بعض , ولا هم أيضا واقعون تحت ملكة بني
آدم كالخيل والكلاب ونحوها , فإن العلمية فيما كان كذلك موجودة عند العرب . فإن قلت
: إن العلمية موجودة في الأجناس كثعالة وأسامة وجعار وقثام في الضبع ونحو هذا كثير
; فليس اسم النملة من هذا ; لأنهم زعموا أنه اسم علم لنملة واحدة معينة من بين سائر
النمل , وثعالة ونحوه لا يختص بواحد من الجنس , بل كل واحد رأيته من ذلك الجنس فهو
ثعالة , وكذلك أسامة وابن آوى وابن عرس وما أشبه ذلك . فإن صح ما قالوه فله وجه ,
وهو أن تكون هذه النملة الناطقة قد سميت بهذا الاسم في التوراة أو في الزبور أو في
بعض الصحف سماها الله تعالى بهذا الاسم , وعرفها به الأنبياء قبل سليمان أو بعضهم
. وخصت بالتسمية لنطقها وإيمانها فهذا وجه . ومعنى قولنا بإيمانها أنها قالت للنمل :
{ لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون "مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ
سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا فقولها : { وهم لا يشعرون }{ التفاتة مؤمن . أي
من عدل سليمان وفضله وفضل جنوده لا يحطمون نملة فما فوقها إلا بألا يشعروا . وقد قيل
: إن تبسم سليمان سرور بهذه الكلمة منها ; ولذلك أكد التبسم بقوله : { ضاحكا }{ إذ
قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا , ألا تراهم يقولون تبسم تبسم الغضبان وتبسم
تبسم المستهزئين . وتبسم الضحك إنما هو عن سرور , ولا يسر نبي بأمر دنيا ; وإنما سر
بما كان من أمر الآخرة والدين . وقولها : { وهم لا يشعرون }{ إشارة إلى الدين والعدل
والرأفة . ونظير قول النملة في جند سليمان : { وهم لا يشعرون }{ قول الله تعالى في
جند محمد صلى الله عليه وسلم : { فتصيبكم منهم معرة بغير علم } [ الفتح : 25 ]
. التفاتا إلى أنهم لا يقصدون هدر مؤمن . إلا أن المثني على جند سليمان هي النملة
بإذن الله تعالى , والمثني على جند محمد صلى الله عليه وسلم هو الله عز وجل بنفسه ;
لما لجنود محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل على جند غيره من الأنبياء ; كما لمحمد
صلى الله عليه وسلم فضل على جميع النبيين صلى الله عليهم وسلم أجمعين . وقرأ شهر بن
حوشب : { مسكنكم }{ بسكون السين على الإفراد . وفي مصحف أبي }{ مساكنكن لا يحطمنكم }
. وقرأ سليمان التيمي : { مساكنكم لا يحطمنكن }{ ذكره النحاس ; أي لا يكسرنكم بوطئهم
عليكم وهم لا يعلمون بكم قال المهدوي : وأفهم الله تعالى النملة هذا لتكون معجزة
لسليمان . وقال وهب : أمر الله تعالى الريح ألا يتكلم أحد بشيء إلا طرحته في سمع
سليمان ; بسبب أن الشياطين أرادت كيده . وقد قيل : إن هذا الوادي كان ببلاد اليمن
وأنها كانت نملة صغيرة مثل النمل المعتاد قاله الكلبي . وقال نوف الشامي وشقيق بن
سلمة : كان نمل ذلك الوادي كهيئة الذئاب في العظم . وقال بريدة الأسلمي : كهيئة
النعاج . قال محمد بن علي الترمذي : فإن كان على هذه الخلقة فلها صوت , وإنما افتقد
صوت النمل لصغر خلقها , وإلا فالأصوات في الطيور والبهائم كائنة , وذلك منطقهم ,
وفي تلك المناطق معاني التسبيح وغير ذلك , وهو قوله تعالى : { وإن من شيء إلا يسبح
بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } [ الإسراء : 44 ] . قلت : وقوله : { لا يحطمنكم }
يدل على صحة قول الكلبي ; إذ لو كانت كهيئة الذئاب والنعاج لما حطمت بالوطء ; والله
أعلم . وقال : { ادخلوا مساكنكم }{ فجاء على خطاب الآدميين لأن النمل هاهنا أجري مجرى
الآدميين حين نطق كما ينطق الآدميون . قال أبو إسحاق الثعلبي : ورأيت في بعض الكتب
أن سليمان قال لها لم حذرت النمل ؟ أخفت ظلمي ؟ أما علمت أني نبي عدل ؟ فلم قلت : { يحطمنكم سليمان وجنوده }{ فقالت النملة : أما سمعت قولي : { وهم لا يشعرون }{ مع أني
لم أرد حطم النفوس , وإنما أردت حطم القلوب خشية أن يتمنين مثل ما أعطيت , أو يفتتن
بالدنيا , ويشغلن بالنظر إلى ملكك عن التسبيح والذكر . فقال لها سليمان : عظيني
. فقالت النملة : أما علمت لم سمي أبوك داود ؟ قال : لا . قالت : لأنه داوى جراحة
فؤاده ; هل علمت لم سميت سليمان ؟ قال : لا . قالت : لأنك سليم الناحية على ما
أوتيته بسلامة صدرك , وإن لك أن تلحق بأبيك . ثم قالت : أتدري لم سخر الله لك الريح
؟ قال : لا . قالت : أخبرك أن الدنيا كلها ريح .
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا متعجبا ثم مضت مسرعة إلى قومها , فقالت : هل
عندكم من شيء نهديه إلى نبي الله ؟ قالوا : وما قدر ما نهدي له ! والله ما عندنا
إلا نبقة واحدة . قالت : حسنة ; ايتوني بها . فأتوها بها فحملتها بفيها فانطلقت تجرها
, فأمر الله الريح فحملتها , وأقبلت تشق الإنس والجن والعلماء والأنبياء على البساط
, حتى وقعت بين يديه , ثم وضعت تلك النبقة من فيها في كفه , وأنشأت تقول : ألم ترنا
نهدي إلى الله ماله وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله ولو كان يهدى للجليل بقدره لقصر
عنه البحر يوما وساحله ولكننا نهدي إلى من نحبه فيرضى به عنا ويشكر فاعله وما ذاك
إلا من كريم فعاله وإلا فما في ملكنا ما يشاكله فقال لها : بارك الله فيكم ; فهم
بتلك الدعوة أشكر خلق الله وأكثر خلق الله . وقال ابن عباس : نهى النبي صلى الله
عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب : الهدهد والصرد والنملة والنحلة ; خرجه أبو داود
وصححه أبو محمد عبد الحق وروي من حديث أبي هريرة . وقد مضى في }{ الأعراف } . فالنملة
أثنت على سليمان وأخبرت بأحسن ما تقدر عليه بأنهم لا يشعرون إن حطموكم , ولا يفعلون
ذلك عن عمد منهم , فنفت عنهم الجور ; ولذلك نهى عن قتلها , وعن قتل الهدهد ; لأنه
كان دليل سليمان على الماء ورسوله إلى بلقيس . وقال عكرمة : إنما صرف الله شر سليمان
عن الهدهد لأنه كان بارا بوالديه . والصرد يقال له الصوام . وروي عن أبي هريرة قال :
أول من صام الصرد ولما خرج إبراهيم عليه السلام من الشام إلى الحرم في بناء البيت
كانت السكينة معه والصرد , فكان الصرد دليله على الموضع والسكينة مقداره , فلما صار
إلى البقعة وقعت السكينة على موضع البيت ونادت وقالت : ابن يا إبراهيم على مقدار
ظلي . وقد تقدم في }{ الأعراف }{ سبب النهي عن قتل الضفدع وفي }{ النحل }{ النهي عن قتل
النحل . والحمد لله . قرأ الحسن : { لا يحطمنكم }{ وعنه أيضا }{ لا يحطمنكم }{ وعنه
أيضا وعن أبي رجاء : { لا يحطمنكم }{ والحطم الكسر . حطمته حطما أي كسرته وتحطم ;
والتحطيم التكسير , { وهم لا يشعرون }{ يجوز أن يكون حالا من سليمان , وجنوده ,
والعامل في الحال }{ يحطمنكم } . أو حالا من النملة والعامل }{ قالت } : أي قالت ذلك
في حال غفلة الجنود ; كقولك : قمت والناس غافلون . أو حالا من النمل أيضا والعامل }
قالت }{ على أن المعنى : والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم مقالتها . وفيه بعد وسيأتي
. روى مسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أن نملة قرصت
نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله تعالى إليه أفي أن قرصتك نملة
أهلكت أمة من الأمم تسبح ) وفي طريق آخر : { فهلا نملة واحدة } . قال علماؤنا : يقال
إن هذا النبي هو موسى عليه السلام , وإنه قال : يا رب تعذب أهل قرية بمعاصيهم وفيهم
الطائع . فكأنه أحب أن يريه ذلك من عنده , فسلط عليه الحر حتى التجأ إلى شجرة
مستروحا إلى ظلها , وعندها قرية النمل , فغلبه النوم , فلما وجد لذة النوم لدغته
النملة فأضجرته , فدلكهن بقدمه فأهلكهن , وأحرق تلك الشجرة التي عندها مساكنهم ,
فأراه الله العبرة في ذلك آية : لما لدغتك نملة فكيف أصبت الباقين بعقوبتها ! يريد
أن ينبهه أن العقوبة من الله تعالى تعم فتصير رحمة على المطيع وطهارة وبركة , وشرا
ونقمة على العاصي . وعلى هذا فليس في الحديث ما يدل على كراهة ولا حظر في قتل النمل
; فإن من آذاك حل لك دفعه عن نفسك , ولا أحد من خلقه أعظم حرمة من المؤمن , وقد
أبيح لك دفعه عنك بقتل وضرب على المقدار , فكيف بالهوام والدواب التي قد سخرت لك
وسلطت عليها , فإذا آذاك أبيح لك قتله . وروي عن إبراهيم : ما آذاك من النمل فاقتله
. وقوله : ( إلا نملة واحدة ) دليل على أن الذي يؤذي يؤذى ويقتل , وكلما كان القتل
لنفع أو دفع ضرر فلا بأس به عند العلماء . وأطلق له نملة ولم يخص تلك النملة التي
لدغت من غيرها ; لأنه ليس المراد القصاص ; لأنه لو أراده لقال ألا نملتك التي لدغتك
, ولكن قال : ألا نملة مكان نملة ; فعم البريء والجاني بذلك , ليعلم أنه أراد أن
ينبهه لمسألته ربه في عذاب أهل قرية وفيهم المطيع والعاصي . وقد قيل : إن هذا النبي
كانت العقوبة للحيوان بالتحريق جائزة في شرعه ; فلذلك إنما عاتبه الله تعالى في
إحراق الكثير من النمل لا في أصل الإحراق . ألا ترى قوله : ( فهلا نملة واحدة ) أي
هلا حرقت نملة واحدة . وهذا بخلاف شرعنا , فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن
التعذيب بالنار . وقال : ( لا يعذب بالنار إلا الله ) . وكذلك أيضا كان قتل النمل
مباحا في شريعة ذلك النبي ; فإن الله لم يعتبه على أصل قتل النمل . وأما شرعنا فقد
جاء من حديث ابن عباس وأبي هريرة النهي عن ذلك . وقد كره مالك قتل النمل إلا أن يضر
ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل . وقد قيل : إن هذا النبي إنما عاتبه الله حيث انتقم
لنفسه بإهلاك جمع آذاه واحد , وكان الأولى الصبر والصفح ; لكن وقع للنبي أن هذا
النوع مؤذ لبني آدم , وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان غير الناطق , فلو
انفرد له هذا النظر ولم ينضم إليه التشفي الطبعي لم يعاتب . والله أعلم . لكن لما
انضاف إليه التشفي الذي دل عليه سياق الحديث عوتب عليه . قوله : ( أفي أن قرصتك
نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح ) مقتضى هذا أنه تسبيح بمقال ونطق , كما أخبر الله عن
النمل أن لها منطقا وفهمه سليمان عليه السلام - وهذا معجزة له - وتبسم من قولها
. وهذا يدل دلالة واضحة أن للنمل نطقا وقولا , لكن لا يسمعه كل أحد , بل من شاء الله
تعالى ممن خرق له العادة من نبي أو ولي . ولا ننكر هذا من حيث أنا لا نسمع ذلك ;
فإنه لا يلزم من عدم الإدراك عدم المدرك في نفسه . ثم إن الإنسان يجد في نفسه قولا
وكلاما ولا يسمع منه إلا إذا نطق بلسانه . وقد خرق الله العادة لنبينا محمد صلى الله
عليه وسلم فأسمعه كلام النفس من قوم تحدثوا مع أنفسهم وأخبرهم بما في نفوسهم , كما
قد نقل منه الكثير من أئمتنا في كتب معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ; وكذلك وقع
لكثير ممن أكرمه الله تعالى من الأولياء مثل ذلك في غير ما قضية . وإياه عنى النبي
صلى الله عليه وسلم بقوله : ( إن في أمتي محدثين وإن عمر منهم ) . وقد مضى هذا
المعنى في تسبيح الجماد في }{ الإسراء }{ وإنه تسبيح لسان ومقال لا تسبيح دلالة حال
. والحمد لله . قوله تعالى : { فتبسم ضاحكا من قولها }{ وقرأ ابن السميقع : { ضحكا }
بغير ألف , وهو منصوب على المصدر بفعل محذوف يدل عليه تبسم , كأنه قال ضحك ضحكا ,
هذا مذهب سيبويه . وهو عند غير سيبويه منصوب بنفس }{ تبسم }{ لأنه في معنى ضحك ; ومن
قرأ : { ضاحكا }{ فهو منصوب على الحال من الضمير في }{ تبسم } . والمعنى تبسم مقدار
الضحك ; لأن الضحك يستغرق التبسم , والتبسم دون الضحك وهو أوله . يقال : بسم (
بالفتح ) يبسم بسما فهو باسم وابتسم وتبسم , والمبسم الثغر مثل المجلس من جلس يجلس
ورجل مبسام وبسام كثير التبسم , فالتبسم ابتداء الضحك . والضحك عبارة عن الابتداء
والانتهاء , إلا أن الضحك يقتضي مزيدا على التبسم , فإذا زاد ولم يضبط الإنسان نفسه
قيل قهقه . والتبسم ضحك الأنبياء عليهم السلام في غالب أمرهم . وفي الصحيح عن جابر بن
سمرة وقيل له : أكنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم ; قال : نعم كثيرا ; كان لا
يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح - أو الغداة - حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام ,
وكانوا يتحدثون ويأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم . وفيه عن سعد قال : كان رجل
من المشركين قد أحرق المسلمين , فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( ارم فداك أبي
وأمي ) قال فنزعت له بسهم ليس فيه نصل فأصبت جنبه فسقط فانكشفت عورته , فضحك رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى نظرت إلى نواجذه . فكان عليه السلام في أكثر أحواله
يتبسم . وكان أيضا يضحك في أحوال أخر ضحكا أعلى من التبسم وأقل من الاستغراق الذي
تبدو فيه اللهوات . وكان في النادر عند إفراط تعجبه ربما ضحك حتى بدت نواجذه . وقد
كره العلماء منه الكثرة ; كما قال لقمان لابنه : يا بني إياك وكثرة الضحك فإنه يميت
القلب . وقد روي مرفوعا من حديث أبي ذر وغيره . وضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى
بدت نواجذه حين رمى سعد الرجل فأصابه , إنما كان سرورا بإصابته لا بانكشاف عورته ;
فإنه المنزه عن ذلك صلى الله عليه وسلم . لا اختلاف عند العلماء أن الحيوانات كلها
لها أفهام وعقول . وقد قال الشافعي : الحمام أعقل الطير . قال ابن عطية : والنمل
حيوان فطن قوي شمام جدا يدخر ويتخذ القرى ويشق الحب بقطعتين لئلا ينبت , ويشق
الكزبرة بأربع قطع ; لأنها تنبت إذا قسمت شقتين , ويأكل في عامه نصف ما جمع ويستبقي
سائره عدة . قال ابن العربي : وهذه خواص العلوم عندنا , وقد أدركتها النمل بخلق الله
ذلك لها ; قال الأستاذ أبو المظفر شاهنور الإسفرايني : ولا يبعد أن تدرك البهائم
حدوث العالم وحدوث المخلوقات ; ووحدانية الإله , ولكننا لا نفهم عنها ولا تفهم عنا
, أما أنا نطلبها وهي تفر منا فبحكم الجنسية . وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ
أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ
أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ ف }{ أن }{ مصدرية . و }{ أوزعني }{ أي ألهمني ذلك . وأصله
من وزع فكأنه قال : كفني عما يسخط . وقال محمد بن إسحاق : يزعم أهل الكتاب أن أم
سليمان هي امرأة أوريا التي امتحن الله بها داود , أو أنه بعد موت زوجها تزوجها
داود فولدت له سليمان عليه السلام . وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة }{ ص }{ إن شاء
الله تعالى . وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ أي مع عبادك ,
عن ابن زيد . وقيل : المعنى في جملة عبادك الصالحين .
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ ذكر شيئا آخمما جرى له في مسيره الذي كان فيه من
النمل ما تقدم . والتفقد تطلب ما غاب عنك من شيء . والطير اسم جامع والواحد طائر ,
والمراد بالطير هنا جنس الطير وجماعتها . وكانت تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها
. واختلف الناس في معنى تفقده للطير ; فقالت فرقة : ذلك بحسب ما تقتضيه العناية
بأمور الملك , والتهمم بكل جزء منها ; وهذا ظاهر الآية . وقالت فرقة : بل تفقد الطير
لأن الشمس دخلت من موضع الهدهد حين غاب ; فكان ذلك سبب تفقد الطير ; ليتبين من أين
دخلت الشمس . وقال عبد الله بن سلام : إنما طلب الهدهد لأنه احتاج إلى معرفة الماء
على كم هو من وجه الأرض ; لأنه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء , وأن الهدهد كان
يرى باطن الأرض وظاهرها ; فكان يخبر سليمان بموضع الماء , ثم كانت الجن تخرجه في
ساعة يسيرة ; تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ الشاة ; قاله ابن عباس فيما روي عن ابن
سلام . قال أبو مجلز قال ابن عباس لعبد الله بن سلام : أريد أن أسألك عن ثلاث مسائل
. قال : أتسألني وأنت تقرأ القرآن ؟ قال : نعم ثلاث مرات . قال : لم تفقد سليمان
الهدهد دون سائر الطير ؟ قال : احتاج إلى الماء ولم يعرف عمقه - أو قال مسافته -
وكان الهدهد يعرف ذلك دون سائر الطير فتفقده . وقال في كتاب النقاش : كان الهدهد
مهندسا . وروي أن نافع بن الأزرق سمع ابن عباس يذكر شأن الهدهد فقال له : قف يا وقاف
كيف يرى الهدهد باطن الأرض وهو لا يرى الفخ حين يقع فيه ؟ ! فقال له ابن عباس : إذا
جاء القدر عمي البصر . وقال مجاهد : قيل لابن عباس كيف تفقد الهدهد من الطير ؟ فقال
: نزل منزلا ولم يدر ما بعد الماء , وكان الهدهد مهتديا إليه , فأراد أن يسأله . قال
مجاهد : فقلت كيف يهتدي والصبي يضع له الحبالة فيصيده ؟ قال : إذا جاء القدر عمي
البصر . قال ابن العربي : ولا يقدر على هذا الجواب إلا عالم القرآن . قلت : هذا
الجواب قد قاله الهدهد لسليمان كما تقدم . وأنشدوا : ش إذا أراد الله أمرا بامرئ /و
وكان ذا عقل ورأي ونظر وحيلة يعملها في دفع ما /و يأتي به مكروه أسباب القدر غطى
عليه سمعه وعقله /و وسله من ذهنه سل الشعر حتى إذا أنفذ فيه حكمه /و رد عليه عقله
ليعتبر قال الكلبي : لم يكن له في مسيره إلا هدهد واحد . والله أعلم . في هذه الآية
دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته ; والمحافظة عليهم . فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف
لم يخف على سليمان حاله , فكيف بعظام الملك . ويرحم الله عمر فإنه كان على سيرته ;
قال : لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب ليسأل عنها عمر . فما ظنك بوال تذهب
على يديه البلدان , وتضيع الرعية ويضيع الرعيان . وفي الصحيح عن عبد الله بن عباس أن
عمر بن الخطاب خرج إلى الشام , حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد : أبو عبيدة
وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام . الحديث ; قال علماؤنا : كان هذا الخروج
من عمر بعد ما فتح بيت المقدس سنة سبع عشرة على ما ذكره خليفة بن خياط . كان يتفقد
أحوال رعيته وأحوال أمرائه بنفسه , فقد دل القرآن والسنة وبينا ما يجب على الإمام
من تفقد أحوال رعيته , ومباشرة ذلك بنفسه , والسفر إلى ذلك وإن طال . ورحم الله ابن
المبارك حيث يقول : وهل أفسد الدين إلا الملوك /و وأحبار سوء ورهبانها مَا لِيَ لَا
أَرَى الْهُدْهُدَ أي ما للهدهد لا أراه ; فهو من القلب الذي لا يعرف معناه . وهو
كقولك : ما لي أراك كئيبا . أي ما لك . والهدهد طير معروف وهدهدته صوته . قال ابن عطية
: إنما مقصد الكلام الهدهد غاب لكنه أخذ اللازم عن مغيبه وهو أن لا يراه , فاستفهم
على جهة التوقيف على اللازم وهذا ضرب من الإيجاز . والاستفهام الذي في قوله : { ما
لي }{ ناب مناب الألف التي تحتاجها أم . وقيل : إنما قال : { ما لي لا أرى الهدهد } ;
لأنه اعتبر حال نفسه , إذ علم أنه أوتي الملك العظيم , وسخر له الخلق , فقد لزمه حق
الشكر بإقامة الطاعة وإدامة العدل , فلما فقد نعمة الهدهد توقع أن يكون قصر في حق
الشكر , فلأجله سلبها فجعل يتفقد نفسه ; فقال : { ما لي } . قال ابن العربي : وهذا
يفعله شيوخ الصوفية إذا فقدوا مالهم , تفقدوا أعمالهم ; هذا في الآداب , فكيف بنا
اليوم ونحن نقصر في الفرائض ! . وقرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم والكسائي وهشام
وأيوب : { ما لي }{ بفتح الياء وكذلك في }{ يس }{ وما لي لا أعبد الذي فطرني } [ يس
: 22 ] . وأسكنها حمزة ويعقوب . وقرأ الباقون المدنيون وأبو عمرو : بفتح التي في }{ يس
{ وإسكان هذه . قال أبو عمرو : لأن هذه التي في }{ النمل }{ استفهام , والأخرى انتفاء
. واختار أبو حاتم وأبو عبيد الإسكان }{ فقال ما لي } . وقال أبو جعفر النحاس : زعم
قوم أنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان مبتدأ , وبين ما كان معطوفا على ما قبله ,
وهذا ليس بشيء ; وإنما هي ياء النفس , من العرب من يفتحها ومنهم من يسكنها , فقرءوا
باللغتين ; واللغة الفصيحة في ياء النفس أن تكون مفتوحة ; لأنها اسم وهي على حرف
واحد , وكان الاختيار ألا تسكن فيجحف الاسم . أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ بمعنى
بل .
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ دليل على أن الحد على قدر
الذنب لا على قدر الجسد , أما أنه يرفق بالمحدود في الزمان والصفة . روي عن ابن عباس
ومجاهد وابن جريج أن تعذيبه للطير كان بأن ينتف ريشه . قال ابن جريج : ريشه أجمع
. وقال يزيد بن رومان : جناحاه . فعل سليمان هذا بالهدهد إغلاظا على العاصين , وعقابا
على إخلاله بنوبته ورتبته ; وكأن الله أباح له ذلك , كما أباح ذبح البهائم والطير
للأكل وغيره من المنافع . والله أعلم . وفي }{ نوادر الأصول }{ قال : حدثنا سليمان بن
حميد أبو الربيع الإيادي , قال حدثنا عون بن عمارة , عن الحسين الجعفي , عن الزبير
بن الخريت , عن عكرمة , قال : إنما صرف الله شر سليمان عن الهدهد لأنه كان بارا
بوالديه . وسيأتي . وقيل : تعذيبه أن يجعل مع أضداده . وعن بعضهم : أضيق السجون معاشرة
الأضداد وقيل : لألزمنه خدمة أقرانه . وقيل : إيداعه القفص . وقيل : بأن يجعله للشمس
بعد نتفه . وقيل : بتبعيده عن خدمتي , والملوك يؤدبون بالهجران الجسد بتفريق إلفه
. وهو مؤكد بالنون الثقيلة , وهي لازمة هي أو الخفيفة . قال أبو حاتم : ولو قرئت }
لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه }{ جاز . أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ أي
بحجة بينة . وليست اللام في }{ ليأتيني }{ لام القسم لأنه لا يقسم سليمان على فعل
الهدهد ; ولكن لما جاء في أثر قوله : { لأعذبنه }{ وهو مما جاز به القسم أجراه مجراه
. وقرأ ابن كثير وحده : { ليأتينني }{ بنونين .
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ أي الهدهد . والجمهور من القراء على ضم الكاف , وقرأ عاصم
وحده بفتحها . ومعناه في القراءتين أقام . قال سيبويه : مكث يمكث مكوثا كما قالوا قعد
يقعد قعودا . قال : ومكث مثل ظرف . قال غيره : والفتح أحسن لقوله تعالى : { ماكثين }
[ الكهف : 3 ] إذ هو من مكث ; يقال : مكث يمكث فهو ماكث ; ومكث يمكث مثل عظم يعظم
فهو مكيث ; مثل عظيم . ومكث يمكث فهو ماكث ; مثل حمض يحمض فهو حامض . والضمير في }
مكث }{ يحتمل أن يكون لسليمان ; والمعنى : بقي سليمان بعد التفقد والوعيد غير طويل
أي غير وقت طويل . ويحتمل أن يكون للهدهد وهو الأكثر . فجاء : { فقال أحطت بما لم تحط
به "فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وهي : أي علمت ما لم تعلمه من الأمر
فكان في هذا رد على من قال : إن الأنبياء تعلم الغيب . وحكى الفراء }{ أحط }{ يدغم
التاء في الطاء . وحكى }{ أحت }{ بقلب الطاء تاء وتدغم . وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ
بِنَبَإٍ يَقِينٍ أعلم سليمان ما لم يكن يعلمه , ودفع عن نفسه ما توعده من العذاب
والذبح . وقرأ الجمهور : { سبإ }{ بالصرف . وابن كثير وأبو عمرو : { سبأ }{ بفتح الهمزة
وترك الصرف ; فالأول على أنه اسم رجل نسب إليه قوم , وعليه قول الشاعر : ش الواردون
وتيم في ذرى سبإ /و قد عض أعناقهم جلد الجواميس وأنكر الزجاج أن يكون اسم رجل ,
وقال }{ سبأ }{ اسم مدينة تعرف بمأرب باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام . قلت
: وقع في عيون المعاني للغزنوي ثلاثة أميال . قتادة والسدي بعث إليه اثنا عشر نبيا
. وأنشد للنابغة الجعدي : من سبأ الحاضرين مأرب إذ /و يبنون من دون سيله العرما ش
قال : فمن لم يصرف قال إنه اسم مدينة , ومن صرف وهو الأكثر فلأنه اسم البلد فيكون
مذكرا سمي به مذكر . وقيل : اسم امرأة سميت بها المدينة . والصحيح أنه اسم رجل , كذلك
في كتاب الترمذي من حديث فروة بن مسيك المرادي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
وسيأتي إن شاء الله تعالى . قال ابن عطية : وخفي هذا الحديث على الزجاج فخبط عشواء
. وزعم الفراء أن الرؤاسي سأل أبا عمرو بن العلاء عن سبإ فقال : ما أدري ما هو . قال
النحاس : وتأول الفراء على أبي عمرو أنه منعه من الصرف لأنه مجهول , وأنه إذا لم
يعرف الشيء لم ينصرف . وقال النحاس : وأبو عمرو أجل من أن يقول مثل هذا , وليس في
حكاية الرؤاسي عنه دليل أنه إنما منعه من الصرف لأنه لم يعرفه , وإنما قال لا أعرفه
, ولو سئل نحوي عن اسم فقال لا أعرفه لم يكن في هذا دليل على أنه يمنعه من الصرف ,
بل الحق على غير هذا ; والواجب إذا لم يعرفه أن يصرفه ; لأن أصل الأسماء الصرف ;
وإنما يمنع الشيء من الصرف لعلة داخلة عليه ; فالأصل ثابت بيقين فلا يزول بما لا
يعرف . وذكر كلاما كثيرا عن النحاة وقال في آخره : والقول في }{ سبإ }{ ما جاء التوقيف
فيه أنه في الأصل اسم رجل , فإن صرفته فلأنه قد صار اسما للحي , وإن لم تصرفه جعلته
اسما للقبيلة مثل ثمود إلا أن الاختيار عند سيبويه الصرف وحجته في ذلك قاطعة ; لأن
هذا الاسم لما كان يقع له التذكير والتأنيث كان التذكير أولى ; لأنه الأصل والأخف .
وفي الآية دليل على أن الصغير يقول للكبير والمتعلم للعالم عندي ما ليس عندك إذا
تحقق ذلك وتيقنه . هذا عمر بن الخطاب مع جلالته رضي الله عنه وعلمه لم يكن عنده علم
بالاستئذان . وكان علم التيمم عند عمار وغيره , وغاب عن عمر وابن مسعود حتى قالا :
لا يتيمم الجنب . وكان حكم الإذن في أن تنفر الحائض عند ابن عباس ولم يعلمه عمر ولا
زيد بن ثابت . وكان غسل رأس المحرم معلوما عند ابن عباس وخفي عن المسور بن مخرمة
. ومثله كثير فلا يطول به .
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ لما قال الهدهد : { جئتك من سبإ بنبإ يقين
{ قال سليمان : وما ذلك الخبر ؟ قال : { إني وجدت امرأة تملكهم }{ يعني بلقيس بنت
شراحيل تملك أهل سبإ . ويقال : كيف وخفي على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطه
وبين بلدها قريبة , وهي من مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب ؟ والجواب أن الله تعالى
أخفى ذلك عنه لمصلحة , كما أخفى على يعقوب مكان يوسف . ويروى أن أحد أبويها كان من
الجن . قال ابن العربي : وهذا أمر تنكره الملحدة , ويقولون : الجن لا يأكلون ولا
يلدون ; كذبوا لعنهم الله أجمعين ; ذلك صحيح ونكاحهم جائز عقلا فإن صح نقلا فبها
ونعمت . قلت : خرج أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود أنه قال : قدم وفد من الجن
على رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقالوا : يا محمد انه أمتك أن يستنجوا بعظم أو
روثة أو جمجمة فإن الله جاعل لنا فيها رزقا . وفي صحيح مسلم : فقال : ( لكم كل عظم
ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم ) فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم الجن ) وفي
البخاري من حديث أبي هريرة قال فقلت : ما بال العظم والروثة ؟ فقال : { هما من طعام
الجن وإنه أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله تعالى ألا يمروا
بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعاما ) وهذا كله نص في أنهم يطعمون . وأما نكاحهم
فقد تقدمت الإشارة إليه في }{ الإسراء }{ عند قوله : { وشاركهم في الأموال والأولاد }
[ الإسراء : 64 ] . وروى وهيب بن جرير بن حازم عن الخليل بن أحمد عن عثمان بن حاضر
قال : كانت أم بلقيس من الجن يقال لها بلعمة بنت شيصان . وسيأتي لهذا مزيد بيان إن
شاء الله تعالى . روى البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما
بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال : ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) قال
القاضي أبو بكر بن العربي : هذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة ولا خلاف فيه ; ونقل
عن محمد بن جرير الطبري أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية , ولم يصح ذلك عنه , ولعله
نقل عنه كما نقل عن أبي حنيفة أنها إنما تقضي فيما تشهد فيه وليس بأن تكون قاضية
على الإطلاق ; ولا بأن يكتب لها مسطور بأن فلانة مقدمة على الحكم , وإنما سبيل ذلك
التحكيم والاستنابة في القضية الواحدة , وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير . وقد
روي عن عمر أنه قدم امرأة على حسبة السوق . ولم يصح فلا تلتفتوا إليه , فإنما هو من
دسائس المبتدعة في الأحاديث . وقد تناظر في هذه المسألة القاضي أبو بكر بن الطيب
المالكي الأشعري مع أبي الفرج بن طرار شيخ الشافعية , فقال أبو الفرج : الدليل على
أن المرأة يجوز أن تحكم أن الغرض من الأحكام تنفيذ القاضي لها , وسماع البينة عليها
, والفصل بين الخصوم فيها , وذلك ممكن من المرأة كإمكانه من الرجل . فاعترض عليه
القاضي أبو بكر ونقض كلامه بالإمامة الكبرى ; فإن الغرض منه حفظ الثغور , وتدبير
الأمور وحماية البيضة , وقبض الخراج ورده على مستحقه , وذلك لا يتأتى من المرأة
كتأتيه من الرجل . قال ابن العربي : وليس كلام الشيخين في هذه المسألة بشيء ; فإن
المرأة لا يتأتى منها أن تبرز إلى المجلس , ولا تخالط الرجال , ولا تفاوضهم مفاوضة
النظير للنظير ; لأنها إن كانت فتاة حرم النظر إليها وكلامها , وإن كانت برزة لم
يجمعها والرجال مجلس واحد تزدحم فيه معهم , وتكون مناظرة لهم ; ولن يفلح قط من تصور
هذا ولا من اعتقده . وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مبالغة ; أي مما تحتاجه المملكة
. وقيل : المعنى أوتيت من كل شيء في زمانها شيئا فحذف المفعول ; لأن الكلام دل عليه
. وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ أي سرير ; ووصفه بالعظم في الهيئة ورتبة السلطان . قيل :
كان من ذهب تجلس عليه . وقيل : العرش هنا الملك ; والأول أصح ; لقوله تعالى : { أيكم
يأتيني بعرشها } [ النمل : 38 ] . الزمخشري : فإن قلت كيف سوى الهدهد بين عرش بلقيس
وعرش الله في الوصف بالعظيم ؟ قلت : بين الوصفين بون عظيم ; لأن وصف عرشها بالعظيم
تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك , ووصف عرش الله بالعظيم تعظيم
له بالنسبة إلى ما خلق من السموات والأرض . قال ابن عباس : كان طول عرشها ثمانين
ذراعا , وعرضه أربعين ذراعا , وارتفاعه في السماء ثلاثين ذراعا , مكلل بالدر
والياقوت الأحمر , والزبرجد الأخضر . قتادة : وقوائمه لؤلؤ وجوهر , وكان مسترا
بالديباج والحرير , عليه سبعة مغاليق . مقاتل : كان ثمانين ذراعا في ثمانين ذراعا ,
وارتفاعه من الأرض ثمانون ذراعا , وهو مكلل بالجواهر . ابن إسحاق : وكان يخدمها
النساء , وكان معها لخدمتها ستمائة امرأة . قال ابن عطية : واللازم من الآية أنها
امرأة ملكت على مدائن اليمن , ذات ملك عظيم , وسرير عظيم , وكانت كافرة من قوم كفار
.
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ قيل : كانت هذه
الأمة ممن يعبد الشمس ; لأنهم كانوا زنادقة فيما يروى . وقيل : كانوا مجوسا يعبدون
الأنوار . وروي عن نافع أن الوقف على }{ عرش } . قال المهدوي : فعظيم على هذا متعلق
بما بعده , وكان ينبغي على هذا أن يكون عظيم إن وجدتها ; أي وجودي إياها كافرة
. وقال ابن الأنباري : { ولها عرش عظيم }{ وقف حسن , ولا يجوز أن يقف على }{ عرش }
ويبتدئ }{ عظيم وجدتها }{ إلا على من فتح ; لأن عظيما نعت لعرش فلو كان متعلقا ب }
وجدتها }{ لقلت عظيمة وجدتها ; وهذا محال من كل وجه . وقد حدثني أبو بكر محمد بن
الحسين بن شهريار , قال : حدثنا أبو عبد الله الحسين بن الأسود العجلي , عن بعض أهل
العلم أنه قال : الوقف على }{ عرش }{ والابتداء }{ عظيم }{ على معنى عظيم عبادتهم الشمس
والقمر . قال : وقد سمعت من يؤيد هذا المذهب , ويحتج بأن عرشها أحقر وأدق شأنا من أن
يصفه الله بالعظيم . قال ابن الأنباري : والاختيار عندي ما ذكرته أولا ; لأنه ليس
على إضمار عبادة الشمس والقمر دليل . وغير منكر أن يصف الهدهد عرشها بالعظيم إذا رآه
متناهي الطول والعرض ; وجريه على إعراب }{ عرش }{ دليل على أنه نعته . وَزَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ أي ما هم فيه من الكفر . فَصَدَّهُمْ عَنِ
السَّبِيلِ أي عن طريق التوحيد . وبين بهذا أن ما ليس بسبيل التوحيد فليس بسبيل
ينتفع به على التحقيق . فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ إلى الله وتوحيده .
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ قرأ أبو عمرو ونافع وعاصم وحمزة : { ألا يسجدوا لله }
بتشديد }{ ألا }{ قال ابن الأنباري : { فهم لا يهتدون }{ غير تام لمن شدد }{ ألا }{ لأن
المعنى : وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا . قال النحاس : هي }{ أن }{ دخلت عليها }{ لا }{ و
{ أن }{ في موضع نصب ; قال الأخفش : ب }{ زين }{ أي وزين لهم لئلا يسجدوا لله . وقال
الكسائي : ب }{ فصدهم }{ أي فصدهم ألا يسجدوا . وهو في الوجهين مفعول له . وقال اليزيدي
وعلي بن سليمان : { أن }{ بدل من }{ أعمالهم }{ في موضع نصب . وقال أبو عمرو : و }{ أن }
في موضع خفض على البدل من السبيل وقيل : العامل فيها }{ لا يهتدون }{ أي فهم لا
يهتدون أن يسجدوا لله ; أي لا يعلمون أن ذلك واجب عليهم . وعلى هذا القول }{ لا }
زائدة ; كقوله : { ما منعك ألا تسجد } [ الأعراف : 12 ] أي ما منعك أن تسجد . وعلى
هذه القراءة فليس بموضع سجدة ; لأن ذلك خبر عنهم بترك السجود , إما بالتزيين , أو
بالصد , أو بمنع الاهتداء . وقرأ الزهري والكسائي وغيرهما : { ألا يسجدوا لله }
بمعنى ألا يا هؤلاء اسجدوا ; لأن }{ يا }{ ينادى بها الأسماء دون الأفعال . وأنشد
سيبويه : يا لعنة الله والأقوام كلهم والصالحين على سمعان من جار قال سيبويه : { يا
{ لغير اللعنة , لأنه لو كان للعنة لنصبها , لأنه كان يصير منادى مضافا , ولكن
تقديره يا هؤلاء لعنة الله والأقوام على سمعان . وحكى بعضهم سماعا عن العرب : ألا يا
ارحموا ألا يا اصدقوا . يريدون ألا يا قوم ارحموا اصدقوا , فعلى هذه القراءة }
اسجدوا }{ في موضع جزم بالأمر والوقف على }{ ألا يا }{ ثم تبتدئ فتقول : { اسجدوا }
. قال الكسائي : ما كنت أسمع الأشياخ يقرءونها إلا بالتخفيف على نية الأمر . وفي
قراءة عبد الله : { ألا هل تسجدون لله }{ بالتاء والنون . وفي قراءة أبي }{ ألا تسجدون
لله }{ فهاتان القراءتان حجة لمن خفف . الزجاج : وقراءة التخفيف تقتضي وجوب السجود
دون التشديد . واختار أبو حاتم وأبو عبيدة قراءة التشديد . وقال : التخفيف وجه حسن
إلا أن فيه انقطاع الخبر من أمر سبأ , ثم رجع بعد إلى ذكرهم , والقراءة بالتشديد
خبر يتبع بعضه بعضا لا انقطاع في وسطه . ونحوه قال النحاس . قال : قراءة التخفيف
بعيدة ; لأن الكلام يكون معترضا , وقراءة التشديد يكون الكلام بها متسقا , وأيضا
فإن السواد على غير هذه القراءة , لأنه قد حذف منه ألفان , وإنما يختصر مثل هذا
بحذف ألف واحدة نحو يا عيسى بن مريم . ابن الأنباري : وسقطت ألف }{ اسجدوا }{ كما تسقط
مع هؤلاء إذا ظهر , ولما سقطت ألف }{ يا }{ واتصلت بها ألف }{ اسجدوا }{ سقطت , فعد
سقوطها دلالة على الاختصار وإيثارا لما يخف وتقل ألفاظه . وقال الجوهري في آخر كتابه
: قال بعضهم : إن }{ يا }{ في هذا الموضع إنما هو للتنبيه كأنه قال : ألا اسجدوا لله
, فلما أدخل عليه }{ يا }{ للتنبيه سقطت الألف التي في }{ اسجدوا }{ لأنها ألف وصل ,
وذهبت الألف التي في }{ يا }{ لاجتماع الساكنين ; لأنها والسين ساكنتان . قال ذو الرمة
: ش ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى و ولا زال منهلا بجرعائك القطر ش وقال
الجرجاني : هو كلام معترض من الهدهد أو سليمان أو من الله . أي ألا ليسجدوا ; كقوله
تعالى : { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } [ الجاثية : 14 ] قيل
: إنه أمر أي ليغفروا . وتنتظم على هذا كتابة المصحف ; أي ليس هاهنا نداء . قال ابن
عطية : قيل هو من كلام الهدهد إلى قوله }{ العظيم }{ وهو قول ابن زيد وابن إسحاق ;
ويعترض بأنه غير مخاطب فكيف يتكلم في معنى شرع . ويحتمل أن يكون من قول سليمان لما
أخبره الهدهد عن القوم . ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى فهو اعتراض بين الكلامين
وهو الثابت مع التأمل , وقراءة التشديد في }{ ألا }{ تعطي أن الكلام للهدهد , وقراءة
التخفيف تمنعه , والتخفيف يقتضي الأمر بالسجود لله عز وجل للأمر على ما بيناه . وقال
الزمخشري : فإن قلت أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا أم في إحداهما ؟ قلت هي
واجبة فيهما جميعا ; لأن مواضع السجدة إما أمر بها , أو مدح لمن أتى بها , أو ذم
لمن تركها , وإحدى القراءتين أمر بالسجود والأخرى ذم للتارك . قلت : وقد أخبر الله
عن الكفار بأنهم لا يسجدون كما في }{ الانشقاق }{ وسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها
, كما ثبت في البخاري وغيره فكذلك }{ النمل } . والله أعلم . الزمخشري : وما ذكره
الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد فغير مرجوع إليه . الَّذِي يُخْرِجُ
الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الذي يخرج الخبء في السموات والأرض }{ خبء
السماء قطرها , وخبء الأرض كنوزها ونباتها . وقال قتادة : الخبء السر . النحاس : وهذا
أولى . أي ما غاب في السموات والأرض , ويدل عليه }{ ما يخفون وما يعلنون } . وقرأ
عكرمة ومالك بن دينار : { الخب }{ بفتح الباء من غير همز . قال المهدوي : وهو التخفيف
القياسي ; وذكر من يترك الهمز في الوقف . وقال النحاس : وحكى أبو حاتم أن عكرمة قرأ
: { الذي يخرج الخبا }{ بألف غير مهموزة , وزعم أن هذا لا يجوز في العربية , واعتل
بأنه إن خفف الهمزة ألقى حركتها على الباء فقال : الخب في السموات والأرض }{ وأنه إن
حول الهمزة قال : الخبي بإسكان الباء وبعدها ياء . قال النحاس : وسمعت علي بن سليمان
يقول سمعت محمد بن يزيد يقول : كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو ولم يلحق بهم إلا
أنه إذا خرج من بلده لم يلق أعلم منه . وحكى سيبويه عن العرب أنها تبدل من الهمزة
ألفا إذا كان قبلها ساكن وكانت مفتوحة , وتبدل منها واوا إذا كان قبلها ساكن وكانت
مضمومة , وتبدل منها ياء إذا كان قبلها ساكن وكانت مكسورة ; فتقول : هذا الوثو
وعجبت من الوثي ورأيت الوثا ; وهذا من وثئت يده ; وكذلك هذا الخبو وعجبت من الخبي ,
ورأيت الخبا ; وإنما فعل هذا لأن الهمزة خفيفة فأبدل منها هذه الحروف . وحكى سيبويه
عن قوم من بني تميم وبني أسد أنهم يقولون : هذا الخبؤ ; يضمون الساكن إذا كانت
الهمزة مضمومة , ويثبتون الهمزة ويكسرون الساكن إذا كانت الهمزة مكسورة , ويفتحون
الساكن إذا كانت الهمزة مفتوحة . وحكى سيبويه أيضا أنهم يكسرون وإن كانت الهمزة
مضمومة , إلا أن هذا عن بني تميم ; فيقولون : الرديء ; وزعم أنهم لم يضموا الدال
لأنهم كرهوا ضمة قبلها كسرة ; لأنه ليس في الكلام فعل . وهذه كلها لغات داخلة على
اللغة التي قرأ بها الجماعة ; وفي قراءة عبد الله }{ الذي يخرج الخبا من السموات }{ و
{ من }{ و }{ في }{ يتعاقبان ; تقول العرب : لأستخرجن العلم فيكم يريد منكم ; قاله
الفراء . وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ويعلم ما يخفون وما يعلنون }
قراءة العامة فيهما بياء الغائب , وهذه القراءة تعطي أن الآية من كلام الهدهد , وأن
الله تعالى خصه من المعرفة بتوحيده ووجوب السجود له , وإنكار سجودهم للشمس ,
وإضافته للشيطان , وتزيينه لهم , ما خص به غيره من الطيور وسائر الحيوان ; من
المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقول الراجحة تهتدي لها . وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر
وحفص والكسائي : { تخفون }{ و }{ تعلنون }{ بالتاء على الخطاب ; وهذه القراءة تعطي أن
الآية من خطاب الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم .
إله إلا هو رب العرش العظيم }{ قرأ ابن محيصن }{ العظيم } : رفعا نعتا لله . الباقون
بالخفض نعتا للعرش . وخص بالذكر لأنه أعظم المخلوقات وما عداه في ضمنه وقبضته .
قَالَ سَنَنْظُرُ من النظر الذي هو التأمل والتصفح . أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ
الْكَاذِبِينَ أصدقت أم كنت من الكاذبين }{ في مقالتك . و }{ كنت }{ بمعنى أنت . وقال :
{ سننظر أصدقت }{ ولم يقل سننظر في أمرك ; لأن الهدهد لما صرح بفخر العلم في قوله :
{ أحطت بما لم تحط به }{ صرح له سليمان بقوله : سننظر أصدقت أم كذبت , فكان ذلك كفاء
لما قاله . { أصدقت أم كنت من الكاذبين }{ دليل على أن الإمام يجب عليه أن يقبل عذر
رعيته , ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم ; لأن سليمان لم يعاقب
الهدهد حين اعتذر إليه . وإنما صار صدق الهدهد عذرا لأنه أخبر بما يقتضي الجهاد ,
وكان سليمان عليه السلام حبب إليه الجهاد . وفي الصحيح : ( ليس أحد أحب إليه العذر
من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل ) . وقد قبل عمر عذر النعمان بن عدي ولم
يعاقبه . ولكن للإمام أن يمتحن ذلك إذا تعلق به حكم من أحكام الشريعة . كما فعل
سليمان ; فإنه لما قال الهدهد : { إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش
عظيم }{ لم يستفزه الطمع , ولا استجره حب الزيادة في الملك إلى أن يعرض له حتى قال :
{ وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله }{ فغاظه حينئذ ما سمع , وطلب الانتهاء
إلى ما أخبر , وتحصيل علم ما غاب عنه من ذلك , فقال : { سننظر أصدقت أم كنت من
الكاذبين }{ ونحو منه ما رواه الصحيح عن المسور بن مخرمة , حين استشار عمر الناس في
إملاص المرأة وهي التي يضرب بطنها فتلقي جنينها ; فقال المغيرة ابن شعبة : شهدت
النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة . قال فقال عمر : ايتني بمن يشهد
معك ; قال : فشهد له محمد بن مسلمة وفي رواية فقال : لا تبرح حتى تأتي بالمخرج من
ذلك ; فخرجت فوجدت محمد بن مسلمة فجئت به فشهد . ونحوه حديث أبي موسى في الاستئذان
وغيره .
اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ فألقه إليهم }{ قال الزجاج : فيها
خمسة أوجه }{ فألقه }{ إليهم }{ بإثبات الياء في اللفظ . وبحذف الياء وإثبات الكسرة
دالة عليها }{ فألقه إليهم } . وبضم الهاء وإثبات الواو على الأصل }{ فألقه وإليهم }
. وبحذف الواو وإثبات الضمة }{ فألقه إليهم } . واللغة الخامسة قرأ بها حمزة بإسكان
الهاء }{ فألقه إليهم } . قال النحاس : وهذا عند النحويين لا يجوز إلا على حيلة بعيدة
تكون : يقدر الوقف ; وسمعت علي بن سليمان يقول : لا تلتفت إلى هذه العلة , ولو جاز
أن يصل وهو ينوي الوقف لجاز أن يحذف الإعراب من الأسماء . وقال : { إليهم }{ على لفظ
الجمع ولم يقل إليها ; لأنه قال : { وجدتها وقومها يسجدون للشمس }{ فكأنه قال :
فألقه إلى الذين هذا دينهم ; اهتماما منه بأمر الدين , واشتغالا به عن غيره , وبنى
الخطاب في الكتاب على لفظ الجمع لذلك . وروي في قصص هذه الآية أن الهدهد وصل فألفى
دون هذه الملكة حجب جدران ; فعمد إلى كوة كانت بلقيس صنعتها لتدخل منها الشمس عند
طلوعها لمعنى عبادتها إياها , فدخل منها ورمى الكتاب على بلقيس وهي - فيما يروى -
نائمة ; فلما انتبهت وجدته فراعها , وظنت أنه قد دخل عليها أحد , ثم قامت فوجدت
حالها كما عهدت , فنظرت إلى الكوة تهمما بأمر الشمس , فرأت الهدهد فعلمت . وقال وهب
وابن زيد : كانت لها كوة مستقبلة مطلع الشمس , فإذا طلعت سجدت , فسدها الهدهد
بجناحه , فارتفعت الشمس ولم تعلم , فلما استبطأت الشمس قامت تنظر فرمى الصحيفة
إليها , فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت , لأن ملك سليمان عليه السلام كان في خاتمه ;
فقرأته فجمعت الملأ من قومها فخاطبتهم بما يأتي بعد . وقال مقاتل : حمل الهدهد
الكتاب بمنقاره , وطار حتى وقف على رأس المرأة وحولها الجنود والعساكر , فرفرف ساعة
والناس ينظرون إليه , فرفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها . في هذه الآية
دليل على إرسال الكتب إلى المشركين وتبليغهم الدعوة , ودعائهم إلى الإسلام . وقد كتب
النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وإلى كل جبار ; كما تقدم في }{ آل عمران }
:ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ تول عنهم }{ أمره بالتولي حسن أدب ليتنحى حسب ما يتأدب به
مع الملوك . بمعنى : وكن قريبا حتى ترى مراجعتهم ; قاله وهب بن منبه . وقال ابن زيد :
أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه ; أي ألقه وارجع . فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ
يرجعون }{ في معنى التقديم على قوله : { ثم تول }{ واتساق رتبة الكلام أظهر ; أي ألقه
ثم تول , وفي خلال ذلك فانظر أي انتظر . وقيل : فاعلم ; كقوله : { يوم ينظر المرء ما
قدمت يداه } [ النبأ : 40 ] أي اعلم ماذا يرجعون أي يجيبون وماذا يردون من القول
. وقيل : { فانظر ماذا يرجعون }{ يتراجعون بينهم من الكلام .
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ إني ألقي إلي كتاب
كريم }{ في الكلام حذف ; والمعنى : فذهب فألقاه إليهم فسمعها وهي تقول : { يا أيها
الملأ }{ ثم وصفت الكتاب بالكريم إما لأنه من عند عظيم في نفسها ونفوسهم فعظمته
إجلالا لسليمان عليه السلام ; وهذا قول ابن زيد . وإما أنها أشارت إلى أنه مطبوع
عليه بالخاتم , فكرامة الكتاب ختمه ; وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقيل : لأنه بدأ فيه ب }{ بسم الله الرحمن الرحيم }{ وقد قال صلى الله عليه وسلم : (
كل كلام لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم ) . وقيل : لأنه بدأ فيه
بنفسه , ولا يفعل ذلك إلا الجلة . وفي حديث ابن عمر أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان
يبايعه . من عبد الله لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين ; إني أقر لك بالسمع
والطاعة ما استطعت , وإن بني قد أقروا لك بذلك . وقيل : توهمت أنه كتاب جاء من
السماء إذ كان الموصل طيرا . وقيل : { كريم }{ حسن ; كقوله : { ومقام كريم } [
الشعراء : 58 ] أي مجلس حسن . وقيل : وصفته بذلك ; لما تضمن من لين القول والموعظة
في الدعاء إلى عبادة الله عز وجل , وحسن الاستعطاف والاستلطاف من غير أن يتضمن سبا
ولا لعنا , ولا ما يغير النفس , ومن غير كلام نازل ولا مستغلق ; على عادة الرسل في
الدعاء إلى الله عز وجل ; ألا ترى إلى قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم :
{ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } [ النحل : 125 ] وقوله لموسى وهارون
: { فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى } [ طه : 44 ] . وكلها وجوه حسان وهذا
أحسنها . وقد روي أنه لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم أحد قبل سليمان . وفي قراءة عبد
الله }{ وإنه من سليمان }{ بزيادة واو . الوصف بالكريم في الكتاب غاية الوصف ; ألا
ترى قوله تعالى : { إنه لقرآن كريم } [ الواقعة : 77 ] وأهل الزمان يصفون الكتاب
بالخطير وبالأثير وبالمبرور ; فإن كان لملك قالوا : العزيز وأسقطوا الكريم غفلة ,
وهو أفضلها خصلة . فأما الوصف بالعزيز فقد وصف به القرآن في قوله تعالى : { وإنه
لكتاب عزيز . لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } [ فصلت : 41 - 42 ] فهذه
عزته وليست لأحد إلا له , فاجتنبوها في كتبكم , واجعلوا بدلها العالي ; توفية لحق
الولاية , وحياطة للديانة ; قال القاضي أبو بكر بن العربي . كان رسم المتقدمين إذا
كتبوا أن يبدءوا بأنفسهم من فلان إلى فلان , وبذلك جاءت الآثار . وروى الربيع عن أنس
قال : ما كان أحد أعظم حرمة من النبي صلى الله عليه وسلم : وكان أصحابه إذا كتبوا
بدءوا بأنفسهم . وقال ابن سيرين قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن أهل فارس إذا
كتبوا بدءوا بعظمائهم فلا يبدأ الرجل إلا بنفسه ) قال أبو الليث في كتاب }{ البستان
{ له : ولو بدأ بالمكتوب إليه لجاز ; لأن الأمة قد اجتمعت عليه وفعلوه لمصلحة رأوا
في ذلك , أو نسخ ما كان من قبل ; فالأحسن في زماننا هذا أن يبدأ بالمكتوب إليه , ثم
بنفسه ; لأن البداية بنفسه تعد منه استخفافا بالمكتوب إليه وتكبرا عليه ; إلا أن
يكتب إلى عبد من عبيده , أو غلام من غلمانه . وإذا ورد على إنسان كتاب بالتحية أو
نحوها ينبغي أن يرد الجواب ; لأن الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر . وروي عن ابن
عباس أنه كان يرى رد الكتاب واجبا كما يرى رد السلام . والله أعلم . اتفقوا على كتب
{ بسم الله الرحمن الرحيم }{ في أول الكتب والرسائل , وعلى ختمها ; لأنه أبعد من
الريبة , وعلى هذا جرى الرسم , وبه جاء الأثر عن عمر بن الخطاب أنه قال : أيما كتاب
لم يكن مختوما فهو أغلف . وفي الحديث : ( كرم الكتاب ختمه ) . وقال بعض الأدباء ; هو
ابن المقفع : من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به ; لأن الختم ختم . وقال
أنس : لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى العجم فقيل له : إنهم لا
يقبلون إلا كتابا عليه ختم ; فاصطنع خاتما ونقش على فصه ( لا إله إلا الله محمد
رسول الله ) وكأني أنظر إلى وبيصه وبياضه في كفه .
وإنه بسم الله الرحمن الرحيم }{ وإنه }{ بالكسر فيهما أي وإن الكلام , أو إن مبتدأ
الكلام }{ بسم الله الرحمن الرحيم } . وأجاز الفراء }{ أنه من سليمان وأنه }{ بفتحهما
جميعا على أن يكونا في موضع رفع بدل من الكتاب ; بمعنى ألقي إلي أنه من سليمان
. وأجاز أن يكونا في موضع نصب على حذف الخافض ; أي لأنه من سليمان ولأنه ; كأنها
عللت كرمه بكونه من سليمان وتصديره بسم الله . وقرأ الأشهب العقيلي ومحمد بن السميقع
: { ألا تغلوا }{ بالغين المعجمة , وروي عن وهب بن منبه ; من غلا يغلو إذا تجاوز
وتكبر . وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة .
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي الملأ أفتوني في أمري }{ الملأ أشراف
القوم وقد مضى في سورة }{ البقرة }{ القول فيه . قال ابن عباس : كان معها ألف قيل
. وقيل : اثنا عشر ألف قيل مع كل قيل مائة ألف . والقيل الملك دون الملك الأعظم
. فأخذت في حسن الأدب مع قومها , ومشاورتهم في أمرها , وأعلمتهم أن ذلك مطرد عندها
في كل أمر يعرض ,أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تشهدون }{ فكيف في هذه
النازلة الكبرى . فراجعها الملأ بما يقر عينها , من إعلامهم إياها بالقوة والبأس ,
ثم سلموا الأمر إلى نظرها ; وهذه محاورة حسنة من الجميع . قال قتادة : ذكر لنا أنه
كان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا هم أهل مشورتها , كل رجل منهم على عشرة آلاف . في
هذه الآية دليل على صحة المشاورة . وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وشاورهم في الأمر } [ آل عمران : 159 ] في }{ آل عمران }{ إما استعانة بالآراء , وإما
مداراة للأولياء . وقد مدح الله تعالى الفضلاء بقوله : { وأمرهم شورى بينهم } [
الشورى : 38 ] . والمشاورة من الأمر القديم وخاصة في الحرب ; فهذه بلقيس امرأة
جاهلية كانت تعبد الشمس : { قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا
حتى تشهدون }{ لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم , وحزمهم فيما يقيم أمرهم , وإمضائهم
على الطاعة لها , بعلمها بأنهم إن لم يبذلوا أنفسهم وأموالهم ودماءهم دونها لم يكن
لها طاقة بمقاومة عدوها , وإن لم يجتمع أمرهم وحزمهم وجدهم كان ذلك عونا لعدوهم
عليهم , وإن لم تختبر ما عندهم , وتعلم قدر عزمهم لم تكن على بصيرة من أمرهم ,
وربما كان في استبدادها برأيها وهن في طاعتها , ودخيلة في تقدير أمرهم , وكان في
مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده من قوة شوكتهم , وشدة مدافعتهم ; ألا ترى إلى
قولهم في جوابهم .
قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وأولو بأس شديد }{ قال ابن
عباس : كان من قوة أحدهم أنه يركض فرسه حتى إذا احتد ضم فخذيه فحبسه بقوته
. وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ فانظري ماذا تأمرين }{ سلموا
الأمر إلى نظرها مع ما أظهروا لها من القوة والبأس والشدة ; فلما فعلوا ذلك أخبرت
عند ذلك بفعل الملوك بالقرى التي يتغلبون عليها . وفي هذا الكلام خوف على قومها ,
وحيطة واستعظام لأمر سليمان عليه السلام .{ وكذلك يفعلون }{ قيل : هو من قول بلقيس
تأكيدا للمعنى الذي أرادته . وقال ابن عباس : هو من قول الله عز وجل معرفا لمحمد صلى
الله عليه وسلم وأمته بذلك ومخبرا به . وقال وهب : لما قرأت عليهم الكتاب لم تعرف
اسم الله , فقالت : ما هذا ؟ ! فقال بعض القوم : ما نظن هذا إلا عفريتا عظيما من
الجن يقتدر به هذا الملك على ما يريده ; فسكتوه . وقال الآخر : أراهم ثلاثة من
العفاريت ; فسكتوه ; فقال شاب قد علم : يا سيدة الملوك ! إن سليمان ملك قد أعطاه
ملك السماء ملكا عظيما فهو لا يتكلم بكلمة إلا بدأ فيها بتسمية إلهه , والله اسم
مليك السماء , والرحمن الرحيم نعوته ; فعندها قالت : { أفتوني في أمري }{ فقالوا : { نحن أولو قوة }{ في القتال }{ وأولو بأس شديد }{ قوة في الحرب واللقاء }{ والأمر إليك }
ردوا أمرهم إليها لما جربوا على رأيها من البركة }{ فانظري ماذا تأمرين } .
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا
أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة }{ أهانوا
شرفاءها لتستقيم لهم الأمور , فصدق الله قولها .{ وكذلك يفعلون }{ قال ابن الأنباري
: { وجعلوا أعزة أهلها أذلة }{ هذا وقف تام ; فقال الله عز وجل تحقيقا لقولها : { وكذلك يفعلون }{ وشبيه به في سورة }{ الأعراف }{ قال الملأ من قوم فرعون إن هذا
لساحر عليم . يريد أن يخرجكم من أرضكم } [ الأعراف : 109 - 110 ] تم الكلام , فقال
فرعون : { فماذا تأمرون } [ الأعراف : 110 ] . وقال ابن شجرة . هو قول بلقيس ,
فالوقفوَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ يفعلون }{ أي وكذلك يفعل سليمان إذا دخل بلادنا .
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ إليهم بهدية }{ هذا من حسن نظرها
وتدبيرها ; أي إني أجرب هذا الرجل بهدية , وأعطيه فيها نفائس من الأموال , وأغرب
عليه بأمور المملكة : فإن كان ملكا دنياويا أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك , وإن
كان نبيا لم يرضه المال ولازمنا في أمر الدين , فينبغي لنا أن نؤمن به ونتبعه على
دينه , فبعثت إليه بهدية عظيمة أكثر الناس في تفصيلها , فقال سعيد بن جبير عن ابن
عباس : أرسلت إليه بلبنة من ذهب , فرأت الرسل الحيطان من ذهب فصغر عندهم ما جاءوا
به . وقال مجاهد : أرسلت إليه بمائتي غلام ومائتي جارية . وروي عن ابن عباس : باثنتي
عشرة وصيفة مذكرين قد ألبستهم زي الغلمان , واثني عشر غلاما مؤنثين قد ألبستهم زي
النساء , وعلى يد الوصائف أطباق مسك وعنبر , وباثنتي عشرة نجيبة تحمل لبن الذهب ,
وبخرزتين إحداهما غير مثقوبة , والأخرى مثقوبة ثقبا معوجا , وبقدح لا شيء فيه ,
وبعصا كان يتوارثها ملوك حمير , وأنفذت الهدية مع جماعة من قومها . وقيل : كان
الرسول واحدا ولكن كان في صحبته أتباع وخدم . وقيل : أرسلت رجلا من أشراف قومها يقال
له المنذر بن عمرو , وضمت إليه رجالا ذوي رأي وعقل , والهدية مائة وصيف ومائة وصيفة
, وقد خولف بينهم في اللباس , وقالت للغلمان : إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام فيه
تأنيث يشبه كلام النساء , وقالت للجواري : كلمنه بكلام فيه غلظ يشبه كلام الرجال ;
فيقال : إن الهدهد جاء وأخبر سليمان بذلك كله . وقيل : إن الله أخبر سليمان بذلك ,
فأمر سليمان عليه السلام أن يبسط من موضعه إلى تسع فراسخ بلبنات الذهب والفضة , ثم
قال : أي الدواب رأيتم أحسن في البر والبحر ؟ قالوا : يا نبي الله رأينا في بحر كذا
دواب منقطة مختلفة ألوانها , لها أجنحة وأعراف ونواصي ; فأمر بها فجاءت فشدت على
يمين الميدان وعلى يساره , وعلى لبنات الذهب والفضة , وألقوا لها علوفاتها ; ثم قال
: للجن علي بأولادكم ; فأقامهم - أحسن ما يكون من الشباب - عن يمين الميدان ويساره
. ثم قعد سليمان عليه السلام على كرسيه في مجلسه , ووضع له أربعة آلاف كرسي من ذهب
عن يمينه ومثلها عن يساره , وأجلس عليها الأنبياء والعلماء , وأمر الشياطين والجن
والإنس أن يصطفوا صفوفا فراسخ , وأمر السباع والوحوش والهوام والطير فاصطفوا فراسخ
عن يمينه وشماله , فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان , ورأوا الدواب
التي لم تر أعينهم أحسن منها تروث على لبنات الذهب والفضة , تقاصرت إليهم أنفسهم ,
ورموا ما معهم من الهدايا . وفي بعض الروايات : إن سليمان لما أمرهم بفرش الميدان
بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعا على قدر موضع بساط من الأرض
غير مفروش , فلما مروا به خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان ,
فلما رأوا الشياطين رأوا منظرا هائلا فظيعا ففزعوا وخافوا , فقالت لهم الشياطين :
جوزوا لا بأس عليكم ; فكانوا يمرون على كردوس كردوس من الجن والإنس والبهائم والطير
والسباع والوحوش حتى وقفوا بين يدي سليمان , فنظر إليهم سليمان نظرا حسنا بوجه طلق
, وكانت قالت لرسولها : إن نظر إليك نظر مغضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك منظره فأنا
أعز منه , وإن رأيت الرجل بشا لطيفا فاعلم أنه نبي مرسل فتفهم قوله ورد الجواب ,
فأخبر الهدهد سليمان بذلك على ما تقدم . وكانت عمدت إلى حقة من ذهب فجعلت فيها درة
يتيمة غير مثقوبة , وخرزة معوجة الثقب , وكتبت كتابا مع رسولها تقول فيه : إن كنت
نبيا فميز بين الوصفاء والوصائف , وأخبر بما في الحقة , وعرفني رأس العصا من أسفلها
, واثقب الدرة ثقبا مستويا , وأدخل خيط الخرزة , واملأ القدح ماء من ندى ليس من
الأرض ولا من السماء ; فلما وصل الرسول ووقف بين يدي سليمان أعطاه كتاب الملكة فنظر
فيه , وقال : أين الحقة ؟ فأتى بها فحركها ; فأخبره جبريل بما فيها , ثم أخبرهم
سليمان . فقال له الرسول : صدقت ; فاثقب الدرة , وأدخل الخيط في الخرزة ; فسأل
سليمان الجن والإنس عن ثقبها فعجزوا ; فقال للشياطين : ما الرأي فيها ؟ فقالوا :
ترسل إلى الأرضة , فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها حتى خرجت من الجانب الآخر ;
فقال لها سليمان : ما حاجتك ؟ قالت : تصير رزقي في الشجرة ; فقال لها : لك ذلك . ثم
قال سليمان : من لهذه الخرزة يسلكها الخيط ؟ فقالت دودة بيضاء : أنا لها يا نبي
الله ; فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر ; فقال
لها سليمان : ما حاجتك ؟ قالت تجعل رزقي في الفواكه ; قال : ذلك لك . ثم ميز بين
الغلمان والجواري . قال السدي : أمرهم بالوضوء , فجعل الرجل يحدر الماء على اليد
والرجل حدرا , وجعل الجواري يصببن من اليد اليسرى على اليد اليمنى , ومن اليمنى على
اليسرى , فميز بينهم بهذا . وقيل : كانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ,
ثم تحمله على الأخرى , ثم تضرب به على الوجه ; والغلام كان يأخذ الماء من الآنية
يضرب به في الوجه , والجارية تصب على بطن ساعدها , والغلام على ظهر الساعد ,
والجارية تصب الماء صبا , والغلام يحدر على يديه ; فميز بينهم بهذا . وروى يعلى بن
مسلم عن سعيد بن جبير قال : أرسلت بلقيس بمائتي وصيفة ووصيف , وقالت : إن كان نبيا
فسيعلم الذكور من الإناث , فأمرهم فتوضئوا ; فمن توضأ منهم فبدأ بمرفقه قبل كفه قال
هو من الإناث , ومن بدأ بكفه قبل مرفقه قال هو من الذكور ; ثم أرسل العصا إلى
الهواء فقال : أي الرأسين سبق إلى الأرض فهو أصلها , وأمر بالخيل فأجريت حتى عرقت
وملأ القدح من عرقها , ثم رد سليمان الهدية ; فروي أنه لما صرف الهدية إليها
وأخبرها رسولها بما شاهد ; قالت لقومها : هذا أمر من السماء . كان النبي صلى الله
عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها ولا يقبل الصدقة , وكذلك كان سليمان عليه السلام
وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين . وإنما جعلت بلقيس قبول الهدية أو ردها
علامة على ما في نفسها ; على ما ذكرناه من كون سليمان ملكا أو نبيا ; لأنه قال لها
في كتابه : { ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين } [ النمل : 31 ] وهذا لا تقبل فيه فدية
, ولا يؤخذ عنه هدية , وليس هذا من الباب الذي تقرر في الشريعة عن قبول الهدية
بسبيل , وإنما هي رشوة وبيع الحق بالباطل , وهي الرشوة التي لا تحل . وأما الهدية
المطلقة للتحبب والتواصل فإنها جائزة من كل أحد وعلى كل حال , وهذا ما لم يكن من
مشرك . فإن كانت من مشرك ففي الحديث ( نهيت عن زبد المشركين ) يعني رفدهم وعطاياهم
. وروي عنه عليه السلام أنه قبلها كما في حديث مالك عن ثور بن زيد الدبلي وغيره ,
فقال جماعة من العلماء بالنسخ فيهما , وقال آخرون : ليس فيها ناسخ ولا منسوخ ,
والمعنى فيها : أنه كان لا يقبل هدية من يطمع بالظهور عليه وأخذ بلده ودخوله في
الإسلام , وبهذه الصفة كانت حالة سليمان عليه السلام , فعن مثل هذا نهى أن تقبل
هديته حملا على الكف عنه ; وهذا أحسن تأويل للعلماء في هذا ; فإنه جمع بين الأحاديث
. وقيل غير هذا . الهدية مندوب إليها , وهي مما تورث المودة وتذهب العداوة ; روى
مالك عن عطاء بن عبد الله الخراساني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء ) . وروى معاوية بن الحكم قال :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( تهادوا فإنه يضعف الود ويذهب بغوائل
الصدر ) . وقال الدارقطني : تفرد به ابن بجير عن أبيه عن مالك , ولم يكن بالرضي ,
ولا يصح عن مالك ولا عن الزهري . وعن ابن شهاب قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : ( تهادوا بينكم فإن الهدية تذهب السخيمة ) قال ابن وهب : سألت يونس
عن السخيمة ما هي فقال : الغل . وهذا الحديث وصله الوقاصي عثمان عن الزهري وهو ضعيف
. وعلى الجملة : فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية , وفيه الأسوة
الحسنة . ومن فضل الهدية مع اتباع السنة أنها تزيل حزازات النفوس , وتكسب المهدي
والمهدى إليه رنة في اللقاء والجلوس . ولقد أحسن من قال : ش هدايا الناس بعضهم لبعض
/و تولد في قلوبهم الوصالا وتزرع في الضمير هوى وودا /و وتكسبهم إذا حضروا جمالا
آخر : إن الهدايا لها حظ إذا وردت /و أحظى من الابن عند الوالد الحدب روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( جلساؤكم شركاؤكم في الهدية ) واختلف في معناه ;
فقيل : هو محمول على ظاهره . وقيل : يشاركهم على وجه الكرم والمروءة , فإن لم يفعل
فلا يجبر عليه . وقال أبو يوسف : ذلك في الفواكه ونحوها . وقال بعضهم : هم شركاؤه في
السرور لا في الهدية . والخبر محمول في أمثال أصحاب الصفة والخوانق والرباطات ; أما
إذا كان فقيها من الفقهاء اختص بها فلا شركة فيها لأصحابه , فإن أشركهم فذلك كرم
وجود منه . فَنَاظِرَةٌ فناظرة }{ أي منتظرةبِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ المرسلون }
قال قتادة : يرحمها الله أن كانت لعاقلة في إسلامها وشركها ; قد علمت أن الهدية تقع
موقعا من الناس . وسقطت الألف في }{ بم }{ للفرق بين }{ ما }{ الخبرية . وقد يجوز إثباتها
; قال : على ما قام يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في رماد .
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ سليمان قال أتمدونني
بمال }{ أي جاء الرسول سليمان بالهدية قال : { أتمدونني بمال } . قرأ حمزة ويعقوب
والأعمش : بنون واحدة مشددة وياء ثابتة بعدها . الباقون بنونين وهو اختيار أبي عبيد
; لأنها في كل المصاحف بنونين . وقد روى إسحاق عن نافع أنه كان يقرأ : { أتمدونن }
بنون واحدة مخففة بعدها ياء في اللفظ . قال ابن الأنباري : فهذه القراءة يجب فيها
إثبات الياء عند الوقف , ليصح لها موافقة هجاء المصحف . والأصل في النون التشديد ,
فخفف التشديد من ذا الموضع كما خفف من : أشهد أنك عالم ; وأصله : أنك عالم . وعلى
هذا المعنى بنى الذي قرأ : { تشاقون فيهم } [ النحل : 27 ] , { أتحاجونني في الله }
[ الأنعام : 80 ] . وقد قالت العرب : الرجال يضربون ويقصدون , وأصله يضربوني
ويقصدوني : لأنه إدغام يضربونني ويقصدونني قال الشاعر : ترهبين والجيد منك لليلى
والحشا والبغام والعينان والأصل ترهبيني فخفف . ومعنى }{ أتمدونني }{ أتزيدونني مالا
إلى ما تشاهدونه من أموالي . فَمَا آتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ آتاني
الله خير مما آتاكم }{ أي فما أعطاني من الإسلام والملك والنبوة خير مما أعطاكم ,
فلا أفرح بالمال . و }{ آتان }{ وقعت في كل المصاحف بغير ياء . وقرأ أبو عمرو ونافع
وحفص : { آتاني الله }{ بياء مفتوحة ; فإذا وقفوا حذفوا . وأما يعقوب فإنه يثبتها في
الوقف ويحذف في الوصل لالتقاء الساكنين . الباقون بغير ياء في الحالين . بَلْ
أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ تفرحون }{ لأنكم أهل مفاخرة ومكاثرة في الدنيا
.
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ إليهم }{ أي قال سليمان للمنذر بن عمرو أمير الوفد ; ارجع إليهم
بهديتهم . فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا بجنود لا قبل لهم
بها }{ لام قسم والنون لها لازمة . قال النحاس : وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول : هي
لام توكيد وكذا كان عنده أن اللامات كلها ثلاث لا غير ; لام توكيد ; ولام أمر ,
ولام خفض ; وهذا قول الحذاق من النحويين ; لأنهم يردون الشيء إلى أصله : وهذا لا
يتهيأ إلا لمن درب في العربية . ومعنى }{ لا قبل لهم بها }{ أي لا طاقة لهم عليها
. وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا منها }{ أي من أرضهم وقيل : { منها }{ أي من قرية سبأ
. وقد سبق ذكر القرية في قوله : { إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها } [ النمل : 34
] . أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ }{ أذلة }{ قد سلبوا ملكهم وعزهم .{ وهم صاغرون }{ أي
مهانون أذلاء من الصغر وهو الذل إن لم يسلموا ; فرجع إليها رسولها فأخبرها ; فقالت
: قد عرفت أنه ليس بملك ولا طاقة لنا بقتال نبي من أنبياء الله . ثم أمرت بعرشها
فجعل في سبعة أبيات بعضها في جوف بعض ; في آخر قصر من سبعة قصور ; وغلقت الأبواب ,
وجعلت الحرس عليه , وتوجهت إليه في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن , تحت كل قيل
مائة ألف .
أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين }{ قال ابن عباس : وكان سليمان مهيبا لا
يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه ; فنظر ذات يوم رهجا قريبا منه , فقال : ما
هذا ؟ فقالوا : بلقيس يا نبي الله . فقال سليمان لجنوده - وقال وهب وغيره : للجن - { أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين }{ وقال عبد الله بن شداد : كانت بلقيس على
فرسخ من سليمان لما قال : { أيكم يأتيني بعرشها }{ وكانت خلفت عرشها بسبأ , ووكلت به
حفظة . وقيل : إنها لما بعثت بالهدية بعثت رسلها في جندها لتغافص سليمان عليه السلام
بالقتل قبل أن يتأهب سليمان لها إن كان طالب ملك , فلما علم ذلك قال : { أيكم
يأتيني بعرشها } . قال ابن عباس : كان أمره بالإتيان بالعرش قبل أن يكتب الكتاب
إليها , ولم يكتب إليها حتى جاءه العرش . وقال ابن عطية : وظاهر الآيات أن هذه
المقالة من سليمان عليه السلام بعد مجيء هديتها ورده إياها , وبعثه الهدهد بالكتاب
; وعلى هذا جمهور المتأولين . واختلفوا في فائدة استدعاء عرشها ; فقال قتادة : ذكر
له بعظم وجودة ; فأراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الإسلام ويحمي أموالهم ; والإسلام
على هذا الدين ; وهو قول ابن جريج . وقال ابن زيد : استدعاه ليريها القدرة التي هي
من عند الله , ويجعله دليلا على نبوته ; لأخذه من بيوتها دون جيش ولا حرب ; و }
مسلمين }{ على هذا التأويل بمعنى مستسلمين ; وهو قول ابن عباس . وقال ابن زيد أيضا :
أراد أن يختبر عقلها ولهذا قال : { نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي } . وقيل : خافت
الجن أن يتزوج بها سليمان عليه السلام فيولد له منها ولد , فلا يزالون في السخرة
والخدمة لنسل سليمان فقالت لسليمان في عقلها خلل ; فأراد أن يمتحنها بعرشها . وقيل :
أراد أن يختبر صدق الهدهد في قوله : { ولها عرش عظيم }{ قاله الطبري . وعن قتادة :
أحب أن يراه لما وصفه الهدهد . والقول الأول عليه أكثر العلماء ; لقوله تعالى : { قبل أن يأتوني مسلمين } . ولأنها لو أسلمت لحظر عليه مالها فلا يؤتى به إلا بإذنها
. روي أنه كان من فضة وذهب مرصعا بالياقوت الأحمر والجوهر , وأنه كان في جوف سبعة
أبيات عليه سبعة أغلاق .
قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ كذا قرأ الجهور وقرأ أبو رجاء وعيسى الثقفي : { عفرية
{ ورويت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه . وفي الحديث : ( إن الله يبغض العفرية
النفرية ) . النفرية إتباع لعفرية . قال قتادة : هي الداهية قال النحاس : يقال للشديد
إذا كان معه خبث ودهاء عفر وعفرية وعفريت وعفارية . وقيل : { عفريت }{ أي رئيس . وقرأت
فرقة : { قال عفر }{ بكسر العين ; حكاه ابن عطية ; قال النحاس : من قال عفرية جمعه
على عفار , ومن قال : عفريت كان له في الجمع ثلاثة أوجه ; إن شاء قال عفاريت , وإن
شاء قال عفار ; لأن التاء زائدة ; كما يقال : طواغ في جمع طاغوت , وإن شاء عوض من
التاء ياء فقال عفاري . والعفريت من الشياطين القوي المارد . والتاء زائدة . وقد قالوا
: تعفرت الرجل إذا تخلق بخلق الأذية . وقال وهب بن منبه : اسم هذا العفريت كودن ;
ذكره النحاس . وقيل : ذكوان ; ذكره السهيلي . وقال شعيب الجبائي : اسمه دعوان . وروي
عن ابن عباس أنه صخر الجني . ومن هذا الاسم قول ذي الرمة : كأنه كوكب في إثر عفرية و
مصوب في سواد الليل منقضب ش وأنشد الكسائي : إذ قال شيطانهم العفريت /و ليس لكم ملك
ولا تثبيت وفي الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن
عفريتا من الجن جعل يفتك علي البارحة ليقطع علي الصلاة وإن الله أمكنني منه فذعته
.. .) وذكر الحديث . وفي البخاري ( تفلت علي البارحة ) مكان ( جعل يفتك ) . وفي
الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه قال : أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم , فرأى
عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار , كلما التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه
; فقال جبريل : أفلا أعلمك كلمات تقولهن إذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه ; فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : ( بلى ) فقال : ( أعوذ بالله الكريم وبكلمات الله
التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء وشر ما يعرج فيها وشر
ما ذرأ في الأرض , وشر ما يخرج منها ومن فتن الليل والنهار ومن طوارق الليل والنهار
إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن ) . أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ
مَقَامِكَ أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك }{ يعني في مجلسه الذي يحكم فيه
. وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ وإني عليه لقوي أمين }{ أي قوي على حمله .{ أمين }{ على ما فيه . ابن عباس : أمين على فرج المرأة ; ذكره المهدوي . فقال سليمان
أريد أسرع من ذلك .
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ
يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك
{ أكثر المفسرين على أن الذي عنده علم من الكتاب آصف بن برخيا وهو من بني إسرائيل ,
وكان صديقا يحفظ اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى , وإذا دعي به أجاب . وقالت
عائشة رضي الله عنها قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن اسم الله الأعظم الذي دعا
به آصف بن برخيا يا حي يا قيوم ) قيل : وهو بلسا&