فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : { تبت يدا أبي لهب }{ في الصحيحين وغيرهما
واللفظ لمسلم عن ابن عباس قال : لما نزلت }{ وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الشعراء :
214 ] ورهطك منهم المخلصين , خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا ,
فهتف : يا صباحاه ! فقالوا : من هذا الذي يهتف ؟ قالوا محمد . فاجتمعوا إليه . فقال :
[ يا بني فلان , يا بني فلان , يا بني فلان , يا بني عبد مناف , يا بني عبد المطلب
] فاجتمعوا إليه . فقال : [ أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم
مصدقي ] ؟ قالوا : ما جربنا عليك كذبا . قال : [ فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ]
. فقال أبو لهب : تبا لك , أما جمعتنا إلا لهذا ! ثم قام , فنزلت هذه السورة : { تبت
يدا أبي لهب وقد تب }{ كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة . زاد الحميدي وغيره : فلما
سمعت امرأته ما نزل في زوجها وفيها من القرآن , أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو جالس في المسجد عند الكعبة , ومعه أبو بكر رضي الله عنه , وفي يدها فهر من
حجارة , فلما وقفت عليه أخذ الله بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلا ترى
إلا أبا بكر . فقالت : يا أبا بكر , إن صاحبك قد بلغني أنه يهجوني , والله لو وجدته
لضربت بهذا الفهر فاه , والله إني لشاعرة : مذمما عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا ثم
انصرفت . فقال أبو بكر : يا رسول الله , أما تراها رأتك ؟ قال : [ ما رأتني , لقد
أخذ الله بصرها عني ] . وكانت قريش إنما تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم مذمما ;
يسبونه , وكان يقول : [ ألا تعجبون لما صرف الله عني من أذى قريش , يسبون ويهجون
مذمما وأنا محمد ] . وقيل : إن سبب نزولها ما حكاه عبد الرحمن بن زيد أن أبا لهب أتى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ماذا أعطى إن آمنت بك يا محمد ؟ فقال : [ كما يعطى
المسلمون ] قال ما لي عليهم فضل ؟ . قال : [ وأي شيء تبغي ] ؟ قال : تبا لهذا من دين
, أن أكون أنا وهؤلاء سواء ; فأنزل الله تعالى فيه .{ تبت يدا أبي لهب وتب } . وقول
ثالث حكاه عبد الرحمن بن كيسان قال : كان إذا وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وقد
انطلق إليهم أبو لهب فيسألونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون له : أنت
أعلم به منا . فيقول لهم أبو لهب : إنه كذاب ساحر . فيرجعون عنه ولا يلقونه . فأتى وفد
, ففعل معهم مثل ذلك , فقالوا : لا ننصرف حتى نراه , ونسمع كلامه . فقال لهم أبو لهب
: إنا لم نزل نعالجه فتبا له وتعسا . فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاكتأب لذلك ; فأنزل الله تعالى : { تبت يدا أبي لهب } .. . السورة . وقيل : إن أبا
لهب أراد أن يرمي النبي صلى الله عليه وسلم بحجر , فمنعه الله من ذلك , وأنزل الله
تعالى : { تبت يدا أبي لهب وتب }{ للمنع الذي وقع به . ومعنى }{ تبت } : خسرت ; قال
قتادة . وقيل : خابت ; قال ابن عباس . وقيل : ضلت ; قاله عطاء . وقيل : هلكت ; قاله
ابن جبير . وقال يمان بن رئاب : صفرت من كل خبر . حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء
أنه لما قتل عثمان رحمه الله سمع الناس هاتفا يقول : لقد خلوك وانصرفوا فما أبوا
ولا رجعوا ولم يوفوا بنذرهم فيا تبا لما صنعوا وخص اليدين بالتباب , لأن العمل أكثر
ما يكون بهما ; أي خسرتا وخسر هو . وقيل : المراد باليدين نفسه . وقد يعبر عن النفس
باليد , كما قال الله تعالى : { بما قدمت يداك } [ الحج : 10 ] . أي نفسك . وهذا مهيع
كلام العرب ; تعبر ببعض الشيء عن كله ; تقول : أصابته يد الدهر , ويد الرزايا
والمنايا ; أي أصابه كل ذلك . قال الشاعر : لما أكبت يد الرزايا عليه نادى ألا مجير
{ وتب }{ قال الفراء : التب الأول : دعاء والثاني خبر ; كما يقال : أهلكه الله وقد
هلك . وفي قراءة عبد الله وأبي }{ وقد تب }{ وأبو لهب اسمه عبد العزى , وهو ابن عبد
المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم . وامرأته العوراء أم جميل , أخت أبي سفيان بن
حرب , وكلاهما , كان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم . قال طارق بن عبد الله
المحاربي : إني بسوق ذي المجاز , إذ أنا بإنسان يقول : [ يأيها الناس , قولوا لا
إله إلا الله تفلحوا ] , وإذا رجل خلفه يرميه , قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول :
يأيها الناس , إنه كذاب فلا تصدقوه . فقلت من هذا ؟ فقالوا : محمد , زعم أنه نبي
. وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب . وروى عطاء عن ابن عباس قال : قال أبو لهب : سحركم
محمد إن أحدنا ليأكل الجذعة , ويشرب العس من اللبن فلا يشبع , وإن محمدا قد أشبعكم
من فخذ شاة , وأرواكم من عس لبن . الثانية : قوله تعالى : { أبي لهب }{ قيل : سمي
باللهب لحسنه , وإشراق وجهه . وقد ظن قوم أن في هذا دليلا على تكنية المشرك ; وهو
باطل , وإنما كناه الله بأبي لهب - عند العلماء - لمعان أربعة : الأول : أنه كان
اسمه عبد العزى , والعزى : صنم , ولم يضف الله في كتابه العبودية إلى صنم . الثاني :
أنه كان بكنيته أشهر منه باسمه ; فصرح بها . الثالث : أن الاسم أشرف من الكنية ,
فحطه الله عز وجل عن الأشرف إلى الأنقص ; إذا لم يكن بد من الإخبار عنه , ولذلك دعا
الله تعالى الأنبياء بأسمائهم , ولم يكن عن أحد منهم . ويدلك على شرف الاسم على
الكنية : أن الله تعالى يسمى ولا يكنى , وإن كان ذلك لظهوره وبيانه ; واستحالة نسبة
الكنية إليه , لتقدسه عنها . الرابع - أن الله تعالى أراد أن يحقق نسبته , بأن يدخله
النار , فيكون أبا لها , تحقيقا للنسب , وإمضاء للفأل والطيرة التي اختارها لنفسه
. وقد قيل : اسمه كنيته . فكان أهله يسمونه أبا لهب , لتلهب وجهه وحسنه ; فصرفهم الله
عن أن يقولوا : أبو النور , وأبو الضياء , الذي هو المشترك بين المحبوب والمكروه ,
وأجرى على ألسنتهم أن يضيفوه إلى لهب الذي هو مخصوص بالمكروه المذموم , وهو النار
. ثم حقق ذلك بأن يجعلها مقره . وقرأ مجاهد وحميد وابن كثير وابن محيصن .{ أبي لهب }
بإسكان الهاء . ولم يختلفوا في }{ ذات لهب }{ إنها مفتوحة ; لأنهم راعوا فيها رءوس
الآي . الثالثة : قال ابن عباس : لما خلق الله عز وجل القلم قال له : اكتب ما هو
كائن , وكان فيما كتب }{ تبت يدا أبي لهب } . وقال منصور : سئل الحسن عن قوله تعالى :
{ تبت يدا أبي لهب } . هل كان في أم الكتاب ؟ وهل كان أبو لهب يستطيع ألا يصلى النار
؟ فقال : والله ما كان يستطيع ألا يصلاها , وإنها لفي كتاب الله من قبل أن يخلق أبو
لهب وأبواه . ويؤيده قول موسى لآدم : ( أنت الذي خلقك الله بيده , ونفخ فيك من روحه
, وأسكنك جنته , وأسجد لك ملائكته , خيبت الناس , وأخرجتهم من الجنة . قال آدم :
وأنت موسى الذي اصطفاك بكلامه , وأعطاك التوراة , تلومني على أمر كتبه الله علي قبل
أن يخلق الله السموات والأرض . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فحج آدم موسى )
. وقد تقدم هذا . وفي حديث همام عن أبي هريرة أن آدم قال لموسى : ( بكم وجدت الله كتب
التوراة قبل أن يخلقني ) ؟ قال : بألفي عام قال : فهل وجدت فيها : { وعصى آدم ربه
فغوى }{ قال : نعم قال : أفتلومني على أمر وكتب الله علي أن أفعله من قبل أن أخلق
بألفي عام . فحج آدم موسى ) . وفي حديث طاوس وابن هرمز والأعرج عن أبي هريرة : [
بأربعين عاما ] .
Tafseer Al-Qurtoubiy تفسير القرطبي
مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ
الأية 2
أي ما دفع عنه عذاب الله ما جمع من المال , ولا ما كسب من جاه . وقال مجاهد : من
الولد ; وولد الرجل من كسبه . وقرأ الأعمش }{ وما اكتسب }{ ورواه عن ابن مسعود . وقال
أبو الطفيل : جاء بنو أبي لهب يختصمون عند ابن عباس , فاقتتلوا , فقام ليحجز بينهم
, فدفعه بعضهم , فوقع على الفراش , فغضب ابن عباس وقال : أخرجوا عني الكسب الخبيث ;
يعني ولده . وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ إن
أطيب ما أكل الرجل من كسبه , وإن ولده من كسبه ] . خرجه أبو داود . وقال ابن عباس :
لما أنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته بالنار , قال أبو لهب : إن كان ما
يقول ابن أخي حقا فإني أفدي نفسي بمالي وولدي ; فنزل : { ما أغنى عنه ماله وما كسب
" . و }{ ما }{ في قوله : { ما أغنى } : يجوز أن تكون نفيا , ويجوز أن تكون استفهاما ;
أي أي شيء أغنى عنه ؟ و }{ ما }{ الثانية : يجوز أن تكون بمعنى الذي , ويجوز أن تكون
مع الفعل مصدرا ; أي ما أغنى عنه ماله وكسبه .
Tafseer Al-Qurtoubiy تفسير القرطبي
سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ
الأية 3
أي ذات اشتعال وتلهب . وقد مضى في سورة }{ المرسلات }{ القول فيه . وقراءة العامة : { سيصلى }{ بفتح الياء . وقرأ أبو رجاء والأعمش : بضم الياء . ورواها محبوب عن إسماعيل
عن ابن كثير , وحسين عن أبي بكر عن عاصم , ورويت عن الحسن . وقرأ أشهب العقيلي وأبو
سمال العدوي ومحمد بن السميقع }{ سيصلى }{ بضم الياء , وفتح الصاد , وتشديد اللام ;
ومعناها سيصليه الله ; من قوله : { وتصلية جحيم } [ الواقعة : 94 ] . والثانية من
الإصلاء ; أي يصليه الله ; من قوله : { فسوف نصليه نارا } [ النساء : 30 ] . والأولى
هي الاختيار ; لإجماع الناس عليها ; وهي من قوله : { إلا من هو صال الجحيم } [
الصافات : 163 ] .
Tafseer Al-Qurtoubiy تفسير القرطبي
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ
الأية 4
قوله تعالى : { وامرأته }{ أم جميل . وقال ابن العربي : العوراء أم قبيح , وكانت
عوراء .{ حمالة الحطب }{ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : كانت تمشي بالنميمة
بين الناس ; تقول العرب : فلان يحطب على فلان : إذا ورش عليه . قال الشاعر : إن بني
الأدرم حمالو الحطب هم الوشاة في الرضا وفي الغضب عليهم اللعنة تترى والحرب وقال
آخر : من البيض لم تصطد على ظهر لأمة ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب يعني : لم تمش
بالنمائم , وجعل الحطب رطبا ليدل على التدخين , الذي هو زيادة في الشر . وقال أكثم
بن صيفي لبنيه : إياكم والنميمة فإنها نار محرقة , وإن النمام ليعمل في ساعة ما لا
يعمل الساحر في شهر . أخذه بعض الشعراء فقال : إن النميمة نار ويك محرقة فقر عنها
وجانب من تعاطاها ولذلك قيل : نار الحقد لا تخبو . وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
: [ لا يدخل الجنة نمام ] . وقال : [ ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها ] . وقال
عليه الصلاة والسلام : [ من شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه , وهؤلاء
بوجه ] . وقال كعب الأحبار : أصاب بني إسرائيل قحط , فخرج بهم موسى عليه السلام ثلاث
مرات فلم يستسقوا . فقال موسى : [ إلهي عبادك ] فأوحى الله إليه : [ إني لا أستجيب
لك ولا لمن معك لأن فيهم رجلا نماما , قد أصر على النميمة ] . فقال موسى : [ يا رب
من هو حتى نخرجه من بيننا ] ؟ فقال : [ يا موسى أنهاك عن النميمة وأكون نماما ] قال
: فتابوا بأجمعهم , فسقوا . والنميمة من الكبائر , لا خلاف في ذلك ; حتى قال الفضيل
بن عياض : ثلاث تهد العمل الصالح ويفطرن الصائم , وينقضن الوضوء : الغيبة ,
والنميمة , والكذب . وقال عطاء بن السائب : ذكرت للشعبي قول النبي صلى الله عليه
وسلم : [ لا يدخل الجنة سافك دم , ولا مشاء بنميمة , ولا تاجر يربي ] فقلت : يا أبا
عمرو , قرن النمام بالقاتل وآكل الربا ؟ فقال : وهل تسفك الدماء , وتنتهب الأموال ,
وتهيج الأمور العظام , إلا من أجل النميمة . وقال قتادة وغيره : كانت تعير رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالفقر . ثم كانت مع كثرة مالها تحمل الحطب على ظهرها ; لشدة
بخلها , فعيرت بالبخل . وقال ابن زيد والضحاك : كانت تحمل العضاه والشوك , فتطرحه
بالليل على طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ; وقاله ابن عباس . قال الربيع :
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يطؤه كما يطأ الحرير . وقال مرة الهمداني : كانت أم
جميل تأتي كل يوم بإبالة من الحسك , فتطرحها على طريق المسلمين , فبينما هي حاملة
ذات يوم حزمة أعيت , فقعدت على حجر لتستريح , فجذبها الملك من خلفها فأهلكها . وقال
سعيد بن جبير : حمالة الخطايا والذنوب ; من قولهم : فلان يحتطب على ظهره ; دليله
قوله تعالى : { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } [ الأنعام : 31 ] . وقيل : المعنى
حمالة الحطب في النار ; وفيه بعد . وقراءة العامة }{ حمالة }{ بالرفع , على أن يكون
خبرا }{ وامرأته }{ مبتدأ . ويكون }{ في جيدها حبل من مسد }{ جملة في موضع الحال من
المضمر في }{ حمالة } . أو خبرا ثانيا . أو يكون }{ حمالة الحطب }{ نعتا لامرأته . والخبر
{ في جيدها حبل من مسد } ; فيوقف - على هذا - على }{ ذات لهب } . ويجوز أن يكون }
وامرأته }{ معطوفة على المضمر في }{ سيصلى }{ فلا يوقف على }{ ذات لهب }{ ويوقف على }
وامرأته }{ وتكون }{ حمالة الحطب }{ خبر ابتداء محذوف . وقرأ عاصم }{ حمالة الحطب }
بالنصب على الذم , كأنها اشتهرت بذلك , فجاءت الصفة للذم لا للتخصيص , كقوله تعالى
: { ملعونين أينما ثقفوا } [ الأحزاب : 61 ] . وقرأ أبو قلابة }{ حاملة الحطب } .
Tafseer Al-Qurtoubiy تفسير القرطبي
فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ
الأية 5
قوله تعالى : { في جيدها }{ أي عنقها . وقال امرؤ القيس : وجيد كجيد الريم ليس بفاحش
إذا هي نصته ولا بمعطل }{ حبل من مسد }{ أي من ليف ; قال النابغة : مقذوفة بدخيس
النحض بازلها له صريف صريف القعو بالمسد وقال آخر : يا مسد الخوص تعوذ مني إن كنت
لدنا لينا فإني ما شئت من أشمط مقسئن وقد يكون من جلود الإبل , أو من أوبارها ; قال
الشاعر : ومسد أمر من أيانق لسن بأنياب ولا حقائق وجمع الجيد أجياد , والمسد أمساد
. أبو عبيدة : هو حبل يكون من صوف . قال الحسن : هي حبال من شجر تنبت باليمن تسمى
المسد , وكانت تفتل . قال الضحاك وغيره : هذا في الدنيا ; فكانت تعير النبي صلى الله
عليه وسلم بالفقر وهي تحتطب في حبل تجعله في جيدها من ليف , فخنقها الله جل وعز به
فأهلكها ; وهو في الآخرة حبل من نار . وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : { في جيدها
حبل من مسد }{ قال : سلسلة ذرعها سبعون ذراعا - وقاله مجاهد وعروة بن الزبير : تدخل
من فيها , وتخرج من أسفلها , ويلوى سائرها على عنقها . وقال قتادة .{ حبل من مسد }
قال : قلادة من ودع . الودع : خرز بيض تخرج من البحر , تتفاوت في الصغر والكبر . قال
الشاعر : والحلم حلم صبي يمرث الودعه والجمع : ودعات . الحسن : إنما كان خرزا في
عنقها . سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة فاخرة من جوهر , فقالت : واللات والعزى
لأنفقتها في عداوة محمد . ويكون ذلك عذابا في جيدها يوم القيامة . وقيل : إن ذلك
إشارة إلى الخذلان ; يعني أنها مربوطة عن الإيمان بما سبق لها من الشقاء , كالمربوط
في جيده بحبل من مسد . والمسد : الفتل . يقال : مسد حبله يمسده مسدا ; أي أجاد فتله
. قال : يمسد أعلى لحمه ويأرمه يقول : إن البقل يقوي ظهر هذا الحمار ويشده . ودابة
ممسودة الخلق : إذا كانت شديدة الأسر . قال الشاعر : ومسد أمر من أيانق صهب عتاق ذات
مخ زاهق لسن بأنياب ولا حقائق ويروى : ولا ضعاف مخهن زاهق قال الفراء : هو مرفوع
والشعر مكفأ . يقول : بل مخهن مكتنز ; رفعه على الابتداء . قال : ولا يجوز أن يريد
ولا ضعاف زاهق مخهن . كما لا يجوز أن تقول : مررت برجل أبوه قائم ; بالخفض . وقال
غيره : الزاهق هنا : بمعنى الذاهب كأنه قال : ولا ضعاف مخهن , ثم رد الزاهق على
الضعاف . ورجل ممسود : أي مجدول الخلق . وجارية حسنة المسد والعصب والجدل والأرم ;
وهي ممسودة ومعصوبة ومجدولة ومأرومة . والمساد , على فعال : لغة في المساب , وهي نحي
السمن , وسقاء العسل . قال جميعه الجوهري . وقد اعترض فقيل : إن كان ذلك حبلها الذي
تحتطب به , فكيف يبقى في النار ؟ وأجيب عنه بأن الله عز وجل قادر على تجديده كلما
احترق . والحكم ببقاء أبي لهب وامرأته في النار مشروط ببقائهما على الكفر إلى
الموافاة ; فلما ماتا على الكفر صدق الإخبار عنهما . ففيه معجزة للنبي صلى الله عليه
وسلم . فامرأته خنقها الله بحبلها , وأبو لهب رماه الله بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع
ليال , بعد أن شجته أم الفضل . وذلك أنه لما قدم الحيسمان مكة يخبر خبر بدر ; قال له
أبو لهب : أخبرني خبر الناس . قال : نعم , والله ما هو إلا أن لقينا القوم ,
فمنحناهم أكتافنا , يضعون السلاح منا حيث شاءوا , ومع ذلك ما لمست الناس . لقينا
رجالا بيضا على خيل بلق , لا والله ما تبقي منا ; يقول : ما تبقي شيئا . قال أبو
رافع : وكنت غلاما للعباس أنحت الأقداح في صفة زمزم , وعندي أم الفضل جالسة , وقد
سرنا ما جاءنا من الخبر , فرفعت طنب الحجرة , فقلت : تلك والله الملائكة . قال :
فرفع أبو لهب يده , فضرب وجهي ضربة منكرة , وثاورته , وكنت رجلا ضعيفا , فاحتملني ,
فضرب بي الأرض , وبرك على صدري يضربني . وتقدمت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة ,
فتأخذه وتقول : استضعفته أن غاب عنه سيده ! وتضربه بالعمود على رأسه فتفلقه شجة
منكرة . فقام يجر رجليه ذليلا , ورماه الله بالعدسة , فمات , وأقام ثلاثة أيام يدفن
حتى أنتن ; ثم إن ولده غسلوه بالماء , قذفا من بعيد , مخافة عدوى العدسة . وكانت
قريش تتقيها كما يتقى الطاعون . ثم احتملوه إلى أعلى مكة , فأسندوه إلى جدار , ثم
رضموا عليه الحجارة .
نهاية تفسير السورة - تفسير القرآن الكريم
End of Tafseer of The Surah - The Holy Quran Tafseer