النصر : العون مأخوذ من قولهم : قد نصر الغيث الأرض : إذا أعان على نباتها , من
قحطها . قال الشاعر : إذا انسلخ الشهر الحرام فودعي بلاد تميم وانصري أرض عامر ويروى
: إذا دخل الشهر الحرام فجاوزي بلاد تميم وانصري أرض عامر يقال : نصره على عدوه
ينصره نصرا ; أي أعانه . والاسم النصرة , واستنصره على عدوه : أي سأله أن ينصره عليه
. وتناصروا : نصر بعضهم بعضا . ثم قيل : المراد بهذا النصر نصر الرسول على قريش ;
الطبري . وقيل : نصره على من قاتله من الكفار ; فإن عاقبة النصر كانت له . وأما الفتح
فهو فتح مكة ; عن الحسن ومجاهد وغيرهما . وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : هو فتح
المدائن والقصور . وقيل : فتح سائر البلاد . وقيل : ما فتحه عليه من العلوم . و }{ إذا
{ بمعنى قد ; أي قد جاء نصر الله ; لأن نزولها بعد الفتح . ويمكن أن يكون معناه :
إذا يجيئك .
قوله تعالى : { ورأيت الناس }{ أي العرب وغيرهم .{ يدخلون في دين الله أفواجا }{ أي
جماعات : فوجا بعد فوج . وذلك لما فتحت مكة قالت العرب : أما إذا ظفر محمد بأهل
الحرم , وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل , فليس لكم به يدان . فكانوا يسلمون
أفواجا : أمة أمة . قال الضحاك : والأمة : أربعون رجلا . وقال عكرمة ومقاتل : أراد
بالناس أهل اليمن . وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين , بعضهم
يؤذنون , وبعضهم يقرءون القرآن , وبعضهم يهللون ; فسر النبي صلى الله عليه وسلم
بذلك , وبكى عمر وابن عباس . وروى عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم
قرأ : { إذا جاء نصر الله والفتح }{ وجاء أهل اليمن رقيقة أفئدتهم , لينة طباعهم ,
سخية قلوبهم , عظيمة خشيتهم , فدخلوا في دين الله أفواجا . وفي صحيح مسلم عن أبي
هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ أتاكم أهل اليمن , هم أضعف قلوبا
, وأرق أفئدة الفقه يمان , والحكمة يمانية ] . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : [
إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمن ] وفيه تأويلان : أحدهما : أنه الفرج ; لتتابع
إسلامهم أفواجا . والثاني : معناه أن الله تعالى نفس الكرب عن نبيه صلى الله عليه
وسلم بأهل اليمن , وهم الأنصار . وروى جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول : [ إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا , وسيخرجون منه أفواجا
] ذكره الماوردي , ولفظ الثعلبي : وقال أبو عمار حدثني جابر لجابر , قال : سألني
جابر عن حال الناس , فأخبرته عن حال اختلافهم وفرقتهم ; فجعل يبكي ويقول : سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا ,
وسيخرجون من دين الله أفواجا ] .
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ أي إذا صليت فأكثر من ذلك . وقيل : معنى
سبح : صل ; عن ابن عباس : { بحمد ربك }{ أي حامدا له على ما آتاك من الظفر والفتح .{ واستغفره }{ أي سل الله الغفران . وقيل : { فسبح }{ المراد به : التنزيه ; أي نزهه عما
لا يجوز عليه مع شكرك له .{ واستغفره }{ أي سل الله الغفران مع مداومة الذكر . والأول
أظهر . روى الأئمة واللفظ للبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما صلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه سورة }{ إذا جاء نصر الله والفتح }{ إلا
يقول : [ سبحانك ربنا وبحمدك , اللهم اغفر لي ] وعنها قالت : كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : [ سبحانك اللهم ربنا وبحمدك , اللهم
اغفر لي ] . يتأول القرآن . وفي غير الصحيح : وقالت أم سلمة : كان النبي صلى الله
عليه وسلم آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلا قال : [ سبحان الله
وبحمده , أستغفر الله وأتوب إليه - قال - فإني أمرت بها - ثم قرأ - { إذا جاء نصر
الله والفتح }{ إلى آخرها ] . وقال أبو هريرة : اجتهد النبي بعد نزولها , حتى تورمت
قدماه . ونحل جسمه , وقل تبسمه , وكثر بكاؤه . وقال عكرمة : لم يكن النبي صلى الله
عليه وسلم قط أشد اجتهادا في أمور الآخرة ما كان منه عند نزولها . وقال مقاتل : لما
نزلت قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه , ومنهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي
وقاص , ففرحوا واستبشروا , وبكى العباس ; فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : [ ما
يبكيك يا عم ؟ ] قال : نعيت إليك نفسك . قال : [ إنه لكما تقول ] ; فعاش بعدها ستين
يوما , ما رئي فيها ضاحكا مستبشرا . وقيل : نزلت في منى بعد أيام التشريق , في حجة
الوداع , فبكى عمر والعباس , فقيل لهما : إن هذا يوم فرح , فقالا : بل فيه نعي
النبي صلى الله عليه وسلم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ صدقتما , نعيت إلي
نفسي ] . وفي البخاري وغيره عن ابن عباس قال : كان عمر بن الخطاب يأذن لأهل بدر ,
ويأذن لي معهم . قال : فوجد بعضهم من ذلك , فقالوا : يأذن لهذا الفتى معنا ومن
أبنائنا من هو مثله فقال لهم عمر : إنه من قد علمتم . قال : فأذن لهم ذات يوم , وأذن
لي معهم , فسألهم عن هذه السورة : { إذا جاء نصر الله والفتح }{ فقالوا : أمر الله
جل وعز نبيه صلى الله عليه وسلم إذا فتح عليه أن يستغفره , وأن يتوب إليه . فقال :
ما تقول يا ابن عباس ؟ قلت : ليس كذلك , ولكن أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم
حضور أجله , فقال : { إذا جاء نصر الله والفتح } , فذلك علامة موتك .{ فسبح بحمد
ربك واستغفره إنه كان توابا } . فقال عمر رضي الله عنه : تلومونني عليه ؟ وفي
البخاري فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول . ورواه الترمذي , قال : كان عمر
يسألني مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم , فقال له عبد الرحمن بن عوف : أتسأله
ولنا بنون مثله ؟ فقال له عمر : إنه من حيث نعلم . فسأله عن هذه الآية : { إذا جاء
نصر الله والفتح } . فقلت : إنما هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم , أعلمه إياه
; وقرأ السورة إلى آخرها . فقال له عمر : والله ما أعلم منها إلا ما تعلم . قال : هذا
حديث حسن صحيح . فإن قيل : فماذا يغفر للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤمر بالاستغفار
؟ قيل له : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : [ رب اغفر لي خطيئتي
وجهلي , وإسرافي في أمري كله , وما أنت أعلم به مني . اللهم اغفر لي خطئي وعمدي ,
وجهلي وهزلي , وكل ذلك عندي . اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت , وما أعلنت وما أسررت
, أنت المقدم وأنت المؤخر , إنك على كل شيء قدير ] . فكان صلى الله عليه وسلم يستقصر
نفسه لعظم ما أنعم الله به عليه , ويرى قصوره عن القيام بحق ذلك ذنوبا . ويحتمل أن
يكون بمعنى : كن متعلقا به , سائلا راغبا , متضرعا على رؤية التقصير في أداء الحقوق
; لئلا ينقطع إلى رؤية الأعمال . وقيل : الاستغفار تعبد يجب إتيانه , لا للمغفرة ,
بل تعبدا . وقيل : ذلك تنبيه لأمته , لكيلا يأمنوا ويتركوا الاستغفار . وقيل : { واستغفره }{ أي استغفر لأمتك . إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا أي على المسبحين والمستغفرين
, يتوب عليهم ويرحمهم , ويقبل توبتهم . وإذا كان عليه السلام وهو معصوم يؤمر
بالاستغفار , فما الظن بغيره ؟ روى مسلم عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يكثر من قول : [ سبحان الله وبحمده , أستغفر الله وأتوب إليه ] . فقال : (
خبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي , فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده ,
أستغفر الله وأتوب إليه , فقد رأيتها : { إذا جاء نصر الله والفتح } - فتح مكة - { ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا . فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } )
. وقال ابن عمر : نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع ; ثم نزلت }{ اليوم أكملت لكم
دينكم وأتممت عليكم نعمتي } [ المائدة : 3 ] فعاش بعدهما النبي صلى الله عليه وسلم
ثمانين يوما . ثم نزلت آية الكلالة , فعاش بعدها خمسين يوما . ثم نزل }{ لقد جاءكم
رسول من أنفسكم } [ التوبة : 128 ] فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما . ثم نزل }{ واتقوا
يوما ترجعون فيه إلى الله }{ فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما . وقال مقاتل سبعة أيام
. وقيل غير هذا مما تقدم في }{ البقرة }{ بيانه والحمد لله .
نهاية تفسير السورة - تفسير القرآن الكريم
End of Tafseer of The Surah - The Holy Quran Tafseer