عم }{ لفظ استفهام ; ولذلك سقطت منها ألف }{ ما } , ليتميز الخبر عن الاستفهام
. وكذلك ( فيم , ومم ) إذا استفهمت . والمعنى عن أي شيء يسأل بعضهم بعضا وقال الزجاج
: أصل }{ عم }{ عن ما فأدغمت النون في الميم , لأنها تشاركها في الغنة . والضمير في }
يتساءلون }{ لقريش . وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : كانت قريش تجلس لما نزل القرآن
فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به فنزلت }{ عم يتساءلون }{ ؟ وقيل : { عم }{ بمعنى : فيم يتشدد المشركون ويختصمون .
أي يتساءلون }{ عن النبإ العظيم }{ فعن ليس تتعلق بـ }{ يتساءلون }{ الذي في التلاوة ;
لأنه كان يلزم دخول حرف الاستفهام فيكون }{ عن النبإ العظيم }{ كقولك : كم مالك
أثلاثون أم أربعون ؟ فوجب لما ذكرناه من امتناع تعلقه بـ }{ يتساءلون }{ الذي في
التلاوة , وإنما يتعلق بـ يتساءلون آخر مضمر . وحسن ذلك لتقدم يتساءلون ; قاله
المهدوي . وذكر بعض أهل العلم أن الاستفهام في قوله : { عن }{ مكرر إلا أنه مضمر ,
كأنه قال عم يتساءلون أعن النبإ العظيم ؟ فعلى هذا يكون متصلا بالآية الأولى . و }
النبأ العظيم }{ أي الخبر الكبير .
أي يخالف فيه بعضهم بعضا , فيصدق واحد ويكذب آخر ; فروى أبو صالح عن ابن عباس قال :
هو القرآن ; دليله قوله : { قل هو نبأ عظيم . أنتم عنه معرضون }{ فالقرآن نبأ وخبر
وقصص , وهو نبأ عظيم الشأن . وروى سعيد عن قتادة قال : هو البعث بعد الموت صار الناس
فيه رجلين : مصدق ومكذب . وقيل : أمر النبي صلى الله عليه وسلم . وروى الضحاك عن ابن
عباس قال : وذلك أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كثيرة , فأخبره
الله جل ثناؤه باختلافهم , .
ثم هددهم فقال : { كلا سيعلمون }{ أي سيعلمون عاقبة القرآن , أو سيعلمون البعث : أحق
هو أم باطل . و }{ كلا }{ رد عليهم في إنكارهم البعث أو تكذيبهم القرآن , فيوقف عليها
. ويجوز أن يكون بمعنى حقا أو }{ ألا }{ فيبدأ بها . والأظهر أن سؤالهم إنما كان عن
البعث ; قال بعض علمائنا : والذي يدل عليه قوله عز وجل : { إن يوم الفصل كان ميقاتا
" [ النبأ : 17 ] يدل على أنهم كانوا يتساءلون عن البعث .
أي حقا ليعلمن صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن ومما ذكره لهم من
البعث بعد الموت . وقال الضحاك : { كلا سيعلمون }{ يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم .{ ثم
كلا سيعلمون }{ يعني المؤمنين عاقبة تصديقهم . وقيل : بالعكس أيضا . وقال الحسن : هو
وعيد بعد وعيد . وقراءة العامة فيهما بالياء على الخبر ; لقوله تعالى : { يتساءلون }
وقوله : { هم فيه مختلفون } . وقرأ الحسن وأبو العالية ومالك بن دينار بالتاء فيهما
.
دلهم على قدرته على البعث ; أي قدرتنا على إيجاد هذه الأمور أعظم من قدرتنا على
الإعادة . والمهاد : الوطاء والفراش . وقد قال تعالى : { الذي جعل لكم الأرض فراشا }
[ البقرة : 22 ] وقرئ }{ مهدا } . ومعناه أنها لهم كالمهد للصبي , وهو ما يمهد له
فينوم عليه .
وجعلنا نومكم سباتا{ جعلنا }{ معناه صيرنا ; ولذلك تعدت إلى مفعولين . { سباتا }
المفعول الثاني , أي راحة لأبدانكم , ومنه يوم السبت أي يوم الراحة ; أي قيل لبني
إسرائيل : استريحوا في هذا اليوم , فلا تعملوا فيه شيئا . وأنكر ابن الأنباري هذا
وقال : لا يقال للراحة سبات . وقيل : أصله التمدد ; يقال : سبتت المرأة شعرها : إذا
حلته وأرسلته , فالسبات كالمد , ورجل مسبوت الخلق : أي ممدود . وإذا أراد الرجل أن
يستريح تمدد , فسميت الراحة سبتا . وقيل : أصله القطع ; يقال : سبت شعره سبتا :
حلقه ; وكأنه إذا نام انقطع عن الناس وعن الاشتغال , فالسبات يشبه الموت , إلا أنه
لم تفارقه الروح . ويقال : سير سبت : أي سهل لين ; قال الشاعر : ومطوية الأقراب أما
نهارها فسبت وأما ليلها فذميل .
فيه إضمار , أي وقت معاش , أي متصرفا لطلب المعاش وهو كل ما يعاش به من المطعم
والمشرب وغير ذلك }{ فمعاشا }{ على هذا اسم زمان , ليكون الثاني هو الأول . ويجوز أن
يكون مصدرا بمعنى العيش على تقدير حذف المضاف .
أي وقادا وهي الشمس . وجعل هنا بمعنى خلق ; لأنها تعدت لمفعول واحد والوهاج الذي له
وهج ; يقال : وهج يهج وهجا ووهجا ووهجانا . ويقال للجوهر إذا تلألأ توهج . وقال ابن
عباس : وهاجا منيرا متلألئا .
قال مجاهد وقتادة : والمعصرات الرياح . وقاله ابن عباس : كأنها تعصر السحاب . وعن ابن
عباس أيضا : أنها السحاب . وقال سفيان والربيع وأبو العالية والضحاك : أي السحائب
التي تنعصر بالماء ولما تمطر بعد , كالمرأة المعصر التي قد دنا حيضها ولم تحض , قال
أبو النجم : تمشي الهوينى مائلا خمارها قد أعصرت أو قد دنا إعصارها وقال آخر : فكان
مجني دون من كنت أتقي ثلاث شخوص كاعبان ومعصر وقال آخر : وذي أشر كالأقحوان يزينه
ذهاب الصبا والمعصرات الروائح فالرياح تسمى معصرات ; يقال : أعصرت الريح تعصر
إعصارا : إذا أثارت العجاج , وهي الإعصار , والسحب أيضا تسمى المعصرات لأنها تمطر
. وقال قتادة أيضا : المعصرات السماء , النحاس : هذه الأقوال صحاح ; يقال للرياح
التي تأتي بالمطر معصرات , والرياح تلقح السحاب , فيكون المطر , والمطر ينزل من
الريح على هذا . ويجوز أن تكون الأقوال واحدة , ويكون المعنى وأنزلنا من ذوات الرياح
المعصرات }{ ماء ثجاجا }{ وأصح الأقوال أن المعصرات ; السحاب . كذا المعروف أن الغيث
منها , ولو كان ( بالمعصرات ) لكان الريح أولى . وفي الصحاح : والمعصرات السحائب
تعتصر بالمطر . وأعصر القوم أي أمطروا ; ومنه قرأ بعضهم }{ وفيه يعصرون }{ والمعصر :
الجارية أول ما أدركت وحاضت ; يقال : قد أعصرت كأنها دخلت عصر شبابها أو بلغته ;
قال الراجز : جارية بسفوان دارها تمشي الهوينى ساقطا خمارها قد أعصرت أو قد دنا
إعصارها والجمع : معاصر , ويقال : هي التي قاربت الحيض ; لأن الإعصار في الجارية
كالمراهقة في الغلام . سمعته من أبي الغوث الأعرابي . قال غيره : والمعصر السحابة
التي حان لها أن تمطر ; يقال أجن الزرع فهو مجن : أي صار إلى أن يجن , وكذلك السحاب
إذا صار إلى أن يمطر فقد أعصر . وقال المبرد : يقال سحاب معصر أي ممسك للماء ,
ويعتصر منه شيء بعد شيء , ومنه العصر بالتحريك للملجأ الذي يلجأ إليه , والعصرة
بالضم أيضا الملجأ . وقد مضى هذا المعنى في سورة }{ يوسف }{ والحمد لله . وقال أبو زبيد
: صاديا يستغيث غير مغاث ولقد كان عصرة المنجود ومنه المعصر للجارية التي قد قربت
من البلوغ يقال لها معصر ; لأنها تحبس في البيت , فيكون البيت لها عصرا . وفي قراءة
ابن عباس وعكرمة }{ وأنزلنا بالمعصرات } . والذي في المصاحف }{ من المعصرات }{ قال أبي
بن كعب والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان : { من المعصرات }{ أي من
السموات .{ ماء ثجاجا }{ صبابا متتابعا ; عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما . يقال : ثججت
دمه فأنا أثجه ثجا , وقد ثج الدم يثج ثجوجا , وكذلك الماء , فهو لازم ومتعد
. والثجاج في الآية المنصب . وقال الزجاج : أي الصباب , وهو متعد كأنه يثج نفسه أي
يصب . وقال عبيد بن الأبرص : فثج أعلاه ثم ارتج أسفله وضاق ذرعا بحمل الماء منصاح
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الحج المبرور فقال : [ العج والثج ]
فالعج : رفع الصوت بالتلبية , والثج : إراقة الدماء وذبح الهدايا . وقال ابن زيد :
ثجاجا كثيرا . والمعنى واحد .
وجنات }{ أي بساتين }{ ألفافا }{ أي ملتفة بعضها ببعض لتشعب أغصانها , ولا واحد له
كالأوزاع والأخياف . وقيل : واحد الألفاف لف بالكسر ولف بالضم . ذكره الكسائي , قال :
جنة لف وعيش مغدق وندامى كلهم بيض زهر وعنه أيضا وأبي عبيدة : لفيف كشريف وأشراف
. وقيل : هو جمع الجمع . حكاه الكسائي . يقال : جنة لفاء ونبت لف والجمع لف بضم اللام
مثل حمر , ثم يجمع اللف ألفافا . الزمخشري : ولو قيل جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد
لكان وجيها . ويقال : شجرة لفاء وشجر لف وامرأة لفاء : أي غليظة الساق مجتمعة اللحم
. وقيل : التقدير : ونخرج به جنات ألفافا , فحذف لدلالة الكلام عليه . ثم هذا
الالتفاف والانضمام معناه أن الأشجار في البساتين تكون متقاربة , فالأغصان من كل
شجرة متقاربة لقوتها .
يوم ينفخ في الصور }{ أي للبعث }{ فتأتون }{ أي إلى موضع العرض .{ أفواجا }{ أي أمما
, كل أمة مع إمامهم . وقيل : زمرا وجماعات . الواحد : فوج . ونصب يوما بدلا من اليوم
الأول . وروي من حديث معاذ بن جبل قلت : يا رسول الله ! أرأيت قول الله تعالى : { يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا }{ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا معاذ [ بن
جبل ] : لقد سألت عن أمر عظيم ) ثم أرسل عينيه باكيا , ثم قال : ( يحشر عشرة أصناف
من أمتي أشتاتا قد ميزهم الله تعالى من جماعات المسلمين , وبدل صورهم , فمنهم على
صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكسون : أرجلهم أعلاهم , ووجوههم
يسحبون عليها , وبعضهم عمي يترددون , وبعضهم صم بكم لا يعقلون , وبعضهم يمضغون
ألسنتهم , فهي مدلاة على صدورهم , يسيل القيح من أفواههم لعابا , يتقذرهم أهل الجمع
, وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم , وبعضهم مصلبون على جذوع من النار , وبعضهم أشد
نتنا من الجيف , وبعضهم ملبسون جلابيب سابغة من القطران لاصقة بجلودهم ; فأما الذين
على صورة القردة فالقتات من الناس - يعني النمام - وأما الذين على صورة الخنازير ,
فأهل السحت والحرام والمكس . وأما المنكسون رءوسهم ووجوههم , فأكلة الربا , والعمي :
من يجور في الحكم , والصم البكم : الذين يعجبون بأعمالهم . والذين يمضغون ألسنتهم :
فالعلماء والقصاص الذين يخالف قولهم فعلهم . والمقطعة أيديهم وأرجلهم : فالذين يؤذون
الجيران . والمصلبون على جذوع النار : فالسعاة بالناس إلى السلطان والذين هم أشد
نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات , ويمنعون حق الله من أموالهم
. والذين يلبسون الجلابيب : فأهل الكبر والفخر والخيلاء ) .
أي لنزول الملائكة ; كما قال تعالى : { ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة
تنزيلا } [ الفرقان : 25 ] . وقيل : تقطعت , فكانت قطعا كالأبواب فانتصاب الأبواب
على هذا التأويل بحذف الكاف . وقيل : التقدير فكانت ذات أبواب ; لأنها تصير كلها
أبوابا . وقيل : أبوابها طرقها . وقيل : تنحل وتتناثر , حتى تصير فيها أبواب . وقيل :
إن لكل عبد بابين في السماء : بابا لعمله , وبابا لرزقه , فإذا قامت القيامة انفتحت
الأبواب . وفي حديث الإسراء : ( ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل , فقيل : من
أنت قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث
إليه . ففتح لنا ) .
مفعال من الرصد والرصد : كل شيء كان أمامك . قال الحسن : إن على النار رصدا , لا
يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه , فمن جاء بجواز جاز , ومن لم يجئ بجواز حبس . وعن
سفيان رضي الله عنه قال : عليها ثلاث قناطر . وقيل }{ مرصادا }{ ذات أرصاد على النسب ;
أي ترصد من يمر بها . وقال مقاتل : محبسا . وقيل : طريقا وممرا , فلا سبيل إلى الجنة
حتى يقطع جهنم . وفي الصحاح : والمرصاد : الطريق . وذكر القشيري : أن المرصاد المكان
الذي يرصد فيه الواحد العدو , نحو المضمار : الموضع الذي تضمر فيه الخيل . أي هي
معدة لهم ; فالمرصاد بمعنى المحل ; فالملائكة يرصدون الكفار حتى ينزلوا بجهنم . وذكر
الماوردي عن أبي سنان أنها بمعنى راصدة , تجازيهم بأفعالهم . وفي الصحاح : الراصد
الشيء : الراقب له ; تقول : رصده يرصده رصدا ورصدا , والترصد : الترقب . والمرصد :
موضع الرصد . الأصمعي : رصدته أرصده : ترقبته , وأرصدته : أعددت له . والكسائي : مثله
. قلت : فجهنم معدة مترصدة , متفعل من الرصد وهو الترقب ; أي هي متطلعة لمن يأتي
. والمرصاد مفعال من أبنية المبالغة كالمعطار والمغيار , فكأنه يكثر من جهنم انتظار
الكفار .
بدل من قوله : { مرصادا }{ والمآب : المرجع , أي مرجعا يرجعون إليها ; يقال : آب
يئوب أوبة : إذا رجع . وقال قتادة : مأوى ومنزلا . والمراد بالطاغين من طغى في دينه
بالكفر , أو في دنياه بالظلم .
أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب , وهي لا تنقطع , فكلما مضى حقب جاء حقب
. والحقب بضمتين : الدهر والأحقاب الدهور . والحقبة بالكسر : السنة ; والجمع حقب ;
قال متمم بن نويرة التميمي : وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا والحقب بالضم والسكون :
ثمانون سنة . وقيل : أكثر من ذلك وأقل , على ما يأتي , والجمع : أحقاب . والمعنى في
الآية ; [ لابثين ] فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها ; فحذف الآخرة لدلالة
الكلام عليه ; إذ في الكلام ذكر الآخرة , وهو كما يقال : أيام الآخرة ; أي أيام بعد
أيام إلى غير نهاية , وإنما كان يدل على التوقيت لو قال خمسة أحقاب أو عشرة أحقاب
. ونحوه وذكر الأحقاب لأن الحقب كان أبعد شيء عندهم , فتكلم بما تذهب إليه أوهامهم
ويعرفونها , وهي كناية عن التأبيد , أي يمكثون فيها أبدا . وقيل : ذكر الأحقاب دون
الأيام ; لأن الأحقاب أهول في القلوب , وأدل على الخلود . والمعنى متقارب ; وهذا
الخلود في حق المشركين . ويمكن حمل الآية على العصاة الذين يخرجون من النار بعد
أحقاب . وقيل : الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق , فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر
من العقاب ; ولهذا قال : { لابثين فيها أحقابا . لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا . إلا
حميما وغساقا } . و }{ لابثين }{ اسم فاعل من لبث , ويقويه أن المصدر منه اللبث
بالإسكان , كالشرب . وقرأ حمزة والكسائي }{ لبثين }{ بغير ألف وهو اختيار أبي حاتم
وأبي عبيد , وهما لغتان ; يقال : رجل لابث ولبث , مثل طمع وطامع , وفره وفاره
. ويقال : هو لبث بمكان كذا : أي قد صار اللبث شأنه , فشبه بما هو خلقة في الإنسان
نحو حذر وفرق ; لأن باب فعل إنما هو لما يكون خلقة في الشيء في الأغلب , وليس كذلك
اسم الفاعل من لبث . والحقب : ثمانون سنة في قول ابن عمر وابن محيصن وأبي هريرة ,
والسنة ثلاثمائة يوم وستون يوما , واليوم ألف سنة من أيام الدنيا , قاله ابن عباس
. وروى ابن عمر هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو هريرة : والسنة
ثلاثمائة يوم وستون يوما كل يوم مثل أيام الدنيا . وعن ابن عمر أيضا : الحقب :
أربعون سنة . السدي : سبعون سنة . وقيل : إنه ألف شهر . رواه أبو أمامة مرفوعا . بشير
بن كعب : ثلاثمائة سنة . الحسن : الأحقاب لا يدري أحد كم هي , ولكن ذكروا أنها مائة
حقب , والحقب الواحد منها سبعون ألف سنة , اليوم منها كألف سنة مما تعدون . وعن أبي
أمامة أيضا , عن النبي صلى الله عليه وسلم : [ إن الحقب الواحد ثلاثون ألف سنة ]
ذكره المهدوي . والأول الماوردي . وقال قطرب : هو الدهر الطويل غير المحدود . وقال عمر
بن الخطاب رضي الله عنه , قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ والله لا يخرج من النار
من دخلها حتى يكون فيها أحقابا , الحقب بضع وثمانون سنة , والسنة ثلاثمائة وستون
يوما , كل يوم ألف سنة مما تعدون ; فلا يتكلن أحدكم على أن يخرج من النار ] . ذكره
الثعلبي . القرظي : الأحقاب : ثلاثة وأربعون حقبا كل حقب سبعون خريفا , كل خريف
سبعمائة سنة , كل سنة ثلاثمائة وستون يوما , كل يوم ألف سنة . قلت : هذه أقوال
متعارضة , والتحديد في الآية للخلود , يحتاج إلى توقيف يقطع العذر , وليس ذلك بثابت
عن النبي صلى الله عليه وسلم . وإنما المعنى - والله أعلم - ما ذكرناه أولا ; أي
لابثين فيها أزمانا ودهورا , كلما مضى زمن يعقبه زمن , ودهر يعقبه دهر , هكذا أبد
الآبدين من غير انقطاع . وقال ابن كيسان : معنى }{ لابثين فيها أحقابا }{ لا غاية لها
انتهاء , فكأنه قال أبدا . وقال ابن زيد ومقاتل : إنها منسوخة بقوله تعالى : { فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا }{ يعني أن العدد قد انقطع , والخلود قد حصل . قلت :
وهذا بعيد ; لأنه خبر , وقد قال تعالى : { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم
الخياط } [ الأعراف : 40 ] على ما تقدم . هذا في حق الكفار , فأما العصاة الموحدون
فصحيح ويكون النسخ بمعنى التخصيص . والله أعلم . وقيل : المعنى }{ لابثين فيها أحقابا
{ أي في الأرض ; إذ قد تقدم ذكرها ويكون الضمير في }{ لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا
{ لجهنم . وقيل : واحد الأحقاب حقب وحقبة ; قال : فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها فأنت
بما أحدثته بالمجرب وقال الكميت : مر لها بعد حقبة حقب .
لا يذوقون فيها }{ أي في الأحقاب }{ بردا ولا شرابا }{ البرد : النوم في قول أبي
عبيدة وغيره ; قال الشاعر : ولو شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا
بردا وقاله مجاهد والسدي والكسائي والفضل بن خالد وأبو معاذ النحوي ; وأنشدوا قول
الكندي : بردت مراشفها علي فصدني عنها وعن تقبيلها البرد يعني النوم . والعرب تقول :
منع البرد البرد , يعني : أذهب البرد النوم . قلت : وقد جاء الحديث أنه عليه الصلاة
والسلام سئل هل في الجنة نوم . فقال : [ لا ; النوم أخو الموت , والجنة لا موت فيها
] فكذلك النار ; وقد قال تعالى : { لا يقضى عليهم فيموتوا } [ فاطر : 36 ] وقال ابن
عباس : البرد : برد الشراب . وعنه أيضا : البرد النوم : والشراب الماء . وقال الزجاج
: أي لا يذوقون فيها برد ريح , ولا ظل , ولا نوم . فجعل البرد برد كل شيء له راحة ,
وهذا برد ينفعهم , فأما الزمهرير فهو برد يتأذون به , فلا ينفعهم , فلهم منه من
العذاب ما الله أعلم به . وقال الحسن وعطاء وابن زيد : بردا : أي روحا وراحة ; قال
الشاعر : فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفيء أوقات العشي تذوق }{ لا يذوقون
فيها بردا ولا شرابا }{ جملة في موضع الحال من الطاغين , أو نعت للأحقاب ; فالأحقاب
ظرف زمان , والعامل فيه }{ لابثين }{ أو }{ لبثين }{ على تعدية فعل .
استثناء منقطع في قول من جعل البرد النوم , ومن جعله من البرودة كان بدلا منه
. والحميم : الماء الحار ; قاله أبو عبيدة . وقال ابن زيد : الحميم : دموع أعينهم ,
تجمع في حياض ثم يسقونه . قال النحاس : أصل الحميم : الماء الحار , ومنه اشتق الحمام
, ومنه الحمى , ومنه }{ وظل من يحموم } : إنما يراد به النهاية في الحر . والغساق :
صديد أهل النار وقيحهم . وقيل الزمهرير . وقرأ حمزة والكسائي بتشديد السين , وقد مضى
في }{ ص }{ القول فيه .
أي موافقا لأعمالهم . عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما ; فالوفاق بمعنى الموافقة كالقتال
بمعنى المقاتلة . و }{ جزاء }{ نصب على المصدر , أي جازيناهم جزاء وافق أعمالهم ; قاله
الفراء والأخفش . وقال الفراء أيضا : هو جمع الوفق , والوفق واللفق واحد . وقال مقاتل
. وافق العذاب الذنب , فلا ذنب أعظم من الشرك , ولا عذاب أعظم من النار . وقال الحسن
وعكرمة : كانت أعمالهم سيئة , فأتاهم الله بما يسوءهم .
إنهم كانوا لا يرجون }{ أي لا يخافون }{ حسابا }{ أي محاسبة على أعمالهم . وقيل :
معناه لا يرجون ثواب حساب . الزجاج : أي إنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث فيرجون حسابهم
.
أي بما جاءت به الأنبياء . وقيل : بما أنزلنا من الكتب . وقراءة العامة }{ كذابا }
بتشديد الذال , وكسر الكاف , على كذب , أي كذبوا تكذيبا كبيرا . قال الفراء : هي لغة
يمانية فسيحة ; يقولون : كذبت [ به ] كذابا , وخرقت القميص خراقا ; وكل فعل في وزن
( فعل ) فمصدره فعال مشدد في لغتهم ; وأنشد بعض الكلابيين : لقد طال ما ثبطتني عن
صحابتي وعن حوج قضاؤها من شفائنا وقرأ علي رضي الله عنه }{ كذابا }{ بالتخفيف وهو
مصدر أيضا . وقال أبو علي : التخفيف والتشديد جميعا : مصدر المكاذبة , كقول الأعشى :
فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابه أبو الفتح : جاءا جميعا مصدر كذب وكذب جميعا
. الزمخشري : { كذابا }{ بالتخفيف مصدر كذب ; بدليل قوله : فصدقتها وكذبتها والمرء
ينفعه كذابه وهو مثل قوله : { أنبتكم من الأرض نباتا } [ نوح : 17 ] يعني وكذبوا
بآياتنا أفكذبوا كذابا . أو تنصبه }{ بكذبوا } . لأنه يتضمن معنى كذبوا ; لأن كل مكذب
بالحق كاذب ; لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين , وكان المسلمون عندهم كاذبين ,
فبينهم مكاذبة . وقرأ ابن عمر }{ كذابا }{ بضم الكاف والتشديد , جمع كاذب ; قاله أبو
حاتم . ونصبه على الحال الزمخشري . وقد يكون الكذاب : بمعنى الواحد البليغ في الكذب ,
يقال : رجل كذاب , كقولك حسان وبخال , فيجعله صفة لمصدر }{ كذبوا }{ أي تكذيبا كذابا
مفرطا كذبه . وفي الصحاح : وقوله تعالى : { وكذبوا بآياتنا كذابا }{ وهو أحد مصادر
المشدد ; لأن مصدره قد يجيء على ( تفعيل ) مثل التكليم وعلى ( فعال ) كذاب وعلى (
تفعلة ) مثل توصية , وعلى ( مفعل ) ; }{ ومزقناهم كل ممزق } .
كل }{ نصب بإضمار فعل يدل عليه }{ أحصيناه }{ أي وأحصينا كل شيء أحصيناه . وقرأ أبو
السمال }{ وكل شيء }{ بالرفع على الابتداء .{ كتابا }{ نصب على المصدر ; لأن معنى
أحصينا : كتبنا , أي كتبناه كتابا . ثم قيل : أراد به العلم , فإن ما كتب كان أبعد
من النسيان . وقيل : أي كتبناه في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة . وقيل : أراد ما
كتب على العباد من أعمالهم . فهذه كتابة صدرت عن الملائكة الموكلين بالعباد بأمر
الله تعالى إياهم بالكتابة ; دليله قوله تعالى : { وإن عليكم لحافظين . كراما كاتبين
" [ الانفطار : 10 - 11 ] .
قال أبو برزة : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد آية في القرآن ؟ فقال : قوله
تعالى : { فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا }{ أي }{ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا
غيرها } [ النساء : 56 ] و }{ كلما خبت زدناهم سعيرا } [ الإسراء : 97 ] .
هذا تفسير الفوز . وقيل : { إن للمتقين مفازا }{ إن للمتقين حدائق ; جمع حديقة , وهي
البستان المحوط عليه ; يقال أحدق به : أي أحاط . والأعناب : جمع عنب , أي كروم أعناب
, فحذف .
كواعب : جمع كاعب وهي الناهد ; يقال : كعبت الجارية تكعب كعوبا , وكعبت تكعب تكعيبا
, ونهدت تنهد نهودا . وقال الضحاك : ككواعب العذارى ; ومنه قول قيس بن عاصم : وكم من
حصان قد حوينا كريمة ومن كاعب لم تدر ما البؤس معصر والأتراب : الأقران في السن
. وقد مضى في سورة }{ الواقعة }{ الواحد : ترب .
قال الحسن وقتادة وابن زيد وابن عباس : مترعة مملوءة ; يقال : أدهقت الكأس : أي
ملأتها , وكأس دهاق أي ممتلئة ; قال : ألا فاسقني صرفا سقاني الساقي من مائها بكأسك
الدهاق وقال خداش بن زهير : أتانا عامر يبغي قرانا فأترعنا له كأسا دهاقا وقال سعد
بن جبير وعكرمة ومجاهد وابن عباس أيضا : متتابعة , يتبع بعضها بعضا ; ومنه ادهقت
الحجارة ادهاقا , وهو شدة تلازمها ودخول بعضها في بعض ; فالمتتابع كالمتداخل . وعن
عكرمة أيضا وزيد بن أسلم : صافية ; قال الشاعر : لأنت إلى الفؤاد أحب قربا من
الصادي إلى كأس دهاق وهو جمع دهق , وهو خشبتان [ يغمز ] بهما [ الساق ] . والمراد
بالكأس الخمر , فالتقدير : خمرا ذات دهاق , أي عصرت وصفيت ; قاله القشيري . وفي
الصحاح : وأدهقت الماء : أي أفرغته إفراغا شديدا : قال أبو عمرو : والدهق -
بالتحريك : ضرب من العذاب . وهو بالفارسية أشكنجه . المبرد : والمدهوق : المعذب بجميع
العذاب الذي لا فرجة فيه . ابن الأعرابي : دهقت الشيء كسرته وقطعته , وكذلك دهدقته :
وأنشد لحجر بن خالد : ندهدق بضع اللحم للباع والندى وبعضهم تغلي بذم مناقعه ودهمقته
بزيادة الميم : مثله . وقال الأصمعي : الدهمقة : لين الطعام وطيبه ورقته , وكذلك كل
شيء لين ; ومنه حديث عمر : لو شئت أن يدهمق لي لفعلت , ولكن الله عاب قوما فقال : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } [ الأحقاف : 20 ] .
لا يسمعون فيها }{ أي في الجنة }{ لغوا ولا كذابا }{ اللغو : الباطل , وهو ما يلغى
من الكلام ويطرح ; ومنه الحديث : [ إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب
فقد لغوت ] وذلك أن أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم , ولم يتكلموا بلغو ;
بخلاف أهل الدنيا .{ ولا كذابا }{ تقدم , أي لا يكذب بعضهم بعضا , ولا يسمعون كذبا
. وقرأ الكسائي }{ كذابا }{ بالتخفيف من كذبت كذابا أي لا يتكاذبون في الجنة . وقيل :
هما مصدران للتكذيب , وإنما خففها ههنا لأنها ليست مقيدة بفعل يصير مصدرا له , وشدد
قوله : { وكذبوا بآياتنا كذابا }{ لأن كذبوا يقيد المصدر بالكذاب .
جزاء من ربك }{ نصب على المصدر . لأن المعنى جزاهم بما تقدم ذكره , جزاءه وكذلك }
عطاء }{ لأن معنى أعطاهم وجزاهم واحد . أي أعطاهم عطاء .{ حسابا }{ أي كثيرا , قاله
قتادة ; يقال : أحسبت فلانا : أي كثرت له العطاء حتى قاله حسبي . قال : ونقفي وليد
الحي إن كان جائعا ونحسبه إن كان ليس بجائع وقال القتبي : ونرى أصل هذا أن يعطيه
حتى يقول حسبي . وقال الزجاج : { حسابا }{ أي ما يكفيهم . وقاله الأخفش . يقال : أحسبني
كذا : أي كفاني . وقال الكلبي : حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشرا . مجاهد : حسابا لما
عملوا , فالحساب بمعنى العد . أي بقدر ما وجب له في وعد الرب , فإنه وعد للحسنة عشرا
, ووعد لقوم بسبعمائة ضعف , وقد وعد لقوم جزاء لا نهاية له ولا مقدارا ; كما قال
تعالى : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } [ الزمر : 10 ] . وقرأ أبو هاشم }
عطاء حسابا }{ بفتح الحاء , وتشديد السين , على وزن فعال أي كفافا ; قال الأصمعي :
تقول العرب : حسبت الرجل بالتشديد : إذا أكرمته ; وأنشد قول الشاعر : إذا أتاه ضيفه
يحسبه وقرأ ابن عباس .{ حسانا }{ بالنون .
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ قرأ ابن مسعود
ونافع وأبو عمرو وابن كثير وزيد عن يعقوب , والمفضل عن عاصم : { رب }{ بالرفع على
الاستئناف , { الرحمن }{ خبره . أو بمعنى : هو رب السموات , ويكون }{ الرحمن }{ مبتدأ
ثانيا . وقرأ ابن عامر ويعقوب وابن محيصن كلاهما بالخفض , نعتا لقوله : { جزاء من
ربك }{ أي جزاء من ربك رب السموات الرحمن . وقرأ ابن عباس وعاصم وحمزة والكسائي : { رب السموات }{ خفضا على النعت , { الرحمن }{ رفعا على الابتداء , أي هو الرحمن
. واختاره أبو عبيد وقال : هذا أعدلها ; خفض }{ رب }{ لقربه من قوله : { من ربك }
فيكون نعتا له , ورفع }{ الرحمن }{ لبعده منه , على الاستئناف , وخبره }{ لا يملكون
منه خطابا "لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا أي لا يملكون أن يسألوه إلا فيما أذن
لهم فيه . وقال الكسائي : { لا يملكون منه خطابا }{ بالشفاعة إلا بإذنه . وقيل :
الخطاب : الكلام ; أي لا يملكون أن يخاطبوا الرب سبحانه إلا بإذنه ; دليله : { لا
تكلم نفس إلا بإذنه } [ هود : 105 ] . وقيل : أراد الكفار }{ لا يملكون منه خطابا } ,
فأما المؤمنون فيشفعون . قلت : بعد أن يؤذن لهم ; لقوله تعالى : { من ذا الذي يشفع
عنده إلا بإذنه }{ وقوله تعالى : { يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي
له قولا } [ طه : 109 ] .
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا }{ يوم }{ نصب على الظرف ; أي يوم
لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح . واختلف في الروح على أقوال ثمانية : الأول :
أنه ملك من الملائكة . قال ابن عباس : ما خلق الله مخلوقا بعد العرش أعظم منه , فإذا
كان يوم القيامة قام هو وحده صفا وقامت الملائكة كلهم صفا , فيكون عظم خلقه مثل
صفوفهم . ونحو منه عن ابن مسعود ; قال : الروح ملك أعظم من السموات السبع , ومن
الأرضين السبع , ومن الجبال . وهو حيال السماء الرابعة , يسبح الله كل يوم اثنتي
عشرة ألف تسبيحة ; يخلق الله من كل تسبيحة ملكا , فيجيء يوم القيامة وحده صفا ,
وسائر الملائكة صفا . الثاني : أنه جبريل عليه السلام . قاله الشعبي والضحاك وسعيد بن
جبير . وعن ابن عباس : إن عن يمين العرش نهرا من نور , مثل السموات السبع , والأرضين
السبع , والبحار السبع , يدخل جبريل كل يوم فيه سحرا فيغتسل , فيزداد نورا على نوره
, وجمالا على جماله , وعظما على عظمه , ثم ينتفض فيخلق الله من كل قطرة تقع من ريشه
سبعين ألف ملك , يدخل منهم كل يوم سبعون ألفا البيت المعمور , والكعبة سبعون ألفا
لا يعودون إليهما إلى يوم القيامة . وقال وهب : إن جبريل عليه السلام واقف بين يدي
الله تعالى ترعد فرائصه ; يخلق الله تعالى من كل رعدة مائة ألف ملك , فالملائكة
صفوف بين يدي الله تعالى منكسة رءوسهم , فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا : لا
إله إلا أنت ; وهو قوله تعالى : { يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من
أذن له الرحمن }{ في الكلام }{ وقال صوابا }{ يعني قول : { لا إله إلا أنت } . والثالث
: روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ الروح في هذه الآية جند من
جنود الله تعالى , ليسوا ملائكة , لهم رءوس وأيد وأرجل , يأكلون الطعام ] . ثم قرأ }
يوم يقوم الروح والملائكة صفا }{ فإن هؤلاء جند , وهؤلاء جند . وهذا قول أبي صالح
ومجاهد . وعلى هذا هم خلق على صورة بني آدم , كالناس وليسوا بناس . الرابع : أنهم
أشراف الملائكة ; قاله مقاتل بن حيان . الخامس : أنهم حفظة على الملائكة ; قال ابن
أبي نجيح . السادس : أنهم بنو آدم , قاله الحسن وقتادة . فالمعنى ذوو الروح . وقال
العوفي والقرظي : هذا مما كان يكتمه ابن عباس ; قال : الروح : خلق من خلق الله على
صور بني آدم , وما نزل ملك من السماء إلا ومعه واحد من الروح . السابع : أرواح بني
آدم تقوم صفا , فتقوم الملائكة صفا , وذلك بين النفختين , قبل أن ترد إلى الأجساد ;
قاله عطية . الثامن : أنه القرآن ; قال زيد بن أسلم , وقرأ }{ وكذلك أوحينا إليك روحا
من أمرنا } . و }{ صفا } : مصدر أي يقومون صفوفا . والمصدر ينبئ عن الواحد والجمع ,
كالعدل , والصوم . ويقال ليوم العيد : يوم الصف . وقال في موضع آخر : { وجاء ربك
والملك صفا صفا } [ الفجر : 22 ] هذا يدل على الصفوف , وهذا حين العرض والحساب . قال
معناه القتبي وغيره . وقيل : يقوم الروح صفا , والملائكة صفا , فهم صفان . وقيل :
يقوم الكل صفا واحدا . لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ
وَقَالَ صَوَابًا }{ لا يتكلمون }{ أي لا يشفعون }{ إلا من أذن له الرحمن }{ في الشفاعة
{ وقال صوابا }{ يعني حقا ; قاله الضحاك ومجاهد . وقال أبو صالح : لا إله إلا الله
. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : يشفعون لمن قال لا إله إلا الله . وأصل الصواب
. السداد من القول والفعل , وهو من أصاب يصيب إصابة ; كالجواب من أجاب يجيب إجابة
. وقيل : { لا يتكلمون }{ يعني الملائكة والروح الذين قاموا صفا , لا يتكلمون هيبة و
إجلالا }{ إلا من أذن له الرحمن }{ في الشفاعة وهم قد قالوا صوابا , وأنهم يوحدون
الله تعالى ويسبحونه . وقال الحسن : إن الروح يقول يوم القيامة : لا يدخل أحد الجنة
إلا بالرحمة , ولا النار إلا بالعمل . وهو معنى قوله تعالى : { وقال صوابا } .
قوله تعالى : { ذلك اليوم الحق }{ أي الكائن الواقع }{ فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا }
أي مرجعا بالعمل الصالح ; كأنه إذا عمل خيرا رده إلى الله عز وجل , وإذا عمل شرا
عده منه . وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام : [ والخير كله بيديك , والشر ليس
إليك ] . وقال قتادة : { مآبا } : سبيلا .
إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يخاطب كفار قريش ومشركي العرب ; لأنهم
قالوا : لا نبعث . والعذاب عذاب الآخرة , وكل ما هو آت فهو قريب , وقد قال تعالى : { كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } [ النازعات : 46 ] قال معناه
الكلبي وغيره . وقال قتادة : عقوبة الدنيا ; لأنها أقرب العذابين . قال مقاتل : هي
قتل قريش ببدر . والأظهر أنه عذاب الآخرة , وهو الموت والقيامة ; لأن من مات فقد
قامت قيامته , فإن كان من أهل الجنة رأى مقعده من الجنة , وإن كان من أهل النار رأى
الخزي والهوان ; ولهذا قال تعالى : { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه "يَوْمَ يَنْظُرُ
الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ بين وقت ذلك العذاب ; أي أنذرناكم عذابا قريبا في
ذلك اليوم , وهو يوم ينظر المرء ما قدمت يداه , أي يراه وقيل : ينظر إلى ما قدمت
فحذف إلى . والمرء ههنا المؤمن في قول الحسن ; أي يجد لنفسه عملا , فأما الكافر فلا
يجد لنفسه عملا , فيتمنى أن يكون ترابا . ولما قال : { ويقول الكافر }{ علم أنه أراد
بالمرء المؤمن . وقيل : المرء ههنا : أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط . وقال مقاتل :
نزلت قوله : { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه }{ في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي :
{ ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا } : في أخيه الأسود بن عبد الأسد . وَيَقُولُ
الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ أبو جهل . وقيل : هو عام في كل أحد وإنسان يرى في
ذلك اليوم جزاء ما كسب . وقال مقاتل : نزلت قوله : { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه }
في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي : { ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا } : في
أخيه الأسود بن عبد الأسد . وقال الثعلبي : سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : الكافر :
ههنا إبليس وذلك أنه عاب آدم بأنه خلق من تراب , وافتخر بأنه خلق من نار , فإذا
عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه من الثواب والراحة , والرحمة , ورأى ما هو فيه
من الشدة والعذاب , تمنى أنه يكون بمكان آدم , فيقول : { يا ليتني كنت ترابا }{ قال
: ورأيته في بعض التفاسير للقشيري أبي نصر . وقيل : أي يقول إبليس يا ليتني خلقت من
التراب ولم أقل أنا خير من آدم . وعن ابن عمر : إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد
الأديم , وحشر الدواب والبهائم والوحوش , ثم يوضع القصاص بين البهائم , حتى يقتص
للشاة الجماء من الشاة القرناء بنطحتها , فإذا فرغ من القصاص بينها قيل لها : كوني
ترابا , فعند ذلك يقول الكافر : { يا ليتني كنت ترابا } . ونحوه عن أبي هريرة وعبد
الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم . وقد ذكرناه في كتاب }{ التذكرة , بأحوال
الموتى وأمور الآخرة } , مجودا والحمد لله . ذكر أبو جعفر النحاس : حدثنا أحمد بن
محمد بن نافع , قال حدثنا سلمة بن شبيب , قال حدثنا عبد الرازق , قال حدثنا معمر ,
قال أخبرني جعفر بن برقان الجزري , عن يزيد بن الأصم , عن أبي هريرة , قال : إن
الله تعالى يحشر الخلق كلهم من دابة وطائر وإنسان , ثم يقال للبهائم والطير كوني
ترابا , فعند ذلك }{ يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا } . وقال قوم : { يا ليتني كنت
ترابا } : أي لم أبعث , كما قال : { يا ليتني لم أوت كتابيه } . وقال أبو الزناد :
إذا قضي بين الناس , وأمر بأهل الجنة إلى الجنة , وأهل النار إلى النار , قيل لسائر
الأمم ولمؤمني الجن : عودوا ترابا , فيعودون ترابا , فعند ذلك يقول الكافر حين
يراهم }{ يا ليتني كنت ترابا } . وقال ليث بن أبي سليم : مؤمنو الجن يعودون ترابا
. وقال عمر بن عبد العزيز والزهري والكلبي ومجاهد : مؤمنو الجنة حول الجنة في ربض
ورحاب وليسوا فيها . وهذا أصح , وقد مضى في سورة }{ الرحمن }{ بيان هذا , وأنهم مكلفون
: يثابون ويعاقبون , فهم كبني آدم , والله أعلم بالصواب .
نهاية تفسير السورة - تفسير القرآن الكريم
End of Tafseer of The Surah - The Holy Quran Tafseer