روى البيهقي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لما خلق الله جنة
عدن وغرس أشجارها بيده قال لها تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون ) . وروى النسائي عن
عبد الله بن السائب قال : حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فصلى في قبل
الكعبة , فخلع نعليه فوضعهما عن يساره فافتتح سورة المؤمنين , فلما جاء ذكر موسى أو
عيسى عليهما السلام أخذته سعلة فركع . خرجه مسلم بمعناه . وفي الترمذي عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي سمع
عند وجهه كدوي النحل ; وأنزل عليه يوما فمكثنا ساعة فسري عنه فاستقبل القبلة فرفع
يديه وقال : ( اللهم زدنا ولا تنقصنا وأرضنا وارض عنا - ثم قال - أنزل علي عشر آيات
من أقامهن دخل الجنة - ثم قرأ - قد أفلح المؤمنون ) حتى ختم عشر آيات ; صححه ابن
العربي . وقال النحاس : معنى }{ من أقامهن }{ من أقام عليهن ولم يخالف ما فيهن ; كما
تقول : فلان يقوم بعمله . ثم نزل بعد هذه الآيات فرض الوضوء والحج فدخل معهن . وقرأ
طلحة بن مصرف }{ قد أفلح المؤمنون }{ بضم الألف على الفعل المجهول ; أي أبقوا في
الثواب والخير . وقد مضى في أول }{ البقرة }{ معنى الفلاح لغة ومعنى , والحمد لله وحده
.
خاشعون }{ روى المعتمر عن خالد عن محمد بن سيرين قال : كان النبي صلى الله عليه
وسلم ينظر إلى السماء في الصلاة ; فأنزل الله عز وجل هذه الآية }{ الذين هم في
صلاتهم خاشعون } . فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر حيث يسجد . وفي رواية هشيم
: كان المسلمون يلتفتون في الصلاة وينظرون حتى أنزل الله تعالى : { قد أفلح
المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون } ; فأقبلوا على صلاتهم وجعلوا ينظرون أمامهم
. وقد تقدم ما للعلماء في حكم المصلي إلى حيث ينظر في }{ البقرة }{ عند قول }{ فول وجهك
شطر المسجد الحرام } [ البقرة : 144 ] . وتقدم أيضا معنى الخشوع لغة ومعنى في البقرة
أيضا عند قوله تعالى : { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } [ البقرة : 45 ] . والخشوع
محله القلب ; فإذا خشع خشعت الجوارح كلها لخشوعه ; إذ هو ملكها , حسبما بيناه أول
البقرة . وكان الرجل من العلماء إذا أقام الصلاة وقام إليها يهاب الرحمن أن يمد بصره
إلى شيء وأن يحدث نفسه بشيء من الدنيا . وقال عطاء : هو ألا يعبث بشيء من جسده في
الصلاة . وأبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال : ( لو
خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ) . وقال أبو ذر قال النبي صلى الله عليه وسلم . ( إذا قام
أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يحركن الحصى } . رواه الترمذي . وقال الشاعر
: ألا في الصلاة الخير والفضل أجمع لأن بها الآراب لله تخضع وأول فرض من شريعة
ديننا وآخر ما يبقى إذا الدين يرفع فمن قام للتكبير لاقته رحمة وكان كعبد باب مولاه
يقرع وصار لرب العرش حين صلاته نجيا فيا طوباه لو كان يخشع وروى أبو عمر أن الجوني
قال : قيل لعائشة ما كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : أتقرءون سورة
المؤمنين ؟ قيل نعم . قالت : اقرءوا ; فقرئ عليها }{ قد أفلح المؤمنون - حتى بلغ -
يحافظون } . وروى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يلحظ في صلاته يمينا وشمالا , ولا يلوي عنقه خلف ظهره . وقال كعب بن مالك
في حديثه الطويل : ثم أصلي قريبا منه - يعني من النبي صلى الله عليه وسلم - وأسارقه
النظر , فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني .. . الحديث ; ولم
يأمره بإعادة . اختلف الناس في الخشوع , هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها
ومكملاتها على قولين . والصحيح الأول , ومحله القلب , وهو أول علم يرفع من الناس ;
قاله عبادة بن الصامت , رواه الترمذي من حديث جبير بن نفير عن أبي الدرداء , وقال :
هذا حديث حسن غريب . وقد خرجه النسائي من حديث جبير بن نفير أيضا عن عوف بن مالك
الأشجعي من طريق صحيحة . قال أبو عيسى : ومعاوية بن صالح ثقة عند أهل الحديث , ولا
نعلم أحدا تكلم فيه غير يحيى بن سعيد القطان . قلت : معاوية بن صالح أبو عمرو ويقال
أبو عمر الحضرمي الحمصي قاضي الأندلس , سئل عنه أبو حاتم الرازي فقال : صالح الحديث
, يكتب حديثه ولا يحتج به . واختلف فيه قول يحيى بن معين , ووثقه عبد الرحمن بن مهدي
وأحمد بن حنبل وأبو زرعة الرازي , واحتج به مسلم في صحيحه .
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا
يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ فيه سبع مسائل : الأولى : اختلف العلماء في
معنى هذه الآية على ستة أوجه من التأويل : ( الأول ) : أن يكون مقصد الآية تشنيع
الزنى وتبشيع أمره , وأنه محرم على المؤمنين . واتصال هذا المعنى بما قبل حسن بليغ
. ويريد بقوله }{ لا ينكح }{ أي لا يطأ ; فيكون النكاح بمعنى الجماع . وردد القصة
مبالغة وأخذا من كلا الطرفين , ثم زاد تقسيم المشركة والمشرك من حيث الشرك أعم في
المعاصي من الزنى ; فالمعنى : الزاني لا يطأ في وقت زناه إلا زانية من المسلمين ,
أو من هي أحسن منها من المشركات . وقد روي عن ابن عباس وأصحابه أن النكاح في هذه
الآية الوطء . وأنكر ذلك الزجاج وقال : لا يعرف النكاح في كتاب الله تعالى إلا بمعنى
التزويج . وليس كما قال ; وفي القرآن }{ حتى تنكح زوجا غيره } [ البقرة : 230 ] وقد
بينه النبي صلى الله عليه وسلم أنه بمعنى الوطء , وقد تقدم في }{ البقرة } . وذكر
الطبري ما ينحو إلى هذا التأويل عن سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة , ولكن غير مخلص
ولا مكمل . وحكاه الخطابي عن ابن عباس , وأن معناه الوطء أي لا يكون زنى إلا بزانية
, ويفيد أنه زنى في الجهتين ; فهذا قول . ( الثاني ) ما رواه أبو داود والترمذي عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن مرثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسارى بمكة , وكان
بمكة بغي يقال لها }{ عناق }{ وكانت صديقته , قال : فجئت النبي صلى الله عليه وسلم
فقلت : يا رسول الله ; أنكح عناق ؟ قال : فسكت عني ; فنزلت }{ والزانية لا ينكحها
إلا زان أو مشرك } ; فدعاني فقرأها علي وقال : ( لا تنكحها ) . لفظ أبي داود , وحديث
الترمذي أكمل . قال الخطابي : هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة , فأما الزانية
المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ . ( الثالث ) : أنها مخصوصة في رجل من المسلمين
أيضا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة يقال لها }{ أم مهزول }
وكانت من بغايا الزانيات , وشرطت أن تنفق عليه ; فأنزل الله تعالى هذه الآية ; قاله
عمرو بن العاص ومجاهد . ( الرابع ) : أنها نزلت في أهل الصفة وكانوا قوما من
المهاجرين , ولم يكن لهم في المدينة مساكن ولا عشائر فنزلوا صفة المسجد وكانوا
أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة بالليل , وكان بالمدينة بغايا
متعالنات بالفجور , مخاصيب بالكسوة والطعام ; فهم أهل الصفة أن يتزوجوهن فيأووا إلى
مساكنهن ويأكلوا من طعامهن وكسوتهن ; فنزلت هذه الآية صيانة لهم عن ذلك ; قاله ابن
أبي صالح . ( الخامس ) : ذكره الزجاج وغيره عن الحسن , وذلك أنه قال : المراد
الزاني المحدود والزانية المحدودة , قال : وهذا حكم من الله , فلا يجوز لزان محدود
أن يتزوج إلا محدودة . وقال إبراهيم النخعي نحوه . وفي مصنف أبي داود عن أبي هريرة
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا ينكح الزاني المحدود إلا مثله )
. وروى أن محدودا تزوج غير محدودة ففرق علي رضي الله عنه بينهما . قال ابن العربي :
وهذا معنى لا يصح نظرا كما لم يثبت نقلا , وهل يصح أن يوقف نكاح من حد من الرجال
على نكاح من حد من النساء فبأي أثر يكون ذلك , وعلى أي أصل يقاس من الشريعة . قلت :
وحكى هذا القول إلكيا عن بعض أصحاب الشافعي المتأخرين , وأن الزاني إذا تزوج غير
زانية فرق بينهما لظاهر الآية . قال إلكيا : وإن هو عمل بالظاهر فيلزمه عليه أن يجوز
للزاني التزوج بالمشركة , ويجوز للزانية أن تزوج نفسها من مشرك ; وهذا في غاية
البعد , وهو خروج عن الإسلام بالكلية , وربما قال هؤلاء : إن الآية منسوخة في
المشرك خاص دون الزانية . ( السادس ) أنها منسوخة ; روى مالك عن يحيى بن سعيد عن
سعيد بن المسيب قال : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا
زان أو مشرك }{ قال : نسخت هذه الآية التي بعدها }{ وأنكحوا الأيامى منكم } [ النور :
32 ] ; وقاله ابن عمرو , قال : دخلت الزانية في أيامى المسلمين . قال أبو جعفر
النحاس : وهذا القول عليه أكثر العلماء . وأهل الفتيا يقولون : إن من زنى بامرأة فله
أن يتزوجها ولغيره أن يتزوجها . وهو قول ابن عمر وسالم وجابر بن زيد وعطاء وطاوس
ومالك بن أنس وهو قول أبي حنيفة وأصحابه . وقال الشافعي : القول فيها كما قال سعيد
بن المسيب , إن شاء الله هي منسوخة . قال ابن عطية : وذكر الإشراك في هذه الآية يضعف
هذه المناحي . قال ابن العربي : والذي عندي أن النكاح لا يخلو أن يراد به الوطء كما
قال ابن عباس أو العقد ; فإن أريد به الوطء فإن معناه : لا يكون زنى إلا بزانية ,
وذلك عبارة عن أن الوطأين من الرجل والمرأة زنى من الجهتين ; ويكون تقدير الآية :
وطء الزانية لا يقع إلا من زان أو مشرك ; وهذا يؤثر عن ابن عباس , وهو معنى صحيح
. فإن قيل : فإذا زنى بالغ بصبية , أو عاقل بمجنونة , أو مستيقظ بنائمة فإن ذلك من
جهة الرجل زنى ; فهذا زان نكح غير زانية , فيخرج المراد عن بابه الذي تقدم . قلنا :
هو زنى من كل جهة , إلا أن أحدهما سقط فيه الحد والآخر ثبت فيه . وإن أريد به العقد
كان معناه : أن متزوج الزانية التي قد زنت ودخل بها ولم يستبرئها يكون بمنزلة
الزاني , إلا أنه لا حد عليه لاختلاف العلماء في ذلك . وأما إذا عقد عليها ولم يدخل
بها حتى يستبرئها فذلك جائز إجماعا . وقيل : ليس المراد في الآية أن الزاني لا ينكح
قط إلا زانية ; إذ قد يتصور أن يتزوج غير زانية , ولكن المعنى أن من تزوج بزانية
فهو زان , فكأنه قال : لا ينكح الزانية إلا زان ; فقلب الكلام , وذلك أنه لا ينكح
الزانية إلا وهو راض بزناها , وإنما يرضى بذلك إذا كان هو أيضا يزني . الثانية : في
هذه الآية دليل على أن التزوج بالزانية صحيح . وإذا زنت زوجة الرجل لم يفسد النكاح ,
وإذا زنى الزوج لم يفسد نكاحه مع زوجته ; وهذا على أن الآية منسوخة . وقيل إنها
محكمة . وسيأتي . الثالثة : روي أن رجلا زنى بامرأة في زمن أبي بكر رضي الله عنه
فجلدهما مائة جلدة , ثم زوج أحدهما من الآخر مكانه , ونفاهما سنة . وروي مثل ذلك عن
عمر وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم . وقال ابن عباس : أوله سفاح وآخره نكاح . ومثل
ذلك مثل رجل سرق من حائط ثمره ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه ثمره , فما سرق حرام
وما اشترى حلال . وبهذا أخذ الشافعي وأبو حنيفة , ورأوا أن الماء لا حرمة له . وروي
عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما
زانيان أبدا . وبهذا أخذ مالك رضي الله عنه ; فرأى أنه لا ينكحها حتى يستبرئها من
مائه الفاسد ; لأن النكاح له حرمة , ومن حرمته ألا يصب على ماء السفاح ; فيختلط
الحرام بالحلال , ويمتزج ماء المهانة بماء العزة . الرابعة : قال ابن خويز منداد :
من كان معروفا بالزنى أو بغيره من الفسوق معلنا به فتزوج إلى أهل بيت ستر وغرهم من
نفسه فلهم الخيار في البقاء معه أو فراقه ; وذلك كعيب من العيوب , واحتج بقوله عليه
السلام : ( لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله ) . قال ابن خويز منداد . وإنما ذكر
المجلود لاشتهاره بالفسق , وهو الذي يجب أن يفرق بينه وبين غيره ; فأما من لم يشتهر
بالفسق فلا . الخامسة : قال قوم من المتقدمين : الآية محكمة غير منسوخة , وعند
هؤلاء : من زنى فسد النكاح بينه وبين زوجته , وإذا زنت الزوجة فسد النكاح بينها
وبين زوجها . وقال قوم من هؤلاء : لا ينفسخ النكاح بذلك , ولكن يؤمر الرجل بطلاقها
إذا زنت , ولو أمسكها أثم , ولا يجوز التزوج بالزانية ولا من الزاني , بل لو ظهرت
التوبة فحينئذ يجوز النكاح. وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي نكاح أولئك
البغايا ; فيزعم بعض أهل التأويل أن نكاح أولئك البغايا حرمه الله تعالى على أمة
محمد عليه السلام , ومن أشهرهن عناق . حرم الله تعالى الزنى في كتابه ; فحيثما زنى
الرجل فعليه الحد . وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور . وقال أصحاب الرأي في الرجل
المسلم إذا كان في دار الحرب بأمان وزنى هنالك ثم خرج لم يحد . قال ابن المنذر : دار
الحرب ودار الإسلام سواء , ومن زنى فعليه الحد , على ظاهر قوله }{ الزانية والزاني
فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } [ النور : 2 ] .
قال ابن العربي : { من غريب القرآن أن هذه الآيات العشر عامة في الرجال والنساء ,
كسائر ألفاظ القرآن التي هي محتملة لهم فإنها عامة فيهم , إلا قول }{ والذين هم
لفروجهم حافظون }{ فإنما خاطب بها الرجال خاصة دون الزوجات , { إلا على أزواجهم أو
ما ملكت أيمانهم }{ وإنما عرف حفظ المرأة فرجها من أدلة أخر كآيات الإحصان عموما
وخصوصا وغير ذلك من الأدلة . قلت : وعلى هذا التأويل في الآية فلا يحل لامرأة أن
يطأها من تملكه إجماعا من العلماء ; لأنها غير داخلة في الآية , ولكنها لو أعتقته
بعد ملكها له جاز له أن يتزوجها كما يجوز لغيره عند الجمهور . وروي عن عبيد الله بن
عبد الله بن عتبة والشعبي والنخعي أنها لو أعتقته حين ملكته كانا على نكاحهما . قال
أبو عمر : ولا يقل هذا أحد من فقهاء الأمصار ; لأن تملكها عندهم يبطل النكاح بينهما
, وليس ذلك بطلاق وإنما هو فسخ للنكاح ; وأنها لو أعتقته بعد ملكها له لم يراجعها
إلا بنكاح جديد ولو كانت في عدة منه . قال محمد بن الحكم : سمعت حرملة بن عبد
العزيز قال : سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة , فتلا هذه الآية }{ والذين هم لفروجهم
حافظون } - إلى قوله - { العادون } . وهذا لأنهم يكنون عن الذكر بعميرة ; وفيه يقول
الشاعر : إذا حللت بواد لا أنيس به فاجلد عميرة لا داء ولا حرج ويسميه أهل العراق
الاستمناء , وهو استفعال من المني . وأحمد بن حنبل على ورعه يجوزه , ويحتج بأنه
إخراج فضلة من البدن فجاز عند الحاجة ; أصله الفصد والحجامة . وعامة العلماء على
تحريمه . وقال بعض العلماء : إنه كالفاعل بنفسه , وهي معصية أحدثها الشيطان وأجراها
بين الناس حتى صارت قيلة , ويا ليتها لم تقل ; ولو قام الدليل على جوازها لكان ذو
المروءة يعرض عنها لدناءتها . فإن قيل : إنها خير من نكاح الأمة ; قلنا : نكاح الأمة
ولو كانت كافرة على مذهب بعض العلماء خير من هذا , وإن كان قد قال به قائل أيضا ,
ولكن الاستمناء ضعيف في الدليل عار بالرجل الدنيء فكيف بالرجل الكبير .
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ قال الفراء : أي من أزواجهم اللاتي أحل الله لهم لا
يجاوزون. أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ في موضع
خفض معطوفة على }{ أزواجهم }{ و }{ ما }{ مصدرية . وهذا يقتضي تحريم الزنى وما قلناه من
الاستنماء ونكاح المتعة ; لأن المتمتع بها لا تجري مجرى الزوجات , لا ترث ولا تورث
, ولا يلحق به ولدها , ولا يخرج من نكاحها بطلاق يستأنف لها , وإنما يخرج بانقضاء
المدة التي عقدت عليها وصارت كالمستأجرة . ابن العربي : إن قلنا إن نكاح المتعة جائز
فهي زوجة إلى أجل ينطلق عليها اسم الزوجية . وإن قلنا بالحق الذي أجمعت عليه الأمة
من تحريم نكاح المتعة لما كانت زوجة فلم تدخل في الآية . قلت : وفائدة هذا الخلاف هل
يجب الحد ولا يلحق الولد كالزنى الصريح أو يدفع الحد للشبهة ويلحق الولد , قولان
لأصحابنا . وقد كان للمتعة في التحليل والتحريم أحوال ; فمن ذلك أنها كانت مباحة ثم
حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن خيبر , ثم حللها في غزاة الفتح ; ثم حرمها
بعد ; قاله ابن خويز منداد من أصحابنا وغيره , وإليه أشار ابن العربي . وقد مضى في }
النساء }{ القول فيها مستوفى .
فسمى من نكح ما لا يحل عاديا وأوجب عليه الحد لعدوانه , واللائط عاد قرآنا ولغة ,
بدليل قوله تعالى : { بل أنتم قوم عادون } [ الشعراء : 166 ] وكما تقدم في }
الأعراف } ; فوجب أن يقام الحد عليهم , وهذا ظاهر لا غبار عليه . قلت : فيه نظر , ما
لم يكن جاهلا أو متأولا , وإن كان الإجماع منعقدا على أن قوله تعالى : { والذين هم
لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين }{ خص به
الرجال دون النساء ; فقد روى معمر عن قتادة قال : تسررت امرأة غلامها ; فذكر ذلك
لعمر فسألها : ما حملك على ذلك ؟ قالت : كنت أراه يحل لي بملك يميني كما يحل للرجل
المرأة بملك اليمين ; فاستشار عمر في رجمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا : تأولت كتاب الله عز وجل على غير تأويله , لا رجم عليها . فقال عمر : لا جرم
! والله لا أحلك لحر بعده أبدا . عاقبها بذلك ودرأ الحد عنها , وأمر العبد ألا
يقربها . وعن أبي بكر بن عبد الله أنه سمع أباه يقول : أنا حضرت عمر بن عبد العزيز
جاءته امرأة بغلام لها وضيء فقالت : إني استسررته فمنعني بنو عمي عن ذلك , وإنما
أنا بمنزلة الرجل تكون له الوليدة فيطؤها ; فانه عني بني عمي ; فقال عمر : أتزوجت
قبله ؟ قالت نعم ; قال : أما والله لولا منزلتك من الجهالة لرجمتك بالحجارة ; ولكن
اذهبوا به فبيعوه إلى من يخرج به إلى غير بلدها . و }{ وراء }{ بمعنى سوى , وهو مفعول
ب }{ ابتغى }{ أي من طلب سوى الأزواج والولائد المملوكة له . وقال الزجاج : أي فمن
ابتغى ما بعد ذلك ; فمفعول الابتغاء محذوف , و }{ وراء }{ ظرف . و }{ ذلك }{ يشار به إلى
كل مذكور مؤنثا كان أو مذكرا .{ فأولئك هم العادون }{ أي المجاوزون الحد ; من عدا أي
جاوز الحد وجازه .
قرأ الجمهور }{ لأماناتهم }{ بالجمع . وابن كثير بالإفراد . والأمانة والعهد يجمع كل ما
يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولا وفعلا . وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد
وغير ذلك ; وغاية ذلك حفظه والقيام به . والأمانة أعم من العهد , وكل عهد فهو أمانة
فيما تقدم فيه قول أو فعل أو معتقد .
قرأ الجمهور }{ صلواتهم }{ وحمزة والكسائي }{ صلاتهم }{ بالإفراد ; وهذا الإفراد اسم
جنس فهو في معنى الجميع . والمحافظة على الصلاة إقامتها والمبادرة إليها أوائل
أوقاتها , وإتمام ركوعها وسجودها . وقد تقدم في }{ البقرة }{ مستوفى .
أي من عمل بما ذكر في هذه الآيات فهم الوارثون ; أي يرثون منازل أهل النار من الجنة
. وفي الخبر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الله تعالى
جعل لكل إنسان مسكنا في الجنة ومسكنا في النار فأما المؤمنون فيأخذون منازلهم
ويرثون منازل الكفار ويجعل الكفار في منازلهم في النار ) . خرجه ابن ماجه بمعناه . عن
أبي هريرة أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما منكم من أحد إلا وله
منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك
قوله تعالى : { أولئك هم الوارثون } ) . إسناده صحيح . ويحتمل أن يسمى الحصول على
الجنة وراثة من حيث حصولها دون غيرهم , فهو اسم مستعار على الوجهين.
والفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها . خرجه الترمذي من حديث الربيع بنت النضر أم
حارثة , وقال : حديث حسن صحيح . وفي حديث مسلم ( فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه
أوسط الجنة وأعلى الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة ) . قال أبو حاتم محمد بن حبان : قوله
صلى الله عليه وسلم ( فإنه أوسط الجنة ) يريد أن الفردوس في وسط الجنان في العرض
وهو أعلى الجنة , يريد في الارتفاع . وهذا كله يصحح قول أبي هريرة : إن الفردوس جبل
الجنة التي تتفجر منه أنهار الجنة . واللفظة فيما قال مجاهد : رومية عربت . وقيل : هي
فارسية عربت . وقيل : حبشية ; وإن ثبت ذلك فهو وفاق بين اللغات . وقال الضحاك : هو
عربي وهو الكرم ; والعرب تقول للكروم فراديس .{ هم فيها خالدون }{ فأنث على معنى
الجنة .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ الإنسان هنا آدم عليه الصلاة
والسلام ; قاله قتادة وغيره , لأنه استل من الطين . ويجيء الضمير في قوله : { ثم
جعلناه }{ عائدا على ابن آدم , وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر ; فإن المعنى لا يصلح
إلا له . نظير ذلك }{ حتى توارت بالحجاب } [ ص : 32 ] . وقيل : المراد بالسلالة ابن
آدم ; قاله ابن عباس وغيره . والسلالة على هذا صفوة الماء , يعني المني . والسلالة
فعالة من السل وهو استخراج الشيء من الشيء ; يقال : سللت الشعر من العجين , والسيف
من الغمد فانسل ; ومنه قوله : فسلي ثيابي من ثيابك تنسل فالنطفة سلالة , والولد
سليل وسلالة ; عنى به الماء يسل من الظهر سلا . قال الشاعر : فجاءت به عضب الأديم
غضنفرا سلالة فرج كان غير حصين وقال آخر : وما هند إلا مهرة عربية سليلة أفراس
تجللها بغل مِنْ طِينٍ أي أن الأصل آدم وهو من طين . قلت : أي من طين خالص ; فأما
ولده فهو من طين ومني , حسبما بيناه في أول سورة الأنعام . وقال الكلبي : السلالة
الطين إذا عصرته انسل من بين أصابعك ; فالذي يخرج هو السلالة .
وهو القليل من الماء , وقد يقع على الكثير منه ; ومنه الحديث ( حتى يسير الراكب بين
النطفتين لا يخشى جورا ) . أراد بحر المشرق وبحر المغرب . والنطف : القطر . نطف ينطف
وينطف . وليلة نطوفة دائمة القطر.
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً
فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا }{ ثم من علقة }
وهو الدم الجامد . والعلق الدم العبيط ; أي الطري . وقيل : الشديد الحمرة .{ ثم من
مضغة }{ وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ ; ومنه الحديث ( ألا وإن في الجسد مضغة ) . وهذه
الأطوار أربعة أشهر . قال ابن عباس : ( وفي العشر بعد الأشهر الأربعة ينفخ فيه الروح
) , فذلك عدة المتوفى عنها زوجها ; أربعة أشهر وعشر . روى يحيى بن زكريا بن أبي
زائدة حدثنا داود عن عامر عن علقمة عن ابن مسعود وعن ابن عمر أن النطفة إذا استقرت
في الرحم أخذها ملك بكفه فقال : { يا رب , ذكر أم أنثى , شقي أم سعيد , ما الأجل
والأثر , بأي أرض تموت ؟ فيقال له انطلق إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها قصة هذه
النطفة , فينطلق فيجد قصتها في أم الكتاب , فتخلق فتأكل رزقها وتطأ أثرها فإذا جاء
أجلها قبضت فدفنت في المكان الذي قدر لها ; ثم قرأ عامر }{ يأيها الناس إن كنتم في
ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب } . وفي الصحيح عن أنس بن مالك - ورفع الحديث -
قال : ( إن الله قد وكل بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة . أي رب علقة . أي رب مضغة
. فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال قال الملك أي رب ذكر أو أنثى شقي أو سعيد . فما
الرزق فما الأجل . فيكتب كذلك في بطن أمه ) . وفي الصحيح أيضا عن حذيفة بن أسيد
الغفاري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا مر بالنطفة ثنتان
وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها
ثم يقول أي رب أذكر أم أنثى .. .) وذكر الحديث . وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود
قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ( إن أحدكم يجمع خلقه
في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل
الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.. .)
الحديث . فهذا الحديث مفسر للأحاديث الأول ; فإنه فيه : ( يجمع أحدكم في بطن أمه
أربعين يوما نطفة ثم أربعين يوما علقة ثم أربعين يوما مضغة ثم يبعث الملك فينفخ فيه
الروح ) فهذه أربعة أشهر وفي العشر ينفخ الملك الروح , وهذه عدة المتوفى عنها زوجها
كما قال ابن عباس . وقوله : ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه ) قد فسره ابن مسعود ,
سئل الأعمش : ما يجمع في بطن أمه ؟ فقال : حدثنا خيثمة قال قال عبد الله : إذا وقعت
النطفة في الرحم فأراد أن يخلق منها بشرا طارت في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم
تمكث أربعين يوما ثم تصير دما في الرحم ; فذلك جمعها , وهذا وقت كونها علقة . نسبة
الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقية , وأن ما صدر عنه فعل ما في المضغة كان
عند التصوير والتشكيل بقدرة الله وخلقه واختراعه ; ألا تراه سبحانه قد أضاف إليه
الخلقة الحقيقية , وقطع عنها نسب جميع الخليقة فقال : { ولقد خلقناكم ثم صورناكم }
[ الأعراف : 11 ] . وقال : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين . ثم جعلناه نطفة في
قرار مكين } [ المؤمنون : 12 - 13 ] . وقال : { يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث
فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة } . وقال تعالى : { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم
مؤمن } [ التغابن : 2 ] . ثم قال : { وصوركم فأحسن صوركم } [ غافر : 64 ] . وقال : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [ التين : 4 ] . وقال : { خلق الإنسان من علق } [
العلق : 2 ] . إلى غير ذلك من الآيات , مع ما دلت عليه قاطعات البراهين أن لا خالق
لشيء من المخلوقات إلا رب العالمين . وهكذا القول في قول : { ثم يرسل الملك فينفخ
فيه الروح }{ أي أن النفخ سبب خلق الله فيها الروح والحياة . وكذلك القول في سائر
الأسباب المعتادة ; فإنه بإحداث الله تعالى لا بغيره . فتأمل هذا الأصل وتمسك به ,
ففيه النجاة من مذاهب أهل الضلال الطبعيين وغيرهم . ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا
آخَرَ اختلف الناس في الخلق الآخر ; فقال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك
وابن زيد : هو نفخ الروح فيه بعد أن كان جمادا . وعن ابن عباس : خروج إلى الدنيا
. وقال قتادة عن فرقة : نبات شعره . الضحاك : خروج الأسنان ونبات الشعر . مجاهد : كمال
شبابه ; وروي عن ابن عمر : والصحيح أنه عام في هذا وفي غيره من النطق والإدراك وحسن
المحاولة وتحصيل المعقولات إلى أن يموت . فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ يروى أن عمر بن الخطاب لما سمع صدر الآية إلى قوله }{ خلقا آخر }{ قال
فتبارك الله أحسن الخالقين ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هكذا أنزلت )
. وفي مسند الطيالسي : ونزلت }{ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين }{ الآية ; فلما
نزلت قلت أنا : تبارك الله أحسن الخالقين ; فنزلت }{ تبارك الله أحسن الخالقين }
. ويروى أن قائل ذلك معاذ ابن جبل . وروي أن قائل ذلك عبد الله بن أبي سرح , وبهذا
السبب ارتد وقال : آتي بمثل ما يأتي محمد ; وفيه نزل }{ ومن أظلم ممن افترى على الله
كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } [ الأنعام
: 93 ] على ما تقدم بيانه في }{ الأنعام } . وقوله تعالى : { فتبارك }{ تفاعل من
البركة .{ أحسن الخالقين }{ أتقن الصانعين . يقال لمن صنع شيئا خلقه ; ومنه قول
الشاعر : ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري وذهب بعض الناس إلى نفي
هذه اللفظة عن الناس وإنما يضاف الخلق إلى الله تعالى . وقال ابن جريج : إنما قال }
أحسن الخالقين }{ لأنه تعالى قد أذن لعيسى عليه السلام أن يخلق ; واضطرب بعضهم في
ذلك . ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع ; وإنما هي منفية بمعنى الاختراع
والإيجاد من العدم . مسألة : من هذه الآية قال ابن عباس لعمر حين سأل مشيخة الصحابة
عن ليلة القدر فقالوا : الله أعلم ; فقال عمر : ما تقول يا ابن عباس ؟ فقال : يا
أمير المؤمنين إن الله تعالى خلق السموات سبعا والأرضين سبعا , وخلق ابن آدم من سبع
وجعل رزقه في سبع , فأراها في ليلة سبع وعشرين . فقال عمر رضي الله عنه : أعجزكم أن
تأتوا بمثل ما أتى هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه . وهذا الحديث بطوله في مسند
ابن أبي شيبة . فأراد ابن عباس }{ خلق ابن آدم من سبع }{ بهذه الآية , وبقوله }{ وجعل
رزقه في سبع }{ قوله }{ فأنبتنا فيها حبا . وعنبا وقضبا . وزيتونا ونخلا . وحدائق غلبا
. وفاكهة وأبا } [ عبس : 27 - 31 ] الآية . السبع منها لابن آدم , والأب للأنعام
. والقضب يأكله ابن آدم ويسمن منه النساء ; هذا قول . وقيل : القضب البقول لأنها تقضب
; فهي رزق ابن آدم . وقيل : القضب والأب للأنعام , والست الباقية لابن آدم ,
والسابعة هي للأنعام ; إذ هي من أعظم رزق ابن آدم .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ قال أبو عبيدة : أي سبع سموات
. وحكى عنه أنه يقال : طارقت الشيء , أي جعلت بعضه فوق بعض ; فقيل للسموات طرائق لأن
بعضها فوق بعض . والعرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة . وقيل : لأنها طرائق الملائكة
. وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ قال بعض العلماء : عن خلق السماء . وقال
أكثر المفسرين : أي عن الخلق كلهم من أن تسقط عليهم فتهلكهم . قلت : ويحتمل أن يكون
المعنى }{ وما كنا عن الخلق غافلين }{ أي في القيام بمصالحه وحفظه ; وهو معنى الحي
القيوم ; على ما تقدم.
فيه أربع مسائل : الأولى : هذه الآية من نعم الله تعالى على خلقه ومما امتن به
عليهم ; ومن أعظم المنن الماء الذي هو حياة الأبدان ونماء الحيوان . والماء المنزل
من السماء على قسمين : هذا الذي ذكر الله سبحانه وتعالى وأخبر بأنه استودعه في
الأرض , وجعله فيها مختزنا لسقي الناس يجدونه عند الحاجة إليه ; وهو ماء الأنهار
والعيون وما يستخرج من الآبار . وروي عن ابن عباس وغيره أنه إنما أراد الأنهار
الأربعة : سيحان وجيحان ونيل مصر والفرات . وقال مجاهد : ليس في الأرض ماء إلا وهو
من السماء . وهذا ليس على إطلاقه , وإلا فالأجاج ثابت في الأرض , فيمكن أن يقيد قوله
بالماء العذب , ولا محالة أن الله تعالى قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء ماء
. وقد قيل : إن قوله }{ وأنزلنا من السماء ماء }{ إشارة إلى الماء العذب , وأن أصله من
البحر , رفعه الله تعالى بلطفه وحسن تقديره من البحر إلى السماء , حتى طاب بذلك
الرفع والتصعيد ; ثم أنزله إلى الأرض لينتفع به , ولو كان الأمر إلى ماء البحر لما
انتفع به من ملوحته . الثانية : قوله تعالى : { بقدر }{ أي على مقدار مصلح , لأنه لو
كثر أهلك ; ومنه قوله تعالى : { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر
معلوم }{ الحجر : 21 ] .{ وإنا على ذهاب به لقادرون }{ يعني الماء المختزن . وهذا
تهديد ووعيد ; أي في قدرتنا إذهابه وتغويره , ويهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم ;
وهذا كقوله تعالى : { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا }{ أي غائرا }{ فمن يأتيكم بماء
معين } [ الملك : 30 ] . الثالثة : ذكر النحاس : قرئ على أبي يعقوب إسحاق بن
إبراهيم بن يونس عن جامع بن سوادة قال : حدثنا سعيد بن سابق قال حدثنا مسلمة بن علي
عن مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : ( أنزل الله عز وجل من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار سيحون وهو نهر الهند
وجيحون وهو نهر بلخ ودجلة والفرات وهما نهرا العراق والنيل وهو نهر مصر أنزلها الله
تعالى من عين واحدة من عيون الجنة في أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل عليه
السلام فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم
وذلك قوله جل ثناؤه : { وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض }{ فإذا كان
عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله عز وجل جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم وجميع
الأنهار الخمسة فيرفع ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى : { وإنا على ذهاب به لقادرون
{ فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا ) . الرابعة : كل ما
نزل من السماء مختزنا كان أو غير مختزن فهو طاهر مطهر يغتسل به ويتوضأ منه ; على ما
يأتي في }{ الفرقان }{ بيانه .
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ أي جعلنا ذلك سبب النبات , وأوجدناه به وخلقناه. جَنَّاتٍ
مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وذكر تعالى النخيل والأعناب لأنها ثمرة الحجاز بالطائف
والمدينة وغيرهما ; قاله الطبري . ولأنها أيضا أشرف الثمار , فذكرها تشريفا لها
وتنبيها عليها . لَكُمْ فِيهَا أي في الجنات . فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا
تَأْكُلُونَ من غير الرطب والعنب . ويحتمل أن يعود على النخيل والأعناب خاصة إذ فيها
مراتب وأنواع ; والأول أعم لسائر الثمرات . من حلف ألا يأكل فاكهة ; في الرواية
عندنا يحنث بالباقلاء الخضراء وما أشبهها . وقال أبو حنيفة : لا يحنث بأكل القثاء
والخيار والجزر , لأنها من البقول لا من الفاكهة . وكذلك الجوز واللوز والفستق ; لأن
هذه الأشياء لا تعد من الفاكهة وإن أكل تفاحا أو خوخا أو مشمشا أو تينا أو إجاصا
يحنث . وكذلك البطيخ ; لأن هذه الأشياء كلها تؤكل على جهة التفكه قبل الطعام وبعده ;
فكانت فاكهة . وكذلك يابس هذه الأشياء إلا البطيخ اليابس لأن ذلك لا يؤكل إلا في بعض
البلدان . ولا يحنث بأكل البطيخ الهندي لأنه لا يعد من الفواكه . وإن أكل عنبا أو
رمانا أو رطبا لا يحنث . وخالفه صاحباه فقالا يحنث ; لأن هذه الأشياء من أعز الفواكه
, وتؤكل على وجه التنعم . والإفراد لها بالذكر في كتاب الله عز و جل لكمال معانيها ;
كتخصيص جبريل وميكائيل من الملائكة . واحتج أبو حنيفة بأن قال : عطف هذه الأشياء على
الفاكهة مرة فقال }{ فيهما فاكهة ونخل ورمان } [ الرحمن : 68 ] ومرة عطف الفاكهة على
هذه الأشياء فقال : { وفاكهة وأبا } [ عبس : 31 ] والمعطوف غير المعطوف عليه , ولا
يليق بالحكمة ذكر الشيء الواحد بلفظين مختلفين في موضع المنة . والعنب والرمان يكتفى
بهما في بعض البلدان فلا يكون فاكهة ; ولأن ما كان فاكهة لا فرق بين رطبه ويابسه ,
ويابس هذه الأشياء لا يعد فاكهة فكذلك رطبها .
وَشَجَرَةً شجرة عطف على جنات . وأجاز الفراء الرفع لأنه لم يظهر الفعل , بمعنى وثم
شجرة ; ويريد بها شجرة الزيتون . وأفردها بالذكر لعظيم منافعها في أرض الشام والحجاز
وغيرهما من البلاد , وقلة تعاهدها بالسقي والحفر وغير ذلك من المراعاة في سائر
الأشجار . تَخْرُجُ في موضع الصفة . مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ أي أنبتها الله في الأصل من
هذا الجبل الذي بارك الله فيه . وطور سيناء من أرض الشام وهو الجبل الذي كلم الله
عليه موسى عليه السلام ; قاله ابن عباس وغيره , وقد تقدم في البقرة والأعراف
. والطور الجبل في كلام العرب . وقيل : هو مما عرب من كلام العجم . وقال ابن زيد : هو
جبل بيت المقدس ممدود من مصر إلى أيلة . واختلف في سيناء ; فقال قتادة : معناه الحسن
; ويلزم على هذا التأويل أن ينون الطور على النعت . وقال مجاهد : معناه مبارك . وقال
معمر عن فرقة : معناه شجر ; ويلزمهم أن ينونوا الطور . وقال الجمهور : هو اسم الجبل
; كما تقول جبل أحد . وعن مجاهد أيضا : سيناء حجر بعينه أضيف الجبل إليه لوجوده عنده
. وقال مقاتل : كل جبل يحمل الثمار فهو سيناء ; أي حسن . وقرأ الكوفيون بفتح السين
على وزن فعلاء ; وفعلاء في كلام العرب كثير ; يمنع من الصرف في المعرفة والنكرة ;
لأن في آخرها ألف التأنيث , وألف التأنيث ملازمة لما هي فيه , وليس في الكلام فعلاء
, ولكن من قرأ سيناء بكسر السين جعله فعلالا ; فالهمزة فيه كهمزة حرباء , ولم يصرف
في هذه الآية لأنه جعل اسم بقعة . وزعم الأخفش أنه اسم أعجمي . تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ
قرأ الجمهور }{ تنبت }{ بفتح التاء وضم الباء , والتقدير : تنبت ومعها الدهن ; كما
تقول : خرج زيد بسلاحه . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم التاء وكسر الباء . واختلف في
التقدير على هذه القراءة ; فقال أبو علي الفارسي : التقدير تنبت جناها ومعه الدهن ;
فالمفعول محذوف . وقيل : الباء زائدة ; مثل }{ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } [
البقرة : 195 ] وهذا مذهب أبي عبيدة . وقال الشاعر : نضرب بالسيف ونرجو بالفرج وقال
آخر : هن الحرائر لا ربات أخمرة سود المحاجر لا يقرأن بالسور ونحو هذا قاله أبو علي
أيضا ; وقد تقدم . وقيل : نبت وأنبت بمعنى ; فيكون المعنى كما مضى في قراءة الجمهور
, وهو مذهب الفراء وأبي إسحاق , ومنه قول زهير : حتى إذا أنبت البقل والأصمعي ينكر
أنبت , ويتهم قصيدة زهير التي فيها : رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا بها حتى
إذا أنبت البقل أي نبت . وقرأ الزهري والحسن والأعرج }{ تنبت بالدهن }{ برفع التاء
ونصب الباء . قال ابن جني والزجاج : هي باء الحال ; أي تنبت ومعها دهنها . وفي قراءة
ابن مسعود : { تخرج بالدهن }{ وهي باء الحال . ابن درستويه : الدهن الماء اللين ;
تنبت من الإنبات . وقرأ زر بن حبيش }{ تنبت - بضم التاء وكسر الباء - الدهن }{ بحذف
الباء ونصبه . وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب }{ بالدهان } . والمراد من الآية
تعديد نعمة الزيت على الإنسان , وهي من أركان النعم التي لا غنى بالصحة عنها . ويدخل
في معنى الزيتون شجر الزيت كله على اختلافه بحسب الأقطار . وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ
قراءة الجمهور . وقرأت فرقة }{ وأصباغ }{ بالجمع . وقرأ عامر بن عبد قيس }{ ومتاعا } ;
ويراد به الزيت الذي يصطبغ به الأكل ; يقال : صبغ وصباغ ; مثل دبغ ودباغ , ولبس
ولباس . وكل إدام يؤتدم به فهو صبغ ; حكاه الهروي وغيره . وأصل الصبغ ما يلون به
الثوب , وشبه الإدام به لأن الخبز يلون بالصبغ إذا غمس فيه . وقال مقاتل : الأدم
الزيتون , والدهن الزيت . وقد جعل الله تعالى في هذه الشجرة أدما ودهنا ; فالصبغ على
هذا الزيتون . لا خلاف أن كل ما يصطبغ فيه من المائعات كالزيت والسمن والعسل والرب
والخل وغير ذلك من الأمراق أنه إدام . وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخل
فقال : ( نعم الإدام الخل ) رواه تسعة من الصحابة , سبعة رجال وامرأتان . وممن رواه
في الصحيح جابر وعائشة وخارجة وعمر وابنه عبيد الله وابن عباس وأبو هريرة وسمرة بن
جندب وأنس وأم هانئ . واختلف فيما كان جامدا كاللحم والتمر والزيتون وغير ذلك من
الجوامد ; فالجمهور أن ذلك كله إدام ; فمن حلف ألا يأكل إداما فأكل لحما أو جبنا
حنث . وقال أبو حنيفة : لا يحنث ; وخالفه صاحباه . وقد روي عن أبي يوسف مثل قول أبي
حنيفة . والبقل ليس بإدام في قولهم جميعا . وعن الشافعي في التمر وجهان ; والمشهور
أنه ليس بإدام لقوله في التنبيه . وقيل يحنث ; والصحيح أن هذا كله إدام . وقد روى أبو
داود عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ كسرة من
خبز شعير فوضع عليها تمرة فقال : ( هذا إدام هذه ) . وقال صلى الله عليه وسلم : (
سيد إدام الدنيا والآخرة اللحم ) . ذكره أبو عمر . وترجم البخاري ( باب الإدام ) وساق
حديث عائشة ; ولأن الإدام مأخوذ من المؤادمة وهي الموافقة , وهذه الأشياء توافق
الخبز فكان إداما . وفي الحديث عنه عليه السلام : ( ائتدموا ولو بالماء ) . ولأبي
حنيفة أن حقيقة الإدام الموافقة في الاجتماع على وجه لا يقبل الفصل ; كالخل والزيت
ونحوهما , وأما اللحم والبيض وغيرهما لا يوافق الخبز بل يجاوزه كالبطيخ والتمر
والعنب . والحاصل : أن كل ما يحتاج في الأكل إلى موافقة الخبز كان إداما , وكل ما لا
يحتاج ويؤكل على حدة لا يكون إداما , والله أعلم . روى الترمذي من حديث عمر بن
الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كلوا الزيت وادهنوا
به فإنه من شجرة مباركة ) . هذا حديث لا يعرف إلا من حديث عبد الرزاق , وكان يضطرب
فيه , فربما يذكر فيه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم , وربما رواه على الشك
فقال : أحسبه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم , وربما قال : عن زيد بن أسلم عن
أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال مقاتل : خص الطور بالزيتون لأن أول الزيتون
نبت منها . وقيل : إن الزيتون أول شجرة نبتت في الدنيا بعد الطوفان . والله أعلم .
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً هنا الأصناف الأربعة : الإبل والبقر
والضأن والمعز .{ لعبرة }{ أي دلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته . والعبرة أصلها
تمثيل الشيء بالشيء لتعرف حقيقته من طريق المشاكلة , ومنه }{ فاعتبروا } [ الحشر : 2
] . وقال أبو بكر الوراق : العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم , وتمردك
على ربك وخلافك له في كل شيء . ومن أعظم العبر بريء يحمل مذنبا. نُسْقِيكُمْ قراءة
أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر بفتح النون من سقى يسقي . وقرأ
الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقي , وهي قراءة الكوفيين وأهل مكة . قيل :
هما لغتان . وقال لبيد : سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال وقيل : يقال
لما كان من يدك إلى فيه سقيته , فإذا جعلت له شرابا أو عرضته لأن يشرب بفيه أو
يزرعه قلت أسقيته ; قال ابن عزيز , وقد تقدم . وقرأت فرقة }{ تسقيكم }{ بالتاء , وهي
ضعيفة , يعني الأنعام . وقرئ بالياء , أي يسقيكم الله عز وجل . والقراء على القراءتين
المتقدمتين ; ففتح النون لغة قريش وضمها لغة حمير . مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ
فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ قال الكسائي : { مما في بطونها }
أي مما في بطون بعضه ; إذ الذكور لا ألبان لها , وهو الذي عول عليه أبو عبيدة . وقال
الفراء : الأنعام والنعم واحد , والنعم يذكر , ولهذا تقول العرب : هذا نعم وارد ,
فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام . قال ابن العربي : إنما رجع
التذكير إلى معنى الجمع , والتأنيث إلى معنى الجماعة , فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع
, وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة فقال : { نسقيكم مما في بطونها } [
المؤمنون : 21 ] وبهذا التأويل ينتظم المعنى انتظاما . حسنا . والتأنيث باعتبار لفظ
الجماعة والتذكير باعتبار لفظ الجمع أكثر من رمل يبرين وتيهاء فلسطين . استنبط بعض
العلماء الجلة وهو القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير , أن لبن الفحل يفيد التحريم ,
وقال : إنما جيء به مذكرا لأنه راجع إلى ذكر النعم ; لأن اللبن للذكر محسوب , ولذلك
قضى النبي صلى الله عليه وسلم بأن لبن الفحل يحرم حين أنكرته عائشة في حديث أفلح
أخي أبي القعيس ( فللمرأة السقي وللرجل اللقاح ) فجرى الاشتراك فيه بينهما . وقد مضى
القول في تحريم لبن الفحل في [ النساء ] والحمد لله .
قوله تعالى : { وعليها }{ أي وعلى الأنعام في البر .{ وعلى الفلك }{ في البحر .{ تحملون }{ وإنما يحمل في البر على الإبل فيجوز أن ترجع الكناية إلى بعض الأنعام
. وروي أن رجلا ركب بقرة في الزمان الأول فأنطقها الله تعالى معه فقالت : إنا لم
نخلق لهذا ! وإنما خلقت للحرث.
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي يسودكم ويشرف عليكم بأن يكون
متبوعا ونحن له تبع . وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً أي لو شاء الله
ألا يعبد شيء سواه لجعل رسوله ملكا . مَا سَمِعْنَا بِهَذَا أي بمثل دعوته . وقيل :
ما سمعنا بمثله بشرا ; أي برسالة ربه . فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ أي في الأمم
الماضية ; قاله ابن عباس . والباء في }{ بهذا }{ زائدة ; أي ما سمعنا هذا كائنا في
أبائنا الأولين , ثم عطف بعضهم على بعض فقالوا .
إِنْ هُوَ يعنون نوحاإِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون لا يدري ما يقول
. فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ أي انتظروا موته . وقيل : حتى يستبين جنونه . وقال
الفراء : ليس يراد بالحين هاهنا وقت بعينه , إنما هو كقوله : دعه إلى يوم ما . فقال
حين تمادوا على كفرهم .
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أي أرسلنا إليه رسلا من السماءأَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ
بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا أي اعمل السفينة لتركبها أنت ومن آمن معك .{ بأعيننا }
أي بمرأى منا وحيث نراك . وقال الربيع بن أنس : بحفظنا إياك حفظ من يراك . وقال ابن
عباس رضي الله عنهما : ( بحراستنا ) ; والمعنى واحد ; فعبر عن الرؤية بالأعين ; لأن
الرؤية تكون بها . ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير ; كما قال تعالى : { فنعم
القادرون } [ المرسلات : 23 ] { فنعم الماهدون }{ وإنا لموسعون } [ الذاريات : 47
] . وقد يرجع معنى الأعين في هذه الآية وغيرها إلى معنى عين ; كما قال : { ولتصنع
على عيني }{ وذلك كله عبارة عن الإدراك والإحاطة , وهو سبحانه منزه عن الحواس
والتشبيه والتكييف ; لا رب غيره . وقيل : المعنى }{ بأعيننا }{ أي بأعين ملائكتنا
الذين جعلناهم عيونا على حفظك ومعونتك ; فيكون الجمع على هذا التكثير على بابه
. وقيل : { بأعيننا }{ أي بعلمنا ; قاله مقاتل : وقال الضحاك وسفيان : { بأعيننا }
بأمرنا . وقيل : بوحينا . وقيل : بمعونتنا لك على صنعها .{ ووحينا }{ أي على ما أوحينا
إليك , من صنعتها . فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ اختلف في التنور
على أقوال سبعة : الأول : أنه وجه الأرض , والعرب تسمي وجه الأرض تنورا ; قاله ابن
عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة ; وذلك أنه قيل له : إذا رأيت الماء على وجه الأرض
فاركب أنت ومن معك . الثاني : أنه تنور الخبز الذي يخبز فيه ; وكان تنورا من حجارة
; وكان لحواء حتى صار لنوح ; فقيل له : إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت
وأصحابك . وأنبع الله الماء من التنور , فعلمت به امرأته فقالت : يا نوح فار الماء
من التنور ; فقال : جاء وعد ربي حقا . هذا قول الحسن ; وقال مجاهد وعطية عن ابن عباس
. الثالث : أنه موضع اجتماع الماء في السفينة ; عن الحسن أيضا . الرابع : أنه طلوع
الفجر , ونور الصبح ; من قولهم : نور الفجر تنويرا ; قاله علي بن أبي طالب رضي الله
عنه . الخامس : أنه مسجد الكوفة ; قاله علي بن أبي طالب أيضا ; وقال مجاهد . قال
مجاهد : كان ناحية التنور بالكوفة . وقال : اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة ,
وكان التنور على يمين الداخل مما يلي كندة . وكان فوران الماء منه علما لنوح ,
ودليلا على هلاك قومه . قال الشاعر وهو أمية : فار تنورهم وجاش بماء صار فوق الجبال
حتى علاها السادس : أنه أعالي الأرض , والمواضع المرتفعة منها ; قاله قتادة .
السابع : أنه العين التي بالجزيرة }{ عين الوردة }{ رواه عكرمة . وقال مقاتل : كان ذلك
تنور آدم , وإنما كان بالشام بموضع يقال له : { عين وردة }{ وقال ابن عباس أيضا : (
فار تنور آدم بالهند ) . قال النحاس : وهذه الأقوال ليست بمتناقضة ; لأن الله عز وجل
أخبرنا أن الماء جاء من السماء والأرض ; قال : { ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر
. وفجرنا الأرض عيونا } [ القمر : 11 - 12 ] . فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان
علامة . والفوران الغليان . والتنور اسم أعجمي عربته العرب , وهو على بناء فعول ; لأن
أصل بنائه تنر , وليس في كلام العرب نون قبل راء . وقيل : معنى }{ فار التنور }
التمثيل لحضور العذاب ; كقولهم : حمي الوطيس إذا اشتدت الحرب . والوطيس التنور
. ويقال : فارت قدر القوم إذا اشتد حربهم ; قال شاعرهم : تركتم قدركم لا شيء فيها
وقدر القوم حامية تفور فَاسْلُكْ فِيهَا أي أدخل فيها واجعل فيها ; يقال : سلكته في
كذا وأسلكته فيه في كذا وأسلكته فيه إذا أدخلته . قال عبد مناف بن ربع الهذلي : حتى
إذا أسلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا
تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ قرأ حفص }{ من كل }
بالتنوين , الباقون بالإضافة ; وقد ذكر . وقال الحسن : لم يحمل نوح في السفينة إلا
ما يلد ويبيض , فأما البق والذباب والدود فلم يحمل شيئا منها , وإنما خرج من الطين
. وقد مضى القول في السفينة والكلام فيها مستوفى , والحمد لله.
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أي علوت . أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ راكبين . فَقُلِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ أي احمدوا الله على تخليصه إياكم. الَّذِي نَجَّانَا مِنَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ومن الغرق . والحمد لله : كلمة كل شاكر لله . وقد مضى في
الفاتحة بيانه .
قراءة العامة }{ منزلا }{ بضم الميم وفتح الزاي , على المصدر الذي هو الإنزال ; أي
أنزلني إنزالا مباركا . وقرأ زر بن حبيش وأبو بكر عن عاصم والمفضل }{ منزلا }{ بفتح
الميم وكسر الزاي على الموضع ; أي أنزلني موضعا مباركا . الجوهري : المنزل ( بفتح
الميم والزاي ) النزول وهو الحلول ; تقول : نزلت نزولا ومنزلا . وقال : أأن ذكرتك
الدار منزلها جمل بكيت فدمع العين منحدر سجل نصب }{ المنزل }{ لأنه مصدر . وأنزله غيره
واستنزله بمعنى . ونزله تنزيلا ; والتنزيل أيضا الترتيب . قال ابن عباس ومجاهد : هذا
حين خرج من السفينة ; مثل قوله تعالى : { اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن
معك } [ هود : 48 ] . وقيل : حين دخلها ; فعلى هذا يكون قوله }{ مباركا }{ يعني
بالسلامة والنجاة . قلت : وبالجملة فالآية تعليم من الله عز وجل لعباده إذا ركبوا
وإذا نزلوا أن يقولوا هذا ; بل وإذا دخلوا بيوتهم وسلموا قالوا . وروي عن علي رضي
الله عنه أنه كان إذا دخل المسجد قال : اللهم أنزلني منزلا مباركا وأنت خير
المنزلين .
إِنَّ فِي ذَلِكَ أي في أمر نوح والسفينة وإهلاك الكافرين . لَآيَاتٍ أي دلالات على
كمال قدرة الله تعالى , وأنه ينصر أنبياءه ويهلك أعداءهم . وَإِنْ كُنَّا
لَمُبْتَلِينَ أي ما كنا إلا مبتلين الأمم قبلكم ; أي مختبرين لهم بإرسال الرسل
إليهم ليظهر المطيع والعاصي فيتبين للملائكة حالهم ; لا أن يستجد الرب علما . وقيل :
أي نعاملهم معاملة المختبرين . وقد تقدم هذا المعنى في }{ البقرة }{ وغيرها . وقيل : { وإن كنا }{ أي وقد كنا .
يعني هودا ; لأنه ما كانت أمة أنشئت في إثر قوم نوح إلا عاد . وقيل : هم قوم ثمود }
فأرسلنا فيهم رسولا }{ يعني صالحا . قالوا : والدليل عليه قوله تعالى آخر الآية }
فأخذتهم الصيحة } [ المؤمنون : 41 ] ; نظيرها : { وأخذ الذين ظلموا الصيحة } [ هود
: 67 ] . قلت : وممن أخذ بالصيحة أيضا أصحاب مدين قوم شعيب , فلا يبعد أن يكونوا هم
, والله أعلم .{ منهم }{ أي من عشيرتهم , يعرفون مولده ومنشأه ليكون سكونهم إلى قوله
أكثر .
من }{ صلة ; أي ما تسبق أمة الوقت المؤقت لها ولا تتأخره ; مثل قوله تعالى : { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } [ الأعراف : 34 ] . ومعنى }{ تترى }
تتواتر , ويتبع بعضهم بعضا ترغيبا وترهيبا . قال الأصمعي : واترت كتبي عليه أتبعت
بعضها بعضا ; إلا أن بين كل واحد وبين الآخر مهلة . وقال غيره : المواترة التتابع
بغير مهلة . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو .
أي مبعوثون من قبوركم . و }{ أن }{ الأولى في موضع نصب بوقوع }{ يعدكم }{ عليها ,
والثانية بدل منها ; هذا مذهب سيبويه . والمعنى : أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم . قال
الفراء : وفي قراءة عبد الله }{ أيعدكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون } ;
وهو كقولك : أظن إن خرجت أنك نادم . وذهب الفراء والجرمي وأبو العباس المبرد إلى أن
الثانية مكررة للتوكيد , لما طال الكلام كان تكريرها حسنا . وقال الأخفش : المعنى
أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما يحدث إخراجكم ; ف }{ أن }{ الثانية في موضع
رفع بفعل مضمر ; كما تقول : اليوم القتال , فالمعنى اليوم يحدث القتال . وقال أبو
إسحاق : ويجوز }{ أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون } ; لأن معنى
{ أيعدكم }{ أيقول إنكم .
قال ابن عباس : هي كلمة للبعد ; كأنهم قالوا بعيد ما توعدون ; أي أن هذا لا يكون ما
يذكر من البعث . وقال أبو علي : هي بمنزلة الفعل ; أي بعد ما توعدون . وقال ابن
الأنباري : وفي }{ هيهات }{ عشر لغات : هيهات لك ( بفتح التاء ) وهي قراءة الجماعة
. وهيهات لك ( بخفض التاء ) ; ويروى عن أبي جعفر بن القعقاع . وهيهات لك ( بالخفض
والتنوين ) يروى عن عيسى بن عمر . وهيهات لك ( برفع التاء ) ; الثعلبي : وبها قرأ
نصر بن عاصم وأبو العالية . وهيهات لك ( بالرفع والتنوين ) وبها قرأ أبو حيوة الشامي
; ذكره الثعلبي أيضا . وهيهاتا لك ( بالنصب والتنوين ) قال الأحوص : تذكرت أياما
مضين من الصبا وهيهات هيهاتا إليك رجوعها واللغة السابعة : أيهات أيهات ; وأنشد
الفراء : فأيهات أيهات العقيق ومن به وأيهات خل بالعقيق نواصله قال المهدوي : وقرأ
عيسى الهمداني }{ هيهات هيهات }{ بالإسكان . قال ابن الأنباري : ومن العرب من يقول }
أيهان }{ بالنون , ومنهم من يقول }{ أيها }{ بلا نون . وأنشد الفراء : ومن دوني الأعيان
والقنع كله وكتمان أيها ما أشت وأبعدا فهذه عشر لغات . فمن قال }{ هيهات }{ بفتح التاء
جعله مثل أين وكيف . وقيل : لأنهما أداتان مركبتان مثل خمسة عشر وبعلبك ورام هرمز ,
وتقف على الثاني بالهاء ; كما تقول : خمس عشرة وسبع عشرة . وقال الفراء : نصبها كنصب
ثمت وربت , ويجوز أن يكون الفتح إتباعا للألف والفتحة التي قبلها . ومن كسره جعله
مثل أمس وهؤلاء . قال : وهيهات هيهات إليك رجوعها قال الكسائي : ومن كسر التاء وقف
عليها بالهاء ; فيقول هيهاه . ومن نصبها وقف بالتاء وإن شاء بالهاء . ومن ضمها فعلى
مثل منذ وقط وحيث . ومن قرأ }{ هيهات }{ بالتنوين فهو جمع ذهب به إلى التنكير ; كأنه
قال بعدا بعدا . وقيل : خفض ونون تشبيها بالأصوات بقولهم : غاق وطاق . وقال الأخفش :
يجوز في }{ هيهات }{ أن تكون جماعة فتكون التاء التي فيها تاء الجميع التي للتأنيث
. ومن قرأ }{ هيهات }{ جاز أن يكون أخلصها اسما معربا فيه معنى البعد , ولم يجعله اسما
للفعل فيبنيه . وقيل : شبه التاء بتاء الجمع , كقوله تعالى : { فإذا أفضتم من عرفات
" [ البقرة : 198 ] . قال الفراء : وكأني أستحب الوقف على التاء ; لأن من العرب من
يخفض التاء على كل حال ; فكأنها مثل عرفات وملكوت وما أشبه ذلك . وكان مجاهد وعيسى
بن عمر وأبو عمرو بن العلاء والكسائي وابن كثير يقفون عليها هيهاه }{ بالهاء . وقد
روي عن أبي عمرو أيضا أنه كان يقف على }{ هيهات }{ بالتاء , وعليه بقية القراء لأنها
حرف . قال ابن الأنباري . من جعلهما حرفا واحدا لا يفرد أحدهما من الآخر , وقف على
الثاني بالهاء ولم يقف على الأول ; فيقول : هيهات هيهاه , كما يقول خمس عشرة , على
ما تقدم . ومن نوى إفراد أحدهما من الآخر وقف فيهما جميعا بالهاء والتاء ; لأن أصل
الهاء تاء .
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا }{ هي }{ كناية عن الدنيا ; أي ما الحياة إلا
ما نحن فيه لا الحياة الآخرة التي تعدنا بعد البعث. نَمُوتُ وَنَحْيَا يقال : كيف
قالوا نموت ونحيا وهم لا يقرون بالبعث ؟ ففي هذا أجوبة ; منها أن يكون المعنى :
نكون مواتا , أي نطفا ثم نحيا في الدنيا . وقيل : فيه تقديم وتأخير ; أي إن هي إلا
حياتنا الدنيا نحيا فيها ونموت ; كما قال : { واسجدي واركعي } [ آل عمران : 43 ]
. وقيل : { نموت }{ يعني الآباء , { ونحيا }{ يعني الأولاد . وَمَا نَحْنُ
بِمَبْعُوثِينَ بعد الموت .
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ في التفاسير : صاح بهم جبريل عليه السلام
صيحة واحدة مع الريح التي أهلكهم الله تعالى بها فماتوا عن آخرهم . فَجَعَلْنَاهُمْ
غُثَاءً أي هلكى هامدين كغثاء السيل , وهو ما يحمله من بالي الشجر من الحشيش والقصب
مما يبس وتفتت . فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي هلاكا لهم . وقيل بعدا لهم من
رحمة الله ; وهو منصوب على المصدر . ومثله سقيا له ورعيا .
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد هلاك هؤلاء . قُرُونًا أي أمما
. آخَرِينَ قال ابن عباس : يريد بني إسرائيل ; وفي الكلام حذف : فكذبوا أنبياءهم
فأهلكناهم .
من }{ صلة ; أي ما تسبق أمة الوقت المؤقت لها ولا تتأخره ; مثل قوله تعالى : { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } [ الأعراف : 34 ] . ومعنى }{ تترى }
تتواتر , ويتبع بعضهم بعضا ترغيبا وترهيبا . قال الأصمعي : واترت كتبي عليه أتبعت
بعضها بعضا ; إلا أن بين كل واحد وبين الآخر مهلة . وقال غيره : المواترة التتابع
بغير مهلة . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو .
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى }{ تترى }{ بالتنوين على أنه مصدر أدخل فيه
التنوين على فتح الراء ; كقولك : حمدا وشكرا ; فالوقف على هذا على الألف المعوضة من
التنوين . ويجوز أن يكون ملحقا بجعفر , فيكون مثل أرطى وعلقى ; كما قال : يستن في
علقى وفي مكور فإذا وقف على هذا الوجه جازت الإمالة , على أن ينوي الوقف على الألف
الملحقة . وقرأ ورش بين اللفظتين ; مثل سكرى وغضبى , وهو اسم جمع ; مثل شتى وأسرى
. وأصله وترى من المواترة والتواتر , فقلبت الواو تاء ; مثل التقوى والتكلان وتجاه
ونحوها . وقيل : هو الوتر وهو الفرد ; فالمعنى أرسلناهم فردا فردا . النحاس : وعلى
هذا يجوز }{ تترا }{ بكسر التاء الأولى , وموضعها نصب على المصدر ; لأن معنى }{ ثم
أرسلنا }{ واترنا . ويجوز أن يكون في موضع الحال أي متواترين . كُلَّ مَا جَاءَ
أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا أي بالهلاك
. وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ جمع أحدوثة وهي ما
يتحدث به ; كأعاجيب جمع أعجوبة , وهي ما يتعجب منه . قال الأخفش : إنما يقال هذا في
الشر }{ جعلناهم أحاديث }{ ولا يقال في الخير ; كما يقال : صار فلان حديثا أي عبرة
ومثلا ; كما قال في آية أخرى : { فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق } [ سبأ : 19 ]
. قلت : وقد يقال فلان حديث حسن , إذا كان مقيدا بذكر ذلك ; ومنه قول ابن دريد :
وإنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى .
يعني التوراة ; وخص موسى بالذكر لأن التوراة أنزلت عليه في الطور , وهارون خليفة في
قومه . ولو قال }{ ولقد آتيناهما }{ جاز ; كما قال : { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان
" [ الأنبياء : 48 ] .
تقدم في }{ الأنبياء }{ القول فيه .{ وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين }{ الربوة
المكان المرتفع من الأرض ; وقد تقدم في }{ البقرة } . والمراد بها هاهنا في قول أبي
هريرة فلسطين . وعنه أيضا الرملة ; وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عباس
وابن المسيب وابن سلام : دمشق . وقال كعب وقتادة : بيت المقدس . قال كعب : وهي أقرب
الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا . قال : فكنت هميدا تحت رمس بربوة تعاورني ريح
جنوب وشمال وقال ابن زيد : مصر . وروى سالم الأفطس عن سعيد بن جبير }{ وآويناهما إلى
ربوة }{ قال : النشز من الأرض .{ ذات قرار }{ أي مستوية يستقر عليها . وقيل : ذات ثمار
, ولأجل الثمار يستقر فيها الساكنون .{ ومعين }{ ماء جار ظاهر للعيون . يقال : معين
ومعن ; كما يقال : رغيف ورغف ; قاله علي بن سليمان . وقال الزجاج : هو الماء الجاري
في العيون ; فالميم على هذا زائدة كزيادتها في مبيع , وكذلك الميم زائدة في قول من
قال إنه الماء الذي يرى بالعين . وقيل : إنه فعيل بمعنى مفعول . قال علي بن سليمان :
يقال معن الماء إذا جرى فهو معين ومعيون . ابن الأعرابي : معن الماء يمعن معونا إذا
جرى وسهل , وأمعن أيضا وأمعنته , ومياه معنان .
فيه ثلاث مسائل : الأولى : روى الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : ( أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما
أمر به المرسلين فقال }{ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما
تعملون عليم }{ وقال تعالى }{ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } [
البقرة : 172 ] - ثم ذكر - الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب
يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك )
. الثانية : قال بعض العلماء : والخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم ,
وأنه أقامه مقام الرسل ; كما قال : { الذين قال لهم الناس } [ آل عمران : 173 ]
يعني نعيم بن مسعود . وقال الزجاج : هذه مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم , ودل
الجمع على أن الرسل كلهم كذا أمروا ; أي كلوا من الحلال . وقال الطبري : الخطاب
لعيسى عليه السلام ; روي أنه كان يأكل من غزل أمه . والمشهور عنه أنه كان يأكل من
بقل البرية . ووجه خطابه لعيسى ما ذكرناه من تقديره لمحمد صلى الله عليه وسلم تشريفا
له . وقيل : إن هذه المقالة خوطب بها كل نبي ; لأن هذه طريقتهم التي ينبغي لهم الكون
عليها . فيكون المعنى : وقلنا يأيها الرسل كلوا من الطيبات ; كما تقول لتاجر : يا
تجار ينبغي أن تجتنبوا الربا ; فأنت تخاطبه بالمعنى . وقد اقترن بذلك أن هذه المقالة
تصلح لجميع صنفه , فلم يخاطبوا قط مجتمعين صلوات الله عليهم أجمعين , وإنما خوطب كل
واحد في عصره . قال الفراء : هو كما تقول للرجل الواحد : كفوا عنا أذاكم . الثالثة :
سوى الله تعالى بين النبيين والمؤمنين في الخطاب بوجوب أكل الحلال وتجنب الحرام ,
ثم شمل الكل في الوعيد الذي تضمنه قوله تعالى : { إني بما تعملون عليم }{ صلى الله
على رسله وأنبيائه . وإذا كان هذا معهم فما ظن كل الناس بأنفسهم . وقد مضى القول في
الطيبات والرزق في غير موضع , والحمد لله . وفي قوله عليه السلام ( يمد يديه ) دليل
على مشروعية مد اليدين عند الدعاء إلى السماء ; وقد مضى الخلاف في هذا والكلام فيه
والحمد لله . وقوله عليه السلام ( فأنى يستجاب لذلك ) على جهة الاستبعاد ; أي أنه
ليس أهلا لإجابة دعائه لكن يجوز أن يستجيب الله له تفضلا ولطفا وكرما .
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً المعنى : هذا الذي تقدم ذكره هو
دينكم وملتكم فالتزموه . والأمة هنا الدين ; وقد تقدم محامله ; ومنه قوله تعالى : { إنا وجدنا آباءنا على أمة } [ الزخرف : 22 ] أي على دين . وقال النابغة : حلفت فلم
أترك لنفسك ريبه وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع قرئ }{ وإن هذه }{ بكسر }{ إن }{ على القطع
, وبفتحها وتشديد النون . قال الخليل : هي في موضع نصب لما زال الخافض ; أي أنا عالم
بأن هذا دينكم الذي أمرتكم أن تؤمنوا به . وقال الفراء : { أن }{ متعلقة بفعل مضمر
تقديره : واعلموا أن هذه أمتكم . وهي عند سيبويه متعلقة بقوله }{ فاتقون } ; والتقدير
فاتقون لأن أمتكم واحدة . وهذا كقوله تعالى : { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله
أحدا } [ الجن : 18 ] ; أي لأن المساجد لله فلا تدعوا معه غيره . وكقوله : { لإيلاف
قريش } [ قريش : 1 ] ; أي فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش . وهذه الآية تقوي أن
قوله تعالى : { يأيها الرسل }{ إنما هو مخاطبة لجميعهم , وأنه بتقدير حضورهم . وإذا
قدرت }{ يأيها الرسل }{ مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم فلق اتصال هذه الآية واتصال
قوله }{ فتقطعوا } . أما أن قولهوَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ وإن كان قيل للأنبياء
فأممهم داخلون فيه بالمعنى ; فيحسن بعد ذلك اتصال .
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي افترقوا , يعني الأمم , أي جعلوا دينهم
أديانا بعد ما أمروا بالاجتماع . ثم ذكر تعالى أن كلا منهم معجب برأيه وضلالته وهذا
غاية الضلال . هذه الآية تنظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم : ( ألا إن من قبلكم من
أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين
ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة ) الحديث . خرجه أبو داود ,
ورواه الترمذي وزاد : قالوا ومن هي يا رسول الله ؟ قال : ( ما أنا عليه وأصحابي )
خرجه من حديث عبد الله بن عمرو . وهذا يبين أن الافتراق المحذر منه في الآية والحديث
إنما هو في أصول الدين وقواعده , لأنه قد أطلق عليها مللا , وأخبر أن التمسك بشيء
من تلك الملل موجب لدخول النار . ومثل هذا لا يقال في الفروع , فإنه لا يوجب تعديد
الملل ولا عذاب النار ; قال الله تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } [
المائدة : 48 ] . زُبُرًا يعني كتبا وضعوها وضلالات ألفوها ; قاله ابن زيد . وقيل :
إنهم فرقوا الكتب فاتبعت فرقة الصحف وفرقة التوراة وفرقة الزبور وفرقة الإنجيل , ثم
حرف الكل وبدل ; قاله قتادة . وقيل : أخذ كل فريق منهم كتابا آمن به وكفر بما سواه
. و }{ زبرا }{ بضم الباء قراءة نافع , جمع زبور . والأعمش وأبو عمرو بخلاف عنه }{ زبرا
{ بفتح الباء , أي قطعا كقطع الحديد ; كقوله تعالى : { آتوني زبر الحديد } .[ الكهف
: 96 ] . كُلُّ حِزْبٍ أي فريق وملة . بِمَا لَدَيْهِمْ أي عندهم من الدين. فَرِحُونَ
أي معجبون به . وهذه الآية مثال لقريش خاطب محمدا صلى الله عليه وسلم في شأنهم متصلا
بقوله }{ فذرهم في غمرتهم }{ أي فذر هؤلاء الذين هم بمنزلة من تقدم , ولا يضيق صدرك
بتأخير العذاب عنهم ; فلكل شيء وقت . والغمرة في اللغة ما يغمرك ويعلوك ; وأصله
الستر ; ومنه الغمر الحقد لأنه يغطي القلب . والغمر الماء الكثير لأنه يغطي الأرض
. وغمر الرداء الذي يشمل الناس بالعطاء ; قال : غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا غلقت
لضحكته رقاب المال المراد هنا الحيرة الغفلة والضلالة . ودخل فلان في غمار الناس ,
أي في زحمتهم .