هل }{ بمعنى قد كقوله : { هل أتى على الإنسان } [ الإنسان : 1 ] قاله قطرب . أي قد
جاءك يا محمد حديث الغاشية أي القيامة التي تغشى الخلائق بأهوالها وأفزاعها قاله
أكثر المفسرين . وقال سعيد بن جبير ومحمد بن كعب : { الغاشية } : النار تغشى وجوه
الكفار ورواه أبو صالح عن ابن عباس ودليله قوله تعالى : { وتغشى وجوههم النار } [
إبراهيم : 50 ] . وقيل : تغشى الخلق . وقيل : المراد النفخة الثانية للبعث ; لأنها
تغشى الخلائق . وقيل : { الغاشية }{ أهل النار يغشونها , ويقتحمون فيها . وقيل : معنى
{ هل أتاك }{ أي هذا لم يكن من علمك , ولا من علم قومك . قال ابن عباس : لم يكن أتاه
قبل ذلك على هذا التفصيل المذكور هاهنا . وقيل : إنها خرجت مخرج الاستفهام لرسوله
ومعناه إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك وهو معنى قول الكلبي .
قال ابن عباس : لم يكن أتاه حديثهم , فأخبره عنهم , فقال : { وجوه يومئذ }{ أي يوم
القيامة .{ خاشعة }{ قال سفيان : أي ذليلة بالعذاب . وكل متضائل ساكن خاشع . يقال :
خشع في صلاته : إذا تذلل ونكس رأسه . وخشع الصوت : خفي قال الله تعالى : { وخشعت
الأصوات للرحمن } [ طه : 108 ] . والمراد بالوجوه أصحاب الوجوه . وقال قتادة وابن زيد
: { خاشعة }{ أي في النار . والمراد وجوه الكفار كلهم قاله يحيى بن سلام . وقيل : أراد
وجوه اليهود والنصارى قاله ابن عباس . ثم قال .
عاملة }{ فهذا في الدنيا ; لأن الآخرة ليست دار عمل . فالمعنى : وجوه عاملة ناصبة
في الدنيا }{ خاشعة }{ في الآخرة . قال أهل اللغة : يقال للرجل إذا دأب في سيره : قد
عمل يعمل عملا . ويقال للسحاب إذا دام برقه : قد عمل يعمل عملا . وذا سحاب عمل . قال
الهذلي : حتى شآها كليل موهنا عمل باتت طرابا وبات الليل لم ينم }{ ناصبة }{ أي تعبة
. يقال : نصب ( بالكسر ) ينصب نصبا : إذا تعب , ونصبا أيضا , وأنصبه غيره . فروى
الضحاك عن ابن عباس قال : هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية الله عز وجل
, وعلى الكفر مثل عبدة الأوثان , وكفار أهل الكتاب مثل الرهبان وغيرهم , لا يقبل
الله جل ثناؤه منهم إلا ما كان خالصا له . وقال سعيد عن قتادة : { عاملة ناصبة }
قال : تكبرت في الدنيا عن طاعة الله عز وجل , فأعملها الله وأنصبها في النار , بجر
السلاسل الثقال , وحمل الأغلال , والوقوف حفاة عراة في العرصات , في يوم كان مقداره
خمسين ألف سنة . قال الحسن وسعيد بن جبير : لم تعمل لله في الدنيا , ولم تنصب له ,
فأعملها وأنصبها في جهنم . وقال الكلبي : يجرون على وجوههم في النار . وعنه وعن غيره
: يكلفون ارتقاء جبل من حديد في جهنم , فينصبون فيها أشد ما يكون من النصب ,
بمعالجة السلاسل والأغلال والخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل , وارتقائها في
صعود من نار , وهبوطها في حدور منها إلى غير ذلك من عذابها . وقاله ابن عباس . وقرا
ابن محيصن وعيسى وحميد , ورواها عبيد عن شبل . عن ابن كثير }{ ناصبة }{ بالنصب على
الحال . وقيل : على الذم . الباقون ( بالرفع ) على الصفة أو على إضمار مبتدأ , فيوقف
على }{ خاشعة } . ومن جعل المعنى في الآخرة , جاز أن يكون خبرا بعد خبر عن }{ وجوه } ,
فلا يوقف على }{ خاشعة } . وقيل : { عاملة ناصبة }{ أي عاملة في الدنيا ناصبة في
الآخرة . وعلى هذا يحتمل وجوه يومئذ عاملة في الدنيا , ناصبة في الآخرة , خاشعة . قال
عكرمة والسدي : عملت في الدنيا بالمعاصي . وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم : هم
الرهبان أصحاب الصوامع وقاله ابن عباس . وقد تقدم في رواية الضحاك عنه . وروى عن
الحسن قال : لما قدم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الشام أتاه راهب شيخ كبير
متقهل , عليه سواد , فلما رآه عمر بكى . فقال له : يا أمير المؤمنين , ما يبكيك ؟
قال : هذا المسكين طلب أمرا فلم يصبه , ورجا رجاء فأخطأه , - وقرأ قول الله عز وجل
- { وجوه يومئذ خاشعة . عاملة ناصبة } . قال الكسائي : التقهل : رثاثة الهيئة , ورجل
متقهل : يابس الجلد سيئ الحال , مثل المتقحل . وقال أبو عمرو : التقهل : شكوى الحاجة
. وأنشد : لعوا إذا لاقيته تقهلا والقهل : كفران الإحسان . وقد قهل يقهل قهلا : إذا
أثنى ثناء قبيحا . وأقهل الرجل تكلف ما يعيبه ودنس نفسه . وانقهل ضعف وسقط قاله
الجوهري . وعن علي - رضي الله عنه - أنهم أهل حروراء يعني الخوارج الذين ذكرهم رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( تحقرون صلاتكم مع صلاتهم , وصيامكم مع صيامهم
, وأعمالكم مع أعمالهم , يمرقون من الدين كما تمرق السهم من الرمية .. .) الحديث .
تصلى }{ أي يصيبها صلاؤها وحرها .{ حامية }{ شديدة الحر أي قد أوقدت وأحميت المدة
الطويلة . ومنه حمي النهار ( بالكسر ) , وحمي التنور حميا فيهما أي اشتد حره . وحكى
الكسائي : اشتد حمي الشمس وحموها : بمعنى . وقرأ أبو عمرو وأبو بكر ويعقوب }{ تصلى }
بضم التاء . الباقون بفتحها . وقرئ }{ تصلى }{ بالتشديد . وقد تقدم القول فيها في }{ إذا
السماء انشقت } [ الانشقاق : 1 ] . الماوردي : فإن قيل فما معنى وصفها بالحمي , وهي
لا تكون إلا حامية , وهو أقل أحوالها , فما وجه المبالغة بهذه الصفة الناقصة ؟ قيل
: قد اختلف في المراد بالحامية هاهنا على أربعة أوجه : أحدها : أن المراد بذلك أنها
دائمة الحمي , وليست كنار الدنيا التي ينقطع حميها بانطفائها . الثاني : أن المراد
بالحامية أنها حمى من ارتكاب المحظورات , وانتهاك المحارم كما قال النبي - صلى الله
عليه وسلم - : ( إن لكل ملك حمى , وإن حمى الله محارمه . ومن يرتع حول الحمى يوشك أن
يقع فيه ) . الثالث : أنها تحمي نفسها عن أن تطاق ملامستها , أو ترام مماستها كما
يحمي الأسد عرينه ومثله قول النابغة : تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي صولة
المستأسد الحامي الرابع : أنها حامية حمي غيظ وغضب مبالغة في شدة الانتقام . ولم يرد
حمي جرم وذات كما يقال : قد حمي فلان : إذا اغتاظ وغضب عند إرادة الانتقام . وقد بين
الله تعالى بقوله هذا المعنى فقال : { تكاد تميز من الغيظ } [ الملك : 8 ] .
الآني : الذي قد انتهى حره من الإيناء , بمعنى التأخير . ومنه ( آنيت وآذيت ) . وآناه
يؤنيه إيناء , أي أحره وحبسه وأبطأه . ومنه }{ يطوفون بينها وبين حميم آن } [ الرحمن
: 44 ] . وفي التفاسير }{ من عين آنية }{ أي تناهى حرها فلو وقعت نقطة منها على جبال
الدنيا لذابت . وقال الحسن : { آنية }{ أي حرها أدرك أوقدت عليها جهنم منذ خلقت ,
فدفعوا إليها وردا عطاشا . وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : بلغت أناها , وحان شربها
.
ليس لهم }{ أي لأهل النار .{ طعام إلا من ضريع }{ لما ذكر شرابهم ذكر طعامهم . قال
عكرمة ومجاهد : الضريع : نبت ذو شوك لاصق بالأرض , تسميه قريش الشبرق إذا كان رطبا
, فإذا يبس فهو الضريع , لا تقربه دابة ولا بهيمة ولا ترعاه وهو سم قاتل , وهو أخبث
الطعام وأشنعه على هذا عامة المفسرين . إلا أن الضحاك روى عن ابن عباس قال : هو شيء
يرمى به البحر , يسمى الضريع , من أقوات الأنعام لا الناس , فإذا وقعت فيه الإبل لم
تشبع , وهلكت هزلا . والصحيح ما قاله الجمهور : أنه نبت . قال أبو ذؤيب : رعى الشبرق
الريان حتى إذا ذوى وعاد ضريعا بان منه النحائص وقال الهذلي وذكر إبلا وسوء مرعاها
: وحبسن في هزم الضريع فكلها حدباء دامية اليدين حرود وقال الخليل : الضريع : نبات
أخضر منتن الريح , يرمى به البحر . وقال الوالبي عن ابن عباس : هو شجر من نار , ولو
كانت في الدنيا لأحرقت الأرض وما عليها . وقال سعيد بن جبير : هو الحجارة , وقاله
عكرمة . والأظهر أنه شجر ذو شوك حسب ما هو في الدنيا . وعن ابن عباس عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - قال : ( الضريع : شيء يكون في النار , يشبه الشوك , أشد مرارة من
الصبر , وأنتن من الجيفة , وأحر من النار , سماه الله ضريعا ) . وقال خالد بن زياد :
سمعت المتوكل بن حمدان يسأل عن هذه الآية }{ ليس لهم طعام إلا من ضريع }{ قال : بلغني
أن الضريع شجرة من نار جهنم , حملها القيح والدم , أشد مرارة من الصبر , فذلك
طعامهم . وقال الحسن : هو بعض ما أخفاه الله من العذاب . وقال ابن كيسان : هو طعام
يضرعون عنده ويذلون , ويتضرعون منه إلى الله تعالى , طلبا للخلاص منه فسمي بذلك ;
لأن آكله يضرع في أن يعفى منه , لكراهته وخشونته . قال أبو جعفر النحاس : قد يكون
مشتقا من الضارع , وهو الذليل أي ذو ضراعة , أي من شربه ذليل تلحقه ضراعة . وعن
الحسن أيضا : هو الزقوم . وقيل : هو واد في جهنم . فالله أعلم . وقد قال الله تعالى في
موضع آخر : { فليس له اليوم هاهنا حميم . ولا طعام إلا من غسلين } [ الحاقة : 35 -
36 ] . وقال هنا : { إلا من ضريع }{ وهو غير الغسلين . ووجه الجمع أن النار دركات
فمنهم من طعامه الزقوم , ومنهم من طعامه الغسلين , ومنهم من طعامه الضريع , ومنهم
من شرابه الحميم , ومنهم من شرابه الصديد . قال الكلبي : الضريع في درجة ليس فيها
غيره , والزقوم في درجة أخرى . ويجوز أن تحمل الآيتان على حالتين كما قال : { يطوفون
بينها وبين حميم آن } [ الرحمن : 44 ] . القتبي : ويجوز أن يكون الضريع وشجرة الزقوم
نبتين من النار , أو من جوهر لا تأكله النار . وكذلك سلاسل النار وأغلالها وعقاربها
وحياتها , ولو كانت على ما نعلم ما بقيت على النار . قال : وإنما دلنا الله على
الغائب عنده , بالحاضر عندنا فالأسماء متفقة الدلالة , والمعاني مختلفة . وكذلك ما
في الجنة من شجرها وفرشها . القشيري : وأمثل من قول القتبي أن نقول : إن الذي يبقي
الكافرين في النار ليدوم عليهم العذاب , يبقي النبات وشجرة الزقوم في النار , ليعذب
بها الكفار . وزعم بعضهم أن الضريع بعينه لا ينبت في النار , ولا أنهم يأكلونه
. فالضريع من أقوات الأنعام , لا من أقوات الناس . وإذا وقعت الإبل فيه لم تشبع ,
وهلكت هزلا , فأراد أن هؤلاء يقتاتون بما لا يشبعهم , وضرب الضريع له مثلا , أنهم
يعذبون بالجوع كما يعذب من قوته الضريع . قال الترمذي الحكيم : وهذا نظر سقيم من
أهله وتأويل دنيء , كأنه يدل على أنهم تحيروا في قدرة الله تعالى , وأن الذي أنبت
في هذا التراب هذا الضريع قادر على أن ينبته في حريق النار , جعل لنا في الدنيا من
الشجر الأخضر نارا , فلا النار تحرق الشجر , ولا رطوبة الماء في الشجر تطفئ النار
فقال تعالى : { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون } [ يس :
80 ] . وكما قيل حين نزلت }{ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم } [ الإسراء : 97 ] :
قالوا يا رسول الله , كيف يمشون على وجوههم ؟ فقال : ( الذي أمشاهم على أرجلهم قادر
على أن يمشيهم على وجوههم ) . فلا يتحير في مثل هذا إلا ضعيف القلب . أوليس قد أخبرنا
أنه }{ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها } [ النساء : 56 ] , وقال : { سرابيلهم
من قطران } [ إبراهيم : 50 ] , وقال : { إن لدينا أنكالا } [ المزمل : 12 ] أي
قيودا .{ وجحيما وطعاما ذا غصة }{ قيل : ذا شوك . فإنما يتلون عليهم العذاب بهذه
الأشياء .
يعني الضريع لا يسمن آكله . وكيف يسمن من يأكل الشوك ! قال المفسرون : لما نزلت هذه
الآية قال المشركون : إن إبلنا لتسمن بالضريع , فنزلت : { لا يسمن ولا يغني من جوع
" . وكذبوا , فإن الإبل إنما ترعاه رطبا , فإذا يبس لم تأكله . وقيل اشتبه عليهم أمره
فظنوه كغيره من النبت النافع ; لأن المضارعة المشابهة . فوجدوه لا يسمن ولا يغني من
جوع .
لسعيها }{ أي لعملها الذي عملته في الدنيا .{ راضية }{ في الآخرة حين أعطيت الجنة
بعملها . ومجازه : لثواب سعيها راضية . وفيها واو مضمرة . المعنى : ووجوه يومئذ ,
للفصل بينها وبين الوجوه المتقدمة . والوجوه عبارة عن الأنفس .
أي كلاما ساقطا غير مرضي . وقال : { لاغية } , واللغو واللغا واللاغية : بمعنى واحد
. قال : عن اللغا ورفث التكلم وقال الفراء والأخفش أي لا تسمع فيها كلمة لغو . وفي
المراد بها ستة أوجه : أحدها : يعني كذبا وبهتانا وكفرا بالله عز وجل قاله ابن عباس
. الثاني : لا باطل ولا إثم قاله قتادة . الثالث : أنه الشتم قاله مجاهد . الرابع :
المعصية قاله الحسن . الخامس : لا يسمع فيها حالف يحلف بكذب قاله الفراء . وقال
الكلبي : لا يسمع في الجنة حالف بيمين برة ولا فاجرة . السادس : لا يسمع في كلامهم
كلمة بلغو ; لأن أهل الجنة لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد الله على ما رزقهم من
النعيم الدائم قاله الفراء أيضا . وهو أحسنها ; لأنه يعم ما ذكر . وقرأ أبو عمرو وابن
كثير }{ لا يسمع }{ بياء غير مسمى الفاعل . وكذلك نافع , إلا أنه بالتاء المضمومة ;
لأن اللاغية اسم مؤنث فأنث الفعل لتأنيثه . ومن قرأ بالياء ; فلأنه حال بين الاسم
والفعل الجار والمجرور . وقرأ الباقون بالتاء مفتوحة }{ لاغية }{ نصا على إسناد ذلك
للوجوه , أي لا تسمع الوجوه فيها لاغية .
أي بماء مندفق , وأنواع الأشربة اللذيذة على وجه الأرض من غير أخدود . وقد تقدم في
سورة }{ الإنسان }{ أن فيها عيونا . ف }{ عين } : بمعنى عيون . والله أعلم .
نمارق }{ أي وسائد , الواحدة نمرقة .{ مصفوفة }{ أي واحدة إلى جنب الأخرى . قال
الشاعر : وإنا لنجري الكأس بين شروبنا وبين أبي قابوس فوق النمارق وقال آخر : كهول
وشبان حسان وجوههم على سرر مصفوفة ونمارق وفي الصحاح : النمرق والنمرقة : وسادة
صغيرة . وكذلك النمرقة ( بالكسر ) لغة حكاها يعقوب . وربما سموا الطنفسة التي فوق
الرحل نمرقة عن أبي عبيد .
قال أبو عبيدة : الزرابي : البسط . وقال ابن عباس : الزرابي : الطنافس التي لها خمل
رقيق , واحدتها : زربية وقال الكلبي والفراء . والمبثوثة : المبسوطة قال قتادة . وقيل
: بعضها فوق بعض قاله عكرمة . وقيل كثيرة قاله الفراء . وقيل : متفرقة في المجالس
قاله القتبي . قلت : هذا أصوب , فهي كثيرة متفرقة . ومنه }{ وبث فيها من كل دابة } [
البقرة : 164 ] . وقال أبو بكر الأنباري : وحدثنا أحمد بن الحسين , قال حدثنا حسين
بن عرفة , قال حدثنا عمار بن محمد , قال : صليت خلف منصور بن المعتمر , فقرأ : { هل
أتاك حديث الغاشية } , وقرأ فيها : { وزرابي مبثوثة } : متكئين فيها ناعمين .
قال المفسرون : لما ذكر الله عز وجل أمر أهل الدارين , تعجب الكفار من ذلك , فكذبوا
وأنكروا فذكرهم الله صنعته وقدرته وأنه قادر على كل شيء , كما خلق الحيوانات
والسماء والأرض . ثم ذكر الإبل أولا ; لأنها كثيرة في العرب , ولم يروا الفيلة ,
فنبههم جل ثناؤه على عظيم من خلقه قد ذلله للصغير , يقوده وينيخه وينهضه ويحمل عليه
الثقيل من الحمل وهو بارك , فينهض بثقيل حمله , وليس ذلك في شيء من الحيوان غيره
. فأراهم عظيما من خلقه , مسخرا لصغير من خلقه يدلهم بذلك على توحيده وعظيم قدرته
. وعن بعض الحكماء : أنه حدث عن البعير وبديع خلقه , وقد نشأ في بلاد لا إبل فيها
ففكر ثم قال : يوشك أن تكون طوال الأعناق . وحين أراد بها أن تكون سفائن البر ,
صبرها على احتمال العطش حتى إن إظماءها ليرتفع إلى العشر فصاعدا , وجعلها ترعى كل
شيء نابت في البراري والمفاوز , مما لا يرعاه سائر البهائم . وقيل : لما ذكر السرر
المرفوعة قالوا : كيف نصعدها ؟ فأنزل الله هذه الآية , وبين أن الإبل تبرك حتى يحمل
عليها ثم تقوم فكذلك تلك السرر تتطامن ثم ترتفع . قال معناه قتادة ومقاتل وغيرهما
. وقيل : الإبل هنا القطع العظيمة من السحاب قاله المبرد . قال الثعلبي : وقيل في
الإبل هنا : السحاب , ولم أجد لذلك أصلا في كتب الأئمة . قلت : قد ذكر الأصمعي أبو
سعيد عبد الملك بن قريب , قال أبو عمرو : من قرأها }{ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف
خلقت }{ بالتخفيف : عنى به البعير ; لأنه من ذوات الأربع , يبرك فتحمل عليه الحمولة
, وغيره من ذوات الأربع لا يحمل عليه إلا وهو قائم . ومن قرأها بالتثقيل فقال : { الإبل } , عنى بها السحاب التي تحمل الماء والمطر . وقال الماوردي : وفي الإبل وجهان
: أحدهما : وهو أظهرهما وأشهرهما : أنها الإبل من النعم . الثاني : أنها السحاب . فإن
كان المراد بها السحاب , فلما فيها من الآيات الدالة على قدرته , والمنافع العامة
لجميع خلقه . وإن كان المراد بها الإبل من النعم ; فلأن الإبل أجمع للمنافع من سائر
الحيوان ; لأن 3 ضروبه أربعة : حلوبة , وركوبة , وأكولة , وحمولة . والإبل تجمع هذه
الخلال الأربع فكانت النعمة بها أعم , وظهور القدرة فيها أتم . وقال الحسن : إنما
خصها الله بالذكر ; لأنها تأكل النوى والقت , وتخرج اللبن . وسئل الحسن أيضا عنها
وقالوا : الفيل أعظم في الأعجوبة : فقال : العرب بعيدة العهد بالفيل , ثم هو خنزير
لا يؤكل لحمه , ولا يركب ظهره , ولا يحلب دره . وكان شريح يقول : اخرجوا بنا إلى
الكناسة حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت . والإبل : لا واحد لها من لفظها , وهي مؤنثة ;
لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها , إذا كانت لغير الآدميين , فالتأنيث
لها لازم , وإذا صغرتها دخلتها الهاء , فقلت : أبيلة وغنيمة , ونحو ذلك . وربما
قالوا للإبل : إبل , بسكون الباء للتخفيف , والجمع : آبال .
أي كيف نصبت على الأرض , بحيث لا تزول وذلك أن الأرض لما دحيت مادت , فأرساها
بالجبال . كما قال : { وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم } [ الأنبياء : 31 ] .
أي بسطت ومدت . وقال أنس : صليت خلف علي - رضي الله عنه - فقرأ }{ كيف خلقت }{ و }
رفعت }{ و }{ نصبت }{ و }{ سطحت } , بضم التاءات أضاف الضمير إلى الله تعالى . وبه كان
يقرأ محمد بن السميقع وأبو العالية والمفعول محذوف , والمعنى خلقتها . وكذلك سائرها
. وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو رجاء : { سطحت }{ بتشديد الطاء وإسكان التاء . وكذلك قرأ
الجماعة , إلا أنهم خففوا الطاء . وقدم الإبل في الذكر , ولو قدم غيرها لجاز . قال
القشيري : وليس هذا مما يطلب فيه نوع حكمة . وقد قيل : هو أقرب إلى الناس في حق
العرب , لكثرتها عندهم , وهم من أعرف الناس بها . وأيضا : مرافق الإبل أكثر من مرافق
الحيوانات الأخر فهي مأكولة , ولبنها مشروب , وتصلح للحمل والركوب , وقطع المسافات
البعيدة عليها , والصبر على العطش , وقلة العلف , وكثرة الحمل , وهي معظم أموال
العرب . وكانوا يسيرون على الإبل منفردين مستوحشين عن الناس , ومن هذا حاله تفكر
فيما يحضره , فقد ينظر في مركوبه , ثم يمد بصره إلى السماء ثم إلى الأرض . فأمروا
بالنظر في هذه الأشياء , فإنها أدل دليل على الصانع المختار القادر .
أي بمسلط عليهم فتقتلهم . ثم نسختها آية السيف . وقرأ هارون الأعور }{ بمسيطر } ( بفتح
الطاء ) , و }{ المسيطرون } [ الطور : 37 ] . وهي لغة تميم . وفي الصحاح : { المسيطر
والمصيطر : المسلط على الشيء , ليشرف عليه , ويتعهد أحواله , . ويكتب عمله , وأصله
من السطر ; لأن من معنى السطر ألا يتجاوز , فالكتاب مسطر , والذي يفعله مسطر ومسيطر
يقال : سيطرت علينا , وقال تعالى : { لست عليهم بمسيطر } . وسطره أي صرعه .
وهي جهنم الدائم عذابها . وإنما قال : { الأكبر } ; لأنهم عذبوا في الدنيا بالجوع
والقحط والأسر والقتل . ودليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود : { إلا من تولى وكفر
فإنه يعذبه الله } . وقيل : هو استثناء متصل . والمعنى : لست بمسلط إلا على من تولى
وكفر , فأنت مسلط عليه بالجهاد , والله يعذبه بعد ذلك العذاب الأكبر , فلا نسخ في
الآية على هذا التقدير . وروي أن عليا أتي برجل ارتد , فاستتابه ثلاثة أيام , فلم
يعاود الإسلام , فضرب عنقه , وقرأ }{ إلا من تولى وكفر } . وقرأ ابن عباس وقتادة }
ألا }{ على الاستفتاح والتنبيه , كقول امرئ القيس : ألا رب يوم لك منهن صالح و }{ من
{ على هذا : للشرط . والجواب }{ فيعذبه الله }{ والمبتدأ بعد الفاء مضمر , والتقدير :
فهو يعذبه الله ; لأنه لو أريد الجواب بالفعل الذي بعد الفاء لكان : إلا من تولى
وكفر يعذبه الله .
أي رجوعهم بعد الموت . يقال : آب يئوب أي رجع . قال عبيد : وكل ذي غيبة يئوب وغائب
الموت لا يئوب وقرأ أبو جعفر }{ إيابهم }{ بالتشديد . قال أبو حاتم : لا يجوز التشديد
, ولو جاز لجاز مثله في الصيام والقيام . وقيل : هما لغتان بمعنى . الزمخشري : وقرأ
أبو جعفر المدني }{ إيابهم }{ بالتشديد ووجهه أن يكون فيعالا : مصدر أيب , قيل من
الإياب . أو أن يكون أصله إوابا فعالا من أوب , ثم قيل : إيوابا كديوان في دوان . ثم
فعل ما فعل بأصل سيد ونحوه .