القول في تأويل قوله جل جلاله وتقدست أسماؤه وَالضُّحَى (1) أقسم ربنا جلّ ثناؤه
بالضحى، وهو النهار كله، وأحسب أنه من قولهم: ضَحِيَ فلان للشمس: إذا ظهر منه؛ ومنه
قوله: وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى : أي لا يصيبك فيها الشمس. وقد
ذكرت اختلاف أهل العلم في معناه في قوله: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا مع ذكري اختيارنا
فيه. وقيل: عُنِي به وقت الضحى. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال:
ثنا سعيد، عن قتادة { وَالضُّحَى } ساعة من ساعات النهار.
وقوله: { وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى } اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم:
معناه: والليل إذا أقبل بظلامه. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني
أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس { وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى
) يقول: والليل إذا أقبل. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن
الحسن، في قول الله: { وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى } قال: إذا لَبِسَ الناس، إذَا جاء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا ذهب. * ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا أبو
صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس { وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى } يقول: إذا
ذهب. وقال آخرون: معناه: إذا استوى وسكن. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حُميد، قال:
ثنا مِهْران؛ وحدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، جميعا عن سفيان، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد { وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى } قال: إذا استوى. حدثني محمد بن عمرو، قال:
ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء،
جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد { وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى } قال: إذا استوى حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى } سكن
بالخلق. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك
يقول، في قوله: { وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى } يعني: استقراره وسكونه. حدثني يونس،
قال: أخبرني ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: { وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى } قال:
إذا سكن، قال: ذلك سجوه، كما يكون سكون البحر سجوه. وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي
في ذلك قول من قال معناه: والليل إذا سكن بأهله، وثبت بظلامه، كما يقال: بحر ساج:
إذا كان ساكنا؛ ومنه قول أعشى بني ثعلبة: فَمَـا ذَنْبُنـا إنْ جـاشَ بَحْرُ ابنِ
عَمِّكم وَبحْـرُكَ سـاجٍ مـا يُوَارِي الدَّعامِصَا (4) وقول الراجز: يا حَبَّذَا
القَمْرَاءُ وَاللَّيْلُ السَّاجْ وطُرُقٌ مِثْلُ مُلاءِ النَّسَّاجْ (5) .
وقوله: { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } وهذا جواب القسم، ومعناه: ما تركك يا
محمد ربك وما أبغضك. وقيل: { وَمَا قَلَى } ومعناه. وما قلاك، اكتفاء بفهم السامع
لمعناه، إذ كان قد تقدّم ذلك قوله: { مَا وَدَّعَكَ } فعرف بذلك أن المخاطب به نبيّ
الله صلى الله عليه وسلم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال
ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في
قوله: { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } يقول: ما تركك ربك، وما أبغضك. حدثني
يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ
وَمَا قَلَى } قال: ما قلاك ربك وما أبغضك؛ قال: والقالي: المبغِض. وذُكر أن هذه
السورة نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تكذيبا من الله قريشا في قيلهم
لرسول الله، لما أبطأ عليه الوحي: قد ودّع محمدًا ربه وقلاه. * ذكر الرواية بذلك:
حدثني عليّ بن عبد الله الدهان، قال: ثنا مفضل بن صالح، عن الأسود بن قيس العبديّ،
عن ابن عبد الله، قال: لما أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت
امرأة من أهله، أو من قومه: ودّع الشيطان محمدا، فأنـزل الله عليه: { وَالضُّحَى
)... إلى قوله: { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } . قال أبو جعفر: ابن عبد
الله: هو جندب بن عبد الله البجلي. حدثني محمد بن عيسى الدامغاني، ومحمد بن هارون
القطان، قالا ثنا < 24-486 > سفيان، عن الأسود بن قيس سمع جندبا البجليّ يقول: أبطأ
جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى قال المشركون: ودّع محمدا ربه، فأنـزل
الله: { وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى
) . حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الأسود بن قيس،
أنه سمع جندبا البجلي قال: قالت امرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أرى صاحبك
إلا قد أبطأ عنك، فنـزلت هذه الآية: { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } . حدثنا
ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأسود بن قيس، قال سمعت جندب بن عبد الله
يقول: إن امرأة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أرى شيطانك إلا قد تركك،
فنـزلت: { وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا
قَلَى } . حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا سليمان
الشيباني، عن عبد الله بن شدّاد أن خديجة قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم ما أرى
ربك إلا قد قلاك، فأنـزل الله: { وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } . حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن
قتادة { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } قال: إن جبريل عليه السلام أبطأ عليه
بالوحي، فقال ناس من الناس، وهم يومئذ بمكة، ما نرى صاحبك إلا قد قلاك فودّعك،
فأنـزل الله ما تسمع: { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } . حدثنا ابن عبد
الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ
وَمَا قَلَى } قال: أبطأ عليه جبريل، فقال المشركون: قد قلاه ربه وودّعه، فأنـزل
الله: { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } . حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا
معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ
وَمَا قَلَى } مكث جبريل عن محمد صلى الله عليه وسلم، فقال المشركون: قد ودّعه ربه
وقلاه، فأنـزل الله هذه الآية . حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي،
قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } قال:
لما نـزل عليه القرآن، أبطأ عنه جبريل أياما، فعُيّر بذلك، فقال المشركون: ودّعه
ربه وقلاه، فأنـزل الله: { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } . حدثنا أبو
كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال أبطأ جبريل على النبيّ صلى
الله عليه وسلم، فجزع جزعا شديدا، وقالت خديجة: أرى ربك قد قلاك، مما نرى من جزعك،
قال: فنـزلت { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا
قَلَى }... إلى آخرها .
وقوله: { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولَى } يقول تعالى ذكره: وللدار الآخرة،
وما أعد الله لك فيها، خير لك من الدار الدنيا وما فيها. يقول: فلا تحزن على ما
فاتك منها، فإن الذي لك عند الله خير لك منها.
وقوله: { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } يقول تعالى ذكره: ولسوف يعطيك
يا محمد ربك في الآخرة من فواضل نعمه، حتى ترضى. وقد اختلف أهل العلم في الذي وعده
من العطاء، فقال بعضهم: هو ما حدثني به موسى بن سهل الرملي، قال: ثنا عمرو بن هاشم،
قال: سمعت الأوزاعيّ يحدّث، عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر المخزومي، عن
عليّ بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، قال: عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما
هو مفتوح على أمته من بعده كَفْرا كَفْرا، فسرّ بذلك، فأنـزل الله { وَلَسَوْفَ
يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } فأعطاه في الجنة ألف قصر، في كلّ قصر، ما ينبغي من
الأزواج والخدم . حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثني روّاد بن الجراح، عن
الأوزاعيّ، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن عليّ بن عبد الله بن عباس، في قوله: (
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } قال: ألف قصر من لؤلؤ، ترابهنّ المسك،
وفيهنّ ما يصلحهنّ. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } ، وذلك يوم القيامة. وقال آخرون في ذلك
ما حدثني به عباد بن يعقوب، قال: ثنا الحكم بن ظهير، عن السديّ، عن ابن عباس، في
قوله: { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } قال: من رضا محمد صلى الله عليه
وسلم ألا يدخل أحد من أهل بيته النار.
وقوله: { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى } يقول تعالى ذكره معدّدا على نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم نعمه عنده، ومذكِّره آلاءه قِبَله: ألم يجدك يا محمد ربك يتيمًا
فآوى، يقول: فجعل لك مأوى تأوي إليه، ومنـزلا تنـزله .
{ وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى } ووجدك على غير الذي أنت عليه اليوم. وقال السديّ في
ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن السديّ{ وَوَجَدَكَ ضَالا } قال: كان
على أمر قومه أربعين عاما. وقيل: عُنِيَ بذلك: ووجدك في قوم ضلال فهداك.
وقوله: { وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى } يقول: ووجدك فقيرا فأغناك، يقال منه: عال
فلان يَعيل عَيْلَة، وذلك إذا افتقر؛ ومنه قول الشاعر: فَمَــا يَــدْرِي
الفَقِـيرُ مَتـى غنـاهُ وَمــا يَــدْرِي الغَنِـيُّ مَتـى يَعِيـلُ (6) يعني: متى
يفتقر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد،
قال: ثنا مهران، عن سفيان { وَوَجَدَكَ عَائِلا } فقيرا. وذُكر أنها في مصحف عبد
الله { وَوَجَدَكَ عَدِيما فآوَى }. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن
قتادة { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ
عَائِلا فَأَغْنَى } قال: كانت هذه منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل أن
يبعثه الله سبحانه وتعالى.
القول في تأويل قوله تعالى : فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) يقول تعالى
ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { فَأَمَّا الْيَتِيمَ } يا محمد { فَلا
تَقْهَرْ } يقول: فلا تظلمه، فتذهب بحقه، استضعافًا منك له. كما حدثنا بشر، قال:
ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا < 24-489 > تَقْهَرْ
) : أي لا تظلم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ } قال: تُغْمِصْه وَتحْقِره . وذُكر أن ذلك في
مصحف عبد الله { فَلا تَكْهَرْ }.
{ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } : يقول: فاذكره. وبنحو الذي قلنا في ذلك
قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن أبي
بشر، عن مجاهد، في قوله: { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } قال: بالنبوّة.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: ثنا سعيد بن إياس الجريريّ، عن أبى نضرة،
قال: كان المسلمون يرون أن من شُكْرِ النعم أن يحدّثَ بها. آخر تفسير سورة الضحى،
ولله الحمد والشكر .
نهاية تفسير السورة - تفسير القرآن الكريم
End of Tafseer of The Surah - The Holy Quran Tafseer