سورة المعارج وهي مكية باتفاق . وهي أربع وأربعون آية قرأ نافع وابن عامر }{ سال سايل
{ بغير همزة . الباقون بالهمز . فمن همز فهو من السؤال . والباء يجوز أن تكون زائدة ,
ويجوز أن تكون بمعنى عن . والسؤال بمعنى الدعاء ; أي دعا داع بعذاب ; عن ابن عباس
وغيره . يقال : دعا على فلان بالويل , ودعا عليه بالعذاب . ويقال : دعوت زيدا ; أي
التمست إحضاره . أي التمس ملتمس عذابا للكافرين ; وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامة
. وعلى هذا فالباء زائدة ; كقوله تعالى : { تنبت بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] , وقوله
.{ وهزي إليك بجذع النخلة } [ مريم : 25 ] فهي تأكيد . أي سأل سائل عذابا واقعا .
أي على الكافرين . وهو النضر بن الحارث حيث قال : { اللهم إن كان هذا هو الحق من
عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } [ الأنفال : 32 ] فنزل
سؤاله , وقتل يوم بدر صبرا هو وعقبة بن أبي معيط ; لم يقتل صبرا غيرهما ; قاله ابن
عباس ومجاهد . وقيل : إن السائل هنا هو الحارث بن النعمان الفهري . وذلك أنه لما بلغه
قول النبي صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه : ( من كنت مولاه فعلي مولاه )
ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح ثم قال : يا محمد , أمرتنا عن الله أن نشهد
أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه منك , وأن نصلي خمسا فقبلناه منك ,
ونزكي أموالنا فقبلناه منك , وأن نصوم شهر رمضان في كل عام فقبلناه منك , وأن نحج
فقبلناه منك , ثم لم ترض بهذا حتى فضلت ابن عمك علينا ! أفهذا شيء منك أم من الله ؟
! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والله الذي لا إله إلا هو ما هو إلا من الله )
فولى الحارث وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء
أو ائتنا بعذاب أليم . فوالله ما وصل إلى ناقته حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه
فخرج من دبره فقتله ; فنزلت : { سأل سائل بعذاب واقع }{ الآية . وقيل : إن السائل هنا
أبو جهل وهو القائل لذلك , قاله الربيع . وقيل : إنه قول جماعة من كفار قريش . وقيل :
هو نوح عليه السلام سأل العذاب على الكافرين . وقيل : هو رسول الله صلى الله عليه
وسلم أي دعا عليه السلام بالعقاب وطلب أن يوقعه الله بالكفار ; وهو واقع بهم لا
محالة . وامتد الكلام إلى قوله تعالى : { فاصبر صبرا جميلا } [ المعارج : 5 ] أي لا
تستعجل فإنه قريب . وإذا كانت الباء بمعنى عن - وهو قول قتادة - فكأن سائلا سأل عن
العذاب بمن يقع أو متى يقع . قال الله تعالى : { فاسأل به خبيرا } [ الفرقان : 59 ]
أي سل عنه . وقال علقمة : فإن تسألوني بالنساء فإنني بصير بأدواء النساء طبيب أي عن
النساء . ويقال : خرجنا نسأل عن فلان وبفلان . فالمعنى سألوا بمن يقع العذاب ولمن
يكون فقال الله : { للكافرين } . قال أبو علي وغيره : وإذا كان من السؤال فأصله أن
يتعدى إلى مفعولين ويجوز الاقتصار على أحدهما . وإذا اقتصر على أحدهما جاز أن يتعدى
إليه بحرف جر ; فيكون التقدير سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم أو المسلمين بعذاب
أو عن عذاب . ومن قرأ بغير همز فله وجهان : أحدهما : أنه لغة في السؤال وهي لغة قريش
; تقول العرب : سال يسال ; مثل نال ينال وخاف يخاف . والثاني : أن يكون من السيلان ;
ويؤيده قراءة ابن عباس }{ سال سيل } . قال عبد الرحمن بن زيد : سال واد من أودية جهنم
يقال له : سائل ; وقول زيد بن ثابت . قال الثعلبي : والأول أحسن ; كقول الأعشى في
تخفيف الهمزة : سالتاني الطلاق إذ رأتاني قل مالي قد جئتماني بنكر وفي الصحاح : قال
الأخفش : يقال خرجنا نسأل عن فلان وبفلان . وقد تخفف همزته فيقال : سال يسال . وقال :
ومرهق سال إمتاعا بأصدته لم يستعن وحوامي الموت تغشاه المرهق : الذي أدرك ليقتل
. والأصدة بالضم : قميص صغير يلبس تحت الثوب . المهدوي : من قرأ }{ سال }{ جاز أن يكون
خفف الهمزة بإبدالها ألفا , وهو البدل على غير قياس . وجاز أن تكون الألف منقلبة عن
واو على لغة من قال : سلت أسال ; كخفت أخاف . النحاس : حكى سيبويه سلت أسال ; مثل
خفت أخاف ; بمعنى سألت . وأنشد : سالت هذيل رسول الله فاحشة ضلت هذيل بما سالت ولم
تصب ويقال : هما يتساولان . المهدوي : وجاز أن تكون مبدلة من ياء , من سال يسيل
. ويكون سايل واديا في جهنم ; فهمزة سايل على القول الأول أصلية , وعلى الثاني بدل
من واو , وعلى الثالث بدل من ياء . القشيري : وسائل مهموز ; لأنه إن كان من سأل
بالهمز فهو مهموز , وإن كان من غير الهمز كان مهموزا أيضا ; نحو قائل وخائف ; لأن
العين اعتل في الفعل واعتل في اسم الفاعل أيضا . ولم يكن الاعتلال بالحذف لخوف
الالتباس , فكان بالقلب إلى الهمزة , ولك تخفيف الهمزة حتى تكون بين بين .{ واقع }
أي يقع بالكفار بين أنه من الله ذي المعارج .
نزل الله تعالى : { سأل سائل بعذاب واقع }{ فقال لمن هو ؟ فقال للكافرين ; فاللام في
الكافرين متعلقة }{ بواقع } . وقال الفراء : التقدير بعذاب للكافرين واقع ; فالواقع
من نعت العذاب واللام دخلت للعذاب لا للواقع , أي هذا العذاب للكافرين في الآخرة لا
يدفعه عنهم أحد . وقيل إن اللام بمعنى على , والمعنى : واقع على الكافرين . وروي أنها
في قراءة أبي كذلك . وقيل : بمعنى عن ; أي ليس له دافع عن الكافرين من الله . أي ذلك
العذاب من الله ذي المعارج أي ذي العلو والدرجات الفواضل والنعم ; قاله ابن عباس
وقتادة فالمعارج مراتب إنعامه على الخلق وقيل ذي العظمة والعلاء وقال مجاهد : هي
معارج السماء . وقيل : هي معارج الملائكة ; لأن الملائكة تعرج إلى السماء فوصف نفسه
بذلك . وقيل : المعارج الغرف ; أي إنه ذو الغرف , أي جعل لأوليائه في الجنة غرفا
. وقرأ عبد الله }{ ذي المعاريج }{ بالياء . يقال : معرج ومعراج ومعارج ومعاريج ; مثل
مفتاح ومفاتيح . والمعارج الدرجات ; ومنه : { ومعارج عليها يظهرون } [ الزخرف : 33 ]
.
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ أي تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم . وقرأ
ابن مسعود وأصحابه والسلمي والكسائي }{ يعرج }{ بالياء على إرادة الجمع ; ولقوله :
ذكروا الملائكة ولا تؤنثوهم . وقرأ الباقون بالتاء على إرادة الجماعة .{ والروح }
جبريل عليه السلام ; قاله ابن عباس . دليله قوله تعالى : { نزل به الروح الأمين } [
الشعراء : 193 ] . وقيل : هو ملك آخر عظيم الخلقة . وقال أبو صالح : إنه خلق من خلق
الله كهيئة الناس وليس بالناس . قال قبيصة بن ذؤيب : إنه روح الميت حين يقبض .{ إليه
{ أي إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء ; لأنها محل بره وكرامته . وقيل : هو
كقول إبراهيم }{ إني ذاهب إلى ربي } [ الصافات : 99 ] . أي إلى الموضع الذي أمرني به
. وقيل :إِلَيْهِ أي إلى عرشه . فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ قال وهب والكلبي ومحمد بن إسحاق : أي عروج الملائكة إلى المكان الذي هو
محلهم في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة . وقال وهب أيضا : ما بين
أسفل الأرض إلى العرش مسيرة خمسين ألف سنة . وهو قول مجاهد . وجمع بين هذه الآية وبين
قوله : { في يوم كان مقداره ألف سنة }{ في سورة السجدة , فقال : { في يوم كان مقداره
خمسين ألف سنة }{ من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات
خمسون ألف سنة . وقوله تعالى في ( الم تنزيل ) : { في يوم كان مقداره ألف سنة } [
السجدة : 5 ] يعني بذلك نزول الأمر من سماء الدنيا إلى الأرض , ومن الأرض إلى
السماء في يوم واحد فذلك مقدار ألف سنة لأن ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة
عام . وعن مجاهد أيضا والحكم وعكرمة : هو مدة عمر الدنيا من أول ما خلقت إلى آخر ما
بقي خمسون ألف سنة . لا يدري أحد كم مضى ولا كم بقي إلا الله عز وجل . وقيل : المراد
يوم القيامة , أي مقدار الحكم فيه لو تولاه مخلوق خمسون ألف سنة , قاله عكرمة أيضا
والكلبي ومحمد بن كعب . يقول سبحانه وتعالى وأنا أفرغ منه في ساعة . وقال الحسن : هو
يوم القيامة , ولكن يوم القيامة لا نفاد له فالمراد ذكر موقفهم للحساب فهو في خمسين
ألف سنة من سني الدنيا , ثم حينئذ يستقر أهل الدارين في الدارين . وقال يمان : هو
يوم القيامة , فيه خمسون موطنا كل موطن ألف سنة . وقال ابن عباس : هو يوم القيامة ,
جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة , ثم يدخلون النار للاستقرار . قلت :
وهذا القول أحسن ما قيل في الآية إن شاء الله , بدليل ما رواه قاسم بن أصبغ من حديث
أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { في يوم كان مقداره
خمسين ألف سنة } . فقلت : ما أطول هذا ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والذي
نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في
الدنيا ) . واستدل النحاس على صحة هذا القول بما رواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما من رجل لم يؤد زكاة مال إلا جعل شجاعا من
نار تكوى به جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين
الناس ) . قال : فهذا يدل على أنه يوم القيامة . وقال إبراهيم التيمي : ما قدر ذلك
اليوم على المؤمن إلا قدر ما بين الظهر والعصر . وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث
معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يحاسبكم الله تعالى بمقدار ما بين
الصلاتين ولذلك سمى نفسه سريع الحساب وأسرع الحاسبين ) . ذكره الماوردي . وقيل : بل
يكون الفراغ لنصف يوم , كقوله تعالى : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا
" [ الفرقان : 24 ] . وهذا على قدر فهم الخلائق , وإلا فلا يشغله شأن عن شأن . وكما
يرزقهم في ساعة كذا يحاسبهم في لحظة , قال الله تعالى : { ما خلقكم ولا بعثكم إلا
كنفس واحدة } [ لقمان : 28 ] . وعن ابن عباس أيضا أنه سئل عن هذه الآية وعن قوله
تعالى : { في يوم كان مقداره ألف سنة } [ السجدة : 5 ] فقال : أيام سماها الله عز
وجل هو أعلم بها كيف تكون , وأكره أن أقول فيها ما لا أعلم . وقيل : معنى ذكر خمسين
ألف سنة تمثيل , وهو تعريف طول مدة القيامة في الموقف , وما يلقى الناس فيه من
الشدائد . والعرب تصف أيام الشدة بالطول , وأيام الفرح بالقصر ; قال الشاعر : ويوم
كظل الرمح قصر طوله دم الزق عنا واصطفاق المزاهر وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ;
والمعنى : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له من الله دافع , في يوم كان مقداره
خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه . وهذا القول هو معنى ما اخترناه , والموفق
الإله .
أي على أذى قومك . والصبر الجميل : هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله . وقيل :
هو أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدرى من هو . والمعنى متقارب . وقال ابن زيد :
هي منسوخة بآية السيف .
لأن ما هو آت فهو قريب . وقال الأعمش : يرون البعث بعيدا لأنهم لا يؤمنون به كأنهم
يستبعدونه على جهة الإحالة . كما تقول لمن تناظره : هذا بعيد لا يكون وقيل : أي يرون
هذا اليوم بعيدا }{ ونراه }{ أي نعلمه ; لأن الرؤية إنما تتعلق بالموجود . وهو كقولك :
الشافعي يرى في هذه المسألة كذا وكذا .
يوم تكون السماء كالمهلالعامل في }{ يوم }{ واقع } ; تقديره يقع بهم العذاب يوم .
وقيل : { نراه }{ أو }{ يبصرونهم }{ أو يكون بدلا من قريب . والمهل : دردي الزيت وعكره
; في قول ابن عباس وغيره . وقال ابن مسعود : ما أذيب من الرصاص والنحاس والفضة .
وقال مجاهد : { كالمهل }{ كقيح من دم وصديد . وقد مضى في سورة }{ الدخان } , و }
الكهف }{ القول فيه .
أي كالصوف المصبوغ . ولا يقال للصوف عهن إلا أن يكون مصبوغا . وقال الحسن : { وتكون
الجبال كالعهن }{ وهو الصوف الأحمر , وهو أضعف الصوف . ومنه قول زهير : كأن فتات
العهن في كل منزل نزلن به حب الفنا لم يحطم الفتات القطع . والعهن الصوف الأحمر ;
واحده عهنة . وقيل : العهن الصوف ذو الألوان ; فشبه الجبال به في تلونها ألوانا
. والمعنى أنها تلين بعد الشدة , وتتفرق بعد الاجتماع . وقيل : أول ما تتغير الجبال
تصير رملا مهيلا , ثم عهنا منفوشا , ثم هباء منبثا .
أي عن شأنه لشغل كل إنسان بنفسه , قاله قتادة . كما قال تعالى : { لكل امرئ منهم
يومئذ شأن يغنيه } [ عبس : 37 ] . وقيل : لا يسأل حميم عن حميم , فحذف الجار ووصل
الفعل . وقراءة العامة }{ يسأل }{ بفتح الياء . وقرأ شيبة والبزي عن عاصم }{ ولا يسأل
بالضم على ما لم يسم فاعله , أي لا يسأل حميم عن حميمه ولا ذو قرابة عن قرابته , بل
كل إنسان يسأل عن عمله . نظيره : { كل نفس بما كسبت رهينة } [ المدثر : 38 ] .
يُبَصَّرُونَهُمْ أي يرونهم . وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن
والإنس . فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته وعشيرته ولا يسأله ولا يكلمه ; لاشتغالهم
بأنفسهم . وقال ابن عباس : يتعارفون ساعة ثم لا يتعارفون بعد تلك الساعة . وفي بعض
الأخبار أن أهل القيامة يفرون من المعارف مخافة المظالم . وقال ابن عباس أيضا : { يبصرونهم }{ يبصر بعضهم بعضا فيتعارفون ثم يفر بعضهم من بعض . فالضمير في }{ يبصرونهم
{ على هذا للكفار , والميم للأقرباء . وقال مجاهد : المعنى يبصر الله المؤمنين
الكفار في يوم القيامة ; فالضمير في يبصرونهم }{ للمؤمنين , والهاء والميم للكفار
. ابن زيد : المعنى يبصر الله الكفار في النار الذين أضلوهم في الدنيا ; فالضمير في
{ يبصرونهم }{ للتابعين , والهاء والميم للمتبوعين . وقيل : إنه يبصر المظلوم ظالمه
والمقتول قاتله . وقيل : { يبصرونهم }{ يرجع إلى الملائكة ; أي يعرفون أحوال الناس
فيسوقون كل فريق إلى ما يليق بهم . وتم الكلام عند قوله : { يبصرونهم } . ثم قال
:يَوَدُّ الْمُجْرِمُ أي يتمنى الكافر . لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ
بِبَنِيهِ يعني من عذاب جهنم بأعز من كان عليه في الدنيا من أقاربه فلا يقدر .
وَفَصِيلَتِهِ أي عشيرته . الَّتِي تُؤْوِيهِ تنصره ; قاله مجاهد وابن زيد . وقال
مالك : أمه التي تربيه . حكاه الماوردي ورواه عنه أشهب . وقال أبو عبيدة : الفصيلة
دون القبيلة . وقال ثعلب : هم آباؤه الأدنون . وقال المبرد : الفصيلة القطعة من أعضاء
الجسد , وهي دون القبيلة . وسميت عترة الرجل فصيلته تشبيها بالبعض منه . وقد مضى في
سورة }{ الحجرات }{ القول في القبيلة وغيرها . وهنا مسألة , وهي : إذا حبس على فصيلته
أو أوصى لها فمن ادعى العموم حمله على العشيرة , ومن ادعى الخصوص حمله على الآباء ;
الأدنى فالأدنى . والأول أكثر في النطق , والله أعلم . ومعنى : { تؤويه }{ تضمه وتؤمنه
من خوف إن كان به .
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا أي ويود لو فدي بهم لافتدىثُمَّ يُنْجِيهِ أي يخلصه
ذلك الفداء . فلا بد من هذا الإضمار , كقوله : { وإنه لفسق } [ الأنعام : 121 ] أي
وإن أكله لفسق . وقيل : { يود المجرم }{ يقتضي جوابا بالفاء ; كقوله : { ودوا لو تدهن
فيدهنون } [ القلم : 9 ] . والجواب في هذه الآية }{ ثم ينجيه }{ لأنها من حروف العطف ;
أي يود المجرم لو يفتدي فينجيه الافتداء .
كَلَّا تقدم القول في }{ كلا }{ وأنها تكون بمعنى حقا , وبمعنى لا . وهي هنا تحتمل
الأمرين ; فإذا كانت بمعنى حقا كان تمام الكلام }{ ينجيه } . وإذا كانت بمعنى لا كان
تمام الكلام عليها ; أي ليس ينجيه من عذاب الله الافتداء ثم قال :إِنَّهَا لَظَى أي
هي جهنم ; أي تتلظى نيرانها ; كقوله تعالى : { فأنذرتكم نارا تلظى } [ الليل : 14 ]
واشتقاق لظى من التلظي . والتظاء النار التهابها , وتلظيها تلهبها . وقيل : كان أصلها
{ لظظ }{ أي ما دامت لدوام عذابها ; فقلبت إحدى الظاءين ألفا فبقيت لظى . وقيل : هي
الدركة الثانية من طبقات جهنم . وهي اسم مؤنث معرفة فلا ينصرف .
قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم في رواية أبي بكر عنه والأعمش وأبو عمرو وحمزة
والكسائي }{ نزاعة }{ بالرفع . وروى أبو عمرو عن عاصم }{ نزاعة }{ بالنصب . فمن رفع فله
خمسة أوجه : أحدها أن تجعل }{ لظى }{ خبر }{ إن }{ وترفع }{ نزاعة }{ بإضمار هي ; فمن هذا
الوجه يحسن الوقف على }{ لظى } . والوجه الثاني أن تكون }{ لظى }{ و }{ نزاعة }{ خبران
لإن . كما تقول إنه خلق مخاصم . والوجه الثالث أن تكون }{ نزاعة }{ بدلا من }{ لظى }{ و }
لظى }{ خبر }{ إن } . والوجه الرابع أن تكون }{ لظى }{ بدلا من اسم }{ إن }{ و }{ نزاعة }
خبر }{ إن } . والمعنى أن القصة والخبر لظى نزاعة للشوى ومن نصب }{ نزاعة }{ حسن له أن
يقف على }{ لظى }{ وينصب }{ نزاعة }{ على القطع من }{ لظى }{ إذ كانت نكرة متصلة بمعرفة
. ويجوز نصبها على الحال المؤكدة ; كما قال : { وهو الحق مصدقا } [ البقرة : 91 ]
. ويجوز أن تنصب على معنى أنها تتلظى نزاعة ; أي في حال نزعها للشوى . والعامل فيها
ما دل عليه الكلام من معنى التلظي . ويجوز أن يكون حالا ; على أنه حال للمكذبين
بخبرها . ويجوز نصبها على القطع ; كما تقول : مررت بزيد العاقل الفاضل . فهذه خمسة
أوجه للنصب أيضا . والشوى : جمع شواة وهي جلدة الرأس . قال الأعشى : قالت قتيلة ما له
قد جللت شيبا شواته وقال آخر : لأصبحت هدتك الحوادث هدة لها فشواة الرأس باد قتيرها
القتير : الشيب . وفي الصحاح : { والشوى : جمع شواة وهي جلدة الرأس } . والشوى :
اليدان والرجلان والرأس من الآدميين , وكل ما ليس مقتلا . يقال : رماه فأشواه إذا لم
يصب المقتل . قال الهذلي : فإن من القول التي لا شوى لها إذا زل عن ظهر اللسان
انفلاتها يقول : إن من القول كلمة لا تشوي ولكن تقتل . قال الأعشى : قالت قتيلة ما
له قد جللت شيبا شواته قال أبو عبيد : أنشدها أبو الخطاب الأخفش أبا عمرو بن العلاء
فقال له : { صحفت ! إنما هو سراته ; أي نواحيه فسكت أبو الخطاب ثم قال لنا : بل هو
صحف , إنما هو شواته } . وشوى الفرس : قوائمه ; لأنه يقال : عبل الشوى , ولا يكون
هذا للرأس ; لأنهم وصفوا الخيل بإسالة الخدين وعتق الوجه وهو رقته . والشوى : رذال
المال . والشوى : هو الشيء الهين اليسير . وقال ثابت البناني والحسن : { نزاعة للشوى
{ أي لمكارم وجهه . أبو العالية : لمحاسن وجهه . قتادة : لمكارم خلقته وأطرافه . وقال
الضحاك : تفري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئا . وقال الكسائي : هي
المفاصل . وقال بعض الأئمة : هي القوائم والجلود . قال امرؤ القيس : سليم الشظى عبل
الشوى شنج النسا له حجبات مشرفات على الفال وقال أبو صالح : أطراف اليدين والرجلين
. قال الشاعر : إذا نظرت عرفت الفخر منها وعينيها ولم تعرف شواها يعني أطرافها . وقال
الحسن أيضا : الشوى الهام .
أي تدعو لظى من أدبر في الدنيا عن طاعة الله وتولى عن الإيمان . ودعاؤها أن تقول :
إلي يا مشرك , إلي يا كافر . وقال ابن عباس : تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم
بلسان فصيح : إلي يا كافر , إلي يا منافق ; ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب . وقال
ثعلب : { تدعو }{ أي تهلك . تقول العرب : دعاك الله ; أي أهلكك الله . وقال الخليل :
إنه ليس كالدعاء }{ تعالوا }{ ولكن دعوتها إياهم تمكنها من تعذيبهم . وقيل : الداعي
خزنة جهنم ; أضيف دعاؤهم إليها . وقيل هو ضرب مثل ; أي إن مصير من أدبر وتولى إليها
; فكأنها الداعية لهم . ومثله قول الشاعر : ولقد هبطنا الواديين فواديا يدعو الأنيس
به العضيض الأبكم العضيض الأبكم : الذباب . وهو لا يدعو وإنما طنينه نبه عليه فدعا
إليه . قلت : القول الأول هو الحقيقة ; حسب ما تقدم بيانه بآي القرآن والأخبار
الصحيحة . القشيري : ودعاء لظى بخلق الحياة فيها حين تدعو , وخوارق العادة غدا كثيرة
.
أي جمع المال فجعله في وعائه ومنع منه حق الله تعالى ; فكان جموعا منوعا . قال الحكم
: كان عبد الله بن عكيم لا يربط كيسه ويقول سمعت الله يقول : { وجمع فأوعى } .
يعني الكافر ; عن الضحاك . والهلع في اللغة : أشد الحرص وأسوأ الجزع وأفحشه . وكذلك
قال قتادة ومجاهد وغيرهما . وقد هلع ( بالكسر ) يهلع فهو هليع وهلوع ; على التكثير
. والمعنى أنه لا يصبر على خير ولا شر حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي . عكرمة : هو
الضجور . الضحاك : هو الذي لا يشبع . والمنوع : هو الذي إذا أصاب المال منع منه حق
الله تعالى . وقال ابن كيسان : خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويرضيه , ويهرب مما
يكرهه ويسخطه , ثم تعبده الله بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره . وقال أبو عبيدة :
الهلوع هو الذي إذا مسه الخير لم يشكر , وإذا مسه الضر لم يصبر ; قاله ثعلب . وقال
ثعلب أيضا : قد فسر الله الهلوع , .
وإذا ناله الخير بخل به ومنعه الناس . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( شر ما أعطي
العبد شح هالع وجبن خالع ) . والعرب تقول : ناقة هلواعة وهلواع ; إذا كانت سريعة
السير خفيفة . قال : صكاء ذعلبة إذا استدبرتها حرج إذا استقبلتها هلواع الذعلب
والذعلبة الناقة السريعة . و }{ جزوعا }{ و }{ منوعا }{ نعتان لهلوع . على أن ينوي بهما
التقديم قبل }{ إذا } . وقيل : هو خبر كان مضمرة .
دل على أن ما قبله في الكفار ; فالإنسان اسم جنس بدليل الاستثناء الذي يعقبه كقوله
تعالى : { إن الإنسان لفي خسر . إلا الذين آمنوا } [ العصر : 2 - 3 ] . قال النخعي :
المراد بالمصلين الذي يؤدون الصلاة المكتوبة . ابن مسعود : الذين يصلونها لوقتها ,
فأما تركها فكفر . وقيل : هم الصحابة . وقيل : هم المؤمنون عامة , فإنهم يغلبون فرط
الجزع بثقتهم بربهم ويقينهم .
أي على مواقيتها . وقال عقبة بن عامر : هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا يمينا ولا
شمالا . والدائم الساكن , ومنه : نهي عن البول في الماء الدائم , أي الساكن . وقال
ابن جريج والحسن : هم الذين يكثرون فعل التطوع منها .
يريد الزكاة المفروضة , قاله قتادة وابن سيرين . وقال مجاهد : سوى الزكاة . وقال علي
بن أبي طلحة عن ابن عباس : صلة رحم وحمل كل . والأول أصح ; لأنه وصف الحق بأنه معلوم
, وسوى الزكاة ليس بمعلوم , إنما هو على قدر الحاجة , وذلك يقل ويكثر .
للسائل والمحروم }{ السائل الذي يسأل الناس لفاقته ; قاله ابن عباس وسعيد بن
المسيب وغيرهما .{ والمحروم }{ الذي حرم المال . واختلف في تعيينه ; فقال ابن عباس
وسعيد بن المسيب وغيرهما : المحروم المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم . وقالت
عائشة رضي الله عنها : المحروم المحارف الذي لا يتيسر له مكسبه ; يقال : رجل محارف
بفتح الراء أي محدود محروم , وهو خلاف قولك مبارك . وقد حورف كسب فلان إذا شدد عليه
في معاشه كأنه ميل برزقه عنه . وقال قتادة والزهري : المحروم المتعفف الذي لا يسأل
الناس شيئا ولا يعلم بحاجته . وقال الحسن ومحمد ابن الحنفية : المحروم الذي يجيء بعد
الغنيمة وليس له فيها سهم . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأصابوا
وغنموا فجاء قوم بعدما فرغوا فنزلت هذه الآية }{ وفي أموالهم } . وقال عكرمة :
المحروم الذي لا يبقى له مال . وقال زيد بن أسلم : هو الذي أصيب ثمره أو زرعه أو نسل
ماشيته . وقال القرظي : المحروم الذي أصابته الجائحة ثم قرأ }{ إنا لمغرمون . بل نحن
محرومون }{ نظيره في قصة أصحاب الجنة حيث قالوا : { بل نحن محرومون } [ القلم : 27 ]
وقال أبو قلابة : كان رجل من أهل اليمامة له مال فجاء سيل فذهب بماله , فقال رجل من
أصحابه : هذا المحروم فأقسموا له . وقيل : إنه الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه . وهو يروى
عن ابن عباس أيضا . وقال عبد الرحمن بن حميد : المحروم المملوك . وقيل : إنه الكلب ;
روي أن عمر بن عبد العزيز كان في طريق مكة , فجاء كلب فانتزع عمر رحمه الله كتف شاة
فرمى بها إليه وقال : يقولون إنه المحروم . وقيل : إنه من وجبت نفقته بالفقر من ذوي
الأنساب ; لأنه قد حرم كسب نفسه حتى وجبت نفقته في مال غيره . وروى ابن وهب عن مالك
أنه الذي يحرم الرزق , وهذا قول حسن ; لأنه يعم جميع الأقوال . وقال الشعبي : لي
اليوم سبعون سنة منذ احتلمت أسأل عن المحروم فما أنا اليوم بأعلم مني فيه يومئذ
. رواه شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي . وأصله في اللغة الممنوع ; من الحرمان وهو
المنع . علقمة : ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه أنى توجه والمحروم محروم وعن أنس أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة يقولون ربنا
ظلمونا حقوقنا التي فرضت لنا عليهم فيقول الله تعالى وعزتي وجلالي لأقربنكم
ولأبعدنهم ) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم }{ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم
{ ذكره الثعلبي .
قال ابن العربي : { من غريب القرآن أن هذه الآيات العشر عامة في الرجال والنساء ,
كسائر ألفاظ القرآن التي هي محتملة لهم فإنها عامة فيهم , إلا قول }{ والذين هم
لفروجهم حافظون }{ فإنما خاطب بها الرجال خاصة دون الزوجات , { إلا على أزواجهم أو
ما ملكت أيمانهم }{ وإنما عرف حفظ المرأة فرجها من أدلة أخرى كآيات الإحصان عموما
وخصوصا وغير ذلك من الأدلة . قلت : وعلى هذا التأويل في الآية فلا يحل لامرأة أن
يطأها من تملكه إجماعا من العلماء ; لأنها غير داخلة في الآية , ولكنها لو أعتقته
بعد ملكها له جاز له أن يتزوجها كما يجوز لغيره عند الجمهور . وروي عن عبيد الله بن
عبد الله بن عتبة والشعبي والنخعي أنها لو أعتقته حين ملكته كانا على نكاحهما . قال
أبو عمر : ولا يقل هذا أحد من فقهاء الأمصار ; لأن تملكها عندهم يبطل النكاح بينهما
, وليس ذلك بطلاق وإنما هو فسخ للنكاح ; وأنها لو أعتقته بعد ملكها له لم يراجعها
إلا بنكاح جديد ولو كانت في عدة منه . الخامسة : قال محمد بن الحكم : سمعت حرملة بن
عبد العزيز قال : سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة , فتلا هذه الآية }{ والذين هم
لفروجهم حافظون } - إلى قوله - { العادون } . وهذا لأنهم يكنون عن الذكر بعميرة ;
وفيه يقول الشاعر : إذا حللت بواد لا أنيس به فاجلد عميرة لا داء ولا حرج ويسميه
أهل العراق الاستمناء , وهو استفعال من المني . وأحمد بن حنبل على ورعه يجوزه ,
ويحتج بأنه إخراج فضلة من البدن فجاز عند الحاجة ; أصله القصد والحجامة . وعامة
العلماء على تحريمه . وقال بعض العلماء : إنه كالفاعل بنفسه , وهي معصية أحدثها
الشيطان وأجراها بين الناس حتى صارت قيلة , ويا ليتها لم تقل ; ولو قام الدليل على
جوازها لكان ذو المروءة يعرض عنها لدناءتها . فإن قيل : إنها خير من نكاح الأمة ;
قلنا : نكاح الأمة ولو كانت كافرة على مذهب بعض العلماء خير من هذا , وإن كان قد
قال به قائل أيضا , ولكن الاستمناء ضعيف في الدليل أو بالرجل الدنيء فكيف بالرجل
الكبير .
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ قال الفراء : أي من أزواجهم اللاتي أحل الله لهم لا
يجاوزون . أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ في موضع
خفض معطوفة على }{ أزواجهم }{ و }{ ما }{ مصدرية . وهذا يقتضي تحريم الزنا وما قلناه من
الاستمناء ونكاح المتعة ; لأن المتمتع بها لا تجري مجرى الزوجات , لا ترث ولا تورث
, ولا يلحق به ولدها , ولا يخرج من نكاحها بطلاق يستأنف لها , وإنما يخرج بانقضاء
المدة التي عقدت عليها وصارت كالمستأجرة . ابن العربي : إن قلنا إن نكاح المتعة جائز
فهي زوجة إلى أجل ينطلق عليها اسم الزوجية . وإن قلنا بالحق الذي أجمعت عليه الأمة
من تحريم نكاح المتعة لما كانت زوجة فلم تدخل في الآية . قلت : وفائدة هذا الخلاف هل
يجب الحد ولا يلحق الولد كالزنا الصريح أو يدفع الحد للشبهة ويلحق الولد , قولان
لأصحابنا . وقد كان للمتعة في التحليل والتحريم أحوال ; فمن ذلك أنها كانت مباحة ثم
حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن خيبر , ثم حللها في غزاة الفتح ; ثم حرمها
بعد ; قاله ابن خويز منداد من أصحابنا وغيره , وإليه أشار ابن العربي .
فسمى من نكح ما لا يحل عاديا وأوجب عليه الحد لعدوانه , واللائط عاد قرآنا ولغة ,
بدليل قوله تعالى : { بل أنتم قوم عادون } [ الشعراء : 166 ] وكما تقدم في }
الأعراف } ; فوجب أن يقام الحد عليهم , وهذا ظاهر لا غبار عليه . فلت : فيه نظر , ما
لم يكن جاهلا أو متأولا , وإن كان الإجماع منعقدا على أن قوله تعالى : { والذين هم
لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين }{ خص به
الرجال دون النساء ; فقد روى معمر عن قتادة قال : تسررت امرأة غلامها ; فذكر ذلك
لعمر فسألها : ما حملك على ذلك ؟ قالت : كنت أراه يحل لي ملك يميني كما يحل للرجل
المرأة بملك اليمين ; فاستشار عمر في رجمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا : تأولت كتاب الله عز وجل على غير تأويله , لا رجم عليها . فقال عمر : لا جرم
! والله لا أحلك لحر بعده أبدا . عاقبها بذلك ودرأ الحد عنها , وأمر العبد ألا
يقربها . وعن أبي بكر بن عبد الله أنه سمع أباه يقول : أنا حضرت عمر بن عبد العزيز
جاءته امرأة بغلام لها وضيء فقالت : إني استسررته فمنعني بنو عمي عن ذلك , وإنما
أنا بمنزلة الرجل تكون له الوليدة فيطؤها ; فانه عني بني عمي ; فقال عمر : أتزوجت
قبله ؟ قالت نعم ; قال : أما والله لولا منزلتك من الجهالة لرجمتك بالحجارة ; ولكن
اذهبوا به فبيعوه إلى من يخرج به إلى غير بلدها . و }{ وراء }{ بمعنى سوى , وهو مفعول
ب }{ ابتغى }{ أي من طلب سوى الأزواج والولائد المملوكة له . وقال الزجاج : أي فمن
ابتغى ما بعد ذلك ; فمفعول الابتغاء محذوف , و }{ وراء }{ ظرف . و }{ ذلك }{ يشار به إلى
كل مذكور مؤنثا كان أو مذكرا .{ فأولئك هم العادون }{ أي المجاوزون الحد ; من عدا أي
جاوز الحد وجازه .
قرأ الجمهور }{ لأماناتهم }{ بالجمع . وابن كثير بالإفراد . والأمانة والعهد يجمع كل ما
يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولا وفعلا . وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد
وغير ذلك ; وغاية ذلك حفظه والقيام به . والأمانة أعم من العهد , وكل عهد فهو أمانة
فيما تقدم فيه قول أو فعل أو معتقد .
على من كانت عليه من قريب أو بعيد , يقومون بها عند الحاكم ولا يكتمونها ولا
يغيرونها . وقد مضى القول في الشهادة وأحكامها في سورة }{ البقرة } . وقال ابن عباس :
{ بشهاداتهم }{ أن الله واحد لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله . وقرئ }{ لأمانتهم }
على التوحيد . وهي قراءة ابن كثير وابن محيصن . فالأمانة اسم جنس , فيدخل فيها أمانات
الدين , فإن الشرائع أمانات ائتمن الله عليها عباده . ويدخل فيها أمانات الناس من
الودائع ; وقد مضى هذا كله مستوفى في سورة }{ النساء } . وقرأ عباس الدوري عن أبي
عمرو ويعقوب }{ بشهاداتهم }{ جمعا . الباقون }{ بشهادتهم }{ على التوحيد , لأنها تؤدي عن
الجمع . والمصدر قد يفرد وإن أضيف إلى جمع , كقوله تعالى : { إن أنكر الأصوات لصوت
الحمير } .[ لقمان : 19 ] وقال الفراء : ويدل على أنها }{ بشهادتهم }{ توحيدا قوله
تعالى : { وأقيموا الشهادة لله } [ الطلاق : 2 ] .
قال قتادة : على وضوئها وركوعها وسجودها . وقال ابن جريج : التطوع . وقد مضى في سورة
{ المؤمنون } . فالدوام خلاف المحافظة . فدوامهم عليها أن يحافظوا على أدائها لا
يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل , ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ
الوضوء لها ومواقيتها , ويقيموا أركانها , ويكملوها بسننها وآدابها , ويحفظوها من
الإحباط باقتراب المأثم . فالدوام يرجع إلى نفس الصلوات والمحافظة إلى أحوالها .
قال الأخفش : مسرعين . قال : بمكة أهلها ولقد أراهم إليه مهطعين إلى السماع والمعنى
: ما بالهم يسرعون إليك ويجلسون حواليك ولا يعملون بما تأمرهم . وقيل : أي ما بالهم
مسرعين في التكذيب لك . وقيل : أي ما بال الذين كفروا يسرعون إلى السماع منك ليعيبوك
ويستهزئوا بك . وقال عطية : مهطعين : معرضين . الكلبي : ناظرين إليك تعجبا . وقال
قتادة : عامدين . والمعنى متقارب ; أي ما بالهم مسرعين عليك , مادين أعناقهم , مدمني
النظر إليك . وذلك من نظر العدو . وهو منصوب على الحال . نزلت في جمع من المنافقين
المستهزئين , كانوا يحضرونه - عليه السلام - ولا يؤمنون به . و }{ قبلك }{ أي نحوك .
أي عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وشماله حلقا حلقا وجماعات . والعزين : جماعات
في تفرقة , قاله أبو عبيدة . ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج على أصحابه
فرآهم حلقا فقال : ( مالي أراكم عزين ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها - قالوا
: وكيف تصف الملائكة عند ربها ؟ قال : يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف ) خرجه
مسلم وغيره . وقال الشاعر : ترانا عنده والليل داج على أبوابه حلقا عزينا أي متفرقين
. وقال الراعي : أخليفة الرحمن إن عشيرتي أمسى سراتهم إليك عزينا أي متفرقين . وقال
آخر : كأن الجماجم من وقعها خناطيل يهوين شتى عزينا أي متفرقين . وقال آخر : فلما أن
أتين على أضاخ ضرحن حصاه أشتاتا عزينا وقال الكميت : ونحن وجندل باغ تركنا كتائب
جندل شتى عزينا وقال عنترة : وقرن قد تركت لذي ولي عليه الطير كالعصب العزين وواحد
عزين عزة , جمع بالواو والنون ليكون ذلك عوضا مما حذف منها . وأصلها عزهة , فاعتلت
كما اعتلت سنة فيمن جعل أصلها سنهة . وقيل : أصلها عزوة , من عزاه يعزوه إذا أضافه
إلى غيره . فكل واحد من الجماعات مضافة إلى الأخرى , والمحذوف منها الواو . وفي
الصحاح : { والعزة الفرقة من الناس , والهاء عوض من الياء , والجمع عزى - على فعل -
وعزون وعزون أيضا بالضم , ولم يقولوا عزات كما قالوا ثبات } . قال الأصمعي : يقال في
الدار عزون , أي أصناف من الناس . و }{ عن اليمين وعن الشمال }{ متعلق }{ بمهطعين }
ويجوز أن يتعلق }{ بعزين }{ على حد قولك : أخذته عن زيد .
قال المفسرون : كان المشركون يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه
فيكذبونه ويكذبون عليه , ويستهزئون بأصحابه ويقولون : لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنها
قبلهم , ولئن أعطوا منها شيئا لنعطين أكثر منه ; فنزلت : { أيطمع }{ الآية . وقيل :
كان المستهزئون خمسة أرهط . وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف والأعرج }{ أن يدخل }{ بفتح
الياء وضم الخاء مسمى الفاعل . ورواه المفضل عن عاصم . الباقون }{ أن يدخل }{ على الفعل
المجهول .
كَلَّا لا يدخلونها . إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ثم ابتدأ فقال : { إنا خلقناهم مما يعلمون }{ أي إنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة ثم من علقة ثم من
مضغة ; كما خلق سائر جنسهم . فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة , وإنما تستوجب
بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى . وقيل : كانوا يستهزئون بفقراء المسلمين
ويتكبرون عليهم . فقال : { إنا خلقناهم مما يعلمون }{ من القذر , فلا يليق بهم هذا
التكبر . وقال قتادة في هذه الآية : إنما خلقت يا بن آدم من قذر فاتق الله . وروي أن
مطرف بن عبد الله بن الشخير رأى المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خز وجبة خز فقال
له : يا عبد الله , ما هذه المشية التي يبغضها الله ؟ فقال له : أتعرفني ؟ قال نعم
, أولك نطفة مذرة , وآخرك جيفة قذرة , وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة . فمضى المهلب
وترك مشيته . نظم الكلام محمود الوراق فقال : عجبت من معجب بصورته وكان في الأصل
نطفة مذره وهو غدا بعد حسن صورته يصير في اللحد جيفة قذره وهو على تيهه ونخوته ما
بين ثوبيه يحمل العذره وقال آخر : هل في ابن آدم غير الرأس مكرمة وهو بخمس من
الأوساخ مضروب أنف يسيل وأذن ريحها سهك والعين مرمصة والثغر ملهوب يا بن التراب
ومأكول التراب غدا قصر فإنك مأكول ومشروب وقيل : معناه من أجل ما يعلمون ; وهو
الأمر والنهي والثواب والعقاب . كقول الشاعر وهو الأعشى : أأزمعت من آل ليلى ابتكارا
وشطت على ذي هوى أن تزارا أي من أجل ليلى .
فَلَا أُقْسِمُ أي أقسم . و }{ لا }{ صلة . بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا
لَقَادِرُونَ هي مشارق الشمس ومغاربها . وقد مضى الكلام فيها . وقرأ أبو حيوة وابن
محيصن وحميد }{ برب المشرق والمغرب }{ على التوحيد .
عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ يقول : نقدر على إهلاكهم والذهاب بهم
والمجيء بخير منهم في الفضل والطوع والمال . وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي لا
يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر نريده .
أي اتركهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم ; على جهة الوعيد . واشتغل أنت بما
أمرت به ولا يعظمن عليك شركهم ; فإن لهم يوما يلقون فيه ما وعدوا . وقرأ ابن محيصن
ومجاهد وحميد }{ حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون } . وهذه الآية منسوخة بآية السيف .
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ }{ يوم }
بدل من }{ يومهم }{ الذي قبله , وقراءة العامة }{ يخرجون }{ بفتح الياء وضم الراء على
أنه مسمى الفاعل . وقرأ السلمي والمغيرة والأعشى عن عاصم }{ يخرجون }{ بضم الياء وفتح
الراء على الفعل المجهول . والأجداث : القبور ; واحدها جدث . وقد مضى في سورة }{ يس }
.{ سراعا }{ حين يسمعون الصيحة الآخرة إلى إجابة الداعي ; وهو نصب على الحال }{ كأنهم
إلى نصب يوفضون }{ قراءة العامة بفتح النون وجزم الصاد . وقرأ ابن عامر وحفص بضم
النون والصاد . وقرأ عمرو بن ميمون وأبو رجاء وغيرهما بضم النون وإسكان الصاد
. والنصب والنصب لغتان مثل الضعف والضعف . الجوهري : والنصب ما نصب فعبد من دون الله
, وكذلك النصب بالضم ; وقد يحرك . قال الأعشى : وذا النصب المنصوب لا تنسكنه لعافية
والله ربك فاعبدا أراد }{ فاعبدن }{ فوقف بالألف ; كما تقول : رأيت زيدا . والجمع
الأنصاب . وقوله : { وذا النصب }{ بمعنى إياك وذا النصب . والنصب الشر والبلاء ; ومنه
قوله تعالى : { أني مسني الشيطان بنصب وعذاب } [ ص : 41 ] . وقال الأخفش والفراء :
النصب جمع النصب مثل رهن ورهن , والأنصاب جمع نصب ; فهو جمع الجمع . وقيل : النصب
والأنصاب واحد . وقيل : النصب جمع نصاب , هو حجر أو صنم يذبح عليه ; ومنه قوله تعالى
: { وما ذبح على النصب } [ المائدة : 3 ] . وقد قيل : نصب ونصب ونصب بمعنى واحد ;
كما قيل عمر وعمر وعمر . ذكره النحاس . قال ابن عباس : { إلى نصب }{ إلى غاية , وهي
التي تنصب إليها بصرك . وقال الكلبي : إلى شيء منصوب ; علم أو راية . وقال الحسن :
كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي
أولهم على آخرهم . يُوفِضُونَ يسرعون والإيفاض الإسراع . قال الشاعر : فوارس ذبيان
تحت الحديد كالجن يوفضن من عبقر عبقر : موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن . قال لبيد
: كهول وشبان كجنة عبقر وقال الليث : وفضت الإبل تفض وفضا ; وأوفضها صاحبها
. فالإيفاض متعد , والذي في الآية لازم . يقال : وفض وأوفض واستوفض بمعنى أسرع .
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ أي ذليلة خاضعة , لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله
. تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي يغشاهم الهوان . قال قتادة : هو سواد الوجوه . والرهق :
الغشيان ; ومنه غلام مراهق إذا غشي الاحتلام . رهقه ( بالكسر ) يرهقه رهقا أي غشيه ;
ومنه قوله تعالى : { ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة } [ يونس : 26 ] . ذَلِكَ
الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ أي يوعدونه في الدنيا أن لهم فيه العذاب
. وأخرج الخبر بلفظ الماضي لأن ما وعد الله به يكون لا محالة .
نهاية تفسير السورة - تفسير القرآن الكريم
End of Tafseer of The Surah - The Holy Quran Tafseer