يستحب للقارئ إذا قرأ }{ سبح اسم ربك الأعلى }{ أن يقول عقبه : سبحان ربي الأعلى قاله
النبي - صلى الله عليه وسلم - وقاله جماعة من الصحابة والتابعين على ما يأتي . وروى
جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال : ( إن لله تعالى ملكا يقال له حزقائيل , له
ثمانية عشر ألف جناح , ما بين الجناح إلى الجناح مسيرة خمسمائة عام , فخطر له خاطر
هل تقدر أن تبصر العرش جميعه ؟ فزاده الله أجنحة مثلها , فكان له ستة وثلاثون ألف
جناح , ما بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام . ثم أوحى الله إليه : أيها الملك , أن
طر , فطار مقدار عشرين ألف سنة فلم يبلغ رأس قائمة من قوائم العرش . ثم ضاعف الله له
في الأجنحة والقوة , وأمره أن يطير , فطار مقدار ثلاثين ألف سنة أخرى , فلم يصل
أيضا فأوحى الله إليه أيها الملك , لو طرت إلى نفخ الصور مع أجنحتك وقوتك لم تبلغ
ساق عرشي . فقال الملك : سبحان ربي الأعلى فأنزل الله تعالى : { سبح اسم ربك الأعلى
" . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : اجعلوها في سجودكم ) . ذكره الثعلبي في (
كتاب العرائس ) له . وقال ابن عباس والسدي : معنى }{ سبح اسم ربك الأعلى }{ أي عظم ربك
الأعلى . والاسم صلة , قصد بها تعظيم المسمى كما قال لبيد : إلى الحول ثم اسم السلام
عليكما وقيل : نزه ربك عن السوء , وعما يقول فيه الملحدون . وذكر الطبري أن المعنى
نزه اسم ربك عن أن تسمي به أحدا سواه . وقيل : نزه تسمية ربك وذكرك إياه , أن تذكره
إلا وأنت خاشع معظم , ولذكره محترم . وجعلوا الاسم بمعنى التسمية , والأولى أن يكون
الاسم هو المسمى . روى نافع عن ابن عمر قال : لا تقل علا اسم الله فإن اسم الله هو
الأعلى . وروى أبو صالح عن ابن عباس : صل بأمر ربك الأعلى . قال : وهو أن تقول سبحان
ربي الأعلى . وروي عن علي - رضي الله عنه - وابن عباس وابن عمرو وابن الزبير وأبي
موسى وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم - أنهم كانوا إذا افتتحوا قراءة هذه
السورة قالوا : سبحان ربي الأعلى امتثالا لأمره في ابتدائها . فيختار الاقتداء بهم
في قراءتهم لا أن سبحان ربي الأعلى من القرآن كما قاله بعض أهل الزيغ . وقيل : إنها
في قراءة أبي : { سبحان ربي الأعلى } . وكان ابن عمر يقرؤها كذلك . وفي الحديث : كان
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأها قال : [ سبحان ربي الأعلى ] . قال أبو
بكر الأنباري : حدثني محمد بن شهريار , قال : حدثنا حسين بن الأسود , قال : حدثنا
عبد الرحمن بن أبي حماد قال : حدثنا عيسى بن عمر , عن أبيه , قال : قرأ علي بن أبي
طالب عليه السلام في الصلاة }{ سبح اسم ربك الأعلى } , ثم قال : سبحان ربي الأعلى
فلما انقضت الصلاة قيل له : يا أمير المؤمنين , أتزيد هذا في القرآن ؟ قال : ما هو
؟ قالوا : سبحان ربي الأعلى . قال : لا , إنما أمرنا بشيء فقلته , وعن عقبة بن عامر
الجهني قال : لما نزلت }{ سبح اسم ربك الأعلى }{ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- : ( اجعلوها في سجودكم ) . وهذا كله يدل على أن الاسم هو المسمى ; لأنهم لم يقولوا
: سبحان اسم ربك الأعلى . وقيل : إن أول من قال [ سبحان ربي الأعلى ] ميكائيل عليه
السلام . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل : ( يا جبريل أخبرني بثواب من
قال : سبحان ربي الأعلى في صلاته أو في غير صلاته ) . فقال : ( يا محمد , ما من مؤمن
ولا مؤمنة يقولها في سجوده أو في غير سجوده , إلا كانت له في ميزانه أثقل من العرش
والكرسي وجبال الدنيا , ويقول الله تعالى : صدق عبدي , أنا فوق كل شيء , وليس فوقي
شيء , اشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرت له , وأدخلته الجنة فإذا مات زاره ميكائيل كل
يوم , فإذا كان يوم القيامة حمله على جناحه , فأوقفه بين يدي الله تعالى , فيقول :
يا رب شفعني فيه , فيقول قد شفعتك فيه , فاذهب به إلى الجنة ) . وقال الحسن : { سبح
اسم ربك الأعلى }{ أي صل لربك الأعلى . وقل : أي صل بأسماء الله , لا كما يصلي
المشركون بالمكاء والتصدية . وقيل : ارفع صوتك بذكر ربك . قال جرير : قبح الإله وجوه
تغلب كلما سبح الحجيج وكبروا تكبيرا .
قد تقدم معنى التسوية في }{ الانفطار }{ وغيرها . أي سوى ما خلق , فلم يكن في خلقه
تثبيج . وقال الزجاج : أي عدل قامته . وعن ابن عباس : حسن ما خلق . وقال الضحاك : خلق
آدم فسوى خلقه . وقيل : خلق في أصلاب الآباء , وسوى في أرحام الأمهات . وقيل : خلق
الأجساد , فسوى الأفهام . وقيل : أي خلق الإنسان وهيأه للتكليف .
قرأ علي - رضي الله عنه - والسلمي والكسائي }{ قدر }{ مخففة الدال , وشدد الباقون
. وهما بمعنى واحد . أي قدر ووفق لكل شكل شكله .{ فهدى }{ أي أرشد . قال مجاهد : قدر
الشقاوة والسعادة , وهدى للرشد والضلالة . وعنه قال : هدى الإنسان للسعادة والشقاوة
, وهدى الأنعام لمراعيها . وقيل : قدر أقواتهم وأرزاقهم , وهداهم لمعاشهم إن كانوا
إنسا , ولمراعيهم إن كانوا وحشا . وروي عن ابن عباس والسدي ومقاتل والكلبي في قوله }
فهدى }{ قالوا : عرف خلقه كيف يأتي الذكر الأنثى كما قال في ( طه ) : { الذي أعطى كل
شيء خلقه ثم هدى } [ طه : 50 ] أي الذكر للأنثى . وقال عطاء : جعل لكل دابة ما
يصلحها , وهداها له . وقيل : خلق المنافع في الأشياء , وهدى الإنسان لوجه استخراجها
منها . وقيل }{ قدر فهدى } : قدر لكل حيوان ما يصلحه , فهداه , وعرفه وجه الانتفاع به
. يحكى أن الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت , وقد ألهمها الله أن مسح العين بورق
الرازيانج الغض يرد إليها بصرها فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام ,
فتطوي تلك المسافة على طولها وعلى عماها , حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة
الرازيانج لا تخطئها , فتحك بها عينيها وترجع باصرة بإذن الله تعالى . وهدايات
الإنسان إلى ما لا يحد من مصالحه , و ما لا يحصر من حوائجه , في أغذيته وأدويته ,
وفي أبواب دنياه ودينه , وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض باب واسع , وشوط
بطين , لا يحيط به وصف واصف فسبحان ربي الأعلى . وقال السدي : قدر مدة الجنين في
الرحم تسعة أشهر , وأقل وأكثر , ثم هداه للخروج من الرحم . وقال الفراء : أي قدر ,
فهدى وأضل فاكتفى بذكر أحدهما كقوله تعالى : { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ]
. ويحتمل أن يكون بمعنى دعا إلى الإيمان كقوله تعالى : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم
" .[ الشورى : 52 ] . أي لتدعو , وقد دعا الكل إلى الإيمان . وقيل : { فهدى }{ أي دلهم
بأفعاله على توحيده , وكونه عالما قادرا . ولا خلاف أن من شدد الدال من }{ قدر }{ أنه
من التقدير كقوله تعالى : { وخلق كل شيء فقدره تقديرا } [ الفرقان : 2 ] . ومن خفف
فيحتمل أن يكون من التقدير فيكونان بمعنى . ويحتمل أن يكون من القدر والملك أي ملك
الأشياء , وهدى من يشاء . قلت : وسمعت بعض أشياخي يقول : الذي خلق فسوى وقدر فهدى
. هو تفسير العلو الذي يليق بجلال الله سبحانه على جميع مخلوقاته .
فجعله غثاء أحوىالغثاء : ما يقذف به السيل على جوانب الوادي من الحشيش والنبات
والقماش . وكذلك الغثاء ( بالتشديد ) . والجمع : الأغثاء , قتادة : الغثاء : الشيء
اليابس . ويقال للبقل والحشيش إذا تحطم ويبس : غثاء وهشيم . وكذلك للذي يكون حول
الماء من القماش غثاء كما قال : كأن طمية المجيمر غدوة من السيل والأغثاء فلكة مغزل
وحكى أهل اللغة : غثا الوادي وجفا . وكذلك الماء : إذا علاه من الزبد والقماش ما لا
ينتفع به . والأحوى : الأسود أي إن النبات يضرب إلى الحوة من شدة الخضرة كالأسود .
والحوة : السواد قال الأعشى : لمياء في شفتيها حوة لعس وفي اللثاث وفي أنيابها شنب
وفي الصحاح : والحوة : سمرة الشفة . يقال : رجل أحوى , وامرأة حواء , وقد حويت .
وبعير أحوى إذا خالط خضرته سواد وصفوة . وتصغير أحوى أحيو في لغة من قال أسيود . ثم
قيل : يجوز أن يكون }{ أحوى }{ حالا من }{ المرعى } , ويكون المعنى : كأنه من خضرته
يضرب إلى السواد والتقدير : أخرج المرعى أحوى , فجعله غثاء يقال : قد حوي النبت
حكاه الكسائي , وقال : وغيث من الوسمي حو تلاعه تبطنته بشيظم صلتان ويجوز أن يكون }
حوى }{ صفة ل }{ غثاء } . والمعنى : أنه صار كذلك بعد خضرته . وقال أبو عبيدة : فجعله
أسود من احتراقه وقدمه والرطب إذا يبس اسود . وقال عبد الرحمن بن زيد : أخرج المرعى
أخضر , ثم لما يبس اسود من احتراقه , فصار غثاء تذهب به الرياح والسيول . وهو مثل
ضربه الله تعالى للكفار , لذهاب الدنيا بعد نضارتها .
الغثاء : ما يقذف به السيل على جوانب الوادي من الحشيش والنبات والقماش . وكذلك
الغثاء ( بالتشديد ) . والجمع : الأغثاء , قتادة : الغثاء : الشيء اليابس . ويقال
للبقل والحشيش إذا تحطم ويبس : غثاء وهشيم . وكذلك للذي يكون حول الماء من القماش
غثاء كما قال : كأن طمية المجيمر غدوة من السيل والأغثاء فلكة مغزل وحكى أهل اللغة
: غثا الوادي وجفا . وكذلك الماء : إذا علاه من الزبد والقماش ما لا ينتفع به
. والأحوى : الأسود أي إن النبات يضرب إلى الحوة من شدة الخضرة كالأسود . والحوة :
السواد قال الأعشى : لمياء في شفتيها حوة لعس وفي اللثاث وفي أنيابها شنب وفي
الصحاح : والحوة : سمرة الشفة . يقال : رجل أحوى , وامرأة حواء , وقد حويت . وبعير
أحوى إذا خالط خضرته سواد وصفوة . وتصغير أحوى أحيو في لغة من قال أسيود . ثم قيل :
يجوز أن يكون }{ أحوى }{ حالا من }{ المرعى } , ويكون المعنى : كأنه من خضرته يضرب إلى
السواد والتقدير : أخرج المرعى أحوى , فجعله غثاء يقال : قد حوي النبت حكاه الكسائي
, وقال : وغيث من الوسمي حو تلاعه تبطنته بشيظم صلتان ويجوز أن يكون }{ حوى }{ صفة ل
{ غثاء } . والمعنى : أنه صار كذلك بعد خضرته . وقال أبو عبيدة : فجعله أسود من
احتراقه وقدمه والرطب إذا يبس اسود . وقال عبد الرحمن بن زيد : أخرج المرعى أخضر ,
ثم لما يبس اسود من احتراقه , فصار غثاء تذهب به الرياح والسيول . وهو مثل ضربه الله
تعالى للكفار , لذهاب الدنيا بعد نضارتها .
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ووجه الاستثناء على هذا , ما قاله الفراء : إلا ما شاء
الله , وهو لم يشأ أن تنسى شيئا كقوله تعالى : { خالدين فيها ما دامت السموات
والأرض إلا ما شاء ربك } [ هود : 108 ] . ولا يشاء . ويقال في الكلام : لأعطينك كل ما
سألت إلا ما شئت , وإلا أن أشاء أن أمنعك , والنية على ألا يمنعه شيئا . فعلى هذا
مجاري الأيمان يستثنى فيها ونية الحالف التمام . وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس :
فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات , { إلا ما شاء الله } . وعن سعيد عن قتادة ,
قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينسى شيئا }{ إلا ما شاء الله }
. وعلى هذه الأقوال قيل : إلا ما شاء الله أن ينسى , ولكنه لم ينسى شيئا منه بعد
نزول هذه الآية . وقيل : إلا ما شاء الله أن ينسى , ثم يذكر بعد ذلك فإذا قد نسي ,
ولكنه يتذكر ولا ينسى نسيانا كليا . وقد روي أنه أسقط آية في قراءته في الصلاة ,
فحسب أبي أنها نسخت , فسأله فقال : [ إني نسيتها ] . وقيل : هو من النسيان أي إلا ما
شاء الله أن ينسيك . ثم قيل : هذا بمعنى النسخ أي إلا ما شاء الله أن ينسخه
. والاستثناء نوع من النسخ . وقيل . النسيان بمعنى الترك أي يعصمك من أن تترك العمل به
إلا ما شاء الله أن تتركه لنسخه إياه . فهذا في نسخ العمل , والأول في نسخ القراءة
. قال الفرغاني : كان يغشى مجلس الجنيد أهل البسط من العلوم , وكان يغشاه ابن كيسان
النحوي , وكان رجلا جليلا فقال يوما : ما تقول يا أبا القاسم في قول الله تعالى : { سنقرئك فلا تنسى }{ ؟ فأجابه مسرعا - كأنه تقدم له السؤال قبل ذلك بأوقات : لا تنسى
العمل به . فقال ابن كيسان : لا يفضض الله فاك مثلك من يصدر عن رأيه . وقوله }{ فلا }
: للنفي لا للنهي . وقيل : للنهي وإنما أثبتت الياء ; لأن رءوس الآي على ذلك
. والمعنى : لا تغفل عن قراءته وتكراره فتنساه إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع
تلاوته للمصلحة . والأول هو المختار ; لأن الاستثناء من النهي لا يكاد يكون إلا
مؤقتا معلوما . وأيضا فإن الياء مثبتة في جميع المصاحف , وعليها القراء . وقيل :
معناه إلا ما شاء الله أن يؤخر إنزاله . وقيل : المعنى فجعله غثاء أحوى إلا ما شاء
الله أن ينال بنو آدم والبهائم , فإنه لا يصير كذلك . إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ
وَمَا يَخْفَى أي الإعلان من القول والعمل .{ وما يخفى }{ من السر . وعن ابن عباس :
ما في قلبك ونفسك . وقال محمد بن حاتم : يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها . وقيل : الجهر
ما حفظته من القرآن في صدرك .{ وما يخفى }{ هو ما نسخ من صدرك .
ونيسرك } : معطوف على }{ سنقرئك }{ وقوله : { إنه يعلم الجهر وما يخفى }{ اعتراض
. ومعنى }{ لليسرى }{ أي للطريقة اليسرى وهي عمل الخير . قال ابن عباس : نيسرك لأن تعمل
خيرا . ابن مسعود : { لليسرى }{ أي للجنة . وقيل : نوفقك للشريعة اليسرى وهي الحنيفية
السمحة السهلة قال معناه الضحاك . وقيل : أي نهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعمل به .
فذكر }{ أي فعظ قومك يا محمد بالقرآن .{ إن نفعت الذكرى }{ أي الموعظة . وروى يونس
عن الحسن قال : تذكرة للمؤمن , وحجة على الكافر . وكان ابن عباس يقول : تنفع أوليائي
, ولا تنفع أعدائي . وقال الجرجاني : التذكير واجب وإن لم ينفع . والمعنى : فذكر إن
نفعت الذكرى أو لم تنفع , فحذف كما قال : { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ]
. وقيل : إنه مخصوص بأقوام بأعيانهم . وقيل : إن }{ إن }{ بمعنى ما أي فذكر ما نفعت
الذكرى , فتكون }{ إن }{ بمعنى ما , لا بمعنى الشرط ; لأن الذكرى نافعة بكل حال قال
ابن شجرة . وذكر بعض أهل العربية أن }{ إن }{ بمعنى إذ أي إذ نفعت كقوله تعالى : { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } [ آل عمران : 139 ] أي إذ كنتم فلم يخبر بعلوهم إلا
بعد إيمانهم . وقيل : بمعنى قد .
أي من يتقي الله ويخافه . فروى أبو صالح عن ابن عباس قال : نزلت في ابن أم مكتوم
. الماوردي : وقد يذكر من يرجوه , إلا أن تذكرة الخاشي أبلغ من تذكرة الراجي فلذلك
علقها بالخشية دون الرجاء , وإن تعلقت بالخشية والرجاء . وقيل : أي عمم أنت التذكير
والوعظ , وإن كان الوعظ إنما ينفع من يخشى , ولكن يحصل لك ثواب الدعاء حكاه القشيري
.
أي لا يموت فيستريح من العذاب , ولا يحيا حياة تنفعه كما قال الشاعر : ألا ما لنفس
لا تموت فينقضي عناها ولا تحيا حياة لها طعم وقد مضى في }{ النساء }{ وغيرها حديث أبي
سعيد الخدري , وأن الموحدين من المؤمنين إذا دخلوا جهنم - وهي النار الصغرى على قول
الفراء - احترقوا فيها وماتوا إلى أن يشفع فيهم . خرجه مسلم . وقيل : أهل الشقاء
متفاوتون في شقائهم , هذا الوعيد للأشقى , وإن كان ثم شقي لا يبلغ هذه المرتبة .
قد أفلح }{ أي قد صادف البقاء في الجنة أي من تطهر من الشرك بإيمان قاله ابن عباس
وعطاء وعكرمة . وقال الحسن والربيع : من كان عمله زاكيا ناميا . وقال معمر عن قتادة :
{ تزكى }{ قال بعمل صالح . وعنه وعن عطاء وأبي العالية : نزلت في صدقة الفطر . وعن ابن
سيرين }{ قد أفلح من تزكى . وذكر اسم ربه فصلى }{ قال : خرج فصلى بعدما أدى . وقال
عكرمة : كان الرجل يقول أقدم زكاتي بين يدي صلاتي . فقال سفيان : قال الله تعالى : { قد أفلح من تزكى . وذكر اسم ربه فصلى } . وروي عن أبي سعيد الخدري وابن عمر : أن ذلك
في صدقة الفطر , وصلاة العيد . وكذلك قال أبو العالية , وقال : إن أهل المدينة لا
يرون صدقة أفضل منها , ومن سقاية الماء . وروى كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده , عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى : { قد أفلح من تزكى }{ قال : [ أخرج
زكاة الفطر ] , { وذكر اسم ربه فصلى }{ قال : [ صلاة العيد ] . وقال ابن عباس والضحاك
: { وذكر اسم ربه }{ في طريق المصلى }{ فصلى }{ صلاة العيد . وقيل : المراد بالآية زكاة
الأموال كلها قال أبو الأحوص وعطاء . وروى ابن جريج قال : قلت لعطاء : { قد أفلح من
تزكى }{ للفطر ؟ قال : هي للصدقات كلها . وقيل : هي زكاة الأعمال , لا زكاة الأموال ,
أي تطهر في أعماله من الرياء والتقصير ; لأن الأكثر أن يقال في المال : زكى , لا
تزكى . وروى جابر بن عبد الله قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم - : [ { قد أفلح
من تزكى }{ أي من شهد أن لا إله إلا الله , وخلع الأنداد , وشهد أني رسول الله ]
. وعن ابن عباس }{ تزكى }{ قال : لا إله إلا الله . وروى عنه عطاء قال : نزلت في عثمان
بن عفان - رضي الله عنه - قال : كان بالمدينة منافق كانت له نخلة بالمدينة , مائلة
في دار رجل من الأنصار , إذا هبت الرياح أسقطت البسر والرطب إلى دار الأنصاري ,
فيأكل هو وعياله , فخاصمه المنافق فشكا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فأرسل إلى المنافق وهو لا يعلم نفاقه , فقال : [ إن أخاك الأنصاري ذكر أن بسرك
ورطبك يقع إلى منزله , فيأكل هو وعياله , فهل لك أن أعطيك نخلة في الجنة بدلها ] ؟
فقال : أبيع عاجلا بآجل لا أفعل . فذكروا أن عثمان بن عفان أعطاه حائطا من نخل بدل
نخلته ففيه نزلت }{ قد أفلح من تزكى } . ونزلت في المنافق }{ ويتجنبها الأشقى } . وذكر
الضحاك أنها نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وقد ذكرنا القول في زكاة
الفطر في سورة }{ البقرة }{ مستوفى . وقد تقدم أن هذه السورة مكية في قول الجمهور ,
ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر . القشيري : ولا يبعد أن يكون أثنى على من يمتثل أمره
في صدقة الفطر وصلاة العيد , فيما يأمر به في المستقبل .
أي ذكر ربه . وروى عطاء عن ابن عباس قال : يريد ذكر معاده وموقفه بين يدي الله جل
ثناؤه , فعبده وصلى له . وقيل : ذكر اسم ربه بالتكبير في أول الصلاة ; لأنها لا
تنعقد إلا بذكره وهو قوله : الله أكبر : وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح , وعلى
أنها ليست من الصلاة ; لأن الصلاة معطوفة عليها . وفيه حجة لمن قال : إن الافتتاح
جائز بكل اسم من أسماء الله عز وجل . وهذه مسألة خلافية بين الفقهاء . وقد مضى القول
في هذا في أول سورة }{ البقرة } . وقيل : هي تكبيرات العيد . قال الضحاك : { وذكر اسم
ربه }{ في طريق المصلى }{ فصلى }{ أي صلاة العيد . وقيل : { وذكر اسم ربه }{ وهو أن
يذكره بقلبه عند صلاته , فيخاف عقابه , ويرجو ثوابه ليكون استيفاؤه لها , وخشوعه
فيها , بحسب خوفه ورجائه . وقيل : هو أن يفتتح أول كل سورة ببسم الله الرحمن الرحيم
.{ فصلى }{ أي فصلى وذكر . ولا فرق بين أن تقول : أكرمتني فزرتني , وبين أن تقول :
زرتني فأكرمتني . قال ابن عباس : هذا في الصلاة المفروضة , وهي الصلوات الخمس . وقيل
: الدعاء أي دعاء الله بحوائج الدنيا والآخرة . وقيل : صلاة العيد قاله أبو سعيد
الخدري وابن عمر وغيرهما . وقد تقدم . وقيل : هو أن يتطوع بصلاة بعد زكاته قاله أبو
الأحوص , وهو مقتضى قول عطاء . وروي عن عبد الله قال : من أقام الصلاة ولم يؤت
الزكاة فلا صلاة له .
قراءة العامة }{ بل تؤثرون }{ بالتاء تصديقه قراءة أبي }{ بل أنتم تؤثرون } . وقرأ أبو
عمرو ونصر بن عاصم }{ بل يؤثرون }{ بالياء على الغيبة تقديره : بل يؤثرون الأشقون
الحياة الدنيا . وعلى الأول فيكون تأويلها بل تؤثرون أيها المسلمون الاستكثار من
الدنيا , للاستكثار من الثواب . وعن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية , فقال : أتدرون لم
آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة ؟ لأن الدنيا حضرت وعجلت لنا طيباتها وطعامها
وشرابها , ولذاتها وبهجتها , والآخرة غيبت عنا , فأخذنا العاجل , وتركنا الآجل
. وروى ثابت عن أنس قال : كنا مع أبي موسى في مسير , والناس يتكلمون ويذكرون الدنيا
. قال أبو موسى : يا أنس , إن هؤلاء يكاد أحدهم يفري الأديم بلسانه فريا , فتعال
فلنذكر ربنا ساعة . ثم قال : يا أنس , ما ثبر الناس ما بطأ بهم ؟ قلت الدنيا
والشيطان والشهوات . قال : لا , ولكن عجلت الدنيا , وغيبت الآخرة , أما والله لو
عاينوها ما عدلوا ولا ميلوا .
قراءة العامة }{ بل تؤثرون }{ بالتاء تصديقه قراءة أبي }{ بل أنتم تؤثرون } . وقرأ أبو
عمرو ونصر بن عاصم }{ بل يؤثرون }{ بالياء على الغيبة تقديره : بل يؤثرون الأشقون
الحياة الدنيا . وعلى الأول فيكون تأويلها بل تؤثرون أيها المسلمون الاستكثار من
الدنيا , للاستكثار من الثواب . وعن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية , فقال : أتدرون لم
آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة ؟ لأن الدنيا حضرت وعجلت لنا طيباتها وطعامها
وشرابها , ولذاتها وبهجتها , والآخرة غيبت عنا , فأخذنا العاجل , وتركنا الآجل
. وروى ثابت عن أنس قال : كنا مع أبي موسى في مسير , والناس يتكلمون ويذكرون الدنيا
. قال أبو موسى : يا أنس , إن هؤلاء يكاد أحدهم يفري الأديم بلسانه فريا , فتعال
فلنذكر ربنا ساعة . ثم قال : يا أنس , ما ثبر الناس ما بطأ بهم ؟ قلت الدنيا
والشيطان والشهوات . قال : لا , ولكن عجلت الدنيا , وغيبت الآخرة , أما والله لو
عاينوها ما عدلوا ولا ميلوا .
قال قتادة وابن زيد : يريد قوله }{ والآخرة خير وأبقى } . وقالا : تتابعت كتب الله جل
ثناؤه كما تسمعون أن الآخرة خير وأبقى من الدنيا . وقال الحسن : { إن هذا لفي الصحف
الأولى }{ قال : كتب الله جل ثناؤه كلها . الكلبي : { إن هذا لفي الصحف الأولى }{ من
قوله : { قد أفلح }{ إلى آخر السورة لحديث أبي ذر على ما يأتي . وروى عكرمة عن ابن
عباس : { إن هذا لفي الصحف الأولى }{ قال : هذه السورة . وقال الضحاك : إن هذا القرآن
لفي الصحف الأولى أي الكتب الأولى .
يعني الكتب المنزلة عليهما . ولم يرد أن هذه الألفاظ بعينها في تلك الصحف , وإنما هو
على المعنى أي إن معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف . وروى الآجري من حديث أبي ذر
قال : قلت يا رسول الله , فما كانت صحف إبراهيم ؟ قال : كانت أمثالا كلها : أيها
الملك المتسلط المبتلى المغرور , إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض , ولكن
بعثتك لترد عني دعوة المظلوم . فإني لا أردها ولو كانت من فم كافر . وكان فيها أمثال
: وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات : ساعة يناجي فيها ربه , وساعة يحاسب فيها
نفسه , يفكر فيها في صنع الله عز وجل إليه , وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم
والمشرب . وعلى العاقل ألا يكون ظاعنا إلا في ثلاث : تزود لمعاد , ومرمة لمعاش ,
ولذة في غير محرم . وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه , مقبلا على شأنه , حافظا
للسانه . ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه . قال : قلت يا رسول الله ,
فما كانت صحف موسى ؟ قال : كانت عبرا كلها : عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ! وعجبت
لمن أيقن بالقدر كيف ينصب . وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها !
وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم هو لا يعمل ! . قال : قلت يا رسول الله , فهل في
أيدينا شيء مما كان في يدي إبراهيم وموسى , مما أنزل الله عليك ؟ قال : نعم اقرأ يا
أبا ذر : { قد أفلح من تزكى . وذكر اسم ربه فصلى . بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة
خير وأبقى . إن هذا لفي الصحف الأولى . صحف إبراهيم وموسى } .
نهاية تفسير السورة - تفسير القرآن الكريم
End of Tafseer of The Surah - The Holy Quran Tafseer