أما الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تقدم الكلام عليها في أوائل سورة البقرة
وقال أبو الضحى عن ابن عباس في قوله تعالى { الر } أي أنا الله أرى. وكذلك قال الضحاك
وغيره { تلك آيات الكتاب الحكيم } أي هذه آيات القرآن المحكم المبين وقال مجاهد { الر
تلك آيات الكتاب الحكيم } وقال الحسن التوراة والزبور وقال قتادة { تلك آيات الكتاب }
قال الكتب التي كانت قبل القرآن. وهذا القول لا أعرف وجهه ولا معناه.
وقوله { أكان للناس عجبا } الآية. يقول تعالى منكرا على من تعجب من الكفار من إرسال
المرسلين من البشر كما أخبر تعالى عن القرون الماضين من قولهم { أبشر يهدوننا } وقال
هود وصالح لقومهما { أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم } وقال تعالى مخبرا
عن كفار قريش أنهم قالوا { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } وقال الضحاك عن
ابن عباس لما بعث الله تعالى محمدا صلي الله عليه وسلم رسولا أنكرت العرب ذلك أو من
أنكر منهم فقالوا الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد قال فأنزل الله عز وجل }
أكان للناس عجبا } الآية. وقوله { أن لهم قدم صدق عند ربهم } اختلفوا فيه فقال علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق } يقول سبقت لهم
السعادة في الذكر الأول وقال العوفي عن ابن عباس { أن لهم قدم صدق عند ربهم } يقول
أجرا حسنا بما قدموا وكذا قال الضحاك والربيع بن أنس وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم
وهذا كقوله تعالى { لينذر بأسا شديدا } الآية. وقال مجاهد } أن لهم قدم صدق عند ربهم }
قال الأعمال الصالحة صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم قال: ومحمد صلي الله عليه وسلم
يشفع لهم وكذا قال زيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقال قتادة سلف صدق عند ربهم واختار
ابن جرير قول مجاهد أن الأعمال الصالحة التي قدموها كما يقال له قدم في الإسلام
كقول حسان: لنا القدم العليا إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع وقول ذي الرمة:
لكم قدم لا ينكر الناس إنها مع الحسب العادي طمت على البحر وقوله تعالى { قال
الكافرون إن هذا لساحر مبين } أي مع أنا بعثنا إليهم رسولا منهم رجلا من جنسهم بشيرا
ونذيرا{ قال الكافرون إن هذا لساحر مبين } أي ظاهروهم الكاذبون في ذلك.
يخبر تعالى أنه رب العالم جميعه وأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام قيل كهذه
الأيام وقيل كل يوم كألف سنة مما تعدون كما سيأتي بيانه ثم استوى على العرش والعرش
أعظم المخلوقات وسقفها قال ابن أبي حاتم: حدثنا حجاج بن حمزة حدثنا أبو أسامة حدثنا
إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت سعدا الطائي يقول: العرش ياقوتة حمراء وقال وهب بن
منبه خلقه الله من نوره وهذا غريب وقوله { يدبر الأمر } أي يدبر أمر الخلائق { لا يعزب
عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } ولا يشغله شأن عن شأن ولا تغلطه المسائل
ولا يتبرم بإلحاح الملحين ولا يلهيه تدبير الكبير عن الصغير في الجبال والبحار
والعمران والقفار { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } الآية { وما تسقط من
ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } وقال
الدراوردي عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة أنه قال حين نزلت هذه الآية { إن ربكم
الله الذي خلق السموات والأرض } الآية لقيهم ركب عظيم لا يرون إلا أنهم من العرب
فقالوا لهم من أنتم؟ قالوا من الجن خرجنا من المدينة أخرجتنا هذه الآية رواه أبن
أبي حاتم وقوله { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } كقوله تعالى { من ذا الذي يشفع عنده
إلا بإذنه } وقوله تعالى { وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن
يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقوله { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } وقوله
{ ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون } أي أفردوه بالعبادة وحده لا شريك له { أفلا
تذكرون } أي أيها المشركون في أمركم تعبدون مع الله إلها غيره وأنتم تعلمون أنه
المتفرد بالخلق كقوله تعالى { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله { وقوله { قل من رب
السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله قل أفلا تتقون } وكذا الآية التي قبلها
والتي بعدها.
يخبر تعالى أن إليه مرجع الخلائق يوم القيامة لا يترك منهم أحدا حتى يعيده كما بدأه
ثم ذكر تعالى أنه كما بدأ الخلق كذلك يعيده { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون
عليه } { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط } أي بالعدل والجزاء الأوفى
{ والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } أي بسبب كفرهم يعذبون
يوم القيامة بأنواع العذاب من سموم وحميم وظل من يحموم { هذا فليذوقوه حميم وغساق
وآخر من شكله أزواج } { هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن }.
يخبر تعالى عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه جعل الشعاع
الصادر عن جرم الشمس ضياء وجعل شعاع القمر نورا هذا فن وهذا فن آخر ففاوت بينهما
لئلا يشتبها وجعل سلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل وقدر القمر منازل فأول
ما يبدو صغيرا ثم يتزايد نوره وجرمه حتى يستوسق ويكمل إبداره ثم يشرع في النقص حتى
يرجع إلى حالته الأولى في تمام شهر كقوله تعالى { والقمر قدرناه منازل حتى عاد
كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في
فلك يسبحون } وقوله تعالى { والشمس والقمر حسبانا } الآية وقوله في هذه الآية الكريمة
{ وقدره } أي القمر { منازل لتعلموا عدد السنين والحساب } فبالشمس تعرف الأيام وبسير
القمر تعرف الشهور والأعوام { ما خلق الله ذلك إلا بالحق } أي لم يخلقه عبثا بل له
حكمة عظيمة في ذلك وحجة بالغة كقوله تعالى { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما
باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار } وقال تعالى { أفحسبتم أنما
خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش
الكريم } وقوله { نفصل الآيات } أي نبين الحجج والأدلة { لقوم يعلمون }.
{ إن في اختلاف الليل والنهار } أي تعاقبهما إذا جاء هذا ذهب هذا وإذا ذهب هذا جاء
هذا لا يتأخر عنه شيئا كقوله تعالى { يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا } وقال { لا الشمس
ينبغي لها أن تدرك القمر } الآية. وقال تعالى { فالق الإصباح وجعل الليل سكنا } الآية
وقوله { وما خلق الله في السموات والأرض } أي من الآيات الدالة على عظمته تعالى كما
قال { وكأين من آية في السموات والأرض } الآية وقوله { قل انظروا ماذا في السموات
والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } وقال { أفلم يروا إلى ما بين
أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض } وقال { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل
والنهار لآيات لأولي الألباب } أي العقول: وقال ههنا { لآيات لقوم يتقون } أي عقاب
الله وسخطه وعذابه.
يخبر الله تعالى عن حال الأشقياء الذين كفروا بلقاء الله يوم القيامة ولا يرجون في
لقائه شيئا ورضوا بهذه الحياة الدنيا واطمأنت إليها نفوسهم. قال الحسن: والله ما
زينوها ولا رفعوها حتى رضوا بها وهم غافلون عن آيات الله الكونية فلا يتفكرون فيها
والشرعية فلا يأتمرون بها.
هذا إخبار عن حال السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين وامتثلوا ما أمروا به
فعملوا الصالحات بأنه سيهديهم بإيمانهم يحتمل أن تكون الباء ههنا سببية فتقديره أي
بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة على الصراط المستقيم حتى يجوزوه
ويخلصوا إلى الجنة. ويحتمل أن تكون للإستعانة كما قال مجاهد في قوله { يهديهم ربهم
بإيمانهم } قال يكون لهم نورا يمشون به; وقال ابن جريج في الآية يمثل له عمله في
صورة حسنة وريح طيبة إذا قام من قبره يعارض صاحبه ويبشره بكل خير فيقول له من أنت؟
فيقول أنا عملك فيجعل له نوره من بين يديه حتى يدخله الجنة فذلك قوله تعالى { يهديهم
ربهم بإيمانهم } والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة فيلزم صاحبه ويلاده
حتى يقذفه في النار وروي نحوه عن قتادة مرسلا فالله أعلم.
{ دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب
العالمين } أي هذا حال أهل الجنة. قال ابن جريج أخبر أن قوله { دعواهم فيها سبحانك
اللهم } قال إذا مر بهم الطير يشتهونه قالوا سبحانك اللهم وذلك دعواهم فيأتيهم الملك
بما يشتهونه فيسلم عليهم فيردون عليه فذلك قوله { وتحيتهم فيها سلام } قال فإذا أكلوا
حمدوا الله ربهم فذلك قوله { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } وقال مقاتل بن
حيان: إذا أراد أهل الجنة أن يدعوا بالطعام قال أحدهم { سبحانك اللهم } قال فيقوم على
أحدهم عشرة آلاف خادم مع كل خادم صحفة من ذهب فيها طعام ليس في الأخرى قال فيأكل
منهن كلهن وقال سفيان الثوري: إذا أراد أحدهم أن يدعو بشيء قال { سبحانك اللهم } وهذه
الآية فيها شبه من قوله { تحيتهم يوم يلقونه سلام } الآية. وقوله { لا يسمعون فيها
لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما } وقوله { سلام قولا من رب رحيم } وقوله
{ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم } الآية وقوله { وآخر دعواهم أن الحمد
للّه رب العالمين } هذا فيه دلالة على أنه تعالى هو المحمود أبدا المعبود على طول
المدى ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره وفي ابتداء كتابه وعند ابتداء
تنزيله حيث يقول تعالى { الحمد للّه الذي أنزل على عبده الكتاب } { الحمد للّه الذي
خلق السموات والأرض } إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها وأنه المحمود في
الأولى والآخرة في الحياة الدنيا وفي الآخرة في جميع الأحوال ولهذا جاء في الحديث
{ إن أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس } وإنما يكون ذلك كذلك لما
يرون من تزايد نعم الله عليهم فتكرر وتعاد وتزداد فليس لها انقضاء ولا أمد فلا إله
إلا هو ولا رب سواه.
يخبر تعالى عن حلمه ولطفه بعباده أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم أو أموالهم
أو أولادهم في حال ضجرهم وغضبهم وأنه يعلم منهم عدم القصد بالشر إلى إرادة ذلك
فلهذا لا يستجيب لهم والحالة هذه لطفا ورحمة كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو
لأموالهم أو لأولادهم بالخير والبركة والنماء ولهذا قال { ولو يعجل الله للناس الشر
استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم } الآية أي لو استجاب لهم كل ما دعوه به في ذلك
لأهلكهم ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر
البزار في مسنده: حدثنا محمد بن معمر حدثنا يعقوب بن محمد حدثنا حاتم بن إسماعيل
حدثنا يعقوب بن مجاهد أبو جزرة عن عبادة بن الوليد حدثنا جابر قال: قال رسول الله
صلي الله عليه وسلم { لا تدعوا على أنفسكم لا تدعوا على أولادكم لا تدعوا على
أموالكم لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم } ورواه أبو داود من حديث
حاتم بن إسماعيل به. وقال البزار وتفرد به عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت
الأنصاري لم يشاركه أحد فيه وهذا كقوله تعالى { ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير }
الآية. وقال مجاهد في تفسير هذه الآية { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير }
الآية هو قول الإنسان لولده أو ماله إذا غضب عليه: اللهم لا تبارك فيه والعنه. فلو
يعجل لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم.
يخبر تعالى عن الإنسان وضجره وقلقه إذا مسه الشر { وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض } أي
كثير وهما في معنى واحد وذلك لأنه إذا أصابته شدة قلق لها وجزع منها وأكثر الدعاء
عند ذلك فدعا الله في كشفها ورفعها عنه في حال اضطجاعه وقعوده وقيامه وفي جميع
أحواله فإذا فرج الله شدته وكشف كربته أعرض ونأى بجانبه وذهب كأنه ما كان به من ذلك
شيء { مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه } ثم ذم تعالى من هذه صفته وطريقته فقال { كذلك زين
للمسرفين ما كانوا يعملون } فأما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد
فإنه مستثنى من ذلك كقوله تعالى { إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات } وكقول رسول الله
صلي الله عليه وسلم { عجبا لأمر المؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له: إن
أصابته ضراء فصبر كأن خيرا له وإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا
للمؤمن }.
ثم استخلف الله هؤلاء القوم من بعدهم وأرسل إليهم رسولا لينظر طاعتهم له واتباعهم
رسوله وفي صحيح مسلم من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلي الله
عليه وسلم { إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا
الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من النساء } وقال ابن جرير:
حدثني المثنى حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة بهذا أنبأنا حماد عن ثابت البناني عن
عبدالرحمن بن أبي ليلى أن عوف بن مالك قال لأبي بكر: رأيت فيما يرى النائم كأن سببا
دلي من السماء فانتشط رسول الله صلي الله عليه وسلم ثم أعيد فانتشط أبو بكر ثم ذرع
الناس حول المنبر ففضل عمر بثلاثة أذرع حول المنبر فقال عمر: دعنا من رؤياك لا أرب
لنا فيها فلما استخلف عمر قال: يا عوف رؤياك؟ قال وهل لك في رؤياي من حاجة أو لم
تنتهرني؟ قال ويحك إني كرهت أن تنعى لخليفة رسول الله صلي الله عليه وسلم نفسه فقص
عليه الرؤيا حتى إذا بلغ ذرع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع قال: أما إحداهن
فإنه كان خليفة وأما الثانية فإنه لا يخاف في الله لومة لائم وأما الثالثة فإنه
شهيد. قال: فقال يقول الله تعالى { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف
تعملون } فقد استخلفت يا ابن أم عمر فانظر كيف تعمل؟ وأما قوله فإني لا أخاف في الله
لومة لائم فيما شاء الله وأما قوله شهيد فأنى لعمر الشهادة والناس مطيفون به؟.
يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش الجاحدين المعرضين عنه أنهم إذا قرأ عليهم
الرسول صلي الله عليه وسلم كتاب الله وحجته الواضحة قالوا له ائت بقرآن غير هذا أي
رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر أو بدله إلى وضع آخر قال الله تعالى لنبيه صلى الله
عليه وآله وسلم { قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي } أي ليس هذا إلي إنما أنا
عبد مأمور ورسول مبلغ عن الله { إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب
يوم عظيم }.
ثم قال محتجا عليهم في صحة ما جاءهم به.{ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم
به } أي هذا إنما جئتكم به عن إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته والدليل على أني
لست أتقوله من عندي ولا أفتريته أنكم عاجزون عن معارضته وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي
منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله عز وجل لا تنتقدون علي شيئا تغمصوني به ولهذا
قال: { فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون } أي أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق
من الباطل ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ومن معه فيما سأله من صفة النبي
صلي الله عليه وسلم قال هرقل لأبي سفيان هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما
قال؟ قال أبو سفيان فقلت لا وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين ومع
هذا اعترف بالحق { والفضل ما شهدت به الأعداء } فقال له هرقل: فقد أعرف أنه لم يكن
ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك
الحبشة: بعث الله فينا رسولا نعرف صدقه ونسبه وأمانته وقد كانت مدة مقامه عليه
السلام بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة وعن سعيد بن المسيب ثلاثا وأربعين سنة
والصحيح المشهور الأول.
يقول تعالى لا أحد أظلم ولا أعتى ولا أشد إجراما { ممن افترى على الله كذبا } وتقول
على الله وزعم أن الله أرسله ولم يكن كذلك فليس أحد أكبر جرما ولا أعظم ظلما من هذا
ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء؟ فإنه من قال هذه
المقالة صادقا أو كاذبا فلا بد أن الله ينصب عليه من الأدلة على بره أو فجوره ما هو
أظهر من الشمس; فإن الفرق بين محمد صلي الله عليه وسلم وبين مسيلمة الكذاب لمن
شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى وبين نصف الليل في حندس الظلماء فمن شيم كل
منهما وأفعاله وكلامه يستدل من له بصيرة على صدق محمد صلي الله عليه وسلم وكذب
مسيلمة الكذاب وسجاح والأسود العنسي قال عبدالله بن سلام لما قدم رسول الله صلي
الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس فكنت فيمن انجفل فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس
بوجه رجل كذاب قال فكان أول ما سمعته يقول { يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا
الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلون الجنة بسلام } ولما قدم وفد
ضمام بن ثعلبة على رسول الله صلي الله عليه وسلم في قومه بني سعد بن بكر قال لرسول
الله صلي الله عليه وسلم فيما قال له: من رفع هذه السماء؟ قال { الله } قال ومن نصب
هذه الجبال؟ قال { الله } قال ومن سطح هذه الأرض؟ قال { الله } قال: فبالذي رفع هذه
السماء ونصب هذه الجبال وسطح هذه الأرض آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال { اللهم نعم }
ثم سأله عن الصلاة والزكاة والحج والصيام ويحلف عند كل واحدة هذه اليمين ويحلف له
رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال له: صدقت والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا
أنقص فاكتفي هذا الرجل بمجرد هذا وقد أيقن بصدقه صلوات الله وسلامه عليه بما رأى
وشاهد من الدلائل الدالة عليه وقال حسان بن ثابت: لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت
بديهته تأتيك بالخبر وأما مسيلمة فمن شاهده من ذوي البصائر علم أمره لا محالة
بأقواله الركيكة التي ليست بفصيحة وأفعاله غير الحسنة بل القبيحة وقرآنه الذي يخلد
به في النار يوم الحسرة والفضيحة وكم من فرق بين قوله تعالى { الله لا إله إلا هو
الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } إلى آخرها وبين قول مسيلمة قبحه الله ولعنه: يا
ضفدع بنت ضفدعين نقي كم تنقين لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين. وقوله قبحه الله:
لقد أنعم الله على الحبلى إذ أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشا. وقوله خلده
الله في نار جهنم وقد فعل: الفيل وما أدراك ما الفيل له خرطوم طويل وقوله أبعده
الله عن رحمته: والعاجنات عجنا والخابزات خبزا واللاقمات لقما إهالة وسمنا إن قريش
قوم يعتدون. إلى غير ذلك من الخرافات والهذيانات التي يأنف الصبيان أن يلفظوا بها
إلا على وجه السخرية والاستهزاء ولهذا أرغم الله أنفه وشرب يوم الحديقة حتفه ومزق
شمله ولعنه صحبه وأهله. وقدموا على الصديق تائبين وجاءوا في دين الله راغبين فسألهم
الصديق خليفة الرسول صلوات الله وسلامه عليه ورضي عنه أن يقرءوا عليه شيئا من قرآن
مسيلمة لعنه الله فسألوه أن يعفيهم من ذلك فأبى عليهم إلا أن يقرءوا شيئا منه
ليسمعه من لم يسمعه من الناس فيعرفوا فضل ما هم عليه من الهدى والعلم فقرءوا عليه
من هذا الذي ذكرناه وأشباهه فلما فرغوا قال لهم الصديق رضي الله عنه ويحكم أين كان
يذهب بعقولكم؟ والله إن هذا لم يخرج من إل وذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة
وكان صديقا له في الجاهلية وكان عمرو لم يسلم بعد فقال له مسيلمة ويحك يا عمرو ماذا
أنزل على صاحبكم يعني رسول الله صلي الله عليه وسلم في هذه المدة؟ فقال: لقد سمعت
أصحابه يقرءون سورة عظيمة قصيرة فقال: وما هي فقال { والعصر إن الإنسان لفي خسر } إلى
آخر السورة ففكر مسيلمة ساعة ثم قال وأنا قد أنزل علي مثله فقال وما هو؟ فقال: يا
وبر يا وبر إنما أنت أذنان وصدر وسائرك حفر نقر. كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو:
والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب. فإذا كان هذا من مشرك في حال شركه لم يشتبه
عليه حال محمد صلي الله عليه وسلم وصدقه وحال مسيلمة لعنه الله وكذبه فكيف بأولي
البصائر والنهى وأصحاب العقول السليمة المستقيمة والحجا ولهذا قال الله تعالى { فمن
أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل
ما أنزل الله } وقال في هذه الآية الكريمة { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب
بآياته إنه لا يفلح المجرمون } وكذلك من كذب بالحق الذي جاءت به الرسل وقامت عليه
الحجج لا أحد أظلم منه كما جاء في الحديث { أعتى الناس على الله رجل قتل نبيا أو
قتله نبي }.
ينكر تعالى على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره ظانين أن تلك الآلهة تنفعهم
شفاعتها عند الله فأخبر تعالى أنها لا تضر ولا تنفع ولا تملك شيئا ولا يقع شيء مما
يزعمون فيها ولا يكون هذا أبدا ولهذا قال تعالى { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في
السموات ولا في الأرض } وقال ابن جرير: معناه أتخبرون الله بما لا يكون في السموات
ولا في الأرض؟ ثم نزه نفسه الكريمة عن شركهم وكفرهم فقال { سبحانه وتعالى عما
يشركون }.
ثم أخبر تعالى أن هذا الشرك حادث الناس كائن بعد أن لم يكن وأن الناس كلهم كانوا
على دين واحد وهو الإسلام. قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على
الإسلام ثم وقع الاختلاف بين الناس وعبدت الأصنام والأنداد والأوثان فبعث الله
الرسل بآياته وبيناته وحججه البالغة وبراهينه الدامغة { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى
من حي عن بينة } وقوله { ولولا كلمة سبقت من ربك } الآية أي لولا ما تقدم من الله
تعالى أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه وأنه قد أجل الخلق إلى أجل معدود
لقضى بينهم فيما اختلفوا فيه فأسعد المؤمنين وأعنت الكافرين.
أي ويقول هؤلاء الكفرة المكذبون المعاندون: لولا أنزل على محمد آية من ربه يعنون
كما أعطى الله ثمود الناقة أو أن يحول لهم الصفا ذهبا أو يزيح عنهم جبال مكة ويجعل
مكانها بساتين وأنهارا أو نحو ذلك مما الله عليه قادر ولكنه حكيم في أفعاله وأقواله
كما قال تعالى: { تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار
ويجعل لك قصورا بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا } وكقوله { وما منعنا
أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون } الآية. يقول تعالى: إن سنتي في خلقي أني
إذا آتيتهم ما سألوا فإن آمنوا وإلا عاجلتهم بالعقوبة. ولهذا لما خير رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم بين إعطائهم ما سألوا فإن آمنوا وإلا عذبوا وبين إنظارهم اختار
إنظارهم كما حلم عنهم غير مرة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولهذا قال
تعالى إرشادا لنبيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى الجواب عما سألوا { فقل إنما
الغيب للّه } أي الأمر كله للّه وهو يعلم العواقب في الأمور { فانتظروا إنى معكم من
المنتظرين } أي إن كنتم لا تؤمنون حتى تشاهدوا ما سألتم فانتظروا حكم الله في وفيكم.
هذا مع أنهم قد شاهدوا من آياته صلي الله عليه وسلم أعظم مما سألوا حين أشار
بحضرتهم إلى القمر ليلة إبداره فانشق اثنتين فرقة من وراء الجبل وفرقة من دونه.
وهذا أعظم من سائر الآيات الأرضية مما سألوا وما لم يسألوا ولو علم الله منهم أنهم
سألوا ذلك استرشادا وتثبيتا لأجابهم ولكن علم أنهم إنما يسألون عنادا وتعنتا فتركهم
فيما رابهم وعلم أنهم لا يؤمن منهم أحد كقوله تعالى { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك
لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية } الآية وقوله تعالى { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة
وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله } الآية
ولما فيهم من المكابرة كقوله تعالى { ولو فتحنا عليهم بابا من السماء } الآية وقوله
تعالى { وإن يروا كسفا من السماء ساقطا } الآية وقال تعالى { ولو نزلنا عليك كتابا في
قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين } فمثل هؤلاء أقل من أن
يجابوا إلى ما سألوه لأنه لا فائده في جوابهم لأنه دائر على تعنتهم وعنادهم لكثرة
فجورهم وفسادهم ولهذا قال { فانتظروا إني معكم من المنتظرين }.
يخبر تعالى أنه إذا أذاق الناس رحمة من بعد ضراء مستهم كالرخاء بعد الشدة والخصب
بعد الجدب والمطر بعد القحط ونحو ذلك { إذا لهم مكر في آياتنا } قال مجاهد استهزاء
وتكذيب كقوله { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما } الآية وفي
الصحيح أن رسول الله صلي الله عليه وسلم صلى بهم الصبح على أثر سماء كانت من الليل
أي مطر ثم قال { هل تدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ } قالوا الله ورسوله أعلم قال { قال
أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر
بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب } وقوله { قل
الله أسرع مكرا } أي أشد استدراجا وإمهالا حتى يظن الظان من المجرمين أنه ليس بمعذب
وإنما هو في مهلة ثم يؤخذ على غرة منه والكاتبون الكرام يكتبون عليه جميع ما يفعله
ويحصونه عليه ثم يعرضون على عالم الغيب والشهادة فيجازيه على الجليل والحقير
والنقير والقطمير.
ثم أخبر تعالى أنه { هو الذي يسيركم في البر والبحر } أي يحفظكم ويكلؤكم بحراسته { حتى
إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها } أي بسرعة سيرهم رافقين فبينما
هم كذلك إذ { جاءتها } أي تلك السفن { ريح عاصف } أي شديدة { وجاءهم الموج من كل مكان }
أي اغتلم البحر عليهم { وظنوا أنهم أحيط بهم } أي هلكوا { دعوا الله مخلصين له الدين }
أي لا يدعون معه صنما ولا وثنا بل يفردونه بالدعاء والابتهال كقوله تعالى { وإذا
مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان
كفورا } * وقال ههنا { دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه } أي هذه الحال
{ لنكونن من الشاكرين } أي لا نشرك بك أحدا ولنفردنك بالعبادة هناك كما أفردناك
بالدعاء.
ههنا قال تعالى { فلما أنجاهم } أي من تلك الورطة { إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق }
أي كأن لم يكن من ذلك شيء { كأن لم يدعنا إلى ضر مسه } ثم قال تعالى { يا أيها الناس
إنما بغيكم على أنفسكم } أي إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم ولا تضرون به أحدا
غيركم كما جاء في الحديث { ما من ذنب أجدر من أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما
يدخر الله لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم } وقوله { متاع الحياة الدنيا } أي
إنما لكم متاع في الحياة الدنيا الدنيئة الحقيرة { ثم إلينا مرجعكم } أي مصيركم
ومآلكم { فننبئكم } أي فنخبركم بجميع أعمالكم ونوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله
ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
ضرب تبارك وتعالى مثلا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها بالنبات
الذي أخرجه الله من الأرض بماء أنزل من السماء مما يأكل الناس من زروع وثمار على
اختلاف أنواعها وأصنافها وما تأكل الأنعام من أب وقضب وغير ذلك { حتى إذا أخذت الأرض
زخرفها } أي زينتها الفانية { وازينت } أي حسنت بما خرج في رباها من زهور نضرة مختلفة
الأشكال والألوان { وظن أهلها } الذين زرعوها وغرسوها { أنهم قادرون عليها } أي على
جذاذها وحصادها فبينما هم كذلك إذ جاءتها صاعقة أو ريح شديدة باردة فأيبست أوراقها
وأتلفت ثمارها ولهذا قال تعالى { أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا } أي
يابسا بعد الخضرة والنضارة { كأن لم تغن بالأمس } أي كأنها ما كانت حينا قبل ذلك وقال
قتادة: كأن لم تغن كأن لم تنعم وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن. ولهذا جاء في
الحديث { يؤتى بأنعم أهل الدنيا فيغمس في النار غمسة فيقال له هل رأيت خيرا قط؟ هل
مر بك نعيم قط ؟ فيقول لا ويؤتى بأشد الناس عذابا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة
ثم يقال له هل رأيت بؤسا قط؟ فيقول لا } وقال تعالى إخبارا عن المهلكين { فأصبحوا في
دراهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها } ثم قال تعالى { كذلك نفصل الآيات } أي نبين الحجج
والأدلة { لقوم يتفكرون } فيعتبرون بهذا المثل في زوال الدنيا من أهلها سريعا مع
اغترارهم بها وتمكنهم وثقتهم بمواعيدها وتفلتها عنهم فإن من طبعها الهرب ممن طلبها
والطلب لمن هرب منها وقد ضرب الله تعالى مثل الدنيا بنبات الأرض في غير ما آية من
كتابه العزيز فقال في سورة الكهف { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من
السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء
مقتدرا } وكذا في سورة الزمر والحديد يضرب الله بذلك مثل الحياة الدنيا. وقال ابن
جرير: حدثني الحارث حدثنا عبدالعزيز حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبدالرحمن
بن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام قال: سمعت مروان يعني ابن الحكم يقرأ
على المنبر: { وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها وما كان الله ليهلكهم إلا بذنوب
أهلها } قال: قد قرئتها وليست في المصحف فقال عباس بن عبدالله بن عباس: هكذا يقرؤها
ابن عباس فأرسلوا إلى ابن عباس فقال: هكذا أقرأني أبي بن كعب وهذه قراءة غريبة
وكأنها زيدت للتفسير.
لما ذكر تعالى الدنيا وسرعة زوالها رغب في الجنة ودعا إليها وسماها دار السلام أي
من الآفات والنقائص والنكبات فقال { والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى
صراط مستقيم } قال أيوب عن أبي قلابة عن النبي صلي الله عليه وسلم قال { قيل لي لتنم
عينك وليعقل قلبك ولتسمع أذنك فنامت عيني وعقل قلبي وسمعت أذني ثم قيل لي مثلي ومثل
ما جئت كمثل سيد بني دارا ثم صنع مأدبة وأرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل
من المأدبة ورضي عنه السيد ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة
ولم يرض عنه السيد والله السيد والدار الإسلام والمأدبة الجنة والداعي محمد صلي
الله عليه وسلم } وهذا حديث مرسل وقد جاء متصلا من حديث الليث عن خالد بن يزيد عن
سعيد بن أبي هلال عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلي
الله عليه وسلم يوما فقال { إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند
رجلي يقول أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا فقال: اسمع سمعت أذنك واعقل عقل قلبك إنما
مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث
رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه فالله الملك والدار
الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد الرسول فمن أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام
دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل منها } رواه ابن جرير وقال قتادة: حدثني خليد العصري عن
أبي الدرداء مرفوعا قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم { ما من يوم طلعت فيه
الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين: يا أيها الناس
هلموا إلى ربكم إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهي } قال وأنزل في قوله يا أيها الناس
هلموا إلى ربكم { والله يدعو إلى دار السلام } الآية. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح: الحسنى في الدار
الآخرة كقوله تعالى { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } وقوله { وزيادة } هي تضعيف ثواب
الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وزيادة على ذلك أيضا ويشمل ما يعطيهم
الله في الجنان من القصور والحور والرضا عنهم وما أخفاه لهم من قرة أعين وأفضل من
ذلك وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه لا يستحقونها
بعملهم بل بفضله ورحمته وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم عن أبي بكر
الصديق وحذيفة بن اليمان وعبدالله بن عباس وسعيد بن المسيب وعبدالرحمن بن أبي ليلى
وعبدالرحمن بن سابط ومجاهد وعكرمة وعامر بن سعد وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدي
ومحمد بن إسحاق وغيرهم من السلف والخلف وقد وردت فيه أحاديث كثيرة عن النبي صلي
الله عليه وسلم فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد: حدثنا عفان أخبرنا حماد بن سلمة عن
ثابت البناني عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن صهيب رضي الله عنهم أن رسول الله صلي
الله عليه وسلم تلا هذه الآية { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } وقال { إذا دخل أهل
الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد
أن ينجزكموه فيقولون وما هو ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة
ويجرنا من النار؟ - قال - فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله
شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم } وهكذا رواه مسلم وجماعة من الأئمة
من حديث حماد بن سلمة به وقال ابن جرير: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال:
أخبرني شبيب عن أبان بن أبي تميمة الهجيمي أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول
الله صلي الله عليه وسلم { إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي يا أهل الجنة -
بصوت يسمع أولهم وآخرهم - إن الله وعدكم الحسنى وزيادة فالحسنى الجنة والزيادة
النظر إلى وجه الرحمن عز وجل } رواه أيضا ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر الهذلي عن
أبي تميمة الهجيمي به وقال ابن جرير أيضا: حدثنا ابن حميد حدثنا إبراهيم بن المختار
عن ابن جرير عن عطاء عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { للذين
أحسنوا الحسنى وزيادة } قال { النظر إلى وجه الرحمن عز وجل } وقال أيضا: حدثنا ابن
عبدالرحيم حدثنا عمر بن أبي سلمة سمعت زهيرا عمن سمع أبا العالية حدثنا أبي بن كعب
أنه سأل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل { للذين أحسنوا الحسنى
وزيادة } قال { الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل } ورواه ابن أبي حاتم
أيضا من حديث زهير به. وقوله تعالى { ولا يرهق وجوههم قتر } أي قتام وسواد في عرصات
المحشر كما يعتري وجوه الكفرة الفجرة من القترة والغبرة { ولا ذلة } أي هوان وصغار أي
لا يحصل لهم إهانة في الباطن ولا في الظاهر بل هم كما قال تعالى في حقهم { فوقاهم
الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا } أي نضرة في وجوههم وسرورا في قلوبهم جعلنا
الله منهم بفضله ورحمته آمين.
لما أخبر تعالى عن حال السعداء الذين يضاعف لهم الحسنات ويزدادون على ذلك عطف بذكر
حال الأشقياء فذكر تعالى عدله فيهم وأنه يجازيهم على السيئة بمثلها لا يزيدهم على
ذلك { وترهقهم } أي تعتريهم وتعلوهم ذلة من معاصيهم وخوفهم منها كما قال { وتراهم
يعرضون عليها خاشعين من الذل } الآية وقال تعالى { ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل
الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رءوسهم } الآيات. وقوله
{ ما لهم من الله من عاصم } أي مانع ولا واق يقيهم العذاب كقوله تعالى { يقول الإنسان
يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر } وقوله { كأنما أغشيت وجوههم }
الآية إخبار عن سواد وجوههم في الدار الآخرة كقوله تعالى { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه
فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما
الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون } وقوله تعالى { وجوه يومئذ مسفرة
ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة } الآية.
{ ويوم نحشرهم } أي أهل الأرض كلهم من جن وإنس وبر وفاجر كقوله { وحشرناهم فلم نغادر
منهم أحدا } { ثم نقول للذين أشركوا } الآية أي الزموا أنتم وهم مكانا معينا امتازوا
فيه عن مقام المؤمنين كقوله تعالى { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } وقوله { ويوم تقوم
الساعة يومئذ يتفرقون } وفي الآية الأخرى { يومئذ يصدعون } أي يصيرون صدعين وهذا يكون
إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء ولهذا قيل ذلك يستشفع المؤمنون إلى الله
تعالى أن يأتي لفصل القضاء ويريحنا من مقامنا هذا وفي الحديث الآخر { نحن يوم
القيامة على كوم فوق الناس } وقال الله تعالى في الآية الكريمة إخبارا عما يأمر به
المشركين وأوثانهم يوم القيامة { مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم } الآية أنهم
أنكروا عبادتهم وتبرءوا منهم كقوله { كلا سيكفرون بعبادتهم } الآية وقوله { إذ تبرأ
الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } وقوله { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب
له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء } الآية
وقوله في هذه الآية إخبارا عن قول الشركاء فيما راجعوا فيه عابديهم عند ادعائهم
عبادتهم.
أي ما كنا نشعر بها ولا نعلم بها وإنما كنتم تعبدوننا من حيث لا ندري بكم والله
شهيد بيننا وبينكم أنا ما دعوناكم إلى عبادتنا ولا أمرناكم بها ولا رضينا منكم بذلك
وفي هذا تبكيت عظيم للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره ممن لا يسمع ولا يبصر ولا
يغني عنهم شيئا ولم يأمرهم بذلك ولا رضي به ولا أراده بل تبرأ منهم في وقت أحوج ما
يكونون إليه وقد تركوا عبادة الحي القيوم السميع البصير القادر على كل شيء العليم
بكل شيء وقد أرسل رسله وأنزل كتبه آمرا بعبادته وحده لا شريك له ناهيا عن عبادة ما
سواه كما قال تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت
فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة } وقال تعالى { وما أرسلنا من قبلك من
رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال { واسأل من أرسلنا قبلك من
رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } والمشركون أنواع وأقسام قد ذكرهم الله في
كتابه وبين أحوالهم وأقوالهم ورد عليهم فيما هم فيه أتم رد.
أي في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما سلف من عملها من خير وشر
كقوله تعالى { يوم تبلى السرائر } وقال تعالى { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } وقال
تعالى { ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك
حسيبا } وقد قرأ بعضهم { هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت } وفسرها بعضهم بالقراءة وفسرها
بعضهم بمعنى تتبع ما قدمت من خير وشر وفسرها بعضهم بحديث { لتتبع كل أمة ما كانت
تعبد فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان
يعبد الطواغيت الطواغيت... { الحديث وقوله { وردوا إلى الله مولاهم الحق } أي ورجعت
الأمور كلها إلى الله الحكم العدل ففصلها وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار
{ وضل عنهم } أي ذهب عن المشركين { ما كانوا يفترون } أي ما كانوا يعبدون من دون الله
افتراء عليه.
يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته على وحدانية وإلاهيته فقال
تعالى { قل من يرزقكم من السماء والأرض } أي من ذا الذي ينزل من السماء ماء المطر
فيشق الأرض شقا بقدرته ومشيئته فيخرج منها { حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق
غلبا وفاكهة وأبا } أإله مع الله ؟ فسيقولون الله { أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك
رزقه } وقوله { أمن يملك السمع والأبصار } أي الذي وهبكم هذه القوة السامعة والقوة
الباصرة ولو شاء لذهب بها ولسلبكم إياها كقوله تعالى { قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم
السمع والأبصار } الآية وقال { قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم } الآية وقوله
{ ومن يخرج الحي من الميت من ويخرج الميت من الحي } أي بقدرته العظيمة ومنته العميمة;
وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك وأن الآية عامة لذلك كله وقوله { ومن يدبر الأمر } أي من
بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه
ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون { يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن }
فالملك كله العلوي والسفلي وما فيهما من ملائكة وإنس وجان فقيرون إليه عبيد له
خاضعون لديه { فسيقولون الله } أي وهم يعلمون ذلك ويعترفون به { فقل أفلا تتقون } أي
أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم.
الآية أي فهذا الذي اعترفتم بأنه فاعل ذلك كله هو ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن
يفرد بالعبادة { فماذا بعد الحق إلا الضلال } أي فكل معبود سواه باطل لا إله إلا هو
واحد لا شريك له { فأنى تصرفون } أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة ما سواه وأنتم
تعلمون أنه الرب الذي خلق كل شيء والمتصرف في كل شيء.
وقوله { كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا } الآية أي كما كفر هؤلاء المشركون
واستمروا على شركهم وعبادتهم مع الله غيره مع أنهم يعترفون بأنه الخالق الرازق
المتصرف في الملك وحده الذي بعث رسله بتوحيده فلهذا حقت عليهم كلمة الله أنهم
أشقياء من ساكني النار كقوله { قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين }.
وهذا إبطال لدعواهم فيما أشركوا بالله غيره وعبدوا من الأصنام والأنداد { قل هل من
شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده } أي من بدأ خلق هذه السموات والأرض ثم ينشيء ما
فيهما من الخلائق ويفرق أجرام السموات والأرض ويبدلهما بفناء ما فيهما ثم يعيد
الخلق خلقا جديدا { قل الله { هو الذي يفعل هذا ويستقل به وحده لا شريك له { فأني
تؤفكون } أي فكيف تصرفون عن طريق الرشد إلى الباطل.
{ قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق } أي أنتم تعلمون أن شركاءكم
لا تقدر على هداية ضال وإنما يهدي الحيارى والضلال ويقلب القلوب من الغي إلى الرشد
الله الذي لا إله إلا هو { أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى }
أي أفيتبع العبد الذي يهدي إلى الحق ويبصر بعد العمى أم الذي لا يهدي إلى شيء إلا
أن يهدى لعماه وبكمه كما قال تعالى إخبارا عن إبراهيم أنه قال { يا أبت لم تعبد ما
لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } وقال لقومه { أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم
وما تعملون } إلى غير ذلك من الآيات وقوله { فما لكم كيف تحكمون } أي ما بالكم أن يذهب
بعقولكم كيف سويتم بين الله وبين خلقه وعدلتم هذا بهذا وعبدتم هذا وهذا؟ وهلا
أفردتم الرب جل جلاله المالك الحاكم الهادي من الضلالة بالعبادة وحده وأخلصتم إليه
الدعوة والإنابة؟.
ثم بين تعالى أنهم لا يتبعون في دينهم هذا دليلا ولا برهانا وإنما هو ظن منهم أي
توهم وتخيل وذلك لا يغني عنهم شيئا { إن الله عليم بما يفعلون } تهديد لهم ووعيد شديد
لأنه تعالى أخبر أنه سيجازيهم على ذلك أتم الجزاء.
هذا بيان لإعجاز القرآن وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله ولا بعشر سور ولا
بسورة من مثله لأنه بفصاحته وبلاغته ووجازته وحلاوته واشتماله على المعاني العزيزة
الغزيرة النافعة في الدنيا والآخرة لا يكون إلا من عند الله الذي لا يشبهه شيء في
ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وأقواله فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين ولهذا قال
تعالى { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله } أي مثل هذا القرآن لا يكون إلا
من عند الله ولا يشبه هذا كلام البشر { ولكن تصديق الذي بين يديه } أي من الكتب
المتقدمة ومهيمنا عليه ومبينا لما وقع فيها من التحريف والتأويل والتبديل وقوله
{ وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين } أي وبيان الأحكام والحلال والحرام بيانا
شافيا كافيا حقا لا مرية فيه من الله رب العالمين كما تقدم في حديث الحارث الأعور
عن علي بن أبي طالب فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم أي خبر عما سلف
وعما سيأتي وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي يحبه الله ويرضاه.
وقوله { أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وأدعوا من استطعتم من دون الله إن
كنتم صادقين } أي إن ادعيتم وافتريتم وشككتم في أن هذا من عند الله وقلتم كذبا مبينا
إن هذا من عند محمد فمحمد بشر مثلكم وقد جاء فيما زعمتم بهذا القرآن فأتوا أنتم
بسورة مثله أي من جنس هذا القرآن واستعينوا على ذلك بكل من قدرتم عليه من إنس وجان;
وهذا هو المقام الثالث في التحدي فإنه تعالى تحداهم ودعاهم إن كانوا صادقين في
دعواهم أنه من عند محمد فليعارضوه بنظير ما جاء به وحده وليستعينوا بمن شاءوا وأخبر
أنهم لا يقدرون على ذلك ولا سبيل لهم إليه فقال تعالى { قل لئن اجتمعت الإنس والجن
على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } ثم تقاصر
معهم إلى عشر سور منه فقال في أول سورة هود { أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور
مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } ثم تنازل إلى سورة
فقال في هذه السورة { أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من
دون الله إن كنتم صادقين } وكذا في سورة البقرة وهي مدنية تحداهم بسورة منه وأخبر
أنهم لا يستطيعون ذلك أبدا فقال { فإن لم تفعلوا فاتقوا النار } الآية هذا وقد كانت
الفصاحة من سجاياهم وأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى في هذا الباب ولكن جاءهم من
الله ما لا قبل لأحد به ولهذا آمن من آمن منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام وحلاوته
وجزالته وطلاوته وإفادته وبراعته فكانوا أعلم الناس به وأفهمهم له وأتبعهم له
وأشهرهم له انقيادا كما عرف السحرة لعلمهم بفنون السحر أن هذا الذي فعله موسى عليه
السلام لا يصدر إلا عن مؤيد مسدد مرسل من الله وأن هذا لا يستطاع لبشر إلا بإذن
الله وكذلك عيسى عليه السلام بعث في زمان علماء الطب ومعالجة المرضى فكان يبرئ
الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله ومثل هذا لا مدخل للعلاج والدواء فيه فعرف من
عرف منهم أنه عبد الله ورسوله. ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال { ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر
وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا }.
وقوله { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولم يأتهم تأويله } يقول بل كذب هؤلاء بالقرآن
ولم يفهموه ولا عرفوه { ولما يأتهم تأويله } أي ولم يحصلوا ما فيه من الهدى ودين الحق
إلى حين تكذيبهم به جهلا وسفها { كذلك كذب الذين من قبلهم } أي من الأمم السالفة
{ فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } أي فانظر كيف أهلكناهم بتكذيبهم رسلنا ظلما وعلوا
وكفرا وعنادا وجهلا فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم.
وقوله { ومنهم من يؤمن به } الآية أي ومن هؤلاء الذين بعثت إليهم يا محمد من يؤمن
بهذا القرآن ويتبعك وينتفع بما أرسلت به { ومنهم من لا يؤمن به } بل يموت على ذلك
ويبعث عليه { وربك أعلم بالمفسدين } أي وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه; ومن يستحق
الضلالة فيضله وهو العادل الذي لا يجور بل يعطي كلا ما يستحقه تبارك وتعالى وتقدس
وتنزه لا إله إلا هو.
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وإن كذبك هؤلاء المشركون فتبرأ منهم ومن عملهم
{ فقل لي عملي ولكم عملكم } كقوله تعالى { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون } إلى
آخرها; وقال إبراهيم الخليل وأتباعه لقومهم المشركين { إنا برآء منكم ومما تعبدون من
دون الله { الآية.
وقوله { ومنهم من يستمعون إليك } أي يسمعون كلامك الحسن والقرآن العظيم والأحاديث
الصحيحة الفصيحة النافعة في القلوب والأديان والأبدان وفي هذا كفاية عظيمة; ولكن
ليس ذلك إليك ولا إليهم فإنك لا تقدر على إسماع الأصم وهو الأطرش فكذلك لا تقدر على
هداية هؤلاء إلا أن يشاء الله.
{ ومنهم من ينظر إليك } أي ينظرون إليك وإلى ما أعطاك الله من التؤدة والسمت الحسن
والخلق العظيم والدلالة الظاهرة على نبوءتك لأولي البصائر والنهي وهؤلاء ينظرون كما
ينظر غيرهم ولا يحصل لهم من الهداية شيء كما يحصل لغيرهم بل المؤمنون ينظرون إليك
بعين الوقار وهؤلاء الكفار ينظرون إليك بعين الاحتقار { وإذا رأوك إن يتخذونك إلا
هزوا } الآية ثم أخبر تعالى أنه لا يظلم أحدا شيئا وإن كان قد هدى به من هدى وبصر به
من العمى وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا وأضل به عن الإيمان آخرين فهو
الحاكم المتصرف في ملكه بما يشاء الذي لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون لعلمه وحكمته
وعدله.
ولهذا قال تعالى { إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون } وفي الحديث
عن أبي ذر عن النبي صلي الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل { يا عبادي إنى
حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا - إلى أن قال في آخره- يا
عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن
وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه } رواه مسلم بطوله.
يقول تعالى مذكرا للناس قيام الساعة وحصرهم من أجداثهم إلى عرصات القيامة { ويوم
يحشرهم } الآية كقوله { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } وكقوله
{ كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } وقال تعالى { يوم ينفخ في الصور
ونحشر المجرمين يومئذ زرقا يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا نحن أعلم بما يقولون
إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما } وقال تعالى { ويوم تقوم الساعة يقسم
المجرمون ما لبثوا غير ساعة } الآيتين وهذا كله دليل على استقصار الحياة الدنيا في
الدار الآخرة كقوله { قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم
فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون } وقوله { يتعارفون بينهم }
أي يعرف الأبناء والأباء والقرابات بعضهم لبعض كما كانوا في الدنيا ولكن كل مشغول
بنفسه { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم } الآية وقال تعالى { ولا يسأل حميم حميما }
الآيات; وقوله { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين } كقوله تعالى { ويل
للمكذبين } لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين ولا
خسارة أعظم من خسارة من فرق بينه وبين أحبته يوم الحسرة والندامة.
يقول تعالى مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم { وإما نرينك بعض الذي نعدهم } أي ننتقم
منهم في حياتك لتقر عينك منهم { أو نتوفينك فإلينا مرجعهم } أي مصيرهم ومنقلبهم والله
شهيد على أفعالهم بعدك وقد قال الطبراني: حدثنا عبدالله بن أحمد حدثنا عقبة بن مكرم
حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا داود بن الجارود عن أبي السليل عن حذيفة بن أسيد عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال { عرضت علي أمتي البارحة لدى هذه الحجرة أولها وآخرها }
فقال رجل: يا رسول الله عرض عليك من خلق فكيف من لم يخلق؟ فقال { صوروا لي في الطين
حتى أني لأعرف بالإنسان منهم من أحدكم بصاحبه } ورواه عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة
عن عقبة بن مكرم عن يونس بن بكير عن زياد بن المنذر عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد
به نحوه.
وقوله { ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم } قال مجاهد يعني يوم القيامة { قضي بينهم
بالقسط } الآية كقوله تعالى { وأشرقت الأرض بنور ربها } الآية; فكل أمة تعرض على الله
بحضرة رسولها وكتاب أعمالها من خير وشر موضوع شاهد عليهم وحفظتهم من الملائكة شهود
أيضا أمة بعد أمة وهذه الأمة الشريفة وإن كانت آخر الأمم في الخلق إلا أنها أول
الأمم يوم القيامة يفصل بينهم ويقضي لهم كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلي الله
عليه وسلم أنه قال { نحن الآخرون السابقون يوم القيامة المقضى لهم قبل الخلائق }
فأمته إنما حازت قصب السبق بشرف رسولها صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم
الدين.
يقول تعالى مخبرا عن كفر هؤلاء المشركين في استعجالهم العذاب وسؤالهم عن وقته قبل
التعين مما لا فائدة لهم فيه كقوله { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا
مشفقون منها ويعلمون أنها الحق } أي كائنة لا محالة وواقعة وإن لم يعلموا وقتها عينا
ولهذا أرشد تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جوابهم.
فقال { قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا } الآية أي لا أقول إلا ما علمني ولا أقدر على
شيء مما استأثر به إلا أن يطلعني الله عليه فأنا عبده ورسوله إليكم وقد أخبرتكم
بمجيء الساعة وأنها كائنة ولم يطلعني على وقتها ولكن { لكل أمة أجل } أي لكل قرن مدة
من العمر مقدرة فإذا انقضى أجلهم { فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } كقوله { ولن يؤخر
الله نفسا إذا جاء أجلها } الآية ثم أخبر أن عذاب الله سيأتيهم بغتة.
{ أثم إذا ما وقع آمنتم به الآن وقد كنتم به تستعجلون } يعني أنهم إذا جاءهم العذاب
قالوا { ربنا أبصرنا وسمعنا } الآية وقال تعالى { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله
وحده وكفرنا بما كنا به مشـركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله
التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون }.
{ ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد } أي يوم القيامة يقال لهم هذا تبكيتا وتقريعا
كقوله { يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم
أنتم لا تبصرون اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون } .
يقول تعالى ويستخبرونك { أحق هو } أي الميعاد والقيامة من الأجداث بعد صيرورة الأجسام
ترابا { قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين } أي ليس صيرورتكم ترابا بمعجز الله عن
إعادتكم كما بدأكم من العدم فـ{ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } وهذه
الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به
على من أنكر المعاد في سورة سبأ { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي
لتأتينكم } وفي التغابن { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن
بما عملتم وذلك على الله يسير }.
ثم أخبر تعالى أنه إذا قامت القيامة يود الكافر لو افتدى من عذاب الله بملء الأرض
ذهبا { وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط } أي بالحق { وهم لا
يظلمون }.
يقول تعالى ممتنا على خلقه بما أنزله من القرآن العظيم على رسوله الكريم { يا أيها
الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم } أي زاجر عن الفواحش { وشفاء لما في الصدور } أي من
الشبه والشكوك وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس وهدى ورحمة أي يحصل به الهداية
والرحمة من الله تعالى; وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه كقوله
تعالى { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا }
وقوله { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء } الآية.
وقوله تعالى { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } أي بهذا الذي جاءهم من الله من
الهدى ودين الحق فليفرحوا فإنه أولى ما يفرحون به { هو خير مما يجمعون } أي من حطام
الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لا محالة كما قال ابن أبي حاتم في تفسير
هذه الآية وذكر بسنده عن بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو: سمعت أيفع بن عبدالله
الكلاعي يقول لما قدم خراج العراق إلى عمر رضي الله عنه خرج عمر ومولى له فجعل عمر
يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك فجعل عمر يقول: الحمد للّه تعالى ويقول مولاه هذا
والله من فضل الله ورحمته فقال عمر: كذبت ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى { قل بفضل
الله وبرحمته } الآية وهذا مما يجمعون وقد أسنده الحافظ أبو القاسم الطبراني فرواه
عن أبي زرعة الدمشقي عن حيوة بن شريح عن بقية فذكره.
قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم: نزلت إنكارا
على المشركين فيما كانوا يحلون ويحرمون من البحائر والسوائب والوصايا كقوله تعالى
{ وجعلوا للّه مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا } الآيات وقال الإمام أحمد: حدثنا
محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي إسحق سمعت أبا الأحوص وهو عوف بن مالك بن نضلة يحدث
عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلي الله عليه وسلم وأنا رث الهيئة فقال { هل لك مال؟
{ قلت نعم. قال { من أي المال{ ؟ قال قلت من كل المال من الإبل والرقيق والخيل والغنم
فقال { إذا آتاك الله مالا فلير عليك - وقال - هل تنتج إبلك صحاحا آذانها فتعمد إلى
موسي فتقطع آذانها فتقول هذه بحر وتشق جلودها وتقول هذه صرم وتحرمها عليك وعلى
أهلك } قال نعم قال { فإن ما أتاك الله لك حل ساعد الله أشد من ساعدك وموسي الله أحد
من موساك } وذكر تمام الحديث ثم رواه عن سفيان بن عيينة عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو
عن عمه أبي الأحوص وعن بهز بن أسد عن حماد بن سلمة عن عبدالملك بن عمير عن أبي
الأحوص به وهذا حديث جيد قوي الإسناد وقد أنكر الله تعالى على من حرم ما أحل الله
أو أحل ما حرم بمجرد الآراء والأهواء التي لا مستند لها ولا دليل عليها ثم توعدهم
على ذلك يوم القيامة.