Prev  

31. Surah Luqmân سورة لقمان

  Next  



تفسير القرطبي - لقمان - Luqman -
 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
بِسْم ِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الم
    +/- -/+  
الأية
1
 
وهي مكية , غير آيتين قال قتادة : أولهما }{ ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام } [ لقمان : 27 ] إلى آخر الآيتين . وقال ابن عباس : ثلاث آيات , أولهن }{ ولو أن ما في الأرض } [ لقمان : 27 ] . وهي أربع وثلاثون آية . اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السورة ; فقال عامر الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين : هي سر الله في القرآن , ولله في كل كتاب من كتبه سر . فهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه , ولا يجب أن يتكلم فيها , ولكن نؤمن بها ونقرؤها كما جاءت . وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما . وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا : الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر . وقال أبو حاتم : لم نجد الحروف المقطعة في القرآن إلا في أوائل السور , ولا ندري ما أراد الله جل وعز بها . قلت : ومن هذا المعنى ما ذكره أبو بكر الأنباري : حدثنا الحسن بن الحباب حدثنا أبو بكر بن أبي طالب حدثنا أبو المنذر الواسطي عن مالك بن مغول عن سعيد بن مسروق عن الربيع بن خثيم قال : إن الله تعالى أنزل هذا القران فاستأثر منه بعلم ما شاء , وأطلعكم على ما شاء , فأما ما استأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه , وأما الذي أطلعكم عليه فهو الذي تسألون عنه وتخبرون به , وما بكل القرآن تعلمون , ولا بكل ما تعلمون تعملون . قال أبو بكر : فهذا يوضح أن حروفا من القرآن سترت معانيها عن جميع العالم , اختبارا من الله عز وجل وامتحانا ; فمن آمن بها أثيب وسعد , ومن كفر وشك أثم وبعد . حدثنا أبو يوسف بن يعقوب القاضي حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن عمارة عن حريث بن ظهير عن عبد الله قال : ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب , ثم قرأ : { الذين يؤمنون بالغيب } [ البقرة : 3 ] . قلت : هذا القول في المتشابه وحكمه , وهو الصحيح على ما يأتي بيانه في ( آل عمران )  إن شاء الله تعالى . وقال جمع من العلماء كبير : بل يجب أن نتكلم فيها , ونلتمس الفوائد التي تحتها , والمعاني التي تتخرج عليها ; واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة ; فروي عن ابن عباس وعلي أيضا : أن الحروف المقطعة في القرآن اسم الله الأعظم , إلا أنا لا نعرف تأليفه منها . وقال قطرب والفراء وغيرهما : هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي منها بناء كلامهم ; ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم . قال قطرب : كانوا ينفرون عند استماع القرآن , فلما سمعوا : { الم }{ و }{ المص }{ استنكروا هذا اللفظ , فلما أنصتوا له صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته في أسماعهم وآذانهم ويقيم الحجة عليهم . وقال قوم : روي أن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة وقالوا : { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } [ فصلت : 26 ] نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة . وقال جماعة : هي حروف دالة على أسماء أخذت منها وحذفت بقيتها ; كقول ابن عباس وغيره : الألف من الله , واللام من جبريل , والميم من محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : الألف مفتاح اسمه الله , واللام مفتاح اسمه لطيف , والميم مفتاح اسمه مجيد . وروى أبو الضحى عن ابن عباس في قوله : { الم }{ قال : أنا الله أعلم , { الر }{ أنا الله أرى , { المص }{ أنا الله أفضل . فالألف تؤدي عن معنى أنا , واللام تؤدي عن اسم الله , والميم تؤدي عن معنى أعلم . واختار هذا القول الزجاج وقال : أذهب إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معنى ; وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة نظما لها ووضعا بدل الكلمات التي الحروف منها , كقوله : فقلت لها قفي فقالت قاف أراد : قالت وقفت . وقال زهير : بالخير خيرات وإن شرا فا ولا أريد الشر إلا أن تا أراد : وإن شرا فشر . وأراد : إلا أن تشاء . وقال آخر : نادوهم ألا الجموا ألا تا قالوا جميعا كلهم ألا فا أراد : ألا تركبون , قالوا : ألا فاركبوا . وفي الحديث : ( من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة )  قال شقيق : هو أن يقول في اقتل : اق ; كما قال عليه السلام ( كفى بالسيف شا )  معناه : شافيا . وقال زيد بن أسلم : هي أسماء للسور . وقال الكلبي : هي أقسام أقسم الله تعالى بها لشرفها وفضلها , وهي من أسمائه ; عن ابن عباس أيضا ورد بعض العلماء هذا القول فقال : لا يصح أن يكون قسما لأن القسم معقود على حروف مثل : إن وقد ولقد وما ; ولم يوجد ها هنا حرف من هذه الحروف , فلا يجوز أن يكون يمينا . والجواب أن يقال : موضع القسم قوله تعالى : { لا ريب فيه }{ فلو أن إنسانا حلف فقال : والله هذا الكتاب لا ريب فيه ; لكان الكلام سديدا , وتكون } لا }{ جواب القسم . فثبت أن قول الكلبي وما روي عن ابن عباس سديد صحيح . فإن قيل : ما الحكمة في القسم من الله تعالى , وكان القوم في ذلك الزمان على صنفين : مصدق , ومكذب ; فالمصدق يصدق بغير قسم , والمكذب لا يصدق مع القسم ؟ . قيل له : القرآن نزل بلغة العرب ; والعرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه أقسم على كلامه ; والله تعالى أراد أن يؤكد عليهم الحجة فأقسم أن القرآن من عنده . وقال بعضهم : { الم }{ أي أنزلت عليك هذا الكتاب من اللوح المحفوظ . وقال قتادة في قوله : { الم }{ قال اسم من أسماء القرآن . وروي عن محمد بن علي الترمذي أنه قال : إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة , ولا يعرف ذلك إلا نبي أو ولي , ثم بين ذلك في جميع السورة ليفقه الناس . وقيل غير هذا من الأقوال ; فالله أعلم . والوقف على هذه الحروف على السكون لنقصانها إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها . واختلف : هل لها محل من الإعراب ؟ فقيل : لا ; لأنها ليست أسماء متمكنة , ولا أفعالا مضارعة ; وإنما هي بمنزلة حروف التهجي فهي محكية . هذا مذهب الخليل وسيبويه . ومن قال : إنها أسماء السور فموضعها عنده الرفع على أنها عنده خبر ابتداء مضمر ; أي هذه }{ الم } ; كما تقول : هذه سورة البقرة . أو تكون رفعا على الابتداء والخبر ذلك ; كما تقول : زيد ذلك الرجل . وقال ابن كيسان النحوي : { الم } في موضع نصب ; كما تقول : اقرأ }{ الم }{ أو عليك }{ الم } . وقيل : في موضع خفض بالقسم ; لقول ابن عباس : إنها أقسام أقسم الله بها .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ
    +/- -/+  
الأية
2
 
تلك }{ في موضع رفع على إضمار مبتدإ , أي هذه تلك . ويقال : { تيك آيات الكتاب الحكيم }{ بدلا من تلك . والكتاب : القرآن . والحكيم : المحكم ; أي لا خلل فيه ولا تناقض . وقيل ذو الحكمة وقيل الحاكم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ
    +/- -/+  
الأية
3
 
بالنصب على الحال ; مثل : { هذه ناقة الله لكم آية } [ الأعراف : 73 ] وهذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم والكسائي . وقرأ حمزة : { هدى ورحمة }{ بالرفع , وهو من وجهين : أحدهما : على إضمار مبتدإ ; لأنه أول آية . والآخر : أن يكون خبر }{ تلك } . والمحسن : الذي يعبد الله كأنه يراه , فإن لم يكن يراه فإنه يراه . وقيل : هم المحسنون في الدين وهو الإسلام ; قال الله تعالى : { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله } [ النساء : 125 ] الآية .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
    +/- -/+  
الأية
4
 
الذين يقيمون الصلاةفي موضع الصفة , ويجوز الرفع على القطع بمعنى : هم الذين , والنصب بإضمار أعني . وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها ; على ما يأتي بيانه . يقال : قام الشيء أي دام وثبت , وليس من القيام على الرجل ; وإنما هو من قولك : قام الحق أي ظهر وثبت ; قال الشاعر : وقامت الحرب بنا على ساق وقال آخر : وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا حتى تقيم الخيل سوق طعان وقيل : { يقيمون } يديمون , وأقامه أي أدامه ; وإلى هذا المعنى أشار عمر بقوله : ( من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه , ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع . ) إقامة الصلاة معروفة ; وهي سنة عند الجمهور , وأنه لا إعادة على تاركها . وعند الأوزاعي وعطاء ومجاهد وابن أبي ليلى هي واجبة وعلى من تركها الإعادة ; وبه قال أهل الظاهر , وروي عن مالك , واختاره ابن العربي قال : لأن في حديث الأعرابي ( وأقم )  فأمره بالإقامة كما أمره بالتكبير والاستقبال والوضوء . قال : فأما أنتم الآن وقد وقفتم على الحديث فقد تعين عليكم أن تقولوا بإحدى روايتي مالك الموافقة للحديث وهي أن الإقامة فرض . قال ابن عبد البر قوله : ( وتحريمها التكبير )  دليل على أنه لم يدخل في الصلاة من لم يحرم , فما كان قبل الإحرام فحكمه ألا تعاد منه الصلاة إلا أن يجمعوا على شيء فيسلم للإجماع كالطهارة والقبلة والوقت ونحو ذلك . وقال بعض علمائنا : من تركها عمدا أعاد الصلاة , وليس ذلك لوجوبها إذ لو كان ذلك لاستوى سهوها وعمدها , وإنما ذلك للاستخفاف بالسنن , والله أعلم . واختلف العلماء فيمن سمع الإقامة هل يسرع أو لا فذهب الأكثر إلى أنه لا يسرع وإن خاف فوت الركعة لقوله عليه السلام : ( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا )  . رواه أبو هريرة أخرجه مسلم . وعنه أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا ثوب بالصلاة فلا يسع إليها أحدكم ولكن ليمش وعليه السكينة والوقار صل ما أدركت واقض ما سبقك )  . وهذا نص . ومن جهة المعنى أنه إذا أسرع انبهر فشوش عليه دخوله في الصلاة وقراءتها وخشوعها . وذهب جماعة من السلف منهم ابن عمر وابن مسعود على اختلاف عنه أنه إذا خاف فواتها أسرع . وقال إسحاق : يسرع إذا خاف فوات الركعة ; وروي عن مالك نحوه , وقال : لا بأس لمن كان على فرس أن يحرك الفرس ; وتأوله بعضهم على الفرق بين الماشي والراكب ; لأن الراكب لا يكاد أن ينبهر كما ينبهر الماشي . قلت : واستعمال سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل حال أولى , فيمشي كما جاء الحديث وعليه السكينة والوقار ; لأنه في صلاة ومحال أن يكون خبره صلى الله عليه وسلم على خلاف ما أخبره ; فكما أن الداخل في الصلاة يلزمه الوقار والسكون كذلك الماشي , حتى يحصل له التشبه به فيحصل له ثوابه . ومما يدل على صحة هذا ما ذكرناه من السنة , وما خرجه الدارمي في مسنده قال : حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا سفيان عن محمد بن عجلان عن المقبري عن كعب بن عجرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا توضأت فعمدت إلى المسجد فلا تشبكن بين أصابعك فإنك في صلاة )  . فمنع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وهو صحيح مما هو أقل من الإسراع وجعله كالمصلي ; وهذه السنن تبين معنى قوله تعالى : { فاسعوا إلى ذكر الله } [ الجمعة : 9 ] وأنه ليس المراد به الاشتداد على الأقدام , وإنما عنى العمل والفعل ; هكذا فسره مالك . وهو الصواب في ذلك والله أعلم . واختلف العلماء في تأويل قوله عليه السلام : ( وما فاتكم فأتموا )  وقوله : ( واقض ما سبقك )  هل هما بمعنى واحد أو لا ؟ فقيل : هما بمعنى واحد وأن القضاء قد يطلق ويراد به التمام , قال الله تعالى : { فإذا قضيت الصلاة } [ الجمعة : 10 ] وقال : { فإذا قضيتم مناسككم } [ البقرة : 200 ] . وقيل : معناهما مختلف وهو الصحيح ; ويترتب على هذا الخلاف خلاف فيما يدركه الداخل هل هو أول صلاته أو آخرها ؟ فذهب إلى الأول جماعة من أصحاب مالك - منهم ابن القاسم ولكنه يقضي ما فاته بالحمد وسورة , فيكون بانيا في الأفعال قاضيا في الأقوال . قال ابن عبد البر : وهو المشهور من المذهب . وقال ابن خويز منداد : وهو الذي عليه أصحابنا , وهو قول الأوزاعي والشافعي ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل والطبري وداود بن علي . وروى أشهب وهو الذي ذكره ابن عبد الحكم عن مالك , ورواه عيسى عن ابن القاسم عن مالك , أن ما أدرك فهو آخر صلاته , وأنه يكون قاضيا في الأفعال والأقوال ; وهو قول الكوفيين . قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب : وهو مشهور مذهب مالك . قال ابن عبد البر : من جعل ما أدرك أول صلاته فأظنهم راعوا الإحرام ; لأنه لا يكون إلا في أول الصلاة , والتشهد والتسليم لا يكون إلا في آخرها ; فمن هاهنا قالوا : إن ما أدرك فهو أول صلاته , مع ما ورد في ذلك من السنة من قوله : ( فأتموا )  والتمام هو الآخر . واحتج الآخرون بقوله : ( فاقضوا )  والذي يقضيه هو الفائت , إلا أن رواية من روى } فأتموا }{ أكثر , وليس يستقيم على قول من قال : إن ما أدرك أول صلاته ويطرد , إلا ما قاله عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون والمزني وإسحاق وداود من أنه يقرأ مع الإمام بالحمد وسورة إن أدرك ذلك معه ; وإذا قام للقضاء قرأ بالحمد وحدها ; فهؤلاء اطرد على أصلهم قولهم وفعلهم , رضي الله عنهم . الإقامة تمنع من ابتداء صلاة نافلة , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة )  خرجه مسلم وغيره ; فأما إذا شرع في نافلة فلا يقطعها ; لقوله تعالى : { ولا تبطلوا أعمالكم } [ محمد : 33 ] وخاصة إذا صلى ركعة منها . وقيل : يقطعها لعموم الحديث في ذلك . والله أعلم . واختلف العلماء فيمن دخل المسجد ولم يكن ركع ركعتي الفجر ثم أقيمت الصلاة ; فقال مالك : يدخل مع الإمام ولا يركعهما ; وإن كان لم يدخل المسجد فإن لم يخف فوات ركعة فليركع خارج المسجد , ولا يركعهما في شيء من أفنية المسجد - التي تصلى فيها الجمعة - اللاصقة بالمسجد ; وإن خاف أن تفوته الركعة الأولى فليدخل وليصل معه ; ثم يصليهما إذا طلعت الشمس إن أحب ; ولأن يصليهما إذا طلعت الشمس أحب إلي وأفضل من تركهما وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن خشي أن تفوته الركعتان ولا يدرك الإمام قبل رفعه من الركوع في الثانية دخل معه , وإن رجا أن يدرك ركعة صلى ركعتي الفجر خارج المسجد , ثم يدخل مع الإمام وكذلك قال الأوزاعي ; إلا أنه يجوز ركوعهما في المسجد ما لم يخف فوت الركعة الأخيرة . وقال الثوري : إن خشي فوت ركعة دخل معهم ولم يصلهما وإلا صلاهما وإن كان قد دخل المسجد . وقال الحسن بن حي ويقال ابن حيان : إذا أخذ المقيم في الإقامة فلا تطوع إلا ركعتي الفجر . وقال الشافعي : من دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة دخل مع الإمام ولم يركعهما لا خارج المسجد ولا في المسجد . وكذلك قال الطبري وبه قال أحمد بن حنبل وحكي عن مالك ; وهو الصحيح في ذلك ; لقوله عليه السلام . ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة )  . وركعتا الفجر إما سنة , وإما فضيلة , وإما رغيبة ; والحجة عند التنازع حجة السنة . ومن حجة قول مالك المشهور وأبي حنيفة ما روي عن ابن عمر أنه جاء والإمام يصلي صلاة الصبح فصلاهما في حجرة حفصة , ثم إنه صلى مع الإمام . ومن حجة الثوري والأوزاعي ما روي عن عبد الله بن مسعود أنه دخل المسجد . وقد أقيمت الصلاة فصلى إلى أسطوانة في المسجد ركعتي الفجر , ثم دخل الصلاة بمحضر من حذيفة وأبي موسى رضي الله عنهما . قالوا : ( وإذا جاز أن يشتغل بالنافلة عن المكتوبة خارج المسجد جاز له ذلك في المسجد )  , روى مسلم عن عبد الله بن مالك ابن بحينة قال : أقيمت صلاة الصبح فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي والمؤذن يقيم , فقال : ( أتصلي الصبح أربعا )  وهذا إنكار منه صلى الله عليه وسلم على الرجل لصلاته ركعتي الفجر في المسجد والإمام يصلي , ويمكن أن يستدل به أيضا على أن ركعتي الفجر إن وقعت في تلك الحال صحت , لأنه عليه السلام لم يقطع عليه صلاته مع تمكنه من ذلك , والله أعلم . الصلاة أصلها في اللغة الدعاء , مأخوذة من صلى يصلي إذا دعا ; ومنه قوله عليه السلام : ( إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليطعم وإن كان صائما فليصل )  أي فليدع . وقال بعض العلماء : إن المراد الصلاة المعروفة , فيصلي ركعتين وينصرف ; والأول أشهر وعليه من العلماء الأكثر . ولما ولدت أسماء عبد الله بن الزبير أرسلته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ; قالت أسماء : ثم مسحه وصلى عليه , أي دعا له . وقال تعالى : { وصل عليهم } [ التوبة : 103 ] أي ادع لهم . وقال الأعشى : تقول بنتي وقد قربت مرتحلا يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضي نوما فإن لجنب المرء مضطجعا وقال الأعشى أيضا : وقابلها الريح في دنها وصلى على دنها وارتسم ارتسم الرجل : كبر ودعا ; قال في الصحاح , وقال قوم : هي مأخوذة من الصلا وهو عرق في وسط الظهر ويفترق عند العجب فيكتنفه , ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل , لأنه يأتي في الحلبة ورأسه عند صلوى السابق ; فاشتقت الصلاة منه ; إما لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل , وإما لأن الراكع تثنى صلواه . والصلاة : مغرز الذنب من الفرس , والاثنان صلوان . والمصلي : تالي السابق ; لأن رأسه عند صلاه . وقال علي رضي الله عنه : سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى أبو بكر وثلث عمر . وقيل : هي مأخوذة من اللزوم ; ومنه صلي بالنار إذا لزمها ; ومنه }{ تصلى نارا حامية } [ الغاشية : 4 ] . وقال الحارث بن عباد : لم أكن من جناتها علم اللـ ـه وإني بحرها اليوم صال أي ملازم لحرها ; وكأن المعنى على هذا ملازمة العبادة على الحد الذي أمر الله تعالى به . وقيل : هي مأخوذة من صليت العود بالنار إذا قومته ولينته بالصلاء . والصلاء : صلاء النار بكسر الصاد ممدود ; فإن فتحت الصاد قصرت , فقلت صلا النار , فكأن المصلي يقوم نفسه بالمعاناة فيها ويلين ويخشع ; قال الخارزنجي : فلا تعجل بأمرك واستدمه فما صلى عصاك كمستديم والصلاة : الدعاء والصلاة : الرحمة ; ومنه : ( اللهم صل على محمد )  الحديث . والصلاة : العبادة ; ومنه قوله تعالى : { وما كان صلاتهم عند البيت } [ الأنفال : 35 ] الآية ; أي عبادتهم . والصلاة : النافلة ; ومنه قوله تعالى : { وأمر أهلك بالصلاة } [ طه : 132 ] . والصلاة التسبيح ; ومنه قوله تعالى : { فلولا أنه كان من المسبحين } [ الصافات : 143 ] أي من المصلين . ومنه سبحة الضحى . وقد قيل في تأويل }{ نسبح بحمدك } [ البقرة : 30 ] نصلي . والصلاة : القراءة ; ومنه قوله تعالى : { ولا تجهر بصلاتك } [ الإسراء : 110 ] فهي لفظ مشترك . والصلاة : بيت يصلى فيه ; قال ابن فارس . وقد قيل : إن الصلاة اسم علم وضع لهذه العبادة ; فإن الله تعالى لم يخل زمانا من شرع ; ولم يخل شرع من صلاة ; حكاه أبو نصر القشيري . قلت : فعلى هذا القول لا اشتقاق لها ; وعلى قول الجمهور وهي : - اختلف الأصوليون هل هي مبقاة على أصلها اللغوي الوضعي الابتدائي , وكذلك الإيمان والزكاة والصيام والحج , والشرع إنما تصرف بالشروط والأحكام , أو هل تلك الزيادة من الشرع تصيرها موضوعة كالوضع الابتدائي من قبل الشرع . هنا اختلافهم والأول أصح ; لأن الشريعة ثبتت بالعربية , والقرآن نزل بها بلسان عربي مبين ; ولكن للعرب تحكم في الأسماء , كالدابة وضعت لكل ما يدب ; ثم خصصها العرف بالبهائم فكذلك لعرف الشرع تحكم في الأسماء , والله أعلم . واختلف في المراد بالصلاة هنا ; فقيل : الفرائض . وقيل : الفرائض والنوافل معا ; وهو الصحيح ; لأن اللفظ عام والمتقي يأتي بهما . الصلاة سبب للرزق ; قال الله تعالى : { وأمر أهلك بالصلاة } [ طه : 132 ] الآية , على ما يأتي بيانه في }{ طه }{ إن شاء الله تعالى . وشفاء من وجع البطن وغيره ; روى ابن ماجه عن أبي هريرة قال : هجر النبي صلى الله عليه وسلم فهجرت فصليت ثم جلست ; فالتفت إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( اشكمت درده ) قلت : نعم يا رسول الله ; قال : ( قم فصل فإن في الصلاة شفاء )  . في رواية : ( اشكمت درد )  يعني تشتكي بطنك بالفارسية ; وكان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة . الصلاة لا تصح إلا بشروط وفروض ; فمن شروطها : الطهارة , وسيأتي بيان أحكامها في سورة النساء والمائدة . وستر العورة , يأتي في الأعراف القول فيها إن شاء الله تعالى . وأما فروضها : فاستقبال القبلة ; والنية , وتكبيرة الإحرام والقيام لها , وقراءة أم القرآن والقيام لها , والركوع والطمأنينة فيه , ورفع الرأس من الركوع والاعتدال فيه , والسجود والطمأنينة فيه , ورفع الرأس من السجود , والجلوس بين السجدتين والطمأنينة فيه , والسجود الثاني والطمأنينة فيه . والأصل في هذه الجملة حديث أبي هريرة في الرجل الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة لما أخل بها , فقال له : ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم كبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها )  خرجه مسلم . ومثله حديث رفاعة بن رافع , أخرجه الدارقطني وغيره . قال علماؤنا : فبين قوله صلى الله عليه وسلم أركان الصلاة , وسكت عن الإقامة ورفع اليدين وعن حد القراءة وعن تكبير الانتقالات , وعن التسبيح في الركوع والسجود , وعن الجلسة الوسطى , وعن التشهد وعن الجلسة الأخيرة وعن السلام . أما الإقامة وتعيين الفاتحة فقد مضى الكلام فيهما . وأما رفع اليدين فليس بواجب عند جماعة العلماء وعامة الفقهاء ; لحديث أبي هريرة وحديث رفاعة بن رافع . وقال داود وبعض أصحابه بوجوب ذلك عند تكبيرة الإحرام . وقال بعض أصحابه : الرفع عند الإحرام وعند الركوع وعند الرفع من الركوع واجب , وإن من لم يرفع يديه فصلاته باطلة ; وهو قول الحميدي , ورواية عن الأوزاعي . واحتجوا بقوله عليه السلام : ( صلوا كما رأيتموني أصلي )  أخرجه البخاري . قالوا : فوجب علينا أن نفعل كما رأيناه يفعل ; لأنه المبلغ عن الله مراده . وأما التكبير ما عدا تكبيرة الإحرام فمسنون عند الجمهور للحديث المذكور . وكان ابن قاسم صاحب مالك يقول : من أسقط من التكبيرة في الصلاة ثلاث تكبيرات فما فوقها سجد قبل السلام , وإن لم يسجد بطلت صلاته ; وإن نسي تكبيرة واحدة أو اثنتين سجد أيضا للسهو , إن لم يفعل فلا شيء عليه ; وروي عنه أن التكبيرة الواحدة لا سهو على من سها فيها . وهذا يدل على أن عظم التكبير وجملته عنده فرض , وأن اليسير منه متجاوز عنه . وقال أصبغ بن الفرج وعبد الله بن عبد الحكم : ليس على من لم يكبر في الصلاة من أولها إلى آخرها شيء إذا كبر تكبيرة الإحرام ; فإن تركه ساهيا سجد للسهو , فإن لم يسجد فلا شيء عليه ; ولا ينبغي لأحد أن يترك التكبير عامدا ; لأنه سنة من سنن الصلاة ; فإن فعل فقد أساء ولا شيء عليه وصلاته ماضية . قلت : هذا هو الصحيح , وهو الذي عليه جماعة فقهاء الأمصار من الشافعيين والكوفيين وجماعة أهل الحديث والمالكيين غير من ذهب مذهب ابن القاسم . وقد ترجم البخاري رحمه الله ( باب إتمام التكبير في الركوع والسجود )  وساق حديث مطرف بن عبد الله قال : صليت خلف علي بن أبي طالب أنا وعمران بن حصين , فكان إذا سجد كبر , وإذا رفع رأسه كبر , وإذا نهض من الركعتين كبر ; فلما قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين فقال : لقد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم , أو قال : لقد صلى بنا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم . وحديث عكرمة قال : رأيت رجلا عند المقام يكبر في كل خفض ورفع , وإذا قام وإذا وضع , فأخبرت ابن عباس فقال : أو ليس تلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لا أم لك فدلك البخاري رحمه الله بهذا الباب على أن التكبير لم يكن معمولا به عندهم . روى أبو إسحاق السبيعي عن يزيد بن أبي مريم عن أبي موسى الأشعري قال : صلى بنا علي يوم الجمل صلاة أذكرنا بهذا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم , كان يكبر في كل خفض ورفع , وقيام وقعود ; قال أبو موسى : فإما نسيناها وإما تركناها عمدا . قلت : أتراهم أعادوا الصلاة ! فكيف يقال من ترك التكبير بطلت صلاته ! ولو كان ذلك لم يكن فرق بين السنة والفرض , والشيء إذا لم يجب أفراده لم يجب جميعه ; وبالله التوفيق . وأما التسبيح في الركوع والسجود فغير واجب عند الجمهور للحديث المذكور ; وأوجبه إسحاق بن راهويه , وأن من تركه أعاد الصلاة , لقوله عليه السلام : ( أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم )  . وأما الجلوس والتشهد فاختلف العلماء في ذلك ; فقال مالك وأصحابه : الجلوس الأول والتشهد له سنتان . وأوجب جماعة من العلماء الجلوس الأول وقالوا : هو مخصوص من بين سائر الفروض بأن ينوب عنه السجود كالعرايا من المزابنة , والقراض من الإجارات , وكالوقوف بعد الإحرام لمن وجد الإمام راكعا . واحتجوا بأنه لو كان سنة ما كان العامد لتركه تبطل صلاته كما لا تبطل بترك سنن الصلاة . احتج من لم يوجبه بأن قال : لو كان من فرائض الصلاة لرجع الساهي عنه إليه حتى يأتي به , كما لو ترك سجدة أو ركعة ; ويراعى فيه ما يراعى في الركوع والسجود من الولاء والرتبة ; ثم يسجد لسهوه كما يصنع من ترك ركعة أو سجدة وأتى بهما . وفي حديث عبد الله بن بحينة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من ركعتين ونسي أن يتشهد فسبح الناس خلفه كيما يجلس فثبت قائما فقاموا ; فلما فرغ من صلاته سجد سجدتي السهو قبل التسليم ; فلو كان الجلوس فرضا لم يسقطه النسيان والسهو ; لأن الفرائض في الصلاة يستوي في تركها السهو والعمد إلا في المؤتم . واختلفوا في حكم الجلوس الأخير في الصلاة وما الغرض من ذلك . وهي : - على خمسة أقوال :أحدها : أن الجلوس فرض والتشهد فرض والسلام فرض . وممن قال ذلك الشافعي وأحمد بن حنبل في رواية , وحكاه أبو مصعب في مختصره عن مالك وأهل المدينة , وبه قال داود . قال الشافعي : من ترك التشهد الأول والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فلا إعادة عليه وعليه سجدتا السهو لتركه . وإذا ترك التشهد الأخير ساهيا أو عامدا أعاد . واحتجوا بأن بيان النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فرض , لأن أصل فرضها مجمل يفتقر إلى البيان إلا ما خرج بدليل وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( صلوا كما رأيتموني أصلي )  . القول الثاني : أن الجلوس والتشهد والسلام ليس بواجب , وإنما ذلك كله سنة مسنونة , هذا قول بعض البصريين , وإليه ذهب إبراهيم بن علية , وصرح بقياس الجلسة الأخيرة على الأولى , فخالف الجمهور وشذ ; إلا أنه يرى الإعادة على من ترك شيئا من ذلك كله . ومن حجتهم حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا رفع الإمام رأسه من آخر سجدة في صلاته ثم أحدث فقد تمت صلاته ) وهو حديث لا يصح على ما قاله أبو عمر ; وقد بيناه في كتاب المقتبس . وهذا اللفظ إنما يسقط السلام لا الجلوس . القول الثالث : إن الجلوس مقدار التشهد فرض , وليس التشهد ولا السلام بواجب فرضا . قاله أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين . واحتجوا بحديث ابن المبارك عن الإفريقي عبد الرحمن بن زياد وهو ضعيف ; وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا جلس أحدكم في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته )  . قال ابن العربي : وكان شيخنا فخر الإسلام ينشدنا في الدرس : ويرى الخروج من الصلاة بضرطة أين الضراط من السلام عليكم قال ابن العربي : وسلك بعض علمائنا من هذه المسألة فرعين ضعيفين , أما أحدهما : فروى عبد الملك عن عبد الملك أن من سلم من ركعتين متلاعبا , فخرج البيان أنه إن كان على أربع أنه يجزئه , وهذا مذهب أهل العراق بعينه . وأما الثاني : فوقع في الكتب المنبوذة أن الإمام إذا أحدث بعد التشهد متعمدا وقبل السلام أنه يجزئ من خلفه , وهذا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه في الفتوى ; وإن عمرت به المجالس للذكرى . إن الجلوس فرض والسلام فرض , وليس التشهد بواجب . وممن قال هذا مالك بن أنس وأصحابه وأحمد بن حنبل في رواية . واحتجوا بأن قالوا : ليس شيء من الذكر يجب إلا تكبيرة , الإحرام وقراءة أم القرآن . أن التشهد والجلوس واجبان , وليس السلام بواجب , قاله جماعة منهم إسحاق بن راهويه , واحتج إسحاق بحديث ابن مسعود حين علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وقال له : ( إذا فرغت من هذا فقد تمت صلاتك وقضيت ما عليك )  . قال الدارقطني : قوله ( إذا فرغت من هذا فقد تمت صلاتك )  أدرجه بعضهم عن زهير في الحديث , ووصله بكلام النبي صلى الله عليه وسلم ; وفصله شبابة عن زهير وجعله من كلام بن مسعود , وقوله أشبه بالصواب من قول من أدرجه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم . وشبابة ثقة . وقد تابعه غسان بن الربيع على ذلك , جعل آخر الحديث من كلام ابن مسعود ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم . واختلف العلماء في السلام ; فقيل : واجب , وقيل : ليس بواجب . والصحيح وجوبه لحديث عائشة وحديث علي الصحيح خرجه أبو داود والترمذي ورواه سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم )  وهذا الحديث أصل في إيجاب التكبير والتسليم , وأنه لا يجزئ عنهما غيرهما كما لا يجزئ عن الطهارة غيرها باتفاق . قال عبد الرحمن بن مهدي : لو افتتح رجل صلاته بسبعين اسما من أسماء الله عز وجل ولم يكبر تكبيرة الإحرام لم يجزه , وإن أحدث قبل أن يسلم لم يجزه ; وهذا تصحيح من عبد الرحمن بن مهدي لحديث علي , وهو إمام في علم الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه . وحسبك به ! وقد اختلف العلماء في وجوب التكبير عند الافتتاح وهي :فقال ابن شهاب الزهري وسعيد بن المسيب والأوزاعي وعبد الرحمن وطائفة : تكبيرة الإحرام ليست بواجبة . وقد روي عن مالك في المأموم ما يدل على هذا القول ; والصحيح من مذهبه إيجاب تكبيرة الإحرام وأنها فرض وركن من أركان الصلاة ; وهو الصواب وعليه الجمهور , وكل من خالف ذلك فمحجوج بالسنة . واختلف العلماء في اللفظ الذي يدخل به في الصلاة ; فقال مالك وأصحابه وجمهور العلماء : لا يجزئ إلا التكبير , لا يجزئ منه تهليل ولا تسبيح ولا تعظيم ولا تحميد . هذا قول الحجازيين وأكثر العراقيين ; ولا يجزئ عند مالك إلا }{ الله أكبر }{ لا غير ذلك . وكذلك قال الشافعي وزاد : ويجزئ }{ الله الأكبر }{ و }{ الله الكبير }{ والحجة لمالك حديث عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير , والقراءة ب }{ الحمد لله رب العالمين } . وحديث علي : وتحريمها التكبير . وحديث الأعرابي : فكبر . وفي سنن ابن ماجه حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة وعلي بن محمد الطنافسي قالا : حدثنا أبو أسامة قال حدثني عبد الحميد بن جعفر قال حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء قال سمعت أبا حميد الساعدي يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة استقبل القبلة ورفع يديه وقال : { الله أكبر }{ وهذا نص صريح وحديث صحيح في تعيين , لفظ التكبير ; قال الشاعر : رأيت الله أكبر كل شيء محاولة وأعظمه جنودا ثم إنه يتضمن القدم , وليس يتضمنه كبير ولا عظيم , فكان أبلغ في المعنى ; والله أعلم . وقال أبو حنيفة : إن افتتح بلا إله إلا الله يجزيه , وإن قال : اللهم اغفر لي لم يجزه , وبه قال محمد بن الحسن . وقال أبو يوسف : لا يجزئه إذا كان يحسن التكبير . وكان الحكم بن عتيبة يقول : إذا ذكر الله مكان التكبير أجزأه . قال ابن المنذر : ولا أعلمهم يختلفون أن من أحسن القراءة فهلل وكبر ولم يقرأ أن صلاته فاسدة , فمن كان هذا مذهبه فاللازم له أن يقول لا يجزيه مكان التكبير غيره , كما لا يجزئ مكان القراءة غيرها . وقال أبو حنيفة : يجزئه التكبير بالفارسية وإن كان يحسن العربية . قال ابن المنذر : لا يجزيه لأنه خلاف ما عليه جماعات المسلمين , وخلاف ما علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته , ولا نعلم أحدا وافقه على ما قال . والله أعلم . واتفقت الأمة على وجوب النية عند تكبيرة الإحرام إلا شيئا روي عن بعض أصحابنا يأتي الكلام عليه في آية الطهارة ; وحقيقتها قصد التقرب إلى الآمر بفعل ما أمر به على الوجه المطلوب منه . قال ابن العربي : والأصل في كل نية أن يكون عقدها مع التلبس بالفعل المنوي بها , أو قبل ذلك بشرط استصحابها , فإن تقدمت النية وطرأت غفلة فوقع التلبس بالعبادة في تلك الحالة لم يعتد بها , كما لا يعتد بالنية إذا وقعت بعد التلبس بالفعل , وقد رخص في تقديمها في الصوم لعظم الحرج في اقترانها بأوله . قال ابن العربي : وقال لنا أبو الحسن القروي بثغر عسقلان : سمعت إمام الحرمين يقول : يحضر الإنسان عند التلبس بالصلاة النية , ويجرد النظر في الصانع وحدوث العالم والنبوات حتى ينتهي نظره إلى نية الصلاة , قال : ولا يحتاج ذلك إلى زمان طويل , وإنما يكون ذلك في أوحى لحظة , لأن تعليم الجمل يفتقر إلى الزمان الطويل , وتذكارها يكون في لحظة , ومن تمام النية أن تكون مستصحبة على الصلاة كلها , إلا أن ذلك لما كان أمرا يتعذر عليه سمح الشرع في عزوب النية في أثنائها . سمعت شيخنا أبا بكر الفهري بالمسجد الأقصى يقول قال محمد بن سحنون : رأيت أبي سحنونا ربما يكمل الصلاة فيعيدها ; فقلت له ما هذا ؟ فقال : عزبت نيتي في أثنائها فلأجل ذلك أعدتها . قلت : فهذه جملة من أحكام الصلاة , وسائر أحكامها يأتي بيانها في مواضعها من هذا الكتاب بحول الله تعالى ; فيأتي ذكر الركوع وصلاة الجماعة والقبلة والمبادرة إلى الأوقات , وبعض صلاة الخوف في هذه السورة , ويأتي ذكر قصر الصلاة وصلاة الخوف , في }{ النساء }{ والأوقات في }{ هود }{ و }{ سبحان } و }{ الروم }{ وصلاة الليل في }{ المزمل }{ وسجود التلاوة في }{ الأعراف }{ وسجود الشكر في }{ ص }{ كل في موضعه إن شاء الله تعالى . ويؤتون الزكاةالزكاة مأخوذة من زكا الشيء إذا نما وزاد يقال زكا الزرع والمال يزكو إذا كثر وزاد ورجل زكي أي زائد الخير وسمي الإخراج في المال زكاة وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة أو بالأجر الذي يثاب به المزكي ويقال زرع زاك بين الزكاء وزكأت الناقة بولدها تزكأ به إذا رمت به من بين رجليها وزكا الفرد إذا صار زوجا بزيادة الزائد عليه حتى صار شفعا قال الشاعر كانوا خسا أو زكا من دون أربعة لم يخلقوا وجدود الناس تعتلج جمع جد وهو الحظ والبخت . تعتلج أي ترتفع اعتلجت الأرض طال نباتها فخسا الفرد وزكا الزوجوقيل : أصلها الثناء الجميل ومنه زكى القاضي الشاهد فكأن من يخرج الزكاة يحصل لنفسه الثناء الجميل وقيل الزكاة مأخوذة من التطهير كما يقال زكا فلان أي طهر من دنس الجرحة والإغفال فكأن الخارج من المال يطهره من تبعة الحق الذي جعل الله فيه للمساكين ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ما يخرج من الزكاة أوساخ الناس وقد قال تعالى }{ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } [ التوبة : 103 ]واختلف في المراد بالزكاة هنا فقيل الزكاة المفروضة لمقارنتها الصلاة وقيل صدقة الفطر قال مالك في سماع ابن القاسمقلت : فعلى الأول وهو قول أكثر العلماء - فالزكاة في الكتاب مجملة بينها النبي صلى الله عليه وسلم فروى الأئمة عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ليس في حب ولا تمر صدقة حتى تبلغ خمسة أوسق ولا فيما دون خمس ذود صدقة ولا فيما دون خمس أواق صدقة )  وقال البخاري ( خمس أواق من الورق )  وروى البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( فيما سقت السماء والعيون أو كان عشريا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر )  وسيأتي بيان هذا الباب في }{ الأنعام }{ إن شاء الله تعالى ويأتي في }{ براءة }{ زكاة العين والماشية وبيان المال الذي لا يؤخذ منه زكاة عند قوله تعالى }{ خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] وأما زكاة الفطر فليس لها في الكتاب نص عليها إلا ما تأول مالك هنا وقوله تعالى }{ قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى } [ الأعلى : 14 ] والمفسرون يذكرون الكلام عليها في سورة }{ الأعلى } ; ورأيت الكلام عليها في هذه السورة عند كلامنا على آي الصيام لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر في رمضان الحديث وسيأتي فأضافها إلى رمضانوهم بالآخرة هم يوقنونأي وبالبعث والنشر هم عالمون . واليقين : العلم دون الشك ; يقال منه : يقنت الأمر ( بالكسر )  يقنا , وأيقنت واستيقنت وتيقنت كله بمعنى , وأنا على يقين منه . وإنما صارت الياء واوا في قولك : موقن , للضمة قبلها , وإذا صغرته رددته إلى الأصل فقلت مييقن والتصغير يرد الأشياء إلى أصولها وكذلك الجمع . وربما عبروا باليقين عن الظن , ومنه قول علمائنا في اليمين اللغو : هو أن يحلف بالله على أمر يوقنه ثم يتبين له أنه خلاف ذلك فلا شيء عليه ; قال الشاعر : تحسب هواس وأيقن أنني بها مفتد من واحد لا أغامره يقول : تشمم الأسد ناقتي , يظن أنني مفتد بها منه , وأستحمي نفسي فأتركها له ولا أقتحم المهالك بمقاتلته فأما الظن بمعنى اليقين فورد في التنزيل وهو في الشعر كثير ; وسيأتي . والآخرة مشتقة من التأخر لتأخرها عنا وتأخرنا عنها , كما أن الدنيا مشتقة من الدنو ; على ما يأتي .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
    +/- -/+  
الأية
5
 
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ قال النحاس أهل نجد يقولون : ألاك , وبعضهم يقول : ألالك ; والكاف للخطاب . قال الكسائي : من قال أولئك فواحده ذلك , ومن قال ألاك فواحده ذاك , وألالك مثل أولئك ; وأنشد ابن السكيت : ألالك قومي لم يكونوا أشابة وهل يعظ الضليل إلا ألالكا وربما قالوا : أولئك في غير العقلاء ; قال الشاعر : ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام وقال تعالى : { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا } [ الإسراء : 36 ] وقال علماؤنا : إن في قوله تعالى : { من ربهم }{ ردا على القدرية في قولهم : يخلقون إيمانهم وهداهم , تعالى الله عن قولهم ولو كان كما قالوا لقال : { من أنفسهم } , وقد تقدم الكلام فيه وفي الهدى فلا معنى لإعادة ذلك . وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }{ هم }{ يجوز أن يكون مبتدأ ثانيا وخبره }{ المفلحون } , والثاني وخبره خبر الأول , ويجوز أن تكون } هم }{ زائدة - يسميها البصريون فاصلة والكوفيون عمادا - و }{ المفلحون }{ خبر }{ أولئك " . والفلح أصله في اللغة الشق والقطع ; قال الشاعر : إن الحديد بالحديد يفلح أي يشق ; ومنه فلاحة الأرضين إنما هو شقها للحرث , قاله أبو عبيد . ولذلك سمي الأكار فلاحا . ويقال للذي شقت شفته السفلى أفلح , وهو بين الفلحة , فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه . وقد يستعمل في الفوز والبقاء , وهو أصله أيضا في اللغة , ومنه قول الرجل لامرأته : استفلحي بأمرك , معناه فوزي بأمرك , وقال الشاعر : لو كان حي مدرك الفلاح أدركه ملاعب الرماح وقال الأضبط بن قريع السعدي في الجاهلية الجهلاء : لكل هم من الهموم سعه والمسي والصبح لا فلاح معه يقول : ليس مع كر الليل والنهار بقاء . وقال آخر : نحل بلادا كلها حل قبلنا ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير أي البقاء : وقال عبيد : أفلح بما شئت فقد يدرك بالضـ ـعف وقد يخدع الأريب أي ابق بما شئت من كيس وحمق فقد يرزق الأحمق ويحرم العاقل . فمعنى }{ وأولئك هم المفلحون } : أي الفائزون بالجنة والباقون فيها . وقال ابن أبي إسحاق : المفلحون هم الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا , والمعنى واحد . وقد استعمل الفلاح في السحور ; ومنه الحديث : حتى كاد يفوتنا الفلاح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلت : وما الفلاح ؟ قال : السحور . أخرجه أبو داود . فكأن معنى الحديث أن السحور به بقاء الصوم فلهذا سماه فلاحا . والفلاح ( بتشديد اللام )  : المكاري في قول القائل : لها رطل تكيل الزيت فيه وفلاح يسوق لها حمارا ثم الفلاح في العرف : الظفر بالمطلوب , والنجاة من المرهوب . مسألة : إن قال كيف قرأ حمزة : عليهم وإليهم ولديهم ; ولم يقرأ من ربهم ولا فيهم ولا جنتيهم ؟ فالجواب أن عليهم وإليهم ولديهم الياء فيه منقلبة من ألف , والأصل علاهم ولداهم وإلاهم فأقرت الهاء على ضمتها ; وليس ذلك في فيهم ولا من ربهم ولا جنتيهم , ووافقه الكسائي في }{ عليهم الذلة }{ و }{ إليهم اثنين }{ على ما هو معروف من القراءة عنهما .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ
    +/- -/+  
الأية
6
 
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ }{ من }{ في موضع رفع بالابتداء . و { لهو الحديث } : الغناء ; في قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما . النحاس : وهو ممنوع بالكتاب والسنة ; والتقدير : من يشتري ذا لهو أو ذات لهو ; مثل : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] . أو يكون التقدير : لما كان إنما اشتراها يشتريها ويبالغ في ثمنها كأنه اشتراها للهو . قلت : هذه إحدى الآيات الثلاث التي استدل بها العلماء على كراهة الغناء والمنع منه . والآية الثانية قوله تعالى : { وأنتم سامدون } [ النجم : 61 ] . قال ابن عباس : هو الغناء بالحميرية ; اسمدي لنا ; أي غني لنا . والآية الثالثة قوله تعالى : { واستفزز من استطعت منهم بصوتك } [ الإسراء : 64 ] قال مجاهد : الغناء والمزامير . وقد مضى في }{ الإسراء }{ الكلام فيه . وروى الترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام , في مثل هذا أنزلت هذه الآية : { ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله } ) إلى آخر الآية . قال أبو عيسى : هذا حديث غريب , إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة , والقاسم ثقة وعلي بن يزيد يضعف في الحديث ; قاله محمد بن إسماعيل . قال ابن عطية : وبهذا فسر ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد , وذكره أبو الفرج الجوزي عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة والنخعي . قلت : هذا أعلى ما قيل في هذه الآية , وحلف على ذلك ابن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات إنه الغناء . روى سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري قال : سئل عبد الله بن مسعود عن قوله تعالى : { ومن الناس من يشتري لهو الحديث }{ فقال : الغناء والله الذي لا إله إلا هو ; يرددها ثلاث مرات . وعن ابن عمر أنه الغناء ; وكذلك قال عكرمة وميمون بن مهران ومكحول . وروى شعبة وسفيان عن الحكم وحماد عن إبراهيم قال قال عبد الله بن مسعود : الغناء ينبت النفاق في القلب ; وقاله مجاهد , وزاد : إن لهو الحديث في الآية الاستماع إلى الغناء وإلى مثله من الباطل . وقال الحسن : لهو الحديث المعازف والغناء . وقال القاسم بن محمد : الغناء باطل والباطل في النار . وقال ابن القاسم سألت مالكا عنه فقال : قال الله تعالى : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } [ يونس : 32 ] أفحق هو ؟ ! وترجم البخاري ( باب كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله , ومن قال لصاحبه تعالى أقامرك )  , وقوله تعالى : { ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا }{ فقوله : ( إذا شغل عن طاعة الله )  مأخوذ من قوله تعالى : { ليضل عن سبيل الله } . وعن الحسن أيضا : هو الكفر والشرك . وتأوله قوم على الأحاديث التي يتلهى بها أهل الباطل واللعب . وقيل : نزلت في النضر بن الحارث ; لأنه اشترى كتب الأعاجم : رستم , واسفنديار ; فكان يجلس بمكة , فإذا قالت قريش إن محمدا قال كذا ضحك منه , وحدثهم بأحاديث ملوك الفرس ويقول : حديثي هذا أحسن من حديث محمد ; حكاه الفراء والكلبي وغيرهما . وقيل : كان يشتري المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه ; ويقول : هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه . وهذا القول والأول ظاهر في الشراء . وقالت طائفة : الشراء في هذه الآية مستعار , وإنما نزلت الآية في أحاديث قريش وتلهيهم بأمر الإسلام وخوضهم في الباطل . قال ابن عطية : فكان ترك ما يجب فعله وامتثال هذه المنكرات شراء لها ; على حد قوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] ; اشتروا الكفر بالإيمان , أي استبدلوه منه واختاروه عليه . وقال مطرف : شراء لهو الحديث استحبابه . قتادة : ولعله لا ينفق فيه مالا , ولكن سماعه شراؤه . قلت : القول الأول أولى ما قيل به في هذا الباب ; للحديث المرفوع فيه , وقول الصحابة والتابعين فيه . وقد زاد الثعلبي والواحدي في حديث أبي أمامة : ( وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت )  . وروى الترمذي وغيره من حديث أنس وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما : صوت مزمار ورنة شيطان عند نغمة ومرح ورنة عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب )  . وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بعثت بكسر المزامير )  خرجه أبو طالب الغيلاني . وخرج ابن بشران عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بعثت بهدم المزامير والطبل )  . وروى الترمذي من حديث علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء - فذكر منها : إذا اتخذت القينات والمعازف )  . وفي حديث أبي هريرة : ( وظهرت القيان والمعازف )  . وروى ابن المبارك عن مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من جلس إلى قينة يسمع منها صب في أذنه الآنك يوم القيامة )  . وروى أسد بن موسى عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن محمد بن المنكدر قال : بلغنا أن الله تعالى يقول يوم القيامة : ( أين عبادي الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان أحلوهم رياض المسك وأخبروهم أني قد أحللت عليهم رضواني )  . وروى ابن وهب عن مالك عن محمد بن المنكدر مثله , وزاد بعد قوله ( المسك : ثم يقول للملائكة أسمعوهم حمدي وشكري وثنائي , وأخبروهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون )  . وقد روي مرفوعا هذا المعنى من حديث أبي موسى الأشعري أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع الروحانيين )  . فقيل : ومن الروحانيون يا رسول الله ؟ قال : ( قراء أهل الجنة )  خرجه الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول , وقد ذكرنا في كتاب التذكرة مع نظائره : ( فمن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة , ومن لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة )  . إلى غير ذلك . وكل ذلك صحيح المعنى على ما بيناه هناك . ومن رواية مكحول عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه )  . ولهذه الآثار وغيرها قال العلماء بتحريم الغناء . وهي المسألة : وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به , الذي يحرك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل , والمجون الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن ; فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن وذكر الخمور والمحرمات لا يختلف في تحريمه ; لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق . فأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح ; كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة , كما كان في حفر الخندق وحدو أنجشة وسلمة بن الأكوع . فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام . قال ابن العربي : فأما طبل الحرب فلا حرج فيه ; لأنه يقيم النفوس ويرهب العدو . وفي اليراعة تردد . والدف مباح . الجوهري : وربما سموا قصبة الراعي التي يزمر بها هيرعة ويراعة . قال القشيري : ضرب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة , فهم أبو بكر بالزجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح )  فكن يضربن ويقلن : نحن بنات النجار , حبذا محمد من جار . وقد قيل : إن الطبل في النكاح كالدف , وكذلك الآلات المشهرة للنكاح يجوز استعمالها فيه بما يحسن من الكلام ولم يكن فيه رفث الاشتغال بالغناء على الدوام سفه ترد به الشهادة , فإن لم يدم لم ترد . وذكر إسحاق بن عيسى الطباع قال : سألت مالك بن أنس عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال : إنما يفعله عندنا الفساق . وذكر أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري قال : أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه , وقال : إذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردها بالعيب ; وهو مذهب سائر أهل المدينة ; إلا إبراهيم بن سعد فإنه حكى عنه زكريا الساجي أنه كان لا يرى به بأسا . وقال ابن خويز منداد : فأما مالك فيقال عنه : إنه كان عالما بالصناعة وكان مذهبه تحريمها . وروي عنه أنه قال : تعلمت هذه الصناعة وأنا غلام شاب , فقالت لي أمي : أي بني ! إن هذه الصناعة يصلح لها من كان صبيح الوجه ولست كذلك , فطلب العلوم الدينية ; فصحبت ربيعة فجعل الله في ذلك خيرا . قال أبو الطيب الطبري : وأما مذهب أبي حنيفة فإنه يكره الغناء مع إباحته شرب النبيذ , ويجعل سماع الغناء من الذنوب . وكذلك مذهب سائر أهل الكوفة : إبراهيم والشعبي وحماد والثوري وغيرهم , لا اختلاف بينهم في ذلك . وكذلك لا يعرف بين أهل البصرة خلاف في كراهية ذلك والمنع منه ; إلا ما روي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه كان لا يرى به بأسا . قال : وأما مذهب الشافعي فقال : الغناء مكروه يشبه الباطل , ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته . وذكر أبو الفرج الجوزي عن إمامه أحمد بن حنبل ثلاث روايات قال : وقد ذكر أصحابنا عن أبي بكر الخلال وصاحبه عبد العزيز إباحة الغناء , وإنما أشاروا إلى ما كان في زمانهما من القصائد الزهديات ; قال : وعلى هذا يحمل ما لم يكرهه أحمد ; ويدل عليه أنه سئل عن رجل مات وخلف ولدا وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها فقال : تباع على أنها ساذجة لا على أنها مغنية . فقيل له : إنها تساوي ثلاثين ألفا ; ولعلها إن بيعت ساذجة تساوي عشرين ألفا ؟ فقال : لا تباع إلا على أنها ساذجة . قال أبو الفرج : وإنما قال أحمد هذا لأن هذه الجارية المغنية لا تغني بقصائد الزهد , بل بالأشعار المطربة المثيرة إلى العشق . وهذا دليل على أن الغناء محظور ; إذ لو لم يكن محظورا ما جاز تفويت المال على اليتيم . وصار هذا كقول أبي طلحة للنبي صلى الله عليه وسلم : عندي خمر لأيتام ؟ فقال : ( أرقها )  . فلو جاز استصلاحها لما أمر بتضييع مال اليتامى . قال الطبري : فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه . وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري ; وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بالسواد الأعظم . ومن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية )  . قال أبو الفرج : وقال القفال من أصحابنا : لا تقبل شهادة المغني والرقاص . قلت : وإذ قد ثبت أن هذا الأمر لا يجوز فأخذ الأجرة عليه لا تجوز . وقد ادعى أبو عمر بن عبد البر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك . وقد مضى في الأنعام عند قوله : { وعنده مفاتح الغيب } [ الأنعام : 59 ] وحسبك . قال القاضي أبو بكر بن العربي : وأما سماع القينات فيجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته ; إذ ليس شيء منها عليه حراما لا من ظاهرها ولا من باطنها , فكيف يمنع من التلذذ بصوتها . أما إنه لا يجوز انكشاف النساء للرجال ولا هتك الأستار ولا سماع الرفث , فإذا خرج ذلك إلى ما لا يحل ولا يجوز منع من أوله واجتث من أصله . وقال أبو الطيب الطبري : أما سماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم فإن أصحاب الشافعي قالوا لا يجوز , سواء كانت حرة أو مملوكة . قال : وقال الشافعي : وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته ; ثم غلظ القول فيه فقال : فهي دياثة . وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل , ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها . لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ قراءة العامة بضم الياء ; أي ليضل غيره عن طريق الهدى , وإذا أضل غيره فقد ضل . وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وأبو عمرو ورويس وابن أبي إسحاق ( بفتح الياء )  على اللازم ; أي ليضل هو نفسه . وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم بالرفع عطفا على }{ من يشتري }{ ويجوز أن يكون مستأنفا . وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي : { ويتخذها }{ بالنصب عطفا على }{ ليضل } . ومن الوجهين جميعا لا يحسن الوقف على قوله : { بغير علم } والوقف على قوله : { هزوا } , والهاء في }{ يتخذها }{ كناية عن الآيات . ويجوز أن يكون كناية عن السبيل ; لأن السبيل يؤنث ويذكر . أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ أي شديد يهينهم قال الشاعر : ولقد جزعت إلى النصارى بعدما لقي الصليب من العذاب مهينا .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا ۖ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
    +/- -/+  
الأية
7
 
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا يعني القرآن . وَلَّى أي أعرض . مُسْتَكْبِرًا نصب على الحال . كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا ثقلا وصمما . فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أي موجع .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ
    +/- -/+  
 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
خَالِدِينَ فِيهَا ۖ وَعْدَ اللهِ حَقًّا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
    +/- -/+  
الأية
9
 
خَالِدِينَ فِيهَا أي دائمين . وَعْدَ اللهِ حَقًّا أي وعدهم الله هذا وعدا حقا لا خلف فيه . وَهُوَ الْعَزِيزُ العزيز الذي لا يمتنع عليه ما يريده ;الْحَكِيمُ الحكيم فيما يفعله .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ۚ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ
    +/- -/+  
الأية
10
 
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا تكون }{ ترونها }{ في موضع خفض على النعت ل }{ عمد }{ فيمكن أن يكون ثم عمد ولكن لا ترى . ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال من }{ السموات }{ ولا عمد ثم البتة . النحاس : وسمعت علي بن سليمان يقول : الأولى أن يكون مستأنفا , ولا عمد ثم ; قاله مكي . ويكون }{ بغير عمد }{ التمام . وقد مضى في }{ الرعد }{ الكلام في هذه الآية . وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أي جبالا ثوابت . أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ في موضع نصب ; أي كراهية أن تميد . والكوفيون يقدرونه بمعنى لئلا تميد . وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ عن ابن عباس : من كل لون حسن . وتأوله الشعبي على الناس ; لأنهم مخلوقون من الأرض ; قال : من كان منهم يصير إلى الجنة فهو الكريم , ومن كان منهم يصير إلى النار فهو اللئيم . وقد تأول غيره أن النطفة مخلوقة من تراب , وظاهر القرآن يدل على ذلك .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
هَٰذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ۚ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
    +/- -/+  
الأية
11
 
هَذَا خَلْقُ اللهِ مبتدأ وخبر . والخلق بمعنى المخلوق ; أي هذا الذي ذكرته مما تعاينون }{ خلق الله }{ أي مخلوق الله , أي خلقها من غير شريك . فَأَرُونِي معاشر المشركينمَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني الأصنام . بَلِ الظَّالِمُونَ أي المشركونفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ أي خسران ظاهر .{ وما }{ استفهام في موضع رفع بالابتداء وخبره }{ ذا }{ وذا بمعنى الذي . و }{ خلق }{ واقع على هاء محذوفة ; تقديره فأروني أي شيء خلق الذين من دونه ; والجملة في موضع نصب ب }{ أروني }{ وتضمر الهاء مع }{ خلق } تعود على الذين ; أي فأروني الأشياء التي خلقها الذين من دونه . وعلى هذا القول تقول : ماذا تعلمت , أنحو أم شعر . ويجوز أن تكون }{ ما }{ في موضع نصب ب }{ أروني }{ و }{ ذا { زائد ; وعلى هذا القول يقول : ماذا تعلمت , أنحوا أم شعرا .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
    +/- -/+  
الأية
12
 
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ مفعولان . ولم ينصرف }{ لقمان }{ لأن في آخره ألفا ونونا زائدتين ; فأشبه فعلان الذي أنثاه فعلى فلم ينصرف في المعرفة لأن ذلك ثقل ثان , وانصرف في النكرة لأن أحد الثقلين قد زال ; قاله النحاس . وهو لقمان بن باعوراء بن ناحور بن تارح , وهو آزر أبو إبراهيم ; كذا نسبه محمد بن إسحاق . وقيل : هو لقمان بن عنقاء بن سرون وكان نوبيا من أهل أيلة ; ذكره السهيلي . قال وهب : كان ابن أخت أيوب . وقال مقاتل : ذكر أنه كان ابن خالة أيوب . الزمخشري : وهو لقمان بن باعوراء بن أخت أيوب أو ابن خالته , وقيل كان من أولاد آزر , عاش ألف سنة وأدركه داود عليه الصلاة والسلام وأخذ عنه العلم , وكان يفتي قبل مبعث داود , فلما بعث قطع الفتوى فقيل له , فقال : ألا أكتفي إذ كفيت . وقال الواقدي : كان قاضيا في بني إسرائيل . وقال سعيد بن المسيب : كان لقمان أسود من سودان مصر ذا مشافر , أعطاه الله تعالى الحكمة ومنعه النبوة ; وعلى هذا جمهور أهل التأويل أنه كان وليا ولم يكن نبيا . وقال بنبوته عكرمة والشعبي ; وعلى هذا تكون الحكمة النبوة . والصواب أنه كان رجلا حكيما بحكمة الله تعالى - وهي الصواب في المعتقدات والفقه في الدين والعقل - قاضيا في بني إسرائيل , أسود مشقق الرجلين ذا مشافر , أي عظيم الشفتين ; قاله ابن عباس وغيره . وروي من حديث ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين , أحب الله تعالى فأحبه , فمن عليه بالحكمة , وخيره في أن يجعله خليفة يحكم بالحق ; فقال : رب , إن خيرتني قبلت العافية وتركت البلاء , وإن عزمت علي فسمعا وطاعة فإنك ستعصمني ; ذكره ابن عطية . وزاد الثعلبي : فقالت له الملائكة بصوت لا يراهم : لم يا لقمان ؟ قال : لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها , يغشاه المظلوم من كل مكان , إن يعن فبالحرى أن ينجو , وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة . ومن يكن في الدنيا ذليلا فذلك خير من أن يكون فيها شريفا . ومن يختر الدنيا على الآخرة نفته الدنيا ولا يصيب الآخرة . فعجبت الملائكة من حسن منطقه ; فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها . ثم نودي داود بعده فقبلها - يعني الخلافة - ولم يشترط ما اشترطه لقمان , فهوى في الخطيئة غير مرة , كل ذلك يعفو الله عنه . وكان لقمان يوازره بحكمته ; فقال له داود : طوبى لك يا لقمان ! أعطيت الحكمة وصرف عنك البلاء , وأعطي داود الخلافة وابتلي بالبلاء والفتنة . وقال قتادة : خير الله تعالى لقمان بين النبوة والحكمة ; فاختار الحكمة على النبوة ; فأتاه جبريل عليه السلام وهو نائم فذر عليه الحكمة فأصبح وهو ينطق بها ; فقيل له : كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك ؟ فقال : إنه لو أرسل إلي بالنبوة عزمة لرجوت فيها العون منه , ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة , فكانت الحكمة أحب إلي . واختلف في صنعته ; فقيل : كان خياطا ; قاله سعيد بن المسيب , وقال لرجل أسود : لا تحزن من أنك أسود , فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان : بلال ومهجع مولى عمر ولقمان . وقيل : كان يحتطب كل يوم لمولاه حزمة حطب . وقال لرجل ينظر إليه : إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق , وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض . وقيل : كان راعيا , فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال له : ألست عبد بني فلان ؟ قال بلى . قال : فما بلغ بك ما أرى ؟ قال : قدر الله , وأدائي الأمانة , وصدق الحديث , وترك ما لا يعنيني ; قاله عبد الرحمن بن زيد بن جابر . وقال خالد الربعي : كان نجارا ; فقال له سيده : اذبح لي شاة وأتني بأطيبها مضغتين ; فأتاه باللسان والقلب ; فقال له : ما كان فيها شيء أطيب من هذين ؟ فسكت , ثم أمره بذبح شاة أخرى ثم قال له : ألق أخبثها مضغتين ; فألقى اللسان والقلب ; فقال له : أمرتك أن تأتيني بأطيب مضغتين فأتيتني باللسان والقلب , وأمرتك أن تلقي أخبثها فألقيت اللسان والقلب ؟ ! فقال له : إنه ليس شيء أطيب منهما إذا طابا , ولا أخبث منهما إذا خبثا . قلت : هذا معناه مرفوع في غير ما حديث ; من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )  . وجاء في اللسان آثار كثيرة صحيحة وشهيرة ; منها قوله عليه السلام : ( من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة : ما بين لحييه ورجليه .. .) الحديث . وحكم لقمان كثيرة مأثورة هذا منها . وقيل له : أي الناس شر ؟ قال : الذي لا يبالي أن رآه الناس مسيئا . قلت : وهذا أيضا مرفوع معنى , قال صلى الله عليه وسلم : ( كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه )  . رواه أبو هريرة خرجه البخاري . وقال وهب بن منبه : قرأت من حكمة لقمان أرجح من عشرة آلاف باب . وروي أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدروع , وقد لين الله له الحديد كالطين فأراد أن يسأله , فأدركته الحكمة فسكت ; فلما أتمها لبسها وقال : نعم لبوس الحرب أنت . فقال : الصمت حكمة , وقليل فاعله . فقال له داود : بحق ما سميت حكيما . أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ فيه تقديران : أحدهما أن تكون }{ أن }{ بمعنى أي مفسرة ; أي قلنا له اشكر . والقول الآخر إنها في موضع نصب والفعل داخل في صلتها ; كما حكى سيبويه : كتبت إليه أن قم ; إلا أن هذا الوجه عنده بعيد . وقال الزجاج : المعنى ولقد آتينا لقمان الحكمة لأن يشكر الله تعالى . وقيل : أي بأن اشكر لله تعالى فشكر ; فكان حكيما بشكره لنا . والشكر لله : طاعته فيما أمر به . وقد مضى القول في حقيقته لغة ومعنى في } البقرة }{ وغيرها . وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ أي من يطع الله تعالى فإنما يعمل لنفسه ; لأن نفع الثواب عائد إليه . وَمَنْ كَفَرَ أي كفر النعم فلم يوحد اللهفَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عن عبادة خلقهحَمِيدٌ عند الخلق ; أي محمود . وقال يحيى بن سلام : { غني }{ عن خلقه }{ حميد }{ في فعله .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
    +/- -/+  
الأية
13
 
قال السهيلي : اسم ابنه ثاران ; في قول الطبري والقتبي . وقال الكلبي : مشكم . وقيل أنعم ; حكاه النقاش . وذكر القشيري أن ابنه وامرأته كانا كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما . قلت : ودل على هذا قوله : { لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم }{ وفي صحيح مسلم وغيره عن عبد الله قال : لما نزلت }{ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } [ الأنعام : 82 ] شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : أينا لا يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه : يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم )  . واختلف في قوله : { إن الشرك لظلم عظيم }{ فقيل : إنه من كلام لقمان . وقيل : هو خبر من الله تعالى منقطعا من كلام لقمان متصلا به في تأكيد المعنى ; ويؤيد هذا الحديث المأثور أنه لما نزلت : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } [ الأنعام : 82 ] أشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : أينا لم يظلم ; فأنزل الله تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم }{ فسكن إشفاقهم , وإنما يسكن إشفاقهم بأن يكون خبرا من الله تعالى ; وقد يسكن الإشفاق بأن يذكر الله ذلك عن عبد قد وصفه بالحكمة والسداد . و }{ إذ }{ في موضع نصب بمعنى اذكر . وقال الزجاج في كتابه في القرآن : إن }{ إذ }{ في موضع نصب ب }{ آتينا { والمعنى : ولقد آتينا لقمان الحكمة إذ قال . النحاس : وأحسبه غلطا ; لأن في الكلام واوا تمنع من ذلك . وقال : { يا بني }{ بكسر الياء ; لأنها دالة على الياء المحذوفة , ومن فتحها فلخفة الفتحة عنده ; وقد مضى في }{ هود }{ القول في هذا . وقوله : { يا بني { ليس هو على حقيقة التصغير وإن كان على لفظه , وإنما هو على وجه الترقيق ; كما يقال للرجل : يا أخي , وللصبي هو كويس .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ
    +/- -/+  
الأية
14
 
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ هاتان الآيتان اعتراض بين أثناء وصية لقمان . وقيل : إن هذا مما أوصى به لقمان ابنه ; أخبر الله به عنه ; أي قال لقمان لابنه : لا تشرك بالله ولا تطع في الشرك والديك , فإن الله وصى بهما في طاعتهما مما لا يكون شركا ومعصية لله تعالى . وقيل : أي وإذ قال لقمان لابنه ; فقلنا للقمان فيما آتيناه من الحكمة ووصينا الإنسان بوالديه ; أي قلنا له اشكر لله , وقلنا له ووصينا الإنسان . وقيل : وإذ قال لقمان لابنه , لا تشرك , ونحن وصينا الإنسان بوالديه حسنا , وأمرنا الناس بهذا , وأمر لقمان به ابنه ; ذكر هذه الأقوال القشيري . والصحيح أن هاتين الآيتين نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص ; كما تقدم في }{ العنكبوت }{ وعليه جماعة المفسرين . وجملة هذا الباب أن طاعة الأبوين لا تراعى في ركوب كبيرة ولا في ترك فريضة على الأعيان , وتلزم طاعتهما في المباحات , ويستحسن في ترك الطاعات الندب ; ومنه أمر الجهاد الكفاية , والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة ; على أن هذا أقوى من الندب ; لكن يعلل بخوف هلكة عليها , ونحوه مما يبيح قطع الصلاة فلا يكون أقوى من الندب . وخالف الحسن في هذا التفصيل فقال : إن منعته أمه من شهود العشاء شفقة فلا يطعها . لما خص تعالى الأم بدرجة ذكر الحمل وبدرجة ذكر الرضاع حصل لها بذلك ثلاث مراتب , وللأب واحدة ; وأشبه ذلك قوله صلى الله عليه وسلم حين قال له رجل من أبر ؟ قال : ( أمك )  قال ثم من ؟ قال : ( أمك )  قال ثم من ؟ قال : ( أمك )  قال ثم من ؟ قال : ( أبوك )  فجعل له الربع من المبرة كما في هذه الآية ; وقد مضى هذا كله في }{ الإسراء } . حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أي حملته في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفا على ضعف . وقيل : المرأة ضعيفة الخلقة ثم يضعفها الحمل . وقرأ عيسى الثقفي : { وهنا على وهن }{ بفتح الهاء فيهما ; ورويت عن أبي عمرو , وهما بمعنى واحد . قال قعنب بن أم صاحب : هل للعواذل من ناه فيزجرها إن العواذل فيها الأين والوهن يقال : وهن يهن , ووهن يوهن ووهن , يهن ; مثل ورم يرم . وانتصب }{ وهنا }{ على المصدر ; ذكره القشيري . النحاس : على المفعول الثاني بإسقاط حرف الجر ; أي حملته بضعف على ضعف . وقرأ الجمهور : { وفصاله }{ وقرأ الحسن ويعقوب : { وفصله }{ وهما لغتان , أي وفصاله في انقضاء عامين ; والمقصود من الفصال الفطام , فعبر بغايته ونهايته . ويقال : انفصل عن كذا أي تميز ; وبه سمي الفصيل . الناس مجمعون على العامين في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات , وأما في تحريم اللبن فحددت فرقة بالعام لا زيادة ولا نقص . وقالت فرقة : العامان وما اتصل بهما من الشهر ونحوه إذا كان متصل الرضاع . وقالت فرقة : إن فطم الصبي قبل العامين وترك اللبن فإن ما شرب بعد ذلك في الحولين لا يحرم ; وقد مضى هذا في }{ البقرة }{ مستوفى . أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ }{ أن }{ في موضع نصب في قول الزجاج , وأن المعنى : ووصينا الإنسان بوالديه أن اشكر لي . النحاس : وأجود منه أن تكون }{ أن }{ مفسرة , والمعنى : قلنا له أن اشكر لي ولوالديك . قيل : الشكر لله على نعمة الإيمان , وللوالدين على نعمة التربية . وقال سفيان بن عيينة : من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى , ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
    +/- -/+  
الأية
15
 
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا قد بينا أن هذه الآية والتي قبلها نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص لما أسلم , وأن أمه وهي حمنة بنت أبي سفيان بن أمية حلفت ألا تأكل ; كما تقدم في الآية قبلها . وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا نعت لمصدر محذوف ; أي مصاحبا معروفا ; يقال صاحبته مصاحبة ومصاحبا . و }{ معروفا }{ أي ما يحسن . والآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين , وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفق . وقد قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق للنبي عليه الصلاة والسلام وقد قدمت عليها خالتها وقيل أمها من الرضاعة فقالت : يا رسول الله , إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها ؟ قال : ( نعم )  . وراغبة قيل معناه : عن الإسلام . قال ابن عطية : والظاهر عندي أنها راغبة في الصلة , وما كانت لتقدم على أسماء لولا حاجتها . ووالدة أسماء هي قتيلة بنت عبد العزى بن عبد أسد . وأم عائشة وعبد الرحمن هي أم رومان قديمة الإسلام . وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وصية لجميع العالم ; كأن المأمور الإنسان . و }{ أناب }{ معناه مال ورجع إلى الشيء ; وهذه سبيل الأنبياء والصالحين . وحكى النقاش أن المأمور سعد , والذي أناب أبو بكر ; وقال : إن أبا بكر لما أسلم أتاه سعد و عبد الرحمن بن عوف وعثمان وطلحة وسعيد والزبير فقالوا : آمنت ! قال نعم ; فنزلت فيه : { أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه " [ الزمر : 9 ] فلما سمعها الستة آمنوا ; فأنزل الله تعالى فيهم : { والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى }{ إلى قوله }{ أولئك الذين هداهم الله } [ الزمر : 17 - 18 ] . وقيل : الذي أناب النبي صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عباس : ولما أسلم سعد أسلم معه أخواه عامر وعويمر ; فلم يبق منهم مشرك إلا عتبة . ثم توعد عز وجل ببعث من في القبور والرجوع إليه للجزاء والتوقيف على صغير الأعمال وكبيرها .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ ۚ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
    +/- -/+  
الأية
16
 
المعنى : وقال لقمان لابنه يا بني . وهذا القول من لقمان إنما قصد به إعلام ابنه بقدر قدرة الله تعالى . وهذه الغاية التي أمكنه أن يفهمه , لأن الخردلة يقال : إن الحس لا يدرك لها ثقلا , إذ لا ترجح ميزانا . أي لو كان للإنسان رزق مثقال حبة خردل في هذه المواضع جاء الله بها حتى يسوقها إلى من هي رزقه ; أي لا تهتم للرزق حتى تشتغل به عن أداء الفرائض , وعن اتباع سبيل من أناب إلي . قلت : ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود : ( لا تكثر همك ما يقدر يكون وما ترزق يأتيك )  . وقد نطقت هذه الآية بأن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما , وأحصى كل شيء عددا ; سبحانه لا شريك له . وروي أن ابن لقمان سأل أباه عن الحبة التي تقع في سفل البحر أيعلمها الله ؟ فراجعه لقمان بهذه الآية . وقيل : المعنى أنه أراد الأعمال , المعاصي والطاعات ; أي إن تك الحسنة أو الخطيئة مثقال حبة يأت بها الله ; أي لا تفوت الإنسان المقدر وقوعها منه . وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة ترجية وتخويف مضاف ذلك إلى تبيين قدرة الله تعالى . وفي القول الأول ليس فيه ترجية ولا تخويف . { مثقال حبة }{ عبارة تصلح للجواهر , أي قدر حبة , وتصلح للأعمال ; أي ما يزنه على جهة المماثلة قدر حبة . ومما يؤيد قول من قال هي من الجواهر : قراءة عبد الكريم الجزري } فتكن }{ بكسر الكاف وشد النون , من الكن الذي هو الشيء المغطى . وقرأ جمهور القراء : { إن تك }{ بالتاء من فوق }{ مثقال }{ بالنصب على خبر كان , واسمها مضمر تقديره : مسألتك , على ما روي , أو المعصية والطاعة على القول الثاني ; ويدل على صحته قول ابن لقمان لأبيه : يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله ؟ فقال لقمان له : { يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة }{ الآية . فما زال ابنه يضطرب حتى مات ; قاله مقاتل . والضمير في }{ إنها }{ ضمير القصة ; كقولك : إنها هند قائمة ; أي القصة إنها إن تك مثقال حبة . والبصريون يجيزون : إنها زيد ضربته ; بمعنى إن القصة . والكوفيون لا يجيزون هذا إلا في المؤنث كما ذكرنا . وقرأ نافع : { مثقال }{ بالرفع , وعلى هذا }{ تك }{ يرجع إلى معنى خردلة ; أي إن تك حبة من خردل . وقيل : أسند إلى المثقال فعلا فيه علامة التأنيث من حيث انضاف إلى مؤنث هو منه ; لأن مثقال الحبة من الخردل إما سيئة أو حسنة ; كما قال : { فله عشر أمثالها } [ الأنعام : 160 ] فأنث وإن كان المثل مذكرا ; لأنه أراد الحسنات . وهذا كقول الشاعر : مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم و }{ تك }{ هاهنا بمعنى تقع فلا تقتضي خبرا .{ فتكن في صخرة }{ قيل : معنى الكلام المبالغة والانتهاء في التفهيم ; أي أن قدرته تعالى تنال ما يكون في تضاعيف صخرة وما يكون في السماء والأرض . وقال ابن عباس : الصخرة تحت الأرضين السبع وعليها الأرض . وقيل : هي الصخرة على ظهر الحوت . وقال السدي : هي صخرة ليست في السموات والأرض , بل هي وراء سبع أرضين عليها ملك قائم ; لأنه قال : { أو في السموات أو في الأرض }{ وفيهما غنية عن قوله : { فتكن في صخرة } ; وهذا الذي قاله ممكن , ويمكن أن يقال : قوله : { فتكن في صخرة }{ تأكيد ; كقوله : { اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق } [ العلق : 1 - 2 ] , وقوله : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } [ الإسراء : 1 ] .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
    +/- -/+  
الأية
17
 
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ وصى ابنه بعظم الطاعات وهي الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وهذا إنما يريد به بعد أن يمتثل ذلك هو في نفسه ويزدجر عن المنكر , وهنا هي الطاعات والفضائل أجمع . ولقد أحسن من قال : وابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم في أبيات تقدم في } البقرة }{ ذكرها . الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يقتضي حضا على تغيير المنكر وإن نالك ضرر ; فهو إشعار بأن المغير يؤذى أحيانا ; وهذا القدر على جهة الندب والقوة في ذات الله ; وأما على اللزوم فلا , وقد مضى الكلام في هذا مستوفى في }{ آل عمران والمائدة } . وقيل : أمره بالصبر على شدائد الدنيا كالأمراض وغيرها , وألا يخرج من الجزع إلى معصية الله عز وجل ; وهذا قول حسن لأنه يعم . أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ قال ابن عباس : من حقيقة الإيمان الصبر على المكاره . وقيل : إن إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عزم الأمور ; أي مما عزمه الله وأمر به ; قاله ابن جريج . ويحتمل أن يريد أن ذلك من مكارم الأخلاق وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة . وقول ابن جريج أصوب .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
    +/- -/+  
الأية
18
 
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ قرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن : { تصاعر }{ بالألف بعد الصاد . وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر والحسن ومجاهد : { تصعر { وقرأ الجحدري : { تصعر }{ بسكون الصاد ; والمعنى متقارب . والصعر : الميل ; ومنه قول الأعرابي : وقد أقام الدهر صعري , بعد أن أقمت صعره . ومنه قول عمرو بن حني التغلبي : وكنا إذا الجبار صعر خده أقمنا له من ميله فتقوم وأنشده الطبري : { فتقوما } . قال ابن عطية : وهو خطأ ; لأن قافية الشعر مخفوضة . وفي بيت آخر : أقمنا له من خده المتصعر قال الهروي : { لا تصاعر }{ أي لا تعرض عنهم تكبرا عليهم ; يقال : أصاب البعير صعر وصيد إذ أصابه داء يلوي منه عنقه . ثم يقال للمتكبر : فيه صعر وصيد ; فمعنى : { لا تصعر }{ أي لا تلزم خدك الصعر . وفي الحديث : ( يأتي على الناس زمان ليس فيهم إلا أصعر أو أبتر )  والأصعر : المعرض بوجهه كبرا ; وأراد رذالة الناس الذين لا دين لهم . وفي الحديث : ( كل صعار ملعون )  أي كل ذي أبهة وكبر . معنى الآية : ولا تمل خدك للناس كبرا عليهم وإعجابا واحتقارا لهم . وهذا تأويل ابن عباس وجماعة . وقيل : هو أن تلوي شدقك إذا ذكر الرجل عندك كأنك تحتقره ; فالمعنى : أقبل عليهم متواضعا مؤنسا مستأنسا , وإذا حدثك أصغرهم فأصغ إليه حتى يكمل حديثه . وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل . قلت : ومن هذا المعنى ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا , ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث )  . فالتدابر الإعراض وترك الكلام والسلام ونحوه . وإنما قيل للإعراض تدابر لأن من أبغضته أعرضت عنه ووليته دبرك ; وكذلك يصنع هو بك . ومن أحببته أقبلت عليه بوجهك وواجهته لتسره ويسرك ; فمعنى التدابر موجود فيمن صعر خده , وبه فسر مجاهد الآية . وقال ابن خويز منداد : قوله : { ولا تصاعر خدك للناس }{ كأنه نهى أن يذل الإنسان نفسه من غير حاجة ; ونحو ذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ليس للإنسان أن يذل نفسه )  . وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ أي متبخترا متكبرا , مصدر في موضع الحال , وقد مضى في }{ الإسراء } . وهو النشاط والمشي فرحا في غير شغل وفي غير حاجة . وأهل هذا الخلق ملازمون للفخر والخيلاء ; فالمرح مختال في مشيته . روى يحيى بن جابر الطائي عن ابن عائذ الأزدي عن غضيف بن الحارث قال : أتيت بيت المقدس أنا وعبد الله بن عبيد بن عمير قال : فجلسنا إلى عبد الله بن عمرو بن العاصي فسمعته يقول : إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه فيقول : يا ابن آدم ما غرك بي ! ألم تعلم أني بيت الوحدة ! ألم تعلم أني بيت الظلمة ! ألم تعلم أني بيت الحق ! يا ابن آدم ما غرك بي ! لقد كنت تمشي حولي فدادا . قال ابن عائذ قلت لغضيف : ما الفداد يا أبا أسماء ؟ قال : كبعض مشيتك يا ابن أخي أحيانا . قال أبو عبيد : والمعنى ذا مال كثير وذا خيلاء . وقال صلى الله عليه وسلم : ( من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة )  . والفخور : هو الذي يعدد ما أعطي ولا يشكر الله تعالى ; قاله مجاهد . وفي اللفظة الفخر بالنسب وغير ذلك .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ
    +/- -/+  
الأية
19
 
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ لما نهاه عن الخلق الذميم رسم له الخلق الكريم الذي ينبغي أن يستعمله فقال : { واقصد في مشيك }{ أي توسط فيه . والقصد : ما بين الإسراع والبطء ; أي لا تدب دبيب المتماوتين ولا تثب وثب الشطار ; وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن )  . فأما ما روي عنه عليه السلام أنه كان إذا مشى أسرع , وقول عائشة في عمر رضي الله عنهما : كان إذا مشى أسرع - فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت ; والله أعلم . وقد مدح الله سبحانه من هذه صفته حسبما تقدم بيانه في }{ الفرقان } . وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أي انقص منه ; أي لا تتكلف رفع الصوت وخذ منه ما تحتاج إليه ; فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي . والمراد بذلك كله التواضع ; وقد قال عمر لمؤذن تكلف رفع الأذان بأكثر من طاقته : لقد خشيت أن ينشق مريطاؤك ! والمؤذن هو أبو محذورة سمرة بن معير . والمريطاء : ما بين السرة إلى العانة . إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ أي أقبحها وأوحشها ; ومنه أتانا بوجه منكر . والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة , وكذلك نهاقه ; ومن استفحاشهم لذكره مجردا أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح فيقولون : الطويل الأذنين ; كما يكنى عن الأشياء المستقذرة . وقد عد في مساوئ الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة . ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافا وإن بلغت منه الرجلة . وكان عليه الصلاة والسلام يركبه تواضعا وتذللا لله تبارك وتعالى . في الآية دليل على تعريف قبح رفع الصوت في المخاطبة والملاحاة بقبح أصوات الحمير ; لأنها عالية . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا )  . وقد روي : أنه ما صاح حمار ولا نبح كلب إلا أن يرى شيطانا . وقال سفيان الثوري : صياح كل شيء تسبيح إلا نهيق الحمير . وقال عطاء : نهيق الحمير دعاء على الظلمة . وهذه الآية أدب من الله تعالى بترك الصياح في وجوه الناس تهاونا بهم , أو بترك الصياح جملة ; وكانت العرب تفخر بجهارة الصوت الجهير وغير ذلك , فمن كان منهم أشد صوتا كان أعز , ومن كان أخفض كان أذل , حتى قال شاعرهم : جهير الكلام جهير العطاس جهير الرواء جهير النعم ويعدو على الأين عدوى الظليم ويعلو الرجال بخلق عمم فنهى الله سبحانه وتعالى عن هذه الخلق الجاهلية بقوله : { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير }{ أي لو أن شيئا يهاب لصوته لكان الحمار ; فجعلهم في المثل سواء . { لصوت الحمير }{ اللام للتأكيد , ووحد الصوت وإن كان مضافا إلى الجماعة لأنه مصدر والمصدر يدل على الكثرة , وهو مصدر صات يصوت صوتا فهو صائت . ويقال : صوت تصويتا فهو مصوت . ورجل صات أي شديد الصوت بمعنى صائت ; كقولهم : رجل مال ونال ; أي كثير المال والنوال .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ
    +/- -/+  
الأية
20
 
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ذكر نعمه على بني آدم , وأنه سخر لهم }{ ما في السموات }{ من شمس وقمر ونجوم وملائكة تحوطهم وتجر إليهم منافعهم .{ وما في الأرض }{ عام في الجبال والأشجار والثمار وما لا يحصى . وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً أي أكملها وأتمها . وقرأ ابن عباس ويحيى بن عمارة : { وأصبغ }{ بالصاد على بدلها من السين ; لأن حروف الاستعلاء تجتذب السين من سفلها إلى علوها فتردها صادا . والنعم : جمع نعمة كسدرة وسدر ( بفتح الدال )  وهي قراءة نافع وأبي عمرو وحفص . الباقون : { نعمة }{ على الإفراد ; والإفراد يدل على الكثرة ; كقوله تعالى : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } [ إبراهيم : 34 ] . وهي قراءة ابن عباس من وجوه صحاح . وقيل : إن معناها الإسلام ; قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس وقد سأله عن هذه الآية : ( الظاهرة الإسلام وما حسن من خلقك , والباطنة ما ستر عليك من سيئ عملك )  . قال النحاس : وشرح هذا أن سعيد بن جبير قال في قول الله عز وجل : { ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم } [ المائدة : 6 ] قال : يدخلكم الجنة . وتمام نعمة الله عز وجل على العبد أن يدخله الجنة , فكذا لما كان الإسلام يئول أمره إلى الجنة سمي نعمة . وقيل : الظاهرة الصحة وكمال الخلق , والباطنة المعرفة والعقل . وقال المحاسبي : الظاهرة نعم الدنيا , والباطنة نعم العقبى . وقيل : الظاهرة ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال في الناس وتوفيق الطاعات , والباطنة ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله وحسن اليقين وما يدفع الله تعالى عن العبد من الآفات . وقد سرد الماوردي في هذا أقوالا تسعة , كلها ترجع إلى هذا . وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ نزلت في يهودي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد , أخبرني عن ربك , من أي شيء هو ؟ فجاءت صاعقة فأخذته ; قاله مجاهد . وقد مضى هذا في }{ الرعد " . وقيل : إنها نزلت في النضر بن الحارث , كان يقول : إن الملائكة بنات الله ; قاله ابن عباس .{ يجادل }{ يخاصمبِغَيْرِ عِلْمٍ أي بغير حجةوَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ أي نير بين ; إلا الشيطان فيما يلقي إليهم .{ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } [ الأنعام : 121; .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ
    +/- -/+  
الأية
21
 
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وإلا تقليدهم للأسلاف . أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ فيتبعونه .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ۗ وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ
    +/- -/+  
الأية
22
 
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ أي يخلص عبادته وقصده إلى الله تعالى . وَهُوَ مُحْسِنٌ لأن العبادة من غير إحسان ولا معرفة القلب لا تنفع ; نظيره : { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن } [ طه : 112 ] . وفي حديث جبريل قال : فأخبرني عن الإحسان ؟ قال : ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )  . فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى قال ابن عباس : لا إله إلا الله ; وقد مضى في { البقرة } . وقد قرأ علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه والسلمي وعبد الله بن مسلم بن يسار : { ومن يسلم } . النحاس : و }{ يسلم }{ في هذا أعرف ; كما قال عز وجل : { فقل أسلمت وجهي لله } [ آل عمران : 20 ] ومعنى : { أسلمت وجهي لله }{ قصدت بعبادتي إلى الله عز وجل ; ويكون }{ يسلم }{ على التكثير ; إلا أن المستعمل في سلمت أنه بمعنى دفعت ; يقال سلمت في الحنطة , وقد يقال أسلمت . الزمخشري : قرأ علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : { ومن يسلم }{ بالتشديد ; يقال : أسلم أمرك وسلم أمرك إلى الله تعالى ; فإن قلت : ماله عدي بإلى , وقد عدي باللام في قوله عز وجل : { بلى من أسلم وجهه لله }{ ؟ [ البقرة : 112 ] قلت : معناه مع اللام أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالما لله ; أي خالصا له . ومعناه مع إلى راجع إلى أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه . والمراد التوكل عليه والتفويض إليه . وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ أي مصيرها .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ ۚ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا ۚ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
    +/- -/+  
الأية
23
 
وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أي نجازيهم بما عملوا . إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ علم أنه لو ردكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحا , كما قال }{ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام : 28 ] . و }{ عالم }{ إذا كان بغير تنوين صلح أن يكون للماضي والمستقبل , وإذا كان منونا لم يجز أن يكون للماضي .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ
    +/- -/+  
الأية
24
 
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا أي نبقيهم في الدنيا مدة قليلة يتمتعون بها . ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ أي نلجئهم ونسوقهم . إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ من }{ يصلح للواحد والجمع , فلهذا قال : { كفره }{ ثم قال : { مرجعهم }{ وما بعده على المعنى .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ۚ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
    +/- -/+  
الأية
25
 
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ أي هم يعترفون بأن الله خالقهم فلم يعبدون غيره . قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أي على ما هدانا له من دينه , وليس الحمد لغيره . بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أي لا ينظرون ولا يتدبرون .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ
    +/- -/+  
الأية
26
 
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي ملكا وخلقا . إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ أي الغني عن خلقه وعن عبادتهم , وإنما أمرهم لينفعهم . الْحَمِيدُ أي المحمود على صنعه .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ ۗ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
    +/- -/+  
الأية
27
 
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ لما احتج على المشركين بما احتج بين أن معاني كلامه سبحانه لا تنفد , وأنها لا نهاية لها . وقال القفال : لما ذكر أنه سخر لهم ما في السموات وما في الأرض وأنه أسبغ النعم نبه على أن الأشجار لو كانت أقلاما , والبحار مدادا فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب . قال القشيري : فرد معنى تلك الكلمات إلى المقدورات , وحمل الآية على الكلام القديم أولى ; والمخلوق لا بد له من نهاية , فإذا نفيت النهاية عن مقدوراته فهو نفي النهاية عما يقدر في المستقبل على إيجاده , فأما ما حصره الوجود وعده فلا بد من تناهيه , والقديم لا نهاية له على التحقيق . وقد مضى الكلام في معنى }{ كلمات الله }{ في آخر }{ الكهف } . وقال أبو علي : المراد بالكلمات والله أعلم ما في المقدور دون ما خرج منه إلى الوجود . وهذا نحو مما قاله القفال , وإنما الغرض الإعلام بكثرة معاني كلمات الله وهي في نفسها غير متناهية , وإنما قرب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة ; لا أنها تنفد بأكثر من هذه الأقلام والبحور . ومعنى نزول الآية : يدل على أن المراد بالكلمات الكلام القديم . قال ابن عباس : إن سبب هذه الآية أن اليهود قالت : يا محمد , كيف عنينا بهذا القول }{ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } [ الإسراء : 85 ] ونحن قد أوتينا التوراة فيها كلام الله وأحكامه , وعندك أنها تبيان كل شيء ؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( التوراة قليل من كثير )  ونزلت هذه الآية , والآية مدنية . قال أبو جعفر النحاس : فقد تبين أن الكلمات هاهنا يراد بها العلم وحقائق الأشياء ; لأنه عز وجل علم قبل أن يخلق الخلق ما هو خالق في السموات والأرض من كل شيء , وعلم ما فيه من مثاقيل الذر , وعلم الأجناس كلها وما فيها من شعرة وعضو , وما في الشجرة من ورقة , وما فيها من ضروب الخلق , وما يتصرف فيه من ضروب الطعم واللون ; فلو سمى كل دابة وحدها , وسمى أجزاءها على ما علم من قليلها وكثيرها وما تحولت عليه من الأحوال , وما زاد فيها في كل زمان , وبين كل شجرة وحدها وما تفرعت إليه , وقدر ما ييبس من ذلك في كل زمان , ثم كتب البيان على كل واحد منها ما أحاط الله جل ثناؤه به منها , ثم كان البحر مدادا لذلك البيان الذي بين الله تبارك وتعالى عن تلك الأشياء يمده من بعده سبعة أبحر لكان البيان عن تلك الأشياء أكثر . قلت : هذا معنى قول القفال , وهو قول حسن إن شاء الله تعالى . وقال قوم : إن قريشا قالت سيتم هذا الكلام لمحمد وينحسر ; فنزلت وقال السدي : قالت قريش ما أكثر كلام محمد ! فنزلت . قوله تعالى : { والبحر يمده }{ قراءة الجمهور بالرفع على الابتداء , وخبره في الجملة التي بعدها , والجملة في موضع الحال ; كأنه قال : والبحر هذه حاله ; كذا قدرها سيبويه . وقال بعض النحويين : هو عطف على }{ أن }{ لأنها في موضع رفع بالابتداء . وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق : { والبحر }{ بالنصب على العطف على }{ ما }{ وهي اسم } أن } . وقيل : أي ولو أن البحر يمده أي يزيد فيه . وقرأ ابن هرمز والحسن : { يمده } ; من أمد . قالت فرقة : هما بمعنى واحد . وقالت فرقة : مد الشيء بعضه بعضا ; كما تقول : مد النيل الخليج ; أي زاد فيه . وأمد الشيء ما ليس منه . وقد مضى هذا في }{ البقرة . وآل عمران } . وقرأ جعفر بن محمد : { والبحر مداده } .{ ما نفدت كلمات الله }{ تقدم . وقال أبو عبيدة : البحر هاهنا الماء العذب الذي ينبت الأقلام , وأما الماء الملح فلا ينبت الأقلام . إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ العزيز الذي لا يمتنع عليه ما يريده ;حَكِيمٌ الحكيم فيما يفعله .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ۗ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
    +/- -/+  
الأية
28
 
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ قال الضحاك : المعنى ما ابتداء خلقكم جميعا إلا كخلق نفس واحدة , وما بعثكم يوم القيامة إلا كبعث نفس واحدة . قال النحاس : وهكذا قدره النحويون بمعنى إلا كخلق نفس واحدة ; مثل : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] . وقال مجاهد : لأنه يقول للقليل والكثير كن فيكون . ونزلت الآية في أبي بن خلف وأبي الأسدين ومنبه ونبيه ابني الحجاج بن السباق , قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى قد خلقنا أطوارا , نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما , ثم تقول إنا نبعث خلقا جديدا جميعا في ساعة واحدة ! فأنزل الله تعالى : { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } , لأن الله تعالى لا يصعب عليه ما يصعب على العباد , وخلقه للعالم كخلقه لنفس واحدة . إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ لما يقولونبَصِيرٌ بما يفعلون .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
    +/- -/+  
الأية
29
 
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة في معنى قوله }{ تولج الليل في النهار }{ الآية , أي تدخل ما نقص من أحدهما في الآخر , حتى يصير النهار خمس عشرة ساعة وهو أطول ما يكون , والليل تسع ساعات وهو أقصر ما يكون . وهو قول الكلبي , وروي عن ابن مسعود . وتحتمل ألفاظ الآية أن يدخل فيها تعاقب الليل والنهار , كأن زوال أحدهما ولوج في الآخر . وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي ذللهما بالطلوع والأفول تقديرا للآجال وإتماما للمنافع . كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قال الحسن : إلى يوم القيامة . قتادة : إلى وقته في طلوعه وأفوله لا يعدوه ولا يقصر عنه . وَأَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي من قدر على هذه الأشياء فلا بد من أن يكون عالما بها , والعالم بها عالم بأعمالكم . وقراءة العامة }{ تعملون }{ بالتاء على الخطاب . وقرأ السلمي ونصر بن عاصم والدوري عن أبي عمرو بالياء على الخبر .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ
    +/- -/+  
الأية
30
 
ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ أي فعل الله تعالى ذلك لتعلموا وتقروا }{ بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل }{ أي الشيطان ; قاله مجاهد . وقيل : ما أشركوا به الله تعالى من الأصنام والأوثان . وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ العلي في مكانته , الكبير في سلطانه .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
    +/- -/+  
الأية
31
 
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ أي السفن }{ تجري }{ في موضع الخبر .{ في البحر بنعمة الله }{ أي بلطفه بكم وبرحمته لكم في خلاصكم منه . وقرأ ابن هرمز : { بنعمات الله } جمع نعمة وهو جمع السلامة , وكان الأصل تحريك العين فأسكنت .{ ليريكم من آياته } { من }{ للتبعيض , أي ليريكم جري السفن ; قاله يحيى بن سلام . وقال ابن شجرة : { من آياته }{ ما تشاهدون من قدرة الله تعالى فيه . النقاش : ما يرزقهم الله منه . وقال الحسن : مفتاح البحار السفن , ومفتاح الأرض الطرق , ومفتاح السماء الدعاء . إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي صبار لقضائه شكور على نعمائه . وقال أهل المعاني : أراد لكل مؤمن بهذه الصفة ; لأن الصبر والشكر من أفضل خصال الإيمان . والآية : العلامة , والعلامة لا تستبين في صدر كل مؤمن إنما تستبين لمن صبر على البلاء وشكر على الرخاء . قال الشعبي : الصبر نصف الإيمان , والشكر نصف الإيمان , واليقين الإيمان كله ; ألم تر إلى قوله تعالى : { إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور }{ وقوله : { وفي الأرض آيات للموقنين } [ الذاريات : 20 ] وقال عليه السلام : ( الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر )  .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ
    +/- -/+  
الأية
32
 
وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ قال مقاتل : كالجبال . وقال الكلبي : كالسحاب ; وقاله قتادة : جمع ظلة ; شبه الموج بها لكبرها وارتفاعها . قال النابغة في وصف بحر : يماشيهن أخضر ذو ظلال على حافاته فلق الدنان وإنما شبه الموج وهو واحد بالظل وهو جمع ; لأن الموج يأتي شيئا بعد شيء ويركب بعضه بعضا كالظلل . وقيل : هو بمعنى الجمع , وإنما لم يجمع لأنه مصدر . وأصله من الحركة والازدحام ; ومنه : ماج البحر , والناس يموجون . قال كعب : فجئنا إلى موج من البحر وسطه أحابيش منهم حاسر ومقنع وقرأ محمد بن الحنفية : { موج كالظلال }{ جمع ظل . دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ موحدين له لا يدعون لخلاصهم سواه ; وقد تقدم . فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ يعني من البحر . فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ قال ابن عباس : موف بما عاهد عليه الله في البحر . النقاش : يعني عدل في العهد , وفى في البر بما عاهد عليه الله في البحر . وقال الحسن : { مقتصد }{ مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة . وقال مجاهد : { مقتصد }{ في القول مضمر للكفر . وقيل : في الكلام حذف ; والمعنى : فمنهم مقتصد ومنهم كافر . ودل على المحذوف قوله تعالى :وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ الختار : الغدار . والختر : أسوأ الغدر . قال عمرو بن معد يكرب : فإنك لو رأيت أبا عمير ملأت يديك من غدر وختر وقال الأعشى : بالأبلق الفرد من تيماء منزله حصن حصين وجار غير ختار قال الجوهري : الختر الغدر ; يقال : ختره فهو ختار . الماوردي : وهو قول الجمهور . وقال عطية : إنه الجاحد . ويقال : ختر يختر ويختر ( بالضم والكسر )  خترا ; ذكره القشيري , وجحد الآيات إنكار أعيانها . والجحد بالآيات إنكار دلائلها .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا ۚ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ
    +/- -/+  
الأية
33
 
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا يعني الكافر والمؤمن ; أي خافوه ووحدوه . رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ تقدم معنى }{ يجزي }{ في البقرة وغيرها . فإن قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسه النار إلا تحلة القسم )  . وقال : ( من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهن كن له حجابا من النار )  . قيل له : المعني بهذه الآية أنه لا يحمل والد ذنب ولده , ولا مولود ذنب والده , ولا يؤاخذ أحدهما عن الآخر . والمعني بالأخبار أن ثواب الصبر على الموت والإحسان إلى البنات يحجب العبد عن النار , ويكون الولد سابقا له إلى الجنة . شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللهِ أي البعثحَقٌّ فَلَا أي تخدعنكمتَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ بزينتها وما تدعو إليه فتتكلوا عليها وتركنوا إليها وتتركوا العمل للآخرةالدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ قراءة العامة هنا وفي سورة الملائكة والحديد بفتح الغين , وهو الشيطان في قول مجاهد وغيره , وهو الذي يغر الخلق ويمنيهم الدنيا ويلهيهم عن الآخرة ; وفي سورة }{ النساء } : { يعدهم ويمنيهم } . وقرأ سماك بن حرب وأبو حيوة وابن السميقع بضم الغين ; أي لا تغتروا . كأنه مصدر غر يغر غرورا . قال سعيد بن جبير : هو أن يعمل بالمعصية ويتمنى المغفرة .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
    +/- -/+  
الأية
34
 
إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ زعم الفراء أن هذا معنى النفي ; أي ما يعلمه أحد إلا الله تعالى . قال أبو جعفر النحاس : وإنما صار فيه معنى النفي والإيجاب بتوقيف الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك ; لأنه صلى الله عليه وسلم قال في قوله الله عز وجل : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } [ الأنعام : 59 ] : ( إنها هذه )  : قلت : قد ذكرنا في سورة }{ الأنعام }{ حديث ابن عمر في هذا , خرجه البخاري . وفي حديث جبريل عليه السلام قال : ( أخبرني عن الساعة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما المسئول عنها بأعلم من السائل , هن خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ما تكسب غدا )  قال : ( صدقت )  . لفظ أبي داود الطيالسي . وقال عبد الله بن مسعود : كل شيء أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم غير خمس : { إن الله عنده علم الساعة , الآية إلى آخرها . وقال ابن عباس : هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى , ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل ; فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن ; لأنه خالفه . ثم إن الأنبياء يعلمون كثيرا من الغيب بتعريف الله تعالى إياهم . والمراد إبطال كون الكهنة والمنجمين ومن يستسقي بالأنواء وقد يعرف بطول التجارب أشياء من ذكورة الحمل وأنوثته إلى غير ذلك ; حسبما تقدم ذكره في الأنعام . وقد تختلف التجربة وتنكسر العادة ويبقى العلم لله تعالى وحده . وروي أن يهوديا كان يحسب حساب النجوم , فقال لابن عباس : إن شئت نبأتك نجم ابنك , وأنه يموت بعد عشرة أيام , وأنت لا تموت حتى تعمى , وأنا لا يحول علي الحول حتى أموت . قال : فأين موتك يا يهودي ؟ فقال : لا أدري . فقال ابن عباس : صدق الله .{ وما تدري نفس بأي أرض تموت }{ فرجع ابن عباس فوجد ابنه محموما , ومات بعد عشرة أيام . ومات اليهودي قبل الحول , ومات ابن عباس أعمى . قال علي بن الحسين راوي هذا الحديث : هذا أعجب الأحاديث . وقال مقاتل : إن هذه الآية نزلت في رجل من أهل البادية اسمه الوارث بن عمرو بن حارثة , أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد , وبلادنا جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث , وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت , وقد علمت ما عملت اليوم فأخبرني ماذا أعمل غدا , وأخبرني متى تقوم الساعة ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ; ذكره القشيري والماوردي . وروى أبو المليح عن أبي عزة الهذلي قال قال رسول صلى الله عليه وسلم : ( إذا أراد الله تعالى قبض روح عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - { إن الله عنده علم الساعة - إلى قوله - بأي أرض تموت } ) ذكره الماوردي , وخرجه ابن ماجه من حديث ابن مسعود بمعناه . وقد ذكرناه في كتاب { التذكرة } مستوفى . وقراءة العامة : { وينزل }{ مشددا . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي مخففا . وقرأ أبي بن كعب : { بأية أرض }{ الباقون }{ بأي أرض } . قال الفراء : اكتفى بتأنيث الأرض من تأنيث أي . وقيل : أراد بالأرض المكان فذكر . قال الشاعر : فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها وقال الأخف : يجوز مررت بجارية أي جارية , وأية جارية . وشبه سيبويه تأنيث }{ أي }{ بتأنيث كل في قولهم : كلتهن . إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ "خبير }{ نعت ل }{ عليم }{ أو خبر بعد خبر . والله تعالى أعلم .

نهاية تفسير السورة - تفسير القرآن الكريم
End of Tafseer of The Surah - The Holy Quran Tafseer








© EsinIslam.Com Designed & produced by The Awqaf London. Please pray for us