إلى آخر السورة لم يذكر الله في هذه السورة سوى قصة نوح وحدها لطول لبثه في قومه،
وتكرار دعوته إلى التوحيد، ونهيه عن الشرك، فأخبر تعالى أنه أرسله إلى قومه، رحمة
بهم، وإنذارا لهم من عذاب الله الأليم، خوفا من استمرارهم على كفرهم، فيهلكهم الله
هلاكا أبديا، ويعذبهم عذابا سرمديا، فامتثل نوح عليه السلام لذلك، وابتدر لأمر
الله، .
{ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي: واضح النذارة بينها، وذلك
لتوضيحه ما أنذر به وما أنذر عنه، وبأي: شيء تحصل النجاة، بين جميع ذلك بيانا
شافيا، فأخبرهم وأمرهم بزبدة ما يأمرهم به .
فإنهم إذا اتقوا الله غفر ذنوبهم، وإذا غفر ذنوبهم حصل لهم النجاة من العذاب،
والفوز بالثواب، { وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي: يمتعكم في هذه
الدار، ويدفع عنكم الهلاك إلى أجل مسمى أي: مقدر [البقاء في الدنيا] بقضاء الله
وقدره [إلى وقت محدود]، وليس المتاع أبدا، فإن الموت لا بد منه، ولهذا قال: { إِنَّ
أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } لما كفرتم
بالله، وعاندتم الحق، فلم يجيبوا لدعوته، ولا انقادوا لأمره.
{ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ } أي: لأجل أن يستجيبوا فإذا
استجابوا غفرت لهم فكان هذا محض مصلحتهم، ولكنهم أبوا إلا تماديا على باطلهم،
ونفورا عن الحق، { جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ } حذر سماع ما يقول لهم
نبيهم نوح عليه السلام، { وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ } أي تغطوا بها غطاء يغشاهم
بعدا عن الحق وبغضا له، { وَأَصَرُّوا } على كفرهم وشرهم { وَاسْتَكْبَرُوا } على
الحق { اسْتِكْبَارًا } فشرهم ازداد، وخيرهم بعد.
{ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ } أي: اتركوا ما أنتم عليه من الذنوب،
واستغفروا الله منها.{ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا } كثير المغفرة لمن تاب واستغفر،
فرغبهم بمغفرة الذنوب، وما يترتب عليها من حصول الثواب، واندفاع العقاب.
{ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } أي: يكثر أموالكم التي تدركون بها ما
تطلبون من الدنيا وأولادكم، { وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ
أَنْهَارًا } وهذا من أبلغ ما يكون من لذات الدنيا ومطالبها.
{ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا } أي: خلقا [من] بعد خلق، في بطن الأم، ثم في
الرضاع، ثم في سن الطفولية، ثم التمييز، ثم الشباب، إلى آخر ما وصل إليه الخلق ،
فالذي انفرد بالخلق والتدبير البديع، متعين أن يفرد بالعبادة والتوحيد، وفي ذكر
ابتداء خلقهم تنبيه لهم على الإقرار بالمعاد، وأن الذي أنشأهم من العدم قادر على أن
يعيدهم بعد موتهم.
واستدل أيضا عليهم بخلق السماوات التي هي أكبر من خلق الناس، فقال: { أَلَمْ
تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا } أي: كل سماء فوق
الأخرى.
{ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا } لأهل الأرض { وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا
} .ففيه تنبيه على عظم خلق هذه الأشياء، وكثرة المنافع في الشمس والقمر الدالة على
رحمته وسعة إحسانه، فالعظيم الرحيم، يستحق أن يعظم ويحب ويعبد ويخاف ويرجى.
{ قَالَ نُوحٌ } شاكيا لربه: إن هذا الكلام والوعظ والتذكير ما نجع فيهم ولا أفاد.{
إِنَّهُمْ عَصَوْنِي } فيما أمرتهم به { وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ
وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا } أي: عصوا الرسول الناصح الدال على الخير، واتبعوا
الملأ والأشراف الذين لم تزدهم أموالهم ولا أولادهم إلا خسارا أي: هلاكا وتفويتا
للأرباح فكيف بمن انقاد لهم وأطاعهم؟! .
{ وَقَالُوا } لهم داعين إلى الشرك مزينين له: { لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ }
فدعوهم إلى التعصب على ما هم عليه من الشرك، وأن لا يدعوا ما عليه آباؤهم الأقدمون،
ثم عينوا آلهتهم فقالوا: { وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ
وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } وهذه أسماء رجال صالحين لما ماتوا زين الشيطان لقومهم أن
يصوروا صورهم لينشطوا -بزعمهم- على الطاعة إذا رأوها، ثم طال الأمد، وجاء غير أولئك
فقال لهم الشيطان: إن أسلافكم يعبدونهم، ويتوسلون بهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم،
ولهذا أوصى رؤساؤهم للتابعين لهم أن لا يدعوا عبادة هذه الآلهة .
{ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا } أي: وقد أضل الكبار والرؤساء بدعوتهم كثيرا من
الخلق، { وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا } أي: لو كان ضلالهم عند
دعوتي إياهم بحق، لكان مصلحة، ولكن لا يزيدون بدعوة الرؤساء إلا ضلالا أي: فلم يبق
محل لنجاحهم ولا لصلاحهم، ولهذا ذكر الله عذابهم وعقوبتهم الدنيوية والأخروية، .
{ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا } في اليم الذي أحاط بهم { فَأُدْخِلُوا نَارًا
} فذهبت أجسادهم في الغرق وأرواحهم للنار والحرق، وهذا كله بسبب خطيئاتهم، التي
أتاهم نبيهم نوح ينذرهم عنها، ويخبرهم بشؤمها ومغبتها، فرفضوا ما قال، حتى حل بهم
النكال، { فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصَارًا } ينصرونهم حين
نزل بهم الأمر الأمر، ولا أحد يقدر يعارض القضاء والقدر.
{ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا
كَفَّارًا } أي: بقاؤهم مفسدة محضة، لهم ولغيرهم، وإنما قال نوح -عليه السلام- ذلك،
لأنه مع كثرة مخالطته إياهم، ومزاولته لأخلاقهم، علم بذلك نتيجة أعمالهم، لا جرم أن
الله استجاب دعوته ، فأغرقهم أجمعين ونجى نوحا ومن معه من المؤمنين.