مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والستر . وكتب عمر رضي الله عنه إلى أهل الكوفة :
( علموا نساءكم سورة النور ) . وقالت عائشة رضي الله عنها : ( لا تنزلوا النساء
الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن سورة النور والغزل ) .{ وفرضناها }{ قرئ بتخفيف
الراء ; أي فرضنا عليكم وعلى من بعدكم ما فيها من الأحكام . وبالتشديد : أي أنزلنا
فيها فرائض مختلفة . وقرأ أبو عمرو : { وفرضناها }{ بالتشديد أي قطعناها في الإنزال
نجما نجما . والفرض القطع , ومنه فرضة القوس . وفرائض الميراث وفرض النفقة . وعنه أيضا
{ فرضناها }{ فصلناها وبيناها . وقيل : هو على التكثير ; لكثرة ما فيها من الفرائض
. والسورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة ; ولذلك سميت السورة من القرآن سورة . قال
زهير : ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب وقد مضى في مقدمة الكتاب
القول فيها . وقرئ }{ سورة }{ بالرفع على أنها مبتدأ وخبرها }{ أنزلناها } ; قاله أبو
عبيدة والأخفش . وقال الزجاج والفراء والمبرد : { سورة }{ بالرفع لأنها خبر الابتداء
; لأنها نكرة ولا يبتدأ بالنكرة في كل موضع , أي هذه سورة . ويحتمل أن يكون قوله }
سورة }{ ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة فحسن الابتداء لذلك ,
ويكون الخبر في قوله }{ الزانية والزاني } . وقرئ }{ سورة }{ بالنصب , على تقدير أنزلنا
سورة أنزلناها . وقال الشاعر : والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا
أو تكون منصوبة بإضمار فعل أي اتل سورة . وقال الفراء : هي حال من الهاء والألف ,
والحال من المكنى يجوز أن يتقدم عليه .
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ
فيه اثنان وعشرون مسألة : الأولى : كان الزنى في اللغة معروفا قبل الشرع , مثل اسم
السرقة والقتل . وهو اسم لوطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح
بمطاوعتها . وإن شئت قلت : هو إدخال فرج في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا ; فإذا كان ذلك
وجب الحد . وقد مضى الكلام في حد الزنى وحقيقته وما للعلماء في ذلك . وهذه الآية
ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة }{ النساء }{ باتفاق . الثانية : { مائة
جلدة }{ هذا حد الزاني الحر البالغ البكر , وكذلك الزانية البالغة البكر الحرة . وثبت
بالسنة تغريب عام ; على الخلاف في ذلك . وأما المملوكات فالواجب خمسون جلدة ; لقوله
تعالى : { فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } [ النساء : 25 ]
وهذا في الأمة , ثم العبد في معناها . وأما المحصن من الأحرار فعليه الرجم دون الجلد
. ومن العلماء من يقول : يجلد مائة ثم يرجم . وقد مضى هذا كله ممهدا في }{ النساء }
فأغنى عن إعادته , والحمد لله . الثالثة : قرأ الجمهور }{ الزانية والزاني }{ بالرفع
. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي }{ الزانية }{ بالنصب , وهو أوجه عند سيبويه ; لأنه عنده
كقولك : زيدا اضرب . ووجه الرفع عنده : خبر ابتداء , وتقديره : فيما يتلى عليكم [
حكم ] الزانية والزاني . وأجمع الناس على الرفع وإن كان القياس عند سيبويه النصب
. وأما الفراء والمبرد والزجاج فإن الرفع عندهم هو الأوجه , والخبر في قوله }
فاجلدوا }{ لأن المعنى : الزانية والزاني مجلودان بحكم الله وهو قول جيد , وهو قول
أكثر النحاة . وإن شئت قدرت الخبر : ينبغي أن يجلدا . وقرأ ابن مسعود }{ والزان }{ بغير
ياء . الرابعة : ذكر الله سبحانه وتعالى الذكر والأنثى , والزاني كان يكفي منهما ;
فقيل : ذكرهما للتأكيد كما قال تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } [
المائدة : 38 ] . ويحتمل أن يكون ذكرهما هنا لئلا يظن ظان أن الرجل لما كان هو
الواطئ والمرأة محل ليست بواطئة فلا يجب عليها حد فذكرها رفعا لهذا الإشكال الذي
أوقع جماعة من العلماء منهم الشافعي . فقالوا : لا كفارة على المرأة في الوطء في
رمضان ; لأنه قال جامعت أهلي في نهار رمضان ; فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (
كفر ) . فأمره بالكفارة , والمرأة ليس بمجامعة ولا واطئة . الخامسة : قدمت }{ الزانية
{ في هذه الآية من حيث كان في ذلك الزمان زنى النساء فاش وكان لإماء العرب وبغايا
الوقت رايات , وكن مجاهرات بذلك . وقيل : لأن الزنى في النساء أعر وهو لأجل الحبل
أضر . وقيل : لأن الشهوة في المرأة أكثر وعليها أغلب , فصدرها تغليظا لتردع شهوتها
وإن كان قد ركب فيها حياء لكنها إذا زنت ذهب الحياء كله . وأيضا فإن العار بالنساء
ألحق إذ موضوعهن الحجب والصيانة فقدم ذكرهن تغليظا واهتماما . السادسة : الألف
واللام في قوله }{ الزانية والزاني }{ للجنس , وذلك يعطي أنها عامة في جميع الزناة
. ومن قال بالجلد مع الرجم قال : السنة جاءت بزيادة حكم فيقام مع الجلد . وهو قول
إسحاق بن راهويه والحسن بن أبي الحسن , وفعله علي بن أبي طالب رضي الله عنه بشراحة
وقد مضى في }{ النساء }{ بيانه . وقال الجمهور : هي خاصة في البكرين , واستدلوا على
أنها غير عامة بخروج العبيد والإماء منها . السابعة : نص الله سبحانه وتعالى [ على
] ما يجب على الزانيين إذا شهد بذلك عليهما ; على ما يأتي , وأجمع العلماء على
القول به . واختلفوا فيما يجب على الرجل يوجد مع المرأة في ثوب واحد فقال إسحاق بن
راهويه : يضرب كل واحد منهما مائة جلدة . وروي ذلك عن عمر وعلي , وليس يثبت ذلك
عنهما . وقال عطاء وسفيان الثوري : يؤدبان . وبه قال مالك وأحمد ; على قدر مذاهبهم في
الأدب . قال ابن المنذر : والأكثر ممن رأيناه يرى على من وجد على هذه الحال الأدب
. وقد مضى في }{ هود }{ اختيار ما في هذه المسألة , والحمد لله وحده . الثامنة : { فاجلدوا }{ دخلت الفاء لأنه موضع أمر والأمر مضارع للشرط . وقال المبرد : فيه معنى
الجزاء , أي إن زنى زان فافعلوا به كذا , ولهذا دخلت الفاء ; وهكذا }{ السارق
والسارقة فاقطعوا أيديهما } [ المائدة : 38 ] . التاسعة : لا خلاف أن المخاطب بهذا
الأمر الإمام ومن ناب منابه . وزاد مالك والشافعي : السادة في العبيد . قال الشافعي :
في كل جلد وقطع . وقال مالك : في الجلد دون القطع . وقيل : الخطاب للمسلمين ; لأن
إقامة مراسم الدين واجبة على المسلمين , ثم الإمام ينوب عنهم ; إذ لا يمكنهم
الاجتماع على إقامة الحدود . العاشرة : أجمع العلماء على أن الجلد بالسوط يجب
. والسوط الذي يجب أن يجلد به يكون سوطا بين سوطين . لا شديدا ولا لينا . وروى مالك عن
زيد بن أسلم أن رجلا اعترف على نفسه بالزنى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ;
فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط , فأتي بسوط مكسور , فقال : ( فوق هذا )
فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال : ( دون هذا ) فأتي بسوط قد ركب به ولان . فأمر
به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد .. . الحديث . قال أبو عمر : هكذا روى الحديث
مرسلا جميع رواة الموطأ , ولا أعلمه يستند بهذا اللفظ بوجه من الوجوه , وقد روى
معمر عن يحيى بن أبي كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء . وقد تقدم في }
المائدة }{ ضرب عمر قدامة في الخمر بسوط تام . يريد وسطا . الحادية عشرة : اختلف
العلماء في تجريد المجلود في الزنى ; فقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما : يجرد , ويترك
على المرأة ما يسترها دون ما يقيها الضرب . وقال الأوزاعي : الإمام مخير إن شاء جرد
وإن شاء ترك . وقال الشعبي والنخعي : لا يجرد , ولكن يترك عليه قميص . قال ابن مسعود
: لا يحل في الأمة تجريد ولا مد ; وبه قال الثوري . الثانية عشرة : اختلف العلماء
في كيفية ضرب الرجال والنساء ; فقال مالك : الرجل والمرأة في الحدود كلها سواء , لا
يقام واحد منهما ; ولا يجزي عنده إلا في الظهر . وأصحاب الرأي والشافعي يرون أن يجلد
الرجل وهو واقف , وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وقال الليث وأبو حنيفة
والشافعي : الضرب في الحدود كلها وفي التعزير مجردا قائما غير ممدود ; إلا حد القذف
فإنه يضرب وعليه ثيابه . وحكاه المهدوي في التحصيل عن مالك . وينزع عنه الحشو والفرو
. وقال الشافعي : إن كان مده صلاحا مد . الثالثة عشرة : واختلفوا في المواضع التي
تضرب من الإنسان في الحدود ; فقال مالك : الحدود كلها لا تضرب إلا في الظهر , وكذلك
التعزير . وقال الشافعي وأصحابه : يتقى الوجه والفرج وتضرب سائر الأعضاء ; وروي عن
علي . وأشار ابن عمر بالضرب إلى رجلي أمة جلدها في الزنى . قال ابن عطية : والإجماع
في تسليم الوجه والعورة والمقاتل . واختلفوا في ضرب الرأس ; فقال الجمهور : يتقى
الرأس . وقال أبو يوسف : يضرب الرأس . وروي عن عمر وابنه فقالا : يضرب الرأس . وضرب
عمر رضي الله عنه صبيا في رأسه وكان تعزيرا لا حدا . ومن حجة مالك ما أدرك عليه
الناس , وقوله عليه السلام : ( البينة وإلا حد في ظهرك ) وسيأتي . الرابعة عشرة :
الضرب الذي يجب هو أن يكون مؤلما لا يجرح ولا يبضع , ولا يخرج الضارب يده من تحت
إبطه . وبه قال الجمهور , وهو قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما . وأتي عمر رضي الله
عنه برجل في حد فأتي بسوط بين سوطين وقال للضارب : اضرب ولا يرى إبطك ; وأعط كل عضو
حقه . وأتي رضي الله عنه بشارب فقال : لأبعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة ; فبعثه
إلى مطيع بن الأسود العدوي فقال : إذا أصبحت الغد فاضربه الحد ; فجاء عمر رضي الله
عنه وهو يضربه ضربا شديدا فقال : قتلت الرجل ! كم ضربته ؟ فقال ستين ; فقال : أقص
عنه بعشرين . قال أبو عبيدة : ( أقص عنه بعشرين ) يقول : اجعل شدة هذا الضرب الذي
ضربته قصاصا بالعشرين التي بقيت ولا تضربه العشرين . وفي هذا الحديث من الفقه أن ضرب
الشارب ضرب خفيف . الخامسة عشرة : وقد اختلف العلماء في أشد الحدود ضربا وهي فقال
مالك وأصحابه والليث بن سعد : الضرب في الحدود كلها سواء , ضرب غير مبرح ; ضرب بين
ضربين . هو قول الشافعي رضي الله عنه . وقال أبو حنيفة وأصحابه : التعزير أشد الضرب ;
وضرب الزنى أشد من الضرب في الخمر , وضرب الشارب أشد من ضرب القذف . وقال الثوري :
ضرب الزنى أشد من ضرب القذف , وضرب القذف أشد من ضرب الخمر . احتج مالك بورود
التوقيف على عدد الجلدات , ولم يرد في شيء منها تخفيف ولا تثقيل عمن يجب التسليم له
. احتج أبو حنيفة بفعل عمر , فإنه ضرب في التعزير ضربا أشد منه في الزنى . احتج
الثوري بأن الزنى لما كان أكثر عددا في الجلدات استحال أن يكون القذف أبلغ في
النكاية . وكذلك الخمر ; لأنه لم يثبت فيه الحد إلا بالاجتهاد , وسبيل مسائل
الاجتهاد لا يقوى قوة مسائل التوقيف . السادسة عشرة : الحد الذي أوجب الله في الزنى
والخمر والقذف وغير ذلك ينبغي أن يقام بين أيدي الحكام , ولا يقيمه إلا فضلاء الناس
وخيارهم يختارهم الإمام لذلك . وكذلك كانت الصحابة تفعل كلما وقع لهم شيء من ذلك ,
رضي الله عنهم . وسبب ذلك أنه قيام بقاعدة شرعية وقربة تعبدية , تجب المحافظة على
فعلها وقدرها ومحلها وحالها , بحيث لا يتعدى شيء من شروطها ولا أحكامها , فإن دم
المسلم وحرمته عظيمة , فيجب مراعاته بكل ما أمكن . روى الصحيح عن حضين بن المنذر أبي
ساسان قال : شهدت عثمان بن عفان وأتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال : أزيدكم
؟ فشهد عليه رجلان , أحدهما حمران أنه شرب الخمر , وشهد آخر أنه رآه يتقيأ ; فقال
عثمان : إنه لم يتقيأ حتى شربها ; فقال : يا علي قم فاجلده , فقال علي : قم يا حسن
فاجلده . فقال الحسن : ول حارها من تولى قارها - ( فكأنه وجد عليه ) - فقال : يا عبد
الله بن جعفر , قم فاجلده , فجلده وعلي يعد .. . الحديث . وقد تقدم في المائدة . فانظر
قول عثمان للإمام علي : قم فاجلده . السابعة عشرة : نص الله تعالى على عدد الجلد في
الزنى والقذف , وثبت التوقيف في الخمر على ثمانين من فعل عمر في جميع الصحابة - على
ما تقدم في المائدة - فلا يجوز أن يتعدى الحد في ذلك كله . قال ابن العربي : وهذا ما
لم يتابع الناس في الشر ولا احلولت لهم المعاصي , حتى يتخذوها ضراوة ويعطفون عليها
بالهوادة فلا يتناهوا عن منكر فعلوه ; فحينئذ تتعين الشدة ويزاد الحد لأجل زيادة
الذنب . وقد أتي عمر بسكران في رمضان فضربه مائة ; ثمانين حد الخمر وعشرين لهتك حرمة
الشهر . فهكذا يجب أن تركب العقوبات على تغليظ الجنايات وهتك الحرمات . وقد لعب رجل
بصبي فضربه الوالي ثلثمائة سوط فلم يغير [ ذلك ] مالك حين بلغه , فكيف لو رأى
زماننا هذا بهتك الحرمات والاستهتار بالمعاصي , والتظاهر بالمناكر وبيع الحدود
واستيفاء العبيد لها في منصب القضاة , لمات كمدا ولم يجالس أحدا ; وحسبنا الله ونعم
الوكيل . قلت : ولهذا المعنى - والله أعلم - زيد في حد الخمر حتى انتهى إلى ثمانين
. وروى الدارقطني حدثنا القاضي الحسين بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي
حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا أسامة بن زيد عن الزهري قال أخبرني عبد الرحمن بن أزهر
قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وهو يتخلل الناس يسأل عن منزل
خالد بن الوليد , فأتي بسكران , قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن عنده
فضربوه بما في أيديهم . وقال : وحثا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه التراب . قال
: ثم أتي أبو بكر رضي الله عنه بسكران , قال : فتوخى الذي كان من ضربهم يومئذ ;
فضرب أربعين . قال الزهري : ثم أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن ابن وبرة الكلبي قال :
أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر , قال فأتيته ومعه عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف
وعلي وطلحة والزبير وهم معه متكئون في المسجد فقلت : إن خالد بن الوليد أرسلني إليك
وهو يقرأ عليك السلام ويقول : إن الناس قد انهمكوا في الخمر ! وتحاقروا العقوبة فيه
; فقال عمر : هم هؤلاء عندك فسلهم . فقال علي : نراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى
وعلى المفتري ثمانون ; قال فقال عمر : أبلغ صاحبك ما قال . قال : فجلد خالد ثمانين
وعمر ثمانين . قال : وكان عمر إذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الذلة ضربه
أربعين , قال : وجلد عثمان أيضا ثمانين وأربعين . ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه
وسلم : ( لو تأخر الهلال لزدتكم ) كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا . في رواية ( لو
مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم ) . وروى حامد بن يحيى عن سفيان عن
مسعر عن عطاء بن أبي مروان أن عليا ضرب النجاشي في الخمر مائة جلدة ; ذكره أبو عمرو
ولم يذكر سببا . وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ أي لا تمتنعوا عن إقامة الحدود
شفقة على المحدود , ولا تخففوا الضرب من غير إيجاع , وهذا قول جماعة أهل التفسير
. وقال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير : { لا تأخذكم بهما رأفة }{ قالوا في الضرب
والجلد . وقال أبو هريرة رضي الله عنه : إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين
ليلة ; ثم قرأ هذه الآية . والرأفة أرق الرحمة . وقرئ }{ رأفة }{ بفتح الألف على وزن
فعلة . وقرئ }{ رآفة }{ على وزن فعالة ; ثلاث لغات , هي كلها مصادر , أشهرها الأولى ;
من رءوف إذا رق ورحم . ويقال : رأفة ورآفة ; مثل كأبة وكآبة . وقد رأفت به ورؤفت به
. والرءوف من صفات الله تعالى : العطوف الرحيم. فِي دِينِ اللهِ أي في حكم الله ;
كما قال تعالى : { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } [ يوسف : 76 ] أي في حكمه
. وقيل : { في دين الله }{ أي في طاعة الله وشرعه فيما أمركم به من إقامة الحدود
. إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ثم قررهم على معنى
التثبيت والحض بقوله تعالى : { إن كنتم تؤمنون بالله } . وهذا كما تقول لرجل تحضه :
إن كنت رجلا فافعل كذا , أي هذه أفعال الرجال . وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قيل : لا يشهد التعذيب إلا من لا يستحق التأديب . قال مجاهد :
رجل فما فوقه إلى ألف . وقال ابن زيد : لا بد من حضور أربعة قياسا على الشهادة على
الزنى , وأن هذا باب منه ; وهو قول مالك والليث والشافعي . وقال عكرمة وعطاء : لا بد
من اثنين ; وهذا مشهور قول مالك , فرآها موضع شهادة . وقال الزهري : ثلاثة , لأنه
أقل الجمع . الحسن : واحد فصاعدا , وعنه عشرة . الربيع : ما زاد على الثلاثة . وحجة
مجاهد قوله تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } [ التوبة : 122 ] , وقوله
: { وإن طائفتان } [ الحجرات : 9 ] , ونزلت في تقاتل رجلين ; فكذلك قوله تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } . والواحد يسمى طائفة إلى الألف ; وقاله ابن
عباس وإبراهيم . وأمر أبو برزة الأسلمي بجارية له قد زنت وولدت فألقى عليها ثوبا ,
وأمر ابنه أن يضربها خمسين ضربة غير مبرح ولا خفيف لكن مؤلم , ودعا جماعة ثم تلا }
وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } . اختلف في المراد بحضور الجماعة . هل المقصود
بها الإغلاط على الزناة والتوبيخ بحضرة الناس , وأن ذلك يدع المحدود , ومن شهده
وحضره يتعظ به ويزدجر لأجله , ويشيع حديثه فيعتبر به من بعده , أو الدعاء لهما
بالتوبة والرحمة ; قولان للعلماء . روي عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : ( يا معاشر الناس اتقوا الزنى فإن فيه ست خصال ثلاثا في الدنيا
وثلاثا في الآخرة فأما اللواتي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر
وأما اللواتي في الآخرة فيوجب السخط وسوء الحساب والخلود في النار ) . وعن أنس أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أعمال أمتي تعرض علي في كل جمعة مرتين
فاشتد غضب الله على الزناة ) . وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا كان ليلة
النصف من شعبان اطلع الله على أمتي فغفر لكل مؤمن لا يشرك بالله شيئا إلا خمسة
ساحرا أو كاهنا أو عاقا لوالديه أو مدمن خمر أو مصرا على الزنى ) .
الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشركفيه سبع
مسائل : الأولى : اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أوجه من التأويل :(
الأول ) : أن يكون مقصد الآية تشنيع الزنى وتبشيع أمره , وأنه محرم على المؤمنين.
واتصال هذا المعنى بما قبل حسن بليغ . ويريد بقوله }{ لا ينكح }{ أي لا يطأ ; فيكون
النكاح بمعنى الجماع . وردد القصة مبالغة وأخذا من كلا الطرفين , ثم زاد تقسيم
المشركة والمشرك من حيث الشرك أعم في المعاصي من الزنى ; فالمعنى : الزاني لا يطأ
في وقت زناه إلا زانية من المسلمين , أو من هي أحسن منها من المشركات . وقد روي عن
ابن عباس وأصحابه أن النكاح في هذه الآية الوطء. وأنكر ذلك الزجاج وقال : لا يعرف
النكاح في كتاب الله تعالى إلا بمعنى التزويج . وليس كما قال ; وفي القرآن }{ حتى
تنكح زوجا غيره } [ البقرة : 230 ] وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم أنه بمعنى
الوطء , وقد تقدم في }{ البقرة } . وذكر الطبري ما ينحو إلى هذا التأويل عن سعيد بن
جبير وابن عباس وعكرمة , ولكن غير مخلص ولا مكمل . وحكاه الخطابي عن ابن عباس , وأن
معناه الوطء أي لا يكون زنى إلا بزانية , ويفيد أنه زنى في الجهتين ; فهذا قول .(
الثاني ) ما رواه أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن مرثد بن أبي
مرثد كان يحمل الأسارى بمكة , وكان بمكة بغي يقال لها }{ عناق }{ وكانت صديقته , قال
: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ; أنكح عناق ؟ قال : فسكت عني
; فنزلت }{ والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك } ; فدعاني فقرأها علي وقال : ( لا
تنكحها ) . لفظ أبي داود , وحديث الترمذي أكمل . قال الخطابي : هذا خاص بهذه المرأة
إذ كانت كافرة , فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ . ( الثالث ) : أنها
مخصوصة في رجل من المسلمين أيضا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة
يقال لها }{ أم مهزول }{ وكانت من بغايا الزانيات , وشرطت أن تنفق عليه ; فأنزل الله
تعالى هذه الآية ; قاله عمرو بن العاص ومجاهد . ( الرابع ) : أنها نزلت في أهل الصفة
وكانوا قوما من المهاجرين , ولم يكن لهم في المدينة مساكن ولا عشائر فنزلوا صفة
المسجد وكانوا أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة بالليل , وكان
بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور , مخاصيب بالكسوة والطعام ; فهم أهل الصفة أن
يتزوجوهن فيأووا إلى مساكنهن ويأكلوا من طعامهن وكسوتهن ; فنزلت هذه الآية صيانة
لهم عن ذلك ; قاله ابن أبي صالح . ( الخامس ) : ذكره الزجاج وغيره عن الحسن , وذلك
أنه قال : المراد الزاني المحدود والزانية المحدودة , قال : وهذا حكم من الله , فلا
يجوز لزان محدود أن يتزوج إلا محدودة . وقال إبراهيم النخعي نحوه . وفي مصنف أبي
داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا ينكح الزاني
المحدود إلا مثله ) . وروى أن محدودا تزوج غير محدودة ففرق علي رضي الله عنه بينهما
. قال ابن العربي : وهذا معنى لا يصح نظرا كما لم يثبت نقلا , وهل يصح أن يوقف نكاح
من حد من الرجال على نكاح من حد من النساء فبأي أثر يكون ذلك , وعلى أي أصل يقاس من
الشريعة . قلت : وحكى هذا القول إلكيا عن بعض أصحاب الشافعي المتأخرين , وأن الزاني
إذا تزوج غير زانية فرق بينهما لظاهر الآية . قال إلكيا : وإن هو عمل بالظاهر
فيلزمه عليه أن يجوز للزاني التزوج بالمشركة , ويجوز للزانية أن تزوج نفسها من مشرك
; وهذا في غاية البعد , وهو خروج عن الإسلام بالكلية , وربما قال هؤلاء : إن الآية
منسوخة في المشرك خاص دون الزانية . ( السادس ) أنها منسوخة ; روى مالك عن يحيى بن
سعيد عن سعيد بن المسيب قال : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا
ينكحها إلا زان أو مشرك }{ قال : نسخت هذه الآية التي بعدها }{ وأنكحوا الأيامى منكم
" [ النور : 32 ] ; وقاله ابن عمرو , قال : دخلت الزانية في أيامى المسلمين. قال
أبو جعفر النحاس : وهذا القول عليه أكثر العلماء . وأهل الفتيا يقولون : إن من زنى
بامرأة فله أن يتزوجها ولغيره أن يتزوجها. وهو قول ابن عمر وسالم وجابر بن زيد
وعطاء وطاوس ومالك بن أنس وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وقال الشافعي : القول فيها
كما قال سعيد بن المسيب , إن شاء الله هي منسوخة . قال ابن عطية : وذكر الإشراك في
هذه الآية يضعف هذه المناحي. قال ابن العربي : والذي عندي أن النكاح لا يخلو أن
يراد به الوطء كما قال ابن عباس أو العقد ; فإن أريد به الوطء فإن معناه : لا يكون
زنى إلا بزانية , وذلك عبارة عن أن الوطأين من الرجل والمرأة زنى من الجهتين ;
ويكون تقدير الآية : وطء الزانية لا يقع إلا من زان أو مشرك ; وهذا يؤثر عن ابن
عباس , وهو معنى صحيح . فإن قيل : فإذا زنى بالغ بصبية , أو عاقل بمجنونة , أو
مستيقظ بنائمة فإن ذلك من جهة الرجل زنى ; فهذا زان نكح غير زانية , فيخرج المراد
عن بابه الذي تقدم . قلنا : هو زنى من كل جهة , إلا أن أحدهما سقط فيه الحد والآخر
ثبت فيه . وإن أريد به العقد كان معناه : أن متزوج الزانية التي قد زنت ودخل بها
ولم يستبرئها يكون بمنزلة الزاني , إلا أنه لا حد عليه لاختلاف العلماء في ذلك .
وأما إذا عقد عليها ولم يدخل بها حتى يستبرئها فذلك جائز إجماعا. وقيل : ليس المراد
في الآية أن الزاني لا ينكح قط إلا زانية ; إذ قد يتصور أن يتزوج غير زانية , ولكن
المعنى أن من تزوج بزانية فهو زان , فكأنه قال : لا ينكح الزانية إلا زان ; فقلب
الكلام , وذلك أنه لا ينكح الزانية إلا وهو راض بزناها , وإنما يرضى بذلك إذا كان
هو أيضا يزني . الثانية : في هذه الآية دليل على أن التزوج بالزانية صحيح . وإذا زنت
زوجة الرجل لم يفسد النكاح , وإذا زنى الزوج لم يفسد نكاحه مع زوجته ; وهذا على أن
الآية منسوخة . وقيل إنها محكمة . وسيأتي . الثالثة : روي أن رجلا زنى بامرأة في زمن
أبي بكر رضي الله عنه فجلدهما مائة جلدة , ثم زوج أحدهما من الآخر مكانه , ونفاهما
سنة . وروي مثل ذلك عن عمر وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم . وقال ابن عباس : أوله
سفاح وآخره نكاح . ومثل ذلك مثل رجل سرق من حائط ثمره ثم أتى صاحب البستان فاشترى
منه ثمره , فما سرق حرام وما اشترى حلال . وبهذا أخذ الشافعي وأبو حنيفة , ورأوا أن
الماء لا حرمة له . وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : إذا زنى الرجل
بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبدا . وبهذا أخذ مالك رضي الله عنه ; فرأى
أنه لا ينكحها حتى يستبرئها من مائه الفاسد ; لأن النكاح له حرمة , ومن حرمته ألا
يصب على ماء السفاح ; فيختلط الحرام بالحلال , ويمتزج ماء المهانة بماء العزة
. الرابعة : قال ابن خويز منداد : من كان معروفا بالزنى أو بغيره من الفسوق معلنا به
فتزوج إلى أهل بيت ستر وغرهم من نفسه فلهم الخيار في البقاء معه أو فراقه ; وذلك
كعيب من العيوب , واحتج بقوله عليه السلام : ( لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله ) .
قال ابن خويز منداد . وإنما ذكر المجلود لاشتهاره بالفسق , وهو الذي يجب أن يفرق
بينه وبين غيره ; فأما من لم يشتهر بالفسق فلا. الخامسة : قال قوم من المتقدمين :
الآية محكمة غير منسوخة , وعند هؤلاء : من زنى فسد النكاح بينه وبين زوجته , وإذا
زنت الزوجة فسد النكاح بينها وبين زوجها . وقال قوم من هؤلاء : لا ينفسخ النكاح
بذلك , ولكن يؤمر الرجل بطلاقها إذا زنت , ولو أمسكها أثم , ولا يجوز التزوج
بالزانية ولا من الزاني , بل لو ظهرت التوبة فحينئذ يجوز النكاح. وحرم ذلك على
المؤمنينأي نكاح أولئك البغايا ; فيزعم بعض أهل التأويل أن نكاح أولئك البغايا حرمه
الله تعالى على أمة محمد عليه السلام , ومن أشهرهن عناق . حرم الله تعالى الزنى في
كتابه ; فحيثما زنى الرجل فعليه الحد . وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور . وقال
أصحاب الرأي في الرجل المسلم إذا كان في دار الحرب بأمان وزنى هنالك ثم خرج لم يحد
. قال ابن المنذر : دار الحرب ودار الإسلام سواء , ومن زنى فعليه الحد , على ظاهر
قوله }{ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } [ النور : 2 ] .
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ فيها اثنتي عشرة مسألة الأولى : هذه الآية
نزلت في القاذفين . قال سعيد بن جبير : كان سببها ما قيل في عائشة أم المؤمنين رضي
الله عنها . وقيل : بل نزلت بسبب القذفة عاما لا في تلك النازلة . وقال ابن المنذر :
لم نجد في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرا يدل على تصريح القذف , وظاهر
كتاب الله تعالى مستغنى به دالا على القذف الذي يوجب الحد , وأهل العلم على ذلك
مجمعون . الثانية : { والذين يرمون }{ يريد يسبون , واستعير له اسم الرمي لأنه إذاية
بالقول كما قال النابغة : وجرح اللسان كجرح اليد وقال آخر : رماني بأمر كنت منه
ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني ويسمى قذفا ; ومنه الحديث : إن ابن أمية قذف
امرأته بشريك بن السحماء ; أي رماها . الثالثة : ذكر الله تعالى في الآية النساء من
حيث هن أهم , ورميهن بالفاحشة أشنع وأنكى للنفوس . وقذف الرجال داخل في حكم الآية
بالمعنى , وإجماع الأمة على ذلك . وهذا نحو نصه على تحريم لحم الخنزير ودخل شحمه
وغضاريفه , ونحو ذلك بالمعنى والإجماع . وحكى الزهراوي أن المعنى : والأنفس المحصنات
; فهي بلفظها تعم الرجال والنساء , ويدل على ذلك قوله : { والمحصنات من النساء } .[
النساء : 24 ] . وقال قوم : أراد بالمحصنات الفروج ; كما قال تعالى : { والتي أحصنت
فرجها } [ الأنبياء : 91 ] فيدخل فيه فروج الرجال والنساء . وقيل : إنما ذكر المرأة
الأجنبية إذا قذفت ليعطف عليها قذف الرجل زوجته ; والله أعلم . وقرأ الجمهور }
المحصنات }{ بفتح الصاد , وكسرها يحيى بن وثاب . والمحصنات العفائف في هذا الموضع
. وقد مضى في }{ النساء }{ ذكر الإحصان ومراتبه . والحمد لله . الرابعة : للقذف شروط
عند العلماء تسعة : شرطان في القاذف , وهما العقل والبلوغ ; لأنهما أصلا التكليف ,
إذ التكليف ساقط دونهما . وشرطان في الشيء المقذوف به , وهو أن يقذف بوطء يلزمه فيه
الحد , وهو الزنى واللواط ; أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي . وخمسة من المقذوف ,
وهي العقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمي بها كان عفيفا من
غيرها أم لا . وإنما شرطنا في المقذوف العقل والبلوغ كما شرطناهما في القاذف وإن لم
يكونا من معاني الإحصان لأجل أن الحد إنما وضع للزجر عن الإذاية بالمضرة الداخلة
على المقذوف , ولا مضرة على من عدم العقل والبلوغ ; إذ لا يوصف اللواط فيهما ولا
منهما بأنه زنى . الخامسة : اتفق العلماء على أنه إذا صرح بالزنى كان قذفا ورميا
موجبا للحد , فإن عرض ولم يصرح فقال مالك : هو قذف . وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا
يكون قذفا حتى يقول أردت به القذف . والدليل لما قاله مالك هو أن موضوع الحد في
القذف إنما هو لإزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف , فإذا حصلت المعرة
بالتعرض وجب أن يكون قذفا كالتصريح والمعول على الفهم ; وقد قال تعالى مخبرا عن
شعيب : { إنك لأنت الحليم الرشيد } [ هود : 87 ] أي السفيه الضال ; فعرضوا له بالسب
بكلام ظاهره المدح في أحد التأويلات , حسبما تقدم في }{ هود } . وقال تعالى في أبي
جهل : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] . وقال حكاية عن مريم : { يا
أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا } [ مريم : 28 ] ; فمدحوا أباها
ونفوا عن أمها البغاء , أي الزنى , وعرضوا لمريم بذلك ; ولذلك قال تعالى : { وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما } [ النساء : 156 ] , وكفرهم معروف ,
والبهتان العظيم هو التعريض لها ; أي ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا , أي
أنت بخلافهما وقد أتيت بهذا الولد . وقال تعالى : { قل من يرزقكم من السموات والأرض
قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 24 ] ; فهذا اللفظ قد
فهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدى , وأن الله تعالى ورسوله على الهدى ;
ففهم من هذا التعريض ما يفهم من صريحه . وقد حبس عمر رضي الله عنه الحطيئة لما قال :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي لأنه شبهه بالنساء في
أنهن يطعمن ويسقين ويكسون . ولما سمع قول النجاشي : قبيلته لا يغدرون بذمة ولا
يظلمون الناس حبة خردل قال : ليت الخطاب كذلك ; وإنما أراد الشاعر ضعف القبيلة ;
ومثله كثير . السادسة : الجمهور من العلماء على أنه لا حد على من قذف رجلا من أهل
الكتاب أو امرأة منهم . وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى : عليه الحد إذا
كان لها ولد من مسلم . وفيه قول ثالث : وهو أنه إذا قذف النصرانية تحت المسلم جلد
الحد . قال ابن المنذر : وجل العلماء مجمعون وقائلون بالقول الأول , ولم أدرك أحدا
ولا لقيته يخالف في ذلك . وإذا قذف النصراني المسلم الحر فعليه ما على المسلم ثمانون
جلدة ; لا أعلم في ذلك خلافا . السابعة : والجمهور من العلماء على أن العبد إذا قذف
حرا يجلد أربعين ; لأنه حد يتشطر بالرق كحد الزنى . وروي عن ابن مسعود وعمر بن عبد
العزيز وقبيصة بن ذؤيب يجلد ثمانين . وجلد أبو بكر بن محمد عبدا قذف حرا ثمانين ;
وبه قال الأوزاعي . احتج الجمهور بقول الله تعالى : { فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما
على المحصنات من العذاب } [ النساء : 25 ] . وقال الآخرون : فهمنا هناك أن حد الزنى
لله تعالى , وأنه ربما كان أخف فيمن قلت نعم الله عليه , وأفحش فيمن عظمت نعم الله
عليه . وأما حد القذف فحق للآدمي وجب للجناية على عرض المقذوف , والجناية لا تختلف
بالرق والحرية . وربما قالوا : لو كان يختلف لذكر كما ذكر من الزنى . قال ابن المنذر
: والذي عليه علماء الأمصار القول الأول , وبه أقول . الثامنة : وأجمع العلماء على
أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما , ولقوله عليه السلام : ( من
قذف مملوكه بالزنى أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال ) خرجه البخاري
ومسلم . وفي بعض طرقه : ( من قذف عبده بزنى ثم لم يثبت أقيم عليه يوم القيامة الحد
ثمانون ) ذكره الدارقطني . قال العلماء : وإنما كان ذلك في الآخرة لارتفاع الملك
واستواء الشريف والوضيع والحر والعبد , ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقوى ; ولما كان
ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة , واقتص من كل واحد لصاحبه إلا أن يعفو المظلوم
عن الظالم . وإنما لم يتكافئوا في الدنيا لئلا تدخل الداخلة على المالكين من
مكافأتهم لهم , فلا تصح لهم حرمة ولا فضل في منزلة , وتبطل فائدة التسخير ; حكمة من
الحكيم العليم , لا إله إلا هو . التاسعة : قال مالك والشافعي : من قذف من يحسبه
عبدا فإذا هو حر فعليه الحد ; وقاله الحسن البصري واختاره ابن المنذر . قال مالك :
ومن قذف أم الولد حد وروى عن ابن عمر وهو قياس قول الشافعي . وقال الحسن البصري : لا
حد عليه . العاشرة : واختلف العلماء فيمن قال لرجل : يا من وطئ بين الفخذين ; فقال
ابن القاسم : عليه الحد ; لأنه تعريض . وقال أشهب : لا حد فيه ; لأنه نسبة إلى فعل
لا يعد زنى إجماعا . الحادية عشرة : إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان
قذفا عند مالك . وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور : ليس بقذف ; لأنه ليس بزنى إذ لا
حد عليها , ويعزر . قال ابن العربي : والمسألة محتملة مشكلة , لكن مالك طلب حماية
عرض المقذوف , وغيره راعى حماية ظهر القاذف ; وحماية عرض المقذوف أولى ; لأن القاذف
كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحد . قال ابن المنذر : وقال أحمد في الجارية بنت تسع :
يجلد قاذفها , وكذلك الصبي إذا بلغ عشرا ضرب قاذفه . قال إسحاق : إذا قذف غلاما يطأ
مثله فعليه الحد , والجارية إذا جاوزت تسعا مثل ذلك . قال ابن المنذر : لا يحد من
قذف من لم يبلغ ; لأن ذلك كذب , ويعزر على الأذى . قال أبو عبيد : في حديث علي رضي
الله عنه أن امرأة جاءته فذكرت أن زوجها يأتي جاريتها فقال : إن كنت صادقة رجمناه
وإن كنت كاذبة جلدناك . فقالت : ردوني إلى أهلي غيرى نغرة . قال أبو عبيد : في هذا
الحديث من الفقه أن على الرجل إذا واقع جارية امرأته الحد . وفيه أيضا إذا قذفه
بذلك قاذف كان على قاذفه الحد ; ألا تسمع قوله : وإن كنت كاذبة جلدناك . ووجه هذا
كله إذا لم يكن الفاعل جاهلا بما يأتي وبما يقول , فإن كان جاهلا وادعى شبهة درئ
عنه الحد في ذلك كله . وفيه أيضا أن رجلا لو قذف رجلا بحضرة حاكم وليس المقذوف
بحاضر أنه لا شيء على القاذف حتى يجيء فيطلب حده ; لأنه لا يدري لعله يصدقه ; ألا
ترى أن عليا عليه السلام لم يعرض لها . وفيه أن الحاكم إذا قذف عنده رجل ثم جاء
المقذوف فطلب حقه أخذه الحاكم بالحد بسماعه ; ألا تراه يقول : وإن كنت كاذبة جلدناك
; وهذا لأنه من حقوق الناس . قلت : اختلف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين ;
وسيأتي . قال أبو عبيد : قال الأصمعي سألني شعبة عن قول : غيرى نغرة ; فقلت له : هو
مأخوذ من نغر القدر , وهو غليانها وفورها ; يقال منه : نغرت تنغر , ونغرت تنغر إذا
غلت . فمعناه أنها أرادت أن جوفها يغلي من الغيظ والغيرة لما لم تجد عنده ما تريد
. قال : ويقال منه رأيت فلانا يتنغر على فلان ; أي يغلي جوفه عليه غيظا . الثانية
عشرة : من قذف زوجة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حد حدين ; قاله مسروق . قاله
ابن العربي : والصحيح أنه حد واحد ; لعموم قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات }
الآية , ولا يقتضي شرفهن زيادة في حد من قذفهن ; لأن شرف المنزلة لا يؤثر في الحدود
, ولا نقصها يؤثر في الحد بتنقيص . والله أعلم . وسيأتي الكلام فيمن قذف عائشة رضي
الله عنها , هل يقتل أم لا . ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فيها سبعة
مسائل : الأولى : الذي يفتقر إلى أربعة شهداء دون سائر الحقوق هو الزنى ; رحمة
بعباده وسترا لهم . وقد تقدم في سورة }{ النساء }{ الثانية : من شرط أداء الشهود
الشهادة عند مالك رحمه الله أن يكون ذلك في مجلس واحد ; فإن افترقت لم تكن شهادة
. وقال عبد الملك : تقبل شهادتهم مجتمعين ومفترقين . فرأى مالك أن اجتماعهم تعبد ;
وبه قال ابن الحسن . ورأى عبد الملك أن المقصود أداء الشهادة واجتماعها وقد حصل ;
وهو قول عثمان البتي وأبي ثور واختاره ابن المنذر لقوله تعالى : { ثم لم يأتوا
بأربعة شهداء }{ وقوله : { فإذ لم يأتوا بالشهداء } [ النور : 13 ] ولم يذكر مفترقين
ولا مجتمعين . الثالثة : فإن تمت الشهادة إلا أنهم لم يعدلوا ; فكان الحسن البصري
والشعبي يريان أن لا حد على الشهود ولا على المشهود ; وبه قال أحمد والنعمان ومحمد
بن الحسن . وقال مالك : إذا شهد عليه أربعة بالزنى فإن كان أحدهم مسقوطا عليه أو
عبدا يجلدون جميعا . وقال سفيان الثوري وأحمد وإسحاق في أربعة عميان يشهدون على
امرأة بالزنى : يضربون . الرابعة : فإن رجع أحد الشهود وقد رجم المشهود عليه في
الزنى ; فقالت طائفة : يغرم ربع الدية ولا شيء على الآخرين . وكذلك قال قتادة وحماد
وعكرمة وأبو هاشم ومالك وأحمد وأصحاب الرأي . وقال الشافعي : إن قال عمدت ليقتل ;
فالأولياء بالخيار إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا وأخذوا ربع الدية , وعليه الحد
. وقال الحسن البصري : يقتل , وعلى الآخرين ثلاثه أرباع الدية . وقال ابن سيرين : إذا
قال أخطأت وأردت غيره فعليه الدية كاملة , وإن قال تعمدت قتل ; وبه قال ابن شبرمة .
الخامسة : واختلف العلماء في حد القذف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين أو
فيه شائبة منهما ; الأول - قول أبي حنيفة . والثاني : قول مالك والشافعي . والثالث :
قاله بعض المتأخرين . وفائدة الخلاف أنه إن كان حقا لله تعالى وبلغ الإمام أقامه وإن
لم يطلب ذلك المقذوف , ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى , ويتشطر فيه
الحد بالرق كالزنى . وإن كان حقا للآدمي فلا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف ,
ويسقط بعفوه , ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف . السادسة : قوله تعالى }
بأربعة شهداء }{ قراءة الجمهور على إضافة الأربعة إلى الشهداء . وقرأ عبد الله بن
مسلم بن يسار وأبو زرعة بن عمرو بن جرير }{ بأربعة } ( التنوين ){ شهداء } . وفيه
أربعة أوجه : يكون في موضع جر على النعت لأربعة , أو بدلا . ويجوز أن يكون حالا من
نكرة أو تمييزا ; وفي الحال والتمييز نظر ; إذ الحال من نكرة , والتمييز مجموع
. وسيبويه يرى أنه تنوين العدد , وترك إضافته إنما يجوز في الشعر . وقد حسن أبو الفتح
عثمان بن جني هذه القراءة وحبب على قراءة الجمهور . قال النحاس : ويجوز أن يكون }
شهداء }{ في موضع نصب بمعنى ثم لم يحضروا أربعة شهداء . السابعة : حكم شهادة الأربعة
أن تكون على معاينة يرون ذلك كالمرود في المكحلة ; على ما تقدم في }{ النساء }{ في نص
الحديث . وأن تكون في موطن واحد ; على قول مالك . وإن اضطرب واحد منهم جلد الثلاثة ;
كما فعل عمر في أمر المغيرة بن شعبة ; وذلك أنه شهد عليه بالزنى أبو بكرة نفيع بن
الحارث وأخوه نافع ; وقال الزهراوي : عبد الله بن الحارث , وزياد أخوهما لأم وهو
مستلحق معاوية , وشبل بن معبد البجلي , فلما جاءوا لأداء الشهادة وتوقف زياد ولم
يؤدها , جلد عمر الثلاثة المذكورين . فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً الجلد
الضرب . والمجالدة المضاربة في الجلود أو بالجلود ; ثم استعير الجلد لغيز ذلك من سيف
أو غيره . ومنه قول قيس بن الخطيم : أجالدهم يوم الحديقة حاسرا كأن يدي بالسيف محراق
لاعب }{ ثمانين }{ نصب على المصدر .{ جلدة }{ تمييز . وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ
شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ هذا يقتضي مدة أعمارهم , ثم حكم
عليهم بأنهم فاسقون ; أي خارجون عن طاعة الله عز وجل . الحادية والعشرون .
فيها ستة مسائل : الأولى : في موضع نصب على الاستثناء . ويجوز أن يكون في موضع خفض
على البدل . المعنى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا وأصلحوا من بعد القذف
{ فإن الله غفور رحيم } . فتضمنت الآية ثلاثة أحكام في القاذف : جلده , ورد شهادته
أبدا , وفسقه . فالاستثناء غير عامل في جلده بإجماع ; إلا ما روى الشعبي على ما يأتي
. وعامل في فسقه بإجماع . واختلف الناس في عمله في رد الشهادة ; فقال شريح القاضي
وإبراهيم النخعي والحسن البصري وسفيان الثوري وأبو حنيفة : لا يعمل الاستثناء في رد
شهادته , وإنما يزول فسقه عند الله تعالى . وأما شهادة القاذف فلا تقبل البتة ولو
تاب وأكذب نفسه ولا بحال من الأحوال . وقال الجمهور : الاستثناء عامل في رد الشهادة
, فإذا تاب القاذف قبلت شهادته ; وإنما كان ردها لعلة الفسق فإذا زال بالتوبة قبلت
شهادته مطلقا قبل الحد وبعده , وهو قول عامة الفقهاء . ثم اختلفوا في صورة توبته ;
فمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه والشعبي وغيره , أن توبته لا تكون إلا بأن يكذب
نفسه في ذلك القذف الذي حد فيه . وهكذا فعل عمر ; فإنه قال للذين شهدوا على المغيرة
: من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل , ومن لم يفعل لم أجز شهادته ; فأكذب الشبل
بن معبد ونافع بن الحارث بن كلدة أنفسهما وتابا , وأبى أبو بكرة أن يفعل ; فكان لا
يقبل شهادته . وحكى هذا القول النحاس عن أهل المدينة . وقالت فرقة - منها مالك رحمه
الله تعالى وغيره - : توبته أن يصلح ويحسن حاله وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب ; وحسبه
الندم على قذفه والاستغفار منه وترك العود إلى مثله ; وهو قول ابن جرير . ويروى عن
الشعبي أنه قال : الاستثناء من الأحكام الثلاثة , إذا تاب وظهرت توبته لم يحد وقبلت
شهادته وزال عنه التفسيق ; لأنه قد صار ممن يرضى من الشهداء ; وقد قال الله عز وجل
: { وإني لغفار لمن تاب } [ طه : 82 ] الآية . الثانية والعشرون : اختلف علماؤنا
رحمهم الله تعالى متى تسقط شهادة القاذف ; فقال ابن الماجشون : بنفس قذفه . وقال ابن
القاسم وأشهب وسحنون : لا تسقط حتى يجلد , فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم ترد
شهادته . وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي : شهادته في مدة الأجل موقوفة ; ورجح القول
بأن التوبة إنما تكون بالتكذيب في القذف , وإلا فأي رجوع لعدل إن قذف وحد وبقي على
عدالته . الثالثة والعشرون: واختلفوا أيضا على القول بجواز شهادته بعد التوبة في أي
شيء تجوز ; فقال مالك رحمه الله تعالى : تجوز في كل شيء مطلقا ; وكذلك كل من حد في
شيء من الأشياء ; رواه نافع وابن عبد الحكم عن مالك , وهو قول ابن كنانة . وذكر
الوقار عن مالك أنه لا تقبل شهادته فيما حد فيه خاصة , وتقبل فيما سوى ذلك ; وهو
قول مطرف وابن الماجشون . وروى العتبي عن أصبغ وسحنون مثله . قال سحنون : من حد في
شيء من الأشياء فلا تجوز شهادته في مثل ما حد فيه . وقال مطرف وابن الماجشون : من حد
في قذف أو زنى فلا تجوز شهادته في شيء من وجوه الزنى , ولا في قذف ولا لعان وإن كان
عدلا ; وروياه عن مالك . واتفقوا على ولد الزنى أن شهادته لا تجوز في الزنى .
الرابعة والعشرون : الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفة عاد إلى جميعها عند مالك
والشافعي وأصحابهما . وعند أبي حنيفة وجل أصحابه يرجع الاستثناء إلى أقرب مذكور وهو
الفسق ; ولهذا لا تقبل شهادته , فإن الاستثناء راجع إلى الفسق خاصة لا إلى قبول
الشهادة . وسبب الخلاف في هذا الأصل سببان : أحدهما : هل هذه الجمل في حكم الجملة
الواحدة للعطف الذي فيها , أو لكل جملة حكم نفسها في الاستقلال وحرف العطف محسن لا
مشرك , وهو الصحيح في عطف الجمل ; لجواز عطف الجمل المختلفة بعضها على بعض , على ما
يعرف من النحو . السبب الثاني : يشبه الاستثناء بالشرط في عوده إلى الجمل المتقدمة
, فإنه يعود إلى جميعها عند الفقهاء , أو لا يشبه به , لأنه من باب القياس في اللغة
وهو فاسد على ما يعرف في أصول الفقه . والأصل أن كل ذلك محتمل ولا ترجيح , فتعين ما
قاله القاضي من الوقف . ويتأيد الإشكال بأنه قد جاء في كتاب الله عز وجل كلا الأمرين
; فإن آية المحاربة فيها عود الضمير إلى الجميع باتفاق , وآية قتل المؤمن خطأ فيها
رد الاستثناء إلى الأخيرة باتفاق , وآية القذف محتملة للوجهين , فتعين الوقف من غير
مين . قال علماؤنا : وهذا نظر كلي أصولي . ويترجح قول مالك والشافعي رحمهما الله من
جهة نظر الفقه الجزئي بأن يقال : الاستثناء راجع إلى الفسق والنهي عن قبول الشهادة
جميعا إلا أن يفرق بين ذلك بخبر يجب التسليم له . وأجمعت الأمة على أن التوبة تمحو
الكفر , فيجب أن يكون ما دون ذلك أولى ; والله أعلم . قال أبو عبيد : الاستثناء يرجع
إلى الجمل السابقة ; قال : وليس من نسب إلى الزنى بأعظم جرما من مرتكب الزنى , ثم
الزاني إذا تاب قبلت شهادته ; لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له , وإذا قبل الله
التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى ; مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع
من القرآن ; منها قوله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } [ المائدة
: 33 ] إلى قوله }{ إلا الذين تابوا } [ المائدة : 34 ] . ولا شك أن هذا الاستثناء
إلى الجميع ; وقال الزجاج : وليس القاذف بأشد جرما من الكافر , فحقه إذا تاب وأصلح
أن تقبل شهادته . قال : وقوله }{ أبدا }{ أي ما دام قاذفا ; كما يقال : لا تقبل شهادة
الكافر أبدا ; فإن معناه ما دام كافرا . وقال الشعبي للمخالف في هذه المسألة : يقبل
الله توبته ولا تقبلون شهادته ! ثم إن كان الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة عند
أقوام من الأصوليين فقوله : { وأولئك هم الفاسقون }{ تعليل لا جملة مستقلة بنفسها ;
أي لا تقبلوا شهادتهم لفسقهم , فإذا زال الفسق فلم لا تقبل شهادتهم . ثم توبة القاذف
إكذابه نفسه , كما قال عمر لقذفة المغيرة بحضرة الصحابة من غير نكير , مع إشاعة
القضية وشهرتها من البصرة إلى الحجاز وغير ذلك من الأقطار . ولو كان تأويل الآية ما
تأوله الكوفيون لم يجز أن يذهب علم ذلك عن الصحابة , ولقالوا لعمر : لا يجوز قبول
توبة القاذف أبدا , ولم يسعهم السكوت عن القضاء بتحريف تأويل الكتاب ; فسقط قولهم ,
والله المستعان . الخامسة والعشرون : قال القشيري : ولا خلاف أنه إذا لم يجلد
القاذف بأن مات المقذوف قبل أن يطالب القاذف بالحد , أو لم يرفع إلى السلطان , أو
عفا المقذوف , فالشهادة مقبولة ; لأن عند الخصم في المسألة النهي عن قبول الشهادة
معطوف على الجلد ; قال الله تعالى : { فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة
أبدا } . وعند هذا قال الشافعي : هو قبل أن يحد شر منه حين حد ; لأن الحدود كفارات
فكيف ترد شهادته في أحسن حاليه دون أخسهما . قلت : هكذا قال ولا خلاف . وقد تقدم عن
ابن الماجشون أنه بنفس القذف ترد شهادته . وهو قول الليث والأوزاعي والشافعي : ترد
شهادته وإن لم يحد ; لأنه بالقذف يفسق , لأنه من الكبائر فلا تقبل شهادته حتى تصح
براءته بإقرار المقذوف له بالزنى أو بقيام البينة عليه . السادسة : { وأصلحوا }
يريد إظهار التوبة . وقيل : وأصلحوا العمل .{ فإن الله غفور رحيم }{ حيث تابوا وقبل
توبتهم .
والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهمع فيها ثمانية وعشرون مسألة ع
الأولى : { أنفسهم }{ بالرفع على البدل . ويجوز النصب على الاستثناء , وعلى خبر }
يكن } . { فشهادة أحدهم أربع شهادات }{ بالرفع قراءة الكوفيين على الابتداء والخبر ;
أي فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حد القذف أربع شهادات . وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو
{ أربع }{ بالنصب ; لأن معنى }{ فشهادة }{ أن يشهد ; والتقدير : فعليهم أن يشهد أحدهم
أربع شهادات , أو فالأمر أن يشهد أحدهم أربع شهادات ; ولا خلاف في الثاني أنه منصوب
بالشهادة . { والخامسة }{ رفع بالابتداء . والخبر }{ أن }{ وصلتها ; ومعنى المخففة
كمعنى المثقلة لأن معناها أنه . وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة وعاصم في رواية حفص }
والخامسة }{ بالنصب , بمعنى وتشهد الشهادة الخامسة . الباقون بالرفع على الابتداء ,
والخبر في }{ أن لعنة الله عليه } ; أي والشهادة الخامسة قوله لعنة الله عليه
. الثانية : في سبب نزولها , وهو ما رواه أبو داود عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف
امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء ; فقال النبي صلى الله عليه
وسلم : ( البينة أو حد في ظهرك ) قال : يا رسول الله , إذا رأى أحدنا رجلا على
امرأته يلتمس البينة ! فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( البينة وإلا حد في
ظهرك ) فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق , ولينزلن الله في أمري ما يبرئ
ظهري من الحد ; فنزلت }{ والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم }{ فقرأ
حتى بلغ }{ من الصادقين الحديث بكماله . وقيل : لما نزلت الآية المتقدمة في الذين
يرمون المحصنات وتناول ظاهرها الأزواج وغيرهم قال سعد بن معاذ : يا رسول الله , إن
وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة ! والله لأضربنه بالسيف غير مصفح عنه .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله
أغير مني ) . وفي ألفاظ سعد روايات مختلفة , هذا نحو معناها . ثم جاء من بعد ذلك
هلال بن أمية الواقفي فرمى زوجته بشريك بن سحماء البلوي على ما ذكرنا , وعزم النبي
صلى الله عليه وسلم على ضربه حد القذف ; فنزلت هذه الآية عند ذلك , فجمعهما رسول
الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وتلاعنا , فتلكأت المرأة عند الخامسة لما وعظت
وقيل إنها موجبة ; ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم ; فالتعنت , وفرق رسول الله
صلى الله عليه وسلم بينهما , وولدت غلاما كأنه جمل أورق - على النعت المكروه - ثم
كان الغلام بعد ذلك أميرا بمصر , وهو لا يعرف لنفسه أبا . وجاء أيضا عويمر العجلاني
فرمى امرأته ولاعن . والمشهور أن نازلة هلال كانت قبل , وأنها سبب الآية . وقيل :
نازلة عويمر بن أشقر كانت قبل ; وهو حديث صحيح مشهور خرجه الأئمة قال أبو عبد الله
بن أبي صفرة : الصحيح أن القاذف لزوجه عويمر , وهلال بن أمية خطأ . قال الطبري
يستنكر قوله في الحديث هلال بن أمية : وإنما القاذف عويمر بن زيد بن الجد بن
العجلاني , شهد أحدا مع النبي صلى الله عليه وسلم , رماها بشريك بن السحماء ,
والسحماء أمه ; قيل لها ذلك لسوادها , وهو ابن عبدة بن الجد بن العجلاني ; كذلك كان
يقول أهل الأخبار . وقيل : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على الناس في الخطبة يوم
الجمعة }{ والذين يرمون المحصنات }{ فقال عاصم بن عدي الأنصاري : جعلني الله فداك !
لو أن رجلا منا وجد على بطن امرأته رجلا ; فتكلم فأخبر بما جرى جلد ثمانين , وسماه
المسلمون فاسقا فلا تقبل شهادته ; فكيف لأحدنا عند ذلك بأربعة شهداء , وإلى أن
يلتمس أربعة شهود فقد فرغ الرجل من حاجته ! فقال عليه السلام : ( كذلك أنزلت يا
عاصم بن عدي ) . فخرج عاصم سامعا مطيعا ; فاستقبله هلال بن أمية يسترجع ; فقال : ما
وراءك ؟ فقال : شر وجدت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خولة يزني بها ; وخولة هذه
بنت عاصم بن عدي , كذا في هذا الطريق أن الذي وجد مع امرأته شريكا هو هلال بن أمية
, والصحيح خلافه حسبما تقدم بيانه . قال الكلبي : والأظهر أن الذي وجد مع امرأته
شريكا عويمر العجلاني ; لكثرة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين
العجلاني وامرأته . واتفقوا على أن هذا الزاني هو شريك بن عبدة وأمه السحماء , وكان
عويمر وخولة بنت قيس وشريك بني عم عاصم , وكانت هذه القصة في شعبان سنة تسع من
الهجرة , منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة ; قال الطبري.
وروى الدارقطني عن عبد الله بن جعفر قال : حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
لاعن بين عويمر العجلاني وامرأته , مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك
, وأنكر حملها الذي في بطنها وقال هو لابن السحماء ; فقال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم : ( هات امرأتك فقد نزل القرآن فيكما ) ; فلاعن بينهما بعد العصر عند
المنبر على خمل . في طريقه الواقدي عن الضحاك بن عثمان عن عمران بن أبي أنس قال :
سمعت عبد الله بن جعفر يقول ... فذكره . الثالثة : { والذين يرمون أزواجهم }{ عام في
كل رمي , سواء قال : زنيت أو يا زانية أو رأيتها تزني , أو هذا الولد ليس مني ; فإن
الآية مشتملة عليه . ويجب اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء ; وهذا قول جمهور العلماء
وعامة الفقهاء وجماعة أهل الحديث . وقد روي عن مالك مثل ذلك . وكان مالك يقول : لا
يلاعن إلا أن يقول : رأيتك تزني ; أو ينفي حملا أو ولدا منها . وقول أبي الزناد
ويحيى بن سعيد والبتي مثل قول مالك : إن الملاعنة لا تجب بالقذف , وإنما تجب
بالرؤية أو نفي الحمل مع دعوى الاستبراء ; هذا هو المشهور عند مالك , وقاله ابن
القاسم . والصحيح . الأول لعموم قوله : { والذين يرمون أزواجهم } . قال ابن العربي
: وظاهر القرآن يكفي لإيجاب اللعان بمجرد القذف من غير رؤية ; فلتعولوا عليه , لا
سيما وفي الحديث الصحيح : أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا ؟ فقال النبي صلى الله
عليه وسلم : ( فاذهب فأت بها ) ولم يكلفه ذكر الرؤية. وأجمعوا أن الأعمى يلاعن إذا
قذف امرأته . ولو كانت الرؤية من شرط اللعان ما لاعن الأعمى ; قاله ابن عمر رضي
الله عنهم . وقد ذكر ابن القصار عن مالك أن لعان الأعمى لا يصح إلا أن يقول : لمست
فرجه في فرجها . والحجة لمالك ومن اتبعه ما رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله
عنهما قال : جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم , فجاء من أرضه عشاء
فوجد عند أهله رجلا , فرأى بعينه وسمع بأذنه فلم يهجه حتى أصبح , ثم غدا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله , إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندهم رجلا
, فرأيت بعيني وسمعت بأذني ; فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد
عليه ; فنزلت }{ والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم }{ الآية ; وذكر
الحديث. وهو نص على أن الملاعنة التي قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما
كانت في الرؤية , فلا يجب أن يتعدى ذلك . ومن قذف امرأته ولم يذكر رؤية حد ; لعموم
قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات } . الرابعة : إذا نفى الحمل فإنه يلتعن ;
لأنه أقوى من الرؤية ولا بد من ذكر عدم الوطء والاستبراء بعده . واختلف علماؤنا في
الاستبراء ; فقال المغيرة ومالك في أحد قوليهما : يجزي في ذلك حيضة . وقال مالك
أيضا : لا ينفيه إلا بثلاث حيض. والصحيح الأول ; لأن براءة الرحم من الشغل يقع بها
كما في استبراء الأمة , وإنما راعينا الثلاث حيض في العدد لحكم آخر يأتي بيانه في
الطلاق إن شاء الله تعالى . وحكى اللخمي عن مالك أنه قال مرة : لا ينفى الولد
بالاستبراء ; لأن الحيض يأتي على الحمل . وبه قال أشهب في كتاب ابن المواز , وقاله
المغيرة . وقال : لا ينفى الولد إلا بخمس سنين لأنه أكثر مدة الحمل على ما تقدم
. الخامسة : اللعان عندنا يكون في كل زوجين حرين كانا أو عبدين , مؤمنين أو كافرين ,
فاسقين أو عدلين . وبه قال الشافعي . ولا لعان بين الرجل وأمته , ولا بينه وبين أم
ولده . وقيل : لا ينتفي ولد الأمة عنه إلا بيمين واحدة ; بخلاف اللعان . وقد قيل :
إنه إذا نفى ولد أم الولد لاعن . والأول تحصيل مذهب مالك وهو الصواب . وقال أبو
حنيفة : لا يصح اللعان إلا من زوجين حرين مسلمين ; وذلك لأن اللعان عنده شهادة ,
وعندنا وعند الشافعي يمين , فكل من صحت يمينه صح قذفه ولعانه . واتفقوا على أنه لا
بد أن يكونا مكلفين. وفي قوله : { وجد مع امرأته رجلا } . دليل على أن الملاعنة تجب
على كل زوجين ; لأنه لم يخص رجلا من رجل ولا امرأه من امرأة , ونزلت آية اللعان على
هذا الجواب فقال : { والذين يرمون أزواجهم }{ ولم يخص زوجا من زوج . وإلى هذا ذهب
مالك وأهل المدينة ; وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور . وأيضا فإن
اللعان يوجب فسخ النكاح فأشبه الطلاق ; فكل من يجوز طلاقه يجوز لعانه. واللعان
أيمان لا شهادات ; قال الله تعالى وهو أصدق القائلين : { لشهادتنا أحق من شهادتهما
" [ المائدة : 107 ] أي أيماننا . وقال تعالى : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد
إنك لرسول الله } [ المنافقون : 1 ] . ثم قال تعالى : { اتخذوا أيمانهم جنة } [
المجادلة : 16 ] . وقال عليه السلام : ( لولا الأيمان لكان لي ولها شأن ) . وأما ما
احتج به الثوري وأبو حنيفة فهي حجج لا تقوم على ساق ; منها حديث عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أربعة
ليس بينهم لعان ليس بين الحر والأمة لعان وليس بين الحرة والعبد لعان وليس بين
المسلم واليهودية لعان وليس بين المسلم والنصرانية لعان ) . أخرجه الدارقطني من طرق
ضعفها كلها . وروي عن الأوزاعي وابن جريج وهما إمامان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده قوله , ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم . واحتجوا من جهة النظر أن
الأزواج لما استثنوا من جملة الشهداء بقوله : { ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم }{ وجب
ألا يلاعن إلا من تجوز شهادته . وأيضا فلو كانت يمينا ما رددت , والحكمة في ترديدها
قيامها في الأعداد مقام الشهود في الزنى . قلنا : هذا يبطل بيمين القسامة فإنها
تكرر وليست بشهادة إجماعا ; والحكمة في تكرارها التغليظ في الفروج والدماء . قال
ابن العربي : والفيصل في أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه
وتخليصه من العذاب , وكيف يجوز لأحد أن يدعي في الشريعة أن شاهدا يشهد لنفسه بما
يوجب حكما على غيره ! هذا بعيد في الأصل معدوم في النظر . السادسة : واختلف العلماء
في ملاعنة الأخرس ; فقال مالك والشافعي : يلاعن ; لأنه ممن يصح طلاقه وظهاره
وإيلاؤه , إذا فهم ذلك عنه . وقال أبو حنيفة : لا يلاعن ; لأنه ليس من أهل الشهادة
, ولأنه قد ينطق بلسانه فينكر اللعان , فلا يمكننا إقامة الحد عليه. وقد تقدم هذا
المعنى في سورة }{ مريم }{ والدليل عليه , والحمد لله . السابعة : قال ابن العربي :
رأى أبو حنيفة عموم الآية فقال : إن الرجل إذا قذف زوجته بالزنى قبل أن يتزوجها
فإنه يلاعن ; ونسي أن ذلك قد تضمنه قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات }{ وهذا
رماها محصنة غير زوجة ; وإنما يكون اللعان في قذف يلحق فيه النسب , وهذا قذف لا
يلحق فيه نسب فلا يوجب لعانا , كما لو قذف أجنبية. الثامنة : إذا قذفها بعد الطلاق
نظرت ; فإن كان هنالك نسب يريد أن ينفيه أو حمل يتبرأ منه لاعن وإلا لم يلاعن. وقال
عثمان البتي : لا يلاعن بحال لأنها ليست بزوجة . وقال أبو حنيفة : لا يلاعن في
الوجهين ; لأنها ليست بزوجة . وهذا ينتقض عليه بالقذف قبل الزوجية كما ذكرناه آنفا
, بل هذا أولى ; لأن النكاح قد تقدم وهو يريد الانتفاء من النسب وتبرئته من ولد
يلحق به فلا بد من اللعان . وإذا لم يكن هنالك حمل يرجى ولا نسب يخاف تعلقه لم يكن
للعان فائدة فلم يحكم به , وكان قذفا مطلقا داخلا تحت عموم قوله تعالى : { والذين
يرمون المحصنات }{ الآية , فوجب عليه الحد وبطل ما قاله البتي لظهور فساده . التاسعة
: لا ملاعنة بين الرجل وزوجته بعد انقضاء العدة إلا في مسألة واحدة , وهي أن يكون
الرجل غائبا فتأتي امرأته بولد في مغيبه وهو لا يعلم فيطلقها فتنقضي عدتها , ثم
يقدم فينفيه فله أن يلاعنها هاهنا بعد العدة . وكذلك لو قدم بعد وفاتها ونفى الولد
لاعن لنفسه وهي ميتة بعد مدة من العدة , ويرثها لأنها ماتت قبل وقوع الفرقة بينهما
. العاشرة : إذا انتفى من الحمل ووقع ذلك بشرطه لاعن قبل الوضع ; وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة : لا يلاعن إلا بعد أن تضع , لأنه يحتمل أن يكون ريحا أو داء من
الأدواء . ودليلنا النص الصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن قبل الوضع , وقال
: ( إن جاءت به كذا فهو لأبيه وإن جاءت به كذا فهو لفلان ) فجاءت به على النعت
المكروه . الحادية عشرة : إذا قذف بالوطء في الدبر }{ لزوجه }{ لاعن . وقال أبو حنيفة
: لا يلاعن ; وبناه على أصله في أن اللواط لا يوجب الحد . وهذا فاسد ; لأن الرمي به
فيه معرة وقد دخل تحت عموم قوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم }{ وقد تقدم في }
الأعراف }{ و }{ المؤمنون }{ أنه يجب به الحد . الثانية عشرة : قال ابن العربي : من
غريب أمر هذا الرجل أنه }{ قال }{ إذا قذف زوجته وأمها بالزنى : إنه إن حد للأم سقط
حد البنت , وإن لاعن للبنت لم يسقط حد الأم ; وهذا لا وجه له , وما رأيت لهم }{ فيه
{ شيئا يحكى , وهذا باطل جدا ; فإنه خص عموم الآية في البنت وهي زوجة بحد الأم من
غير أثر ولا أصل قاسه عليه . الثالثة عشرة : إذا قذف زوجته ثم زنت قبل التعانه فلا
حد ولا لعان . وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأكثر أهل العلم. وقال الثوري والمزني
: لا يسقط الحد عن القاذف , وزنى المقذوف بعد أن قذف لا يقدح في حصانته المتقدمة
ولا يرفعها ; لأن الاعتبار الحصانة والعفة في حال القذف لا بعده . كما لو قذف مسلما
فارتد المقذوف بعد القذف وقبل أن يحد القاذف لم يسقط الحد عنه. وأيضا فإن الحدود
كلها معتبرة بوقت الوجوب لا وقت الإقامة . ودليلنا هو أنه قد ظهر قبل استيفاء
اللعان والحد معنى لو كان موجودا في الابتداء منع صحة اللعان ووجوب الحد , فكذلك
إذا طرأ في الثاني ; كما إذا شهد شاهدان ظاهرهما العدالة فلم يحكم الحاكم بشهادتهما
حتى ظهر فسقهما بأن زنيا أو شربا خمرا فلم يجز للحاكم أن يحكم بشهادتهما تلك. وأيضا
فإن الحكم بالعفة والإحصان يؤخذ من طريق الظاهر لا من حيث القطع واليقين , وقد قال
عليه السلام : ( ظهر المؤمن حمى ) ; فلا يحد القاذف إلا بدليل قاطع , وبالله
التوفيق . الرابعة عشرة : من قذف امرأته وهي كبيرة لا تحمل تلاعنا ; هو لدفع الحد ,
وهي لدرء العذاب . فإن كانت صغيرة لا تحمل لاعن هو لدفع الحد ولم تلاعن هي لأنها لو
أقرت لم يلزمها شيء. وقال ابن الماجشون : لا حد على قاذف من لم تبلغ . قال اللخمي :
فعلى هذا لا لعان على زوج الصغيرة التي لا تحمل . الخامسة عشرة : إذا شهد أربعة على
امرأة بالزنى أحدهم زوجها فإن الزوج يلاعن وتحد الشهود الثلاثة ; وهو أحد قولي
الشافعي . والقول الثاني أنهم لا يحدون . وقال أبو حنيفة : إذا شهد الزوج والثلاثة
ابتداء قبلت شهادتهم وحدت المرأة . ودليلنا قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات }
الآية . فأخبر أن من قذف محصنا ولم يأت بأربعة شهداء حد ; فظاهره يقتضي أن يأتي
بأربعة شهداء سوى الرامي , والزوج رام لزوجته فخرج عن أن يكون أحد الشهود , والله
أعلم . السادسة عشرة : إذا ظهر بامرأته حمل فترك أن ينفيه لم يكن له نفيه بعد سكوته
. وقال شريح ومجاهد : له أن ينفيه أبدا . وهذا خطأ ; لأن سكوته بعد العلم به رضى به
; كما لو أقر به ثم ينفيه فإنه لا يقبل منه , والله أعلم . السابعة عشرة : فإن أخر
ذلك إلى أن وضعت وقال : رجوت أن يكون ريحا يفش أو تسقطه فأستريح من القذف ; فهل
لنفيه بعد وضعه مدة ما فإذا تجاوزها لم يكن له ذلك ; فقد اختلف في ذلك , فنحن نقول
: إذا لم يكن له عذر في سكوته حتى مضت ثلاثة أيام فهو راض به ليس له نفيه ; وبهذا
قال الشافعي. وقال أيضا : متى أمكنه نفيه على ما جرت به العادة تمكنه من الحاكم فلم
يفعل لم يكن له نفيه من بعد ذلك . وقال أبو حنيفة : لا أعتبر مدة . وقال أبو يوسف
ومحمد : يعتبر فيه أربعون يوما , مدة النفاس . قال ابن القصار : والدليل لقولنا هو
أن نفي ولده محرم عليه , واستلحاق ولد ليس منه محرم عليه , فلا بد أن يوسع عليه لكي
ينظر فيه ويفكر , هل يجوز له نفيه أو لا . وإنما جعلنا الحد ثلاثة لأنه أول حد
الكثرة وآخر حد القلة , وقد جعلت ثلاثة أيام يختبر بها حال المصراة ; فكذلك ينبغي
أن يكون هنا . وأما أبو يوسف ومحمد فليس اعتبارهم بأولى من اعتبار مدة الولادة
والرضاع ; إذ لا شاهد لهم في الشريعة , وقد ذكرنا نحن شاهدا في الشريعة من مدة
المصراة . الثامنة عشرة : قال ابن القصار : إذا قالت امرأة لزوجها أو لأجنبي يا
زانيه - بالهاء - وكذلك الأجنبي لأجنبي , فلست أعرف فيه نصا لأصحابنا , ولكنه عندي
يكون قذفا وعلى قائله الحد , وقد زاد حرفا , وبه قال الشافعي ومحمد بن الحسن . وقال
أبو حنيفة وأبو يوسف : لا يكون قذفا . واتفقوا أنه إذا قال لامرأته يا زان أنه قذف
. والدليل على أنه يكون في الرجل قذفا هو أن الخطاب إذا فهم منه معناه ثبت حكمه ,
سواء كان بلفظ أعجمي أو عربي . ألا ترى أنه إذا قال للمرأة زنيت ( بفتح التاء ) كان
قذفا ; لأن معناه يفهم منه , ولأبي حنيفة وأبي يوسف أنه لما جاز أن يخاطب المؤنث
بخطاب المذكر لقوله تعالى : { وقال نسوة }{ صلح أن يكون قوله يا زان للمؤنث قذفا .
ولما لم يجز أن يؤنث فعل المذكر إذا تقدم عليه لم يكن لخطابه بالمؤنث حكم , والله
أعلم . التاسعة عشرة : يلاعن في النكاح الفاسد زوجته لأنها صارت فراشا ويلحق النسب
فيه فجرى اللعان عليه . الموفية عشرون : اختلفوا في الزوج إذا أبى من الالتعان ;
فقال أبو حنيفة : لا حد عليه ; لأن الله تعالى جعل على الأجنبي الحد وعلى الزوج
اللعان , فلما لم ينتقل اللعان إلى الأجنبي لم ينتقل الحد إلى الزوج , ويسجن أبدا
حتى يلاعن لأن الحدود لا تؤخر قياسا . وقال مالك والشافعي وجمهور الفقهاء : إن لم
يلتعن الزوج حد ; لأن اللعان له براءة كالشهود للأجنبي , فإن لم يأت الأجنبي بأربعة
شهداء حد , فكذلك الزوج إن لم يلتعن . وفي حديث العجلاني ما يدل على هذا ; لقوله :
إن سكت سكت على غيظ وإن قتلت قتلت وإن نطقت جلدت . الحادية والعشرون : واختلفوا أيضا
هل للزوج أن يلاعن مع شهوده ; فقال مالك والشافعي : يلاعن كان له شهود أو لم يكن ;
لأن الشهود ليس لهم عمل في غير درء الحد , وأما رفع الفراش ونفي الولد فلا بد فيه
من اللعان. وقال أبو حنيفة وأصحابه : إنما جعل اللعان للزوج إذا لم يكن له شهود غير
نفسه ; لقوله تعالى : { ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } . الثانية والعشرون : اختلف
العلماء في حكم من قذف امرأته برجل سماه , هل يحد أم لا ; فقال مالك : عليه اللعان
لزوجته , وحد للمرمي . وبه قال أبو حنيفة ; لأنه قاذف لمن لم يكن له ضرورة إلى قذفه
. وقال الشافعي : لا حد عليه ; لأن الله عز وجل لم يجعل على من رمى زوجته بالزنى
إلا حدا واحدا بقوله : { والذين يرمون أزواجهم } , ولم يفرق بين من ذكر رجلا بعينه
وبين من لم يذكر ; وقد رمى العجلاني زوجته بشريك وكذلك هلال بن أمية ; فلم يحد واحد
منهما . قال ابن العربي : وظاهر القرآن لنا ; لأن الله تعالى وضع الحد في قذف
الأجنبي والزوجة مطلقين , ثم خص حد الزوجة بالخلاص باللعان وبقي الأجنبي على مطلق
الآية . وإنما لم يحد العجلاني لشريك ولا هلال لأنه لم يطلبه ; وحد القذف لا يقيمه
الإمام إلا بعد المطالبة إجماعا منا ومنه . الخامسة والعشرون : إذا فرغ المتلاعنان
من تلاعنهما جميعا تفرقا وخرج كل واحد منهما على باب من المسجد الجامع غير الباب
الذي يخرج منه صاحبه , ولو خرجا من باب واحد لم يضر ذلك لعانهما . ولا خلاف في أنه
لا يكون اللعان إلا في مسجد جامع تجمع فيه الجمعة بحضرة السلطان أو من يقوم مقامه
من الحكام . وقد استحب جماعة من أهل العلم أن يكون اللعان في الجامع بعد العصر .
وتلتعن النصرانية من زوجها المسلم في الموضع الذي تعظمه من كنيستها مثل ما تلتعن به
المسلمة . السادسة والعشرون : قال مالك وأصحابه : وبتمام اللعان تقع الفرقة بين
المتلاعنين , فلا يجتمعان أبدا ولا يتوارثان , ولا يحل له مراجعتها أبدا لا قبل زوج
ولا بعده ; وهو قول الليث بن سعد وزفر بن الهذيل والأوزاعي. وقال أبو حنيفة وأبو
يوسف ومحمد بن الحسن : لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما
; وهو قول الثوري ; لقول ابن عمر : فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين
المتلاعنين ; فأضاف الفرقة إليه , ولقوله عليه السلام : ( لا سبيل لك عليها ) .
وقال الشافعي : إذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان فقد زال فراش امرأته , التعنت أو
لم تلتعن . قال : وأما التعان المرأة فإنما هو لدرء الحد عنها لا غير ; وليس
لالتعانها في زوال الفراش معنى. ولما كان لعان الزوج ينفي الولد ويسقط الحد رفع
الفراش. وكان عثمان البتي لا يرى التلاعن ينقص شيئا من عصمة الزوجين حتى يطلق .
وهذا قول لم يتقدمه إليه أحد من الصحابة ; على أن البتي قد استحب للملاعن أن يطلق
بعد اللعان , ولم يستحسنه قبل ذلك ; فدل على أن اللعان عنده قد أحدث حكما . وبقول
عثمان قال جابر بن زيد فيما ذكره الطبري , وحكاه اللخمي عن محمد بن أبي صفرة .
ومشهور المذهب أن نفس تمام اللعان بينهما فرقة . واحتج أهل هذه المقالة بأنه ليس في
كتاب الله تعالى إذا لاعن أو لاعنت يجب وقوع الفرقة , وبقول عويمر : كذبت عليها إن
أمسكتها ; فطلقها ثلاثا , قال : ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عليه ولم
يقل له لم قلت هذا , وأنت لا تحتاج إليه ; لأن باللعان قد طلقت . والحجة لمالك في
المشهور ومن وافقه قوله عليه السلام : ( لا سبيل لك عليها ) . وهذا إعلام منه أن
تمام اللعان رفع سبيله عنها وليس تفريقه بينهما باستئناف حكم , وإنما كان تنفيذا
لما أوجب الله تعالى بينهما من المباعدة , وهو معنى اللعان في اللغة . الخامسة
والعشرون : ذهب الجمهور من العلماء أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدا , فإن أكذب نفسه
جلد الحد ولحق به الولد , ولم ترجع إليه أبدا. وعلى هذا السنة التي لا شك فيها ولا
اختلاف . وذكر ابن المنذر عن عطاء أن الملاعن إذا أكذب نفسه بعد اللعان لم يحد ,
وقال : قد تفرقا بلعنة من الله. وقال أبو حنيفة ومحمد : إذا أكذب نفسه جلد الحد
ولحق به الولد , وكان خاطبا من الخطاب إن شاء ; وهو قول سعيد بن المسيب والحسن
وسعيد بن جبير وعبد العزيز بن أبي سلمة , وقالوا : يعود النكاح حلالا كما لحق به
الولد ; لأنه لا فرق بين شيء من ذلك . وحجة الجماعة قوله عليه السلام : ( لا سبيل
لك عليها ) ; ولم يقل إلا أن تكذب نفسك . وروى ابن إسحاق وجماعة عن الزهري قال :
فمضت السنة أنهما إذا تلاعنا فرق بينهما فلا يجتمعان أبدا . ورواه الدارقطني ,
ورواه مرفوعا من حديث سعيد بن جبير عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : ( المتلاعنان إذا افترقا لا يجتمعان أبدا ) . وروي عن علي وعبد
الله قالا : مضت السنة ألا يجتمع المتلاعنان . عن علي : أبدا . الثامنة والعشرون :
اللعان يفتقر إلى أربعة أشياء :[ عدد الألفاظ ] وهو أربع شهادات على ما تقدم .[
والمكان ] وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلدان , إن كان بمكة فعند الركن والمقام ,
وإن كان بالمدينة فعند المنبر , وإن كان ببيت المقدس فعند الصخرة , وإن كان في سائر
البلدان ففي مساجدها , وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه ,
إن كانا يهوديين فالكنيسة , وإن كانا مجوسيين ففي بيت النار , وإن كانا لا دين لهما
مثل الوثنيين فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه.[ والوقت ] وذلك بعد صلاة العصر .[
وجمع الناس ] وذلك أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا ; فاللفظ وجمع الناس مشروطان ,
والزمان والمكان مستحبان . السابعة والعشرون : من قال : إن الفراق لا يقع إلا بتمام
التعانهما , فعليه لو مات أحدهما قبل تمامه ورثه الآخر . ومن قال : لا يقع إلا
بتفريق الإمام فمات أحدهما قبل ذلك وتمام اللعان ورثه الآخر . وعلى قول الشافعي :
إن مات أحدهما قبل أن تلتعن المرأة لم يتوارثا . الثامنة والعشرون : قال ابن القصار
: تفريق اللعان عندنا ليس بفسخ ; وهو مذهب المدونة : فإن اللعان حكم تفريق الطلاق ,
ويعطى لغير المدخول بها نصف الصداق . وفي مختصر ابن الجلاب : لا شيء لها ; وهذا على
أن تفريق اللعان فسخ. فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقينالبداءة في
اللعان بما بدأ الله به , وهو الزوج ; وفائدته درء الحد عنه ونفي النسب منه ; لقوله
عليه السلام : ( البينة وإلا حد في ظهرك ) . ولو بدئ بالمرأة قبله لم يجز لأنه عكس
ما رتبه الله تعالى . وقال أبو حنيفة : يجزى. وهذا باطل ; لأنه خلاف القرآن , وليس
له أصل يرده إليه ولا معنى يقوى به , بل المعنى لنا ; لأن المرأة إذا بدأت باللعان
فتنفي ما لم يثبت وهذا لا وجه له . وكيفية اللعان أن يقول الحاكم للملاعن : قل أشهد
بالله لرأيتها تزني ورأيت فرج الزاني في فرجها كالمرود في المكحلة وما وطئتها بعد
رؤيتي. وإن شئت قلت : لقد زنت وما وطئتها بعد زناها. يردد ما شاء من هذين اللفظين
أربع مرات , فإن نكل عن هذه الأيمان أو عن شيء منها حد . وإذا نفى حملا قال : أشهد
بالله لقد استبرأتها وما وطئتها بعد , وما هذا الحمل مني , ويشير إليه ; فيحلف بذلك
أربع مرات ويقول في كل يمين منها : وإني لمن الصادقين في قولي هذا عليها . ثم يقول
في الخامسة : علي لعنة الله إن كنت من الكاذبين , وإن شاء قال : إن كنت كاذبا فيما
ذكرت عنها . فإذا قال ذلك سقط عنه الحد وانتفى عنه الولد . فإذا فرغ الرجل من
التعانه قامت المرأة بعده فحلفت بالله أربعة أيمان , تقول فيها : أشهد بالله إنه
لكاذب أو إنه لمن الكاذبين فيما ادعاه علي وذكر عني . وإن كانت حاملا قالت : وإن
حملي هذا منه . ثم تقول في الخامسة : وعلي غضب الله إن كان صادقا , أو إن كان من
الصادقين في قوله ذلك. ومن أوجب اللعان بالقذف يقول في كل شهادة من الأربع : أشهد
بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به فلانة من الزنى . ويقول في الخامسة : علي لعنة
الله إن كنت كاذبا فيما رميت به من الزنى. وتقول هي : أشهد بالله إنه لكاذب فيما
رماني به من الزنى . وتقول في الخامسة : علي غضب الله إن كان صادقا فيما رماني به
من الزنى . وقال الشافعي : يقول الملاعن أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به
زوجي فلانة بنت فلان , ويشير إليها إن كانت حاضرة , يقول ذلك أربع مرات , ثم يوعظه
الإمام ويذكره الله تعالى ويقول : إني أخاف إن لم تكن صدقت أن تبوء بلعنة الله ;
فإن رآه يريد أن يمضي على ذلك أمر من يضع يده على فيه , ويقول : إن قولك وعلي لعنة
الله إن كنت من الكاذبين موجبا ; فإن أبى تركه يقول ذلك : لعنة الله علي إن كنت من
الكاذبين فيما رميت به فلانة من الزنى . احتج بما رواه أبو داود عن ابن عباس أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلا حيث أمر المتلاعنين أن يضع يده على فيه عند
الخامسة يقول : إنها موجبة .
وكيفية اللعان أن يقول الحاكم للملاعن : قل أشهد بالله لرأيتها تزني ورأيت فرج
الزاني في فرجها كالمرود في المكحلة وما وطئتها بعد رؤيتي . وإن شئت قلت : لقد زنت
وما وطئتها بعد زناها . يردد ما شاء من هذين اللفظين أربع مرات , فإن نكل عن هذه
الأيمان أو عن شيء منها حد . وإذا نفى حملا قال : أشهد بالله لقد استبرأتها وما
وطئتها بعد , وما هذا الحمل مني , ويشير إليه ; فيحلف بذلك أربع مرات ويقول في كل
يمين منها : وإني لمن الصادقين في قولي هذا عليها . ثم يقول في الخامسة : علي لعنة
الله إن كنت من الكاذبين , وإن شاء قال : إن كنت كاذبا فيما ذكرت عنها . فإذا قال
ذلك سقط عنه الحد وانتفى عنه الولد . وقال الشافعي : يقول الملاعن أشهد بالله إني
لمن الصادقين فيما رميت به زوجي فلانة بنت فلان , ويشير إليها إن كانت حاضرة , يقول
ذلك أربع مرات , ثم يوعظه الإمام ويذكره الله تعالى ويقول : إني أخاف إن لم تكن
صدقت أن تبوء بلعنة الله ; فإن رآه يريد أن يمضي على ذلك أمر من يضع يده على فيه ,
ويقول : إن قولك وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين موجبا ; فإن أبى تركه يقول ذلك
: لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة من الزنى . احتج بما رواه
أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلا حيث أمر المتلاعنين
أن يضع يده على فيه عند الخامسة يقول : إنها موجبة .
إذا فرغ الرجل من التعانه قامت المرأة بعده فحلفت بالله أربعة أيمان , تقول فيها :
أشهد بالله إنه لكاذب أو إنه لمن الكاذبين فيما ادعاه علي وذكر عني . وإن كانت حاملا
قالت : وإن حملي هذا منه . ثم تقول في الخامسة : وعلي غضب الله إن كان صادقا , أو إن
كان من الصادقين في قوله ذلك . ومن أوجب اللعان بالقذف يقول في كل شهادة من الأربع :
أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به فلانة من الزنى . ويقول في الخامسة : علي
لعنة الله إن كنت كاذبا فيما رميت به من الزنى . وتقول هي : أشهد بالله إنه لكاذب
فيما رماني به من الزنى . وتقول في الخامسة : علي غضب الله إن كان صادقا فيما رماني
به من الزنى .
فإذا فرغ الرجل من التعانه قامت المرأة بعده فحلفت بالله أربعة أيمان , تقول فيها :
أشهد بالله إنه لكاذب أو إنه لمن الكاذبين فيما ادعاه علي وذكر عني . وإن كانت حاملا
قالت : وإن حملي هذا منه . ثم تقول في الخامسة : وعلي غضب الله إن كان صادقا , أو إن
كان من الصادقين في قوله ذلك . ومن أوجب اللعان بالقذف يقول في كل شهادة من الأربع :
أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به فلانة من الزنى . ويقول في الخامسة : علي
لعنة الله إن كنت كاذبا فيما رميت به من الزنى . وتقول هي : أشهد بالله إنه لكاذب
فيما رماني به من الزنى . وتقول في الخامسة : علي غضب الله إن كان صادقا فيما رماني
به من الزنى .
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا
لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ }{ عصبة }{ خبر }{ إن } . ويجوز نصبها على الحال ,
ويكون الخبر }{ لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم } . وسبب نزولها ما رواه الأئمة من
حديث الإفك الطويل في قصة عائشة رضوان الله عليها , وهو خبر صحيح مشهور , أغنى
اشتهاره عن ذكره , وسيأتي مختصرا . وأخرجه البخاري تعليقا , وحديثه أتم . قال : وقال
أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة , وأخرجه أيضا عن محمد بن كثير عن أخيه
سليمان من حديث مسروق عن أم رومان أم عائشة أنها قالت : لما رميت عائشة خرت مغشيا
عليها . وعن موسى بن إسماعيل من حديث أبي وائل قال : حدثني مسروق بن الأجدع قال
حدثتني أم رومان وهي أم عائشة قالت : بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من
الأنصار فقالت : فعل الله بفلان وفعل [ بفلان ] فقالت أم رومان : وما ذاك ؟ قالت
ابني فيمن حدث الحديث قالت : وما ذاك ؟ قالت كذا وكذا . قالت عائشة : سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ قالت نعم . قالت : وأبو بكر ؟ قالت نعم فخرت مغشيا عليها ; فما
أفاقت إلا وعليها حمى بنافض , فطرحت عليها ثيابها فغطيتها , فجاء النبي صلى الله
عليه وسلم فقال : ( ما شأن هذه ؟ ) فقلت : يا رسول الله , أخذتها الحمى بنافض . قال
: ( فلعل في حديث تحدث به ) قالت نعم . فقعدت عائشة فقالت : والله , لئن حلفت لا
تصدقوني ! ولئن قلت لا تعذروني ! مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه والله المستعان على ما
تصفون . قالت : وانصرف ولم يقل شيئا ; فأنزل الله عذرها . قالت : بحمد الله لا بحمد
أحد ولا بحمدك . قال أبو عبد الله الحميدي : كان بعض من لقينا من الحفاظ البغداديين
يقول الإرسال في هذا الحديث أبين , واستدل على ذلك بأن أم رومان توفيت في حياة رسول
الله صلى الله عليه وسلم , ومسروق لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف
. وللبخاري من حديث عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة أن عائشة كانت تقرأ }{ إذ
تلقونه بألسنتكم }{ وتقول : الولق الكذب . قال ابن أبي مليكة : وكانت أعلم بذلك من
غيرها لأنه نزل فيها . قال البخاري : وقال معمر بن راشد عن الزهري : كان حديث الإفك
في غزوة المريسيع . قال ابن إسحاق : وذلك سنة ست . وقال موسى بن عقبة : سنة أربع
. وأخرج البخاري من حديث معمر عن الزهري قال : قال لي الوليد بن عبد الملك : أبلغك
أن عليا كان فيمن قذف ؟ قال : قلت لا , ولكن قد أخبرني رجلان من قومك أبو سلمة بن
عبد الرحمن وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عائشة قالت لهما : كان علي
مسلما في شأنها . وأخرجه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه المخرج على الصحيح من وجه آخر
من حديث معمر عن الزهري , وفيه : قال كنت عند الوليد بن عبد الملك فقال : الذي تولى
كبره منهم علي بن أبي طالب ؟ فقلت لا , حدثني سعيد بن المسيب وعروة وعلقمة وعبيد
الله بن عبد الله بن عتبة كلهم يقول سمعت عائشة تقول : والذي تولى كبره عبد الله بن
أبي . وأخرج البخاري أيضا من حديث الزهري عن عروة عن عائشة : والذي تولى كبره منهم
عبد الله بن أبي . { بالإفك }{ الإفك الكذب . والعصبة ثلاثة رجال ; قاله ابن عباس
. وعنه أيضا من الثلاثة إلى العشرة . ابن عيينة : أربعون رجلا . مجاهد : من عشرة إلى
خمسة عشر . وأصلها في اللغة وكلام العرب الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض . والخير
حقيقته ما زاد نفعه على ضره . والشر ما زاد ضره على نفعه . وإن خيرا لا شر فيه هو
الجنة . وشرا لا خير فيه هو جهنم . فأما البلاء النازل على الأولياء فهو خير ; لأن
ضرره من الألم قليل في الدنيا , وخيره هو الثواب الكثير في الأخرى . فنبه الله تعالى
عائشة وأهلها وصفوان , إذ الخطاب لهم في قوله }{ لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم }
; لرجحان النفع والخير على جانب الشر . لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعائشة معه في غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع , وقفل ودنا من المدينة آذن ليلة
بالرحيل قامت حين آذنوا بالرحيل فمشت حتى جاوزت الجيش , فلما فرغت من شأنها أقبلت
إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع , فرجعت فالتمسته فحبسها
ابتغاؤه , فوجدته وانصرفت فلما لم تجد أحدا , وكانت شابة قليلة اللحم , فرفع الرجال
هودجها ولم يشعروا بنزولها منه ; فلما لم تجد أحدا اضطجعت في مكانها رجاء أن تفتقد
فيرجع إليها , فنامت في الموضع ولم يوقظها إلا قول صفوان بن المعطل : إنا لله وإنا
إليه راجعون ; وذلك أنه كان تخلف وراء الجيش لحفظ الساقة . وقيل : إنها استيقظت
لاسترجاعه , ونزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة , وأخذ يقودها حتى بلغ بها
الجيش في نحر الظهيرة ; فوقع أهل الإفك في مقالتهم , وكان الذي يجتمع إليه فيه
ويستوشيه ويشعله عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق , وهو الذي رأى صفوان آخذا بزمام
ناقة عائشة فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها , وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل
. وكان من قالته حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش . هذا اختصار الحديث ,
وهو بكماله وإتقانه في البخاري ومسلم , وهو في مسلم أكمل . ولما بلغ صفوان قول حسان
في الإفك جاء فضربه بالسيف ضربة على رأسه وقال : تلق ذباب السيف عني فإنني غلام إذا
هوجيت ليس بشاعر فأخذ جماعة حسان ولببوه وجاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم , فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم جرح حسان واستوهبه إياه . وهذا يدل على
أن حسان ممن تولى الكبر ; على ما يأتي والله أعلم . وكان صفوان هذا صاحب ساقة رسول
الله صلى الله عليه وسلم في غزواته لشجاعته , وكان من خيار الصحابة . وقيل : كان
حصورا لا يأتي النساء ; ذكره ابن إسحاق من طريق عائشة . وقيل : كان له ابنان ; يدل
على ذلك حديثه المروي مع امرأته , وقول النبي صلى الله عليه وسلم في ابنيه : ( لهما
أشبه به من الغراب بالغراب ) . وقوله في الحديث : والله ما كشف كنف أنثى قط ; يريد
بزنى . وقتل شهيدا رضي الله عنه في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في زمان عمر , وقيل :
ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية . لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا
اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ يعني ممن تكلم بالإفك . ولم يسم من أهل الإفك إلا حسان
ومسطح وحمنة وعبد الله ; وجهل الغير ; قاله عروة بن الزبير , وقد سأله عن ذلك عبد
الملك بن مروان , وقال : إلا أنهم كانوا عصبة ; كما قال الله تعالى . وفي مصحف حفصة
{ عصبة أربعة } . وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ وقرأ
حميد الأعرج ويعقوب }{ كبره }{ بضم الكاف . قال الفراء : وهو وجه جيد ; لأن العرب تقول
: فلان تولى عظم كذا وكذا ; أي أكبره . روي عن عائشة أنه حسان , وأنها قالت حين عمي
: لعل العذاب العظيم الذي أوعده الله به ذهاب بصره ; رواه عنها مسروق . وروي عنها
أنه عبد الله بن أبي ; وهو الصحيح , وقاله ابن عباس . وحكى أبو عمر بن عبد البر أن
عائشة برأت حسان من الفرية , وقالت : إنه لم يقل شيئا . وقد أنكر حسان أن يكون قال
شيئا من ذلك في قوله : حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل حليلة
خير الناس دينا ومنصبا نبي الهدى والمكرمات الفواضل عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام
المساعي مجدها غير زائل مهذبة قد طيب الله خيمها وطهرها من كل شين وباطل فإن كان ما
بلغت أني قلته فلا رفعت سوطي إلي أناملي فكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله
زين المحافل له رتب عال على الناس فضلها تقاصر عنها سورة المتطاول وقد روي أنه لما
أنشدها : حصان رزان ; قالت له : لست كذلك ; تريد أنك وقعت في الغوافل . وهذا تعارض ,
ويمكن الجمع بأن يقال : إن حسانا لم يقل ذلك نصا وتصريحا , ويكون عرض بذلك وأومأ
إليه فنسب ذلك إليه ; والله أعلم . وقد اختلف الناس فيه هل خاض في الإفك أم لا ,
وهل جلد الحد أم لا ; فالله أعلم أي ذلك كان , فروى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي
صلى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة : مسطحا وحسان وحمنة , وذكره الترمذي
. وذكر القشيري عن ابن عباس قال : جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي ثمانين
جلدة , وله في الآخرة عذاب النار . قال القشيري : والذي ثبت في الأخبار أنه ضرب ابن
أبي وضرب حسان وحمنة , وأما مسطح فلم يثبت عنه قذف صريح , ولكنه كان يسمع ويشيع من
غير تصريح . قال الماوردي وغيره : اختلفوا هل حد النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب
الإفك ; على قولين : أحدهما أنه لم يحد أحدا من أصحاب الإفك لأن الحدود إنما تقام
بإقرار أو ببينة , ولم يتعبده الله أن يقيمها بإخباره عنها ; كما لم يتعبده بقتل
المنافقين , وقد أخبره بكفرهم . قلت : وهذا فاسد مخالف لنص القرآن ; فإن الله عز
وجل يقول : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء }{ أي على صدق قولهم :
{ فاجلدوهم ثمانين جلدة } . والقول الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم حد أهل
الإفك عبد الله بن أبي ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ; وفي ذلك قال
شاعر من المسلمين : لقد ذاق حسان الذي كان أهله وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح وابن
سلول ذاق في الحد خزية كما خاض في إفك من القول يفصح تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم
وسخطة ذي العرش الكريم فأبرحوا وآذوا رسول الله فيها فجللوا مخازي تبقى عمموها
وفضحوا فصب عليهم محصدات كأنها شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح قلت : المشهور من
الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حد حسان ومسطح وحمنة , ولم يسمع بحد لعبد
الله بن أبي . روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما نزل عذري قام النبي
صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك , وتلا القرآن ; فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين
والمرأة فضربوا حدهم , وسماهم : حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش . وفي
كتاب الطحاوي }{ ثمانين ثمانين } . قال علماؤنا . وإنما لم يحد عبد الله بن أبي لأن
الله تعالى قد أعد له في الآخرة عذابا عظيما ; فلو حد في الدنيا لكان ذلك نقصا من
عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها
وبكذب كل من رماها ; فقد حصلت فائدة الحد , إذ مقصوده إظهار كذب القاذف وبراءة
المقذوف ; كما قال الله تعالى : { فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم
الكاذبون } . وإنما حد هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا
يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة , وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحدود ( إنها
كفارة لمن أقيمت عليه ) ; كما في حديث عبادة بن الصامت . ويحتمل أن يقال : إنما ترك
حد ابن أبي استئلافا لقومه واحتراما لابنه , وإطفاء لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك
, وقد كان ظهر مبادئها من سعد بن عبادة ومن قومه ; كما في صحيح مسلم . والله أعلم .
هذا عتاب من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في ظنهم حين قال أصحاب الإفك ما قالوا
. قال ابن زيد : ظن المؤمنون أن المؤمن لا يفجر بأمه ; قاله المهدوي . و }{ لولا }
بمعنى هلا . وقيل : المعنى أنه كان بنبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر
على أنفسهم ; فإن كان ذلك يبعد فيهم فذلك في عائشة وصفوان أبعد . وروي أن هذا النظر
السديد وقع من أبي أيوب الأنصاري وامرأته ; وذلك أنه دخل عليها فقالت له : يا أبا
أيوب , أسمعت ما قيل ! فقال نعم وذلك الكذب أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك ! قالت
: لا والله قال : فعائشة والله أفضل منك ; قالت أم أيوب نعم . فهذا الفعل ونحوه هو
الذي عاتب الله تعالى عليه المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم . { بأنفسهم }{ قال النحاس :
معنى }{ بأنفسهم }{ بإخوانهم . فأوجب الله على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا
ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه . وتواعد من ترك ذلك ومن نقله .
قلت : ولأجل هذا قال العلماء : إن الآية أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان
; ومنزلة الصلاح التي حلها المؤمن , ولبسة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها
عنه خبر محتمل وإن شاع , إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا .
لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ هذا توبيخ لأهل الإفك . و }{ لولا }
بمعنى هلا ; أي هلا جاءوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء . وهذا رد على
الحكم الأول وإحالة على الآية السابقة في آية القذف . فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا
بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ أي هم في حكم الله
كاذبون . وقد يعجز الرجل عن إقامة البينة وهو صادق في قذفه , ولكنه في حكم الشرع
وظاهر الأمر كاذب لا في علم الله تعالى ; وهو سبحانه إنما رتب الحدود على حكمه الذي
شرعه في الدنيا لا على مقتضى علمه الذي تعلق بالإنسان على ما هو عليه , فإنما يبنى
على ذلك حكم الآخرة . قلت : ومما يقوي هذا المعنى ويعضده ما خرجه البخاري عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه أنه قال : أيها الناس إن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما
ظهر لنا من أعمالكم , فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه ; وليس لنا من سريرته شيء
الله يحاسبه في سريرته , ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه , وإن قال إن سريرته
حسنة . وأجمع العلماء أن أحكام الدنيا على الظاهر , وأن السرائر إلى الله عز وجل .
فضل }{ رفع بالابتداء عند سيبويه , والخبر محذوف لا تظهره العرب . وحذف جواب }{ لولا
{ لأنه قد ذكر مثله بعد ; قال الله عز وجل }{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم }
أي بسبب ما قلتم في عائشة عذاب عظيم في الدنيا والآخرة . وهذا عتاب من الله تعالى
بليغ , ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا . والإفاضة
: الأخذ في الحديث ; وهو الذي وقع عليه العتاب ; يقال : أفاض القوم في الحديث أي
أخذوا فيه .
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ قراءة محمد بن السميقع بضم التاء وسكون اللام
وضم القاف ; من الإلقاء , وهذه قراءة بينة . وقرأ أبي وابن مسعود }{ إذ تتلقونه }{ من
التلقي , بتاءين . وقرأ جمهور السبعة بحرف التاء الواحدة وإظهار الذال دون إدغام ;
وهذا أيضا من التلقي . وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام الذال في التاء . وقرأ
ابن كثير بإظهار الذال وإدغام التاء في التاء ; وهذه قراءة قلقة ; لأنها تقتضي
اجتماع ساكنين , وليست كالإدغام في قراءة من قرأ }{ فلا تناجوا . ولا تنابزوا }{ لأن
دونه الألف الساكنة , وكونها حرف لين حسنت هنالك ما لا تحسن مع سكون الذال . وقرأ
ابن يعمر وعائشة رضي الله عنهما - وهم أعلم الناس بهذا الأمر - { إذ تلقونه }{ بفتح
التاء وكسر اللام وضم القاف ; ومعنى هذه القراءة من قول العرب : ولق الرجل يلق ولقا
إذا كذب واستمر عليه ; فجاءوا بالمتعدي شاهدا على غير المتعدي . قال ابن عطية :
وعندي أنه أراد إذ تلقون فيه ; فحذف حرف الجر فاتصل الضمير . وقال الخليل وأبو عمرو
: أصل الولق الإسراع ; يقال : جاءت الإبل تلق ; أي تسرع . قال : لما رأوا جيشا عليهم
قد طرق جاءوا بأسراب من الشأم ولق إن الحصين زلق وزملق جاءت به عنس من الشأم تلق
يقال : رجل زلق وزملق ; مثال هدبد , وزمالق وزملق ( بتشديد الميم ) وهو الذي ينزل
قبل أن يجامع ; قال الراجز : إن الحصين زلق وزملق والولق أيضا أخف الطعن . وقد ولقه
يلقه ولقا . يقال : ولقه بالسيف ولقات , أي ضربات ; فهو مشترك . وَتَقُولُونَ
بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ مبالغة وإلزام وتأكيد
. وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا الضمير في }{ تحسبونه }{ عائد على الحديث والخوض فيه
والإذاعة له . و }{ هينا }{ أي شيئا يسيرا لا يلحقكم فيه إثم . وَهُوَ عِنْدَ اللهِ
عَظِيمٌ }{ وهو عند الله }{ في الوزر }{ عظيم } . وهذا مثل قوله عليه السلام في حديث
القبرين : ( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ) أي بالنسبة إليكم .
ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيمعتاب لجميع
المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية
والنقل , وأن تنزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه عليه الصلاة والسلام.
وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان ; وحقيقة البهتان أن يقال في الإنسان ما
ليس فيه , والغيبة أن يقال في الإنسان ما فيه. وهذا المعنى قد جاء في صحيح الحديث
عن النبي صلى الله عليه وسلم.
عتاب لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على
جهة الحكاية والنقل , وأن تنزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه عليه الصلاة
والسلام . وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان ; وحقيقة البهتان أن يقال في
الإنسان ما ليس فيه , والغيبة أن يقال في الإنسان ما فيه . وهذا المعنى قد جاء في
صحيح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ أي تفشو ; يقال : شاع الشيء
شيوعا وشيعا وشيعانا وشيعوعة ; أي ظهر وتفرق. فِي الَّذِينَ آمَنُوا أي في المحصنين
والمحصنات . والمراد بهذا اللفظ العام عائشة وصفوان رضي الله عنهما . والفاحشة :
الفعل القبيح المفرط القبح . وقيل : الفاحشة في هذه الآية القول السيئ . لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ }{ في الدنيا }{ أي الحد . وفي الآخرة
عذاب النار ; أي للمنافقين , فهو مخصوص . وقد بينا أن الحد للمؤمنين كفارة . وقال
الطبري : معناه إن مات مصرا غير تائب . وَاللهُ يَعْلَمُ أي يعلم مقدار عظم هذا
الذنب والمجازاة عليه ويعلم كل شيء . وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ روي من حديث أبي
الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أيما رجل شد عضد امرئ من الناس في
خصومة لا علم له بها فهو في سخط الله حتى ينزع عنها . وأيما رجل قال بشفاعته دون حد
من حدود الله أن يقام فقد عاند الله حقا وأقدم على سخطه وعليه لعنة الله تتابع إلى
يوم القيامة . وأيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها بريء يرى أن يشينه بها في
الدنيا كان حقا على الله تعالى أن يرميه بها في النار - ثم تلا مصداقه من كتاب الله
تعالى : { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا }{ الآية .
خطوات الشيطان }{ يعني مسالكه ومذاهبه ; المعنى : لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم
إليها الشيطان . وواحد الخطوات خطوة , هو ما بين القدمين . والخطوة ( بالفتح ) المصدر
; يقال : خطوت خطوة , وجمعها خطوات . وتخطى إلينا فلان ; ومنه الحديث أنه رأى رجلا
يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة . وقرأ الجمهور }{ خطوات }{ بضم الطاء . وسكنها عاصم
والأعمش . وقرأ الجمهور }{ ما زكى }{ بتخفيف الكاف ; أي ما اهتدى ولا أسلم ولا عرف
رشدا . وقيل : { ما زكى }{ أي ما صلح ; يقال : زكا يزكو زكاء ; أي صلح . وشددها الحسن
وأبو حيوة ; أي أن تزكيته لكم وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم . وقال
الكسائي : { يأيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان }{ معترض , وقوله : { ما زكى
منكم من أحد أبدا }{ جواب لقوله أولا وثانيا : { ولولا فضل الله عليكم } .
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي
الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر بن أبي قحافة
رضي الله عنه ومسطح بن أثاثة . وذلك أنه كان ابن بنت خالته وكان من المهاجرين
البدريين المساكين . وهو مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف . وقيل : اسمه
عوف , ومسطح لقب . وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه لمسكنته وقرابته ; فلما وقع
أمر الإفك وقال فيه مسطح ما قال , حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبدا
, فجاء مسطح فاعتذر وقال : إنما كنت أغشى مجالس حسان فأسمع ولا أقول . فقال له أبو
بكر : لقد ضحكت وشاركت فيما قيل ; ومر على يمينه , فنزلت الآية . وقال الضحاك وابن
عباس : إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا : والله
لا نصل من تكلم في شأن عائشة ; فنزلت الآية في جميعهم . والأول أصح ; غير أن الآية
تتناول الأمة إلى يوم القيامة بألا يغتاظ ذو فضل وسعة فيحلف ألا ينفع في هذه صفته
غابر الدهر . روي في الصحيح أن الله تبارك وتعالى لما أنزل : { إن الذين جاءوا
بالإفك عصبة منكم }{ العشر آيات , قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره :
والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ; فأنزل الله تعالى : { ولا يأتل
أولوا الفضل منكم والسعة }{ إلى قوله }{ ألا تحبون أن يغفر الله لكم } . قال عبد الله
بن المبارك : هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى ; فقال أبو بكر : والله إني لأحب أن
يغفر الله لي ; فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال : لا أنزعها منه أبدا
. قال بعض العلماء : هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى , من حيث لطف الله بالقذفة
العصاة بهذا اللفظ . وقيل . أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله تعالى : { وبشر
المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا } [ الأحزاب : 47 ] . وقد قال تعالى في آية
أخرى : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك
هو الفضل الكبير } [ الشورى : 22 ] ; فشرح الفضل الكبير في هذه الآية , وبشر به
المؤمنين في تلك . ومن آيات الرجاء قوله تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على
أنفسهم } [ الزمر : 53 ] . وقوله تعالى : { الله لطيف بعباده } [ الشورى : 19 ]
. وقال بعضهم : أرجى آية في كتاب الله عز وجل : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } [ الضحى :
5 ] ; وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار .
في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان كبيرا لا يحبط الأعمال ; لأن الله تعالى
وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والإيمان ; وكذلك سائر الكبائر ; ولا يحبط الأعمال غير
الشرك بالله , قال الله تعالى : { لئن أشركت ليحبطن عملك } [ الزمر : 65 ] . من حلف
على شيء لا يفعله فرأى فعله أولى منه أتاه وكفر عن يمينه , أو كفر عن يمينه وأتاه ;
كما تقدم في }{ المائدة } . ورأى الفقهاء أن من حلف ألا يفعل سنة من السنن أو مندوبا
وأبد ذلك أنها جرحة في شهادته ; ذكره الباجي في المنتقى . { ولا يأتل أولوا الفضل }{ ولا يأتل }{ معناه يحلف ; وزنها يفتعل , من الألية وهي اليمين ; ومنه قوله تعالى :
{ للذين يؤلون من نسائهم }{ وقد تقدم في }{ البقرة } . وقالت فرقة : معناه يقصر ; من
قولك : ألوت في كذا إذا قصرت فيه ; ومنه قوله تعالى : { لا يألونكم خبالا } [ آل
عمران : 118 ] . { أن تؤتوا }{ أي ألا يؤتوا , فحذف }{ لا } ; كقول القائل : فقلت
يمين الله أبرح قاعدا ذكره الزجاج . وعلى قول أبي عبيدة لا حاجة إلى إضمار }{ لا } .{ وليعفوا }{ من عفا الربع أي درس , فهو محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع . أَلَا
تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تمثيل وحجة أي
كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم ; وينظر إلى هذا المعنى قوله
عليه السلام : ( من لا يرحم لا يرحم ) .
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ }{ المحصنات
{ تقدم في }{ النساء } . وأجمع العلماء على أن حكم المحصنين في القذف كحكم المحصنات
قياسا واستدلالا , وقد بيناه أول السورة والحمد لله . واختلف فيمن المراد بهذه الآية
; فقال سعيد بن جبير : هي في رماة عائشة رضوان الله عليها خاصة . وقال قوم : هي في
عائشة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ; قاله ابن عباس والضحاك وغيرهما . ولا
تنفع التوبة . ومن قذف غيرهن من المحصنات فقد جعل الله له توبة ; لأنه قال : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء - إلى قوله - إلا الذين تابوا }
فجعل الله لهؤلاء توبة , ولم يجعل لأولئك توبة ; قاله الضحاك . وقيل : هذا الوعيد
لمن أصر على القذف ولم يتب . وقيل : نزلت في عائشة , إلا أنه يراد بها كل من اتصف
بهذه الصفة . وقيل : إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى ; ويكون التقدير : إن
الذين يرمون الأنفس المحصنات ; فدخل في هذا المذكر والمؤنث ; واختاره النحاس . وقيل
: نزلت في مشركي مكة ; لأنهم يقولون للمرأة إذا هاجرت إنما خرجت لتفجر . لُعِنُوا
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ قال العلماء : إن كان المراد
بهذه الآية المؤمنين من القذفة فالمراد باللعنة الإبعاد وضرب الحد واستيحاش
المؤمنين منهم وهجرهم لهم , وزوالهم عن رتبة العدالة والبعد عن الثناء الحسن على
ألسنة المؤمنين . وعلى قول من قال : هي خاصة لعائشة تترتب هذه الشدائد في جانب عبد
الله بن أبي وأشباهه . وعلى قول من قال : نزلت في مشركي مكة فلا كلام , فإنهم مبعدون
, ولهم في الآخرة عذاب عظيم ; ومن أسلم فالإسلام يجب ما قبله . وقال أبو جعفر النحاس
: من أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى ;
ويكون التقدير : إن الذين يرمون الأنفس المحصنات , فدخل في هذا المذكر والمؤنث ,
وكذا في الذين يرمون ; إلا أنه غلب المذكر على المؤنث.
قراءة العامة بالتاء , واختاره أبو حاتم . وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف }
يشهد }{ بالياء , واختاره أبو عبيد ; لأن الجار والمجرور قد حال بين الاسم والفعل ,
والمعنى : يوم تشهد ألسنة بعضهم على بعض بما كانوا يعملون من القذف والبهتان . وقيل
: تشهد عليهم ألسنتهم ذلك اليوم بما تكلموا به .{ وأيديهم وأرجلهم }{ أي وتتكلم
الجوارح بما عملوا في الدنيا .
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ أي حسابهم وجزاؤهم . وقرأ مجاهد
{ يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق }{ برفع }{ الحق }{ على أنه نعت لله عز وجل . قال أبو
عبيد : ولولا كراهة خلاف الناس لكان الوجه الرفع ; ليكون نعتا لله عز وجل , وتكون
موافقة لقراءة أبي , وذلك أن جرير بن حازم قال : رأيت في مصحف أبي }{ يوفيهم الله
الحق دينهم } . قال النحاس : وهذا الكلام من أبي عبيد غير مرضي ; لأنه احتج بما هو
مخالف للسواد الأعظم . ولا حجة أيضا فيه لأنه لو صح هذا أنه في مصحف أبي كذا جاز أن
تكون القراءة : يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم , يكون }{ دينهم }{ بدلا من الحق . وعلى
قراءة }{ دينهم الحق }{ يكون }{ الحق }{ نعتا لدينهم , والمعنى حسن ; لأن الله عز وجل
ذكر المسيئين وأعلم أنه يجازيهم بالحق ; كما قال عز وجل : { وهل نجازي إلا الكفور }
[ سبأ : 17 ] ; لأن مجازاة الله عز وجل للكافر والمسيء بالحق والعدل , ومجازاته
للمحسن بالإحسان والفضل . وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ
إسمان من أسمائه سبحانه . وقد ذكرناهما في غير موضع , وخاصة في الكتاب الأسنى .
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ
لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ قال ابن زيد : المعنى الخبيثات من
النساء للخبيثين من الرجال , وكذا الخبيثون للخبيثات , وكذا الطيبات للطيبين
والطيبون للطيبات . وقال مجاهد وابن جبير وعطاء وأكثر المفسرين : المعنى الكلمات
الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال , وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من القول
, وكذا الكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس , والطيبون من الناس للطيبات من
القول . قال النحاس في كتاب معاني القرآن : وهذا أحسن ما قيل في هذه الآية . ودل على
صحة هذا القول }{ أولئك مبرءون مما يقولون }{ أي عائشة وصفوان مما يقول الخبيثون
والخبيثات . وقيل : إن هذه الآية مبنية على قوله }{ الزاني لا ينكح إلا زانية أو
مشركة } [ النور : 3 ] الآية ; فالخبيثات الزواني , والطيبات العفائف , وكذا
الطيبون والطيبات . واختار هذا القول النحاس أيضا , وهو معنى قول ابن زيد. أُولَئِكَ
مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يعني به الجنس
. وقيل : عائشة وصفوان فجمع كما قال : { فإن كان له إخوة } [ النساء : 11 ] والمراد
أخوان ; قاله الفراء . و }{ مبرءون }{ يعني منزهين مما رموا به . قال بعض أهل التحقيق :
إن يوسف عليه السلام لما رمي بالفاحشة برأه الله على لسان صبي في المهد , وإن مريم
لما رميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى صلوات الله عليه , وإن عائشة لما
رميت بالفاحشة برأها الله تعالى بالقرآن ; فما رضي لها ببراءة صبي ولا نبي حتى
برأها الله بكلامه من القذف والبهتان . وروي عن علي بن زيد بن جدعان عن جدته عن
عائشة رضي الله عنها قالت : ( لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة : لقد نزل جبريل
عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني ولقد
تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري , ولقد توفي صلى الله عليه وسلم وإن رأسه لفي حجري
, ولقد قبر في بيتي , ولقد حفت الملائكة بيتي , وإن كان الوحي لينزل عليه وهو في
أهله فينصرفون عنه , وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه فما يبينني عن جسده ,
وإني لابنة خليفته وصديقه , ولقد نزل عذري من السماء , ولقد خلقت طيبة وعند طيب ,
ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما ; تعني قوله تعالى : { لهم مغفرة ورزق كريم }{ وهو
الجنة .
فيه سبع عشرة مسألة : الأولى : لما خصص الله سبحانه ابن آدم الذي كرمه وفضله
بالمنازل وسترهم فيها عن الأبصار , وملكهم الاستمتاع بها على الانفراد , وحجر على
الخلق أن يطلعوا على ما فيها من خارج أو يلجوها من غير إذن أربابها , أدبهم بما
يرجع إلى الستر عليهم لئلا يطلع أحد منهم على عورة . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم حل لهم أن
يفقئوا عينه ) . وقد اختلف في تأويله , فقال بعض العلماء : ليس هذا على ظاهره , فإن
فقأ فعليه الضمان , والخبر منسوخ , وكان قبل نزول قوله تعالى : { وإن عاقبتم
فعاقبوا } [ النحل : 126 ] ويحتمل أن يكون خرج على وجه الوعيد لا على وجه الحتم ,
والخبر إذا كان مخالفا لكتاب الله تعالى لا يجوز العمل به . وقد كان النبي صلى الله
عليه وسلم يتكلم بالكلام في الظاهر وهو يريد شيئا آخر ; كما جاء في الخبر أن عباس
بن مرداس لما مدحه قال لبلال : ( قم فاقطع لسانه ) وإنما أراد بذلك أن يدفع إليه
شيئا , ولم يرد به القطع في الحقيقة . وكذلك هذا يحتمل أن يكون ذكر فقء العين
والمراد أن يعمل به عمل حتى لا ينظر بعد ذلك في بيت غيره . وقال بعضهم : لا ضمان
عليه ولا قصاص ; وهو الصحيح إن شاء الله تعالى , لحديث أنس , على ما يأتي . الثانية
: سبب نزول هذه الآية ما رواه الطبري وغيره عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار
قالت : يا رسول الله , إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد , لا
والد ولا ولد فيأتي الأب فيدخل علي وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك
الحال , فكيف أصنع ؟ فنزلت الآية . فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله ,
أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن ; فأنزل الله تعالى : { ليس
عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة } [ النور : 29 ] . الثالثة : مد الله
سبحانه وتعالى التحريم في دخول بيت ليس هو بيتك إلى غاية هي الاستئناس , وهو
الاستئذان . قال ابن وهب قال مالك : الاستئناس فيما نرى والله أعلم الاستئذان ; وكذا
في قراءة أبي وابن عباس وسعيد بن جبير }{ حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها } . وقيل :
إن معنى }{ تستأنسوا }{ تستعلموا ; أي تستعلموا من في البيت . قال مجاهد : بالتنحنح أو
بأي وجه أمكن , ويتأنى قدر ما يعلم أنه قد شعر به , ويدخل إثر ذلك . وقال معناه
الطبري ; ومنه قوله تعالى : { فإن آنستم منهم رشدا } [ النساء : 6 ] أي علمتم . وقال
الشاعر : آنست نبأة وأفزعها القنا ص عصرا وقد دنا الإمساء قلت : وفي سنن ابن ماجه :
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن واصل بن السائب عن أبي
سورة عن أبي أيوب الأنصاري قال قلنا : يا رسول الله , هذا السلام , فما الاستئذان ؟
قال : ( يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ويتنحنح ويؤذن أهل البيت ) . قلت :
وهذا نص في أن الاستئناس غير الاستئذان ; كما قال مجاهد ومن وافقه . الرابعة : وروي
عن ابن عباس وبعض الناس يقول عن سعيد بن جبير }{ حتى تستأنسوا }{ خطأ أو وهم من
الكاتب , إنما هو }{ حتى تستأذنوا } . وهذا غير صحيح عن ابن عباس وغيره ; فإن مصاحف
الإسلام كلها قد ثبت فيها }{ حتى تستأنسوا } , وصح الإجماع فيها من لدن مدة عثمان ,
فهي التي لا يجوز خلافها . وإطلاق الخطأ والوهم على الكاتب في لفظ أجمع الصحابة عليه
قول لا يصح عن ابن عباس ; وقد قال عز وجل : { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه تنزيل من حكيم حميد } [ فصلت : 42 ] , وقال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر
وإنا له لحافظون } [ الحجر : 9 ] . وقد روي عن ابن عباس أن في الكلام تقديما وتأخيرا
; والمعنى : حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا حكاه أبو حاتم . قال ابن عطية . ومما
ينفي هذا القول عن ابن عباس وغيره أن }{ تستأنسوا }{ متمكنة في المعنى , بينة الوجه
في كلام العرب . وقد قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم : أستأنس يا رسول الله ; وعمر
واقف على باب الغرفة , الحديث المشهور . وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به صلى الله عليه
وسلم , فكيف يخطئ ابن عباس أصحاب الرسول في مثل هذا . قلت : قد ذكرنا من حديث أبي
أيوب أن الاستئناس إنما يكون قبل السلام , وتكون الآية على بابها لا تقديم فيها ولا
تأخير , وأنه إذا دخل سلم . والله أعلم . الخامسة : السنة في الاستئذان ثلاث مرات لا
يزاد عليها . قال ابن وهب قال مالك : الاستئذان ثلاث , لا أحب أن يزيد أحد عليها ,
إلا من علم أنه لم يسمع , فلا أرى بأسا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع . وصورة
الاستئذان أن يقول الرجل : السلام عليكم أأدخل ; فإن أذن له دخل , وإن أمر بالرجوع
انصرف , وإن سكت عنه استأذن ثلاثا ; ثم ينصرف من بعد الثلاث . وإنما قلنا : إن السنة
الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها لحديث أبي موسى الأشعري , الذي استعمله مع عمر
بن الخطاب وشهد به لأبي موسى أبو سعيد الخدري , ثم أبي بن كعب . وهو حديث مشهور
أخرجه الصحيح , وهو نص صريح ; فإن فيه : فقال - يعني عمر - ما منعك أن تأتينا ؟
فقلت : أتيت فسلمت على بابك ثلاث مرات فلم ترد علي فرجعت , وقد قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : ( إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع ) . وأما ما ذكرناه
من صورة الاستئذان فما رواه أبو داود عن ربعي قال : حدثنا رجل من بني عامر استأذن
على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت , فقال : ألج ؟ فقال النبي صلى الله عليه
وسلم لخادمه : ( اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان - فقال له - قل السلام عليكم أأدخل )
فسمعه الرجل فقال : السلام عليكم أأدخل ؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل
. وذكره الطبري وقال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمة له يقال لها روضة : (
قولي لهذا يقول السلام عليكم أدخل ؟ .. .) الحديث . وروي أن ابن عمر آذته الرمضاء
يوما فأتى فسطاطا لامرأة من قريش فقال : السلام عليكم أأدخل ؟ فقالت المرأة : ادخل
بسلام ; فأعاد فأعادت , فقال لها : قولي ادخل . فقالت ذلك فدخل ; فتوقف لما قالت :
بسلام ; لاحتمال اللفظ أن تريد بسلامك لا بشخصك . السادسة : قال علماؤنا رحمة الله
عليهم : إنما خص الاستئذان بثلاث لأن الغالب من الكلام إذا كرر ثلاثا سمع وفهم ;
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى يفهم عنه ,
وإذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثا . وإذا كان الغالب هذا ; فإذا لم يؤذن له بعد ثلاث
ظهر أن رب المنزل لا يريد الإذن , أو لعله يمنعه من الجواب عنه عذر لا يمكنه قطعه ;
فينبغي للمستأذن أن ينصرف ; لأن الزيادة على ذلك قد تقلق رب المنزل , وربما يضره
الإلحاح حتى ينقطع عما كان مشغولا به ; كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب
حين استأذن عليه فخرج مستعجلا فقال : ( لعلنا أعجلناك .. .) الحديث . وروى عقيل عن
ابن شهاب قال : أما سنة التسليمات الثلاث فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سعد
بن عبادة فقال : ( السلام عليكم ) فلم يردوا , ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: ( السلام عليكم ) فلم يردوا , فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فلما فقد
سعد تسليمه عرف أنه قد انصرف ; فخرج سعد في أثره حتى أدركه , فقال : وعليك السلام
يا رسول الله , إنما أردنا أن نستكثر من تسليمك , وقد والله سمعنا ; فانصرف رسول
الله صلى الله عليه وسلم مع سعد حتى دخل بيته . قال ابن شهاب : فإنما أخذ التسليم
ثلاثا من قبل ذلك ; رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي قال : سمعت يحيى بن أبي كثير
يقول حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة عن قيس بن سعد قال : زارنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال : ( السلام عليكم ورحمة الله ) قال فرد سعد
ردا خفيا , قال قيس : فقلت ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ذره
يكثر علينا من السلام .. . الحديث , أخرجه أبو داود وليس فيه قال ابن شهاب فإنما أخذ
التسليم ثلاثا من قبل ذلك . قال أبو داود : ورواه عمر بن عبد الواحد وابن سماعة عن
الأوزاعي مرسلا لم يذكرا قيس بن سعد . السابعة : روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن
الاستئذان ترك العمل به الناس . قال علماؤنا رحمة الله عليهم : وذلك لاتخاذ الناس
الأبواب وقرعها ; والله أعلم . روى أبو داود عن عبد الله بن بسر قال : كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه
الأيمن أو الأيسر فيقول : ( السلام عليكم السلام عليكم ) وذلك أن الدور لم يكن
عليها يومئذ ستور . الثامنة : فإن كان الباب مردودا فله أن يقف حيث شاء منه ويستأذن
, وإن شاء دق الباب ; لما رواه أبو موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان في حائط بالمدينة على قف البئر فمد رجليه في البئر فدق الباب أبو بكر فقال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إيذن له وبشره بالجنة ) . هكذا رواه عبد الرحمن بن
أبي الزناد وتابعه صالح بن كيسان ويونس بن يزيد ; فرووه جميعا عن أبي الزناد عن أبي
سلمة عن عبد الرحمن بن نافع عن أبي موسى . وخالفهم محمد بن عمرو الليثي فرواه عن أبي
الزناد عن أبي سلمة عن نافع بن عبد الحارث عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك ;
وإسناده الأول أصح , والله أعلم . التاسعة : وصفة الدق أن يكون خفيفا بحيث يسمع ,
ولا يعنف في ذلك ; فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كانت أبواب النبي صلى
الله عليه وسلم تقرع بالأظافير ; ذكره أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في جامعه
. العاشرة : روى الصحيحان وغيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال :
استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( من هذا ) ؟ فقلت أنا , فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : ( أنا أنا ) ! كأنه كره ذلك . قال علماؤنا : إنما كره النبي
صلى الله عليه وسلم ذلك لأن قوله أنا لا يحصل بها تعريف , وإنما الحكم في ذلك أن
يذكر اسمه كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبو موسى ; لأن في ذكر الاسم إسقاط
كلفة السؤال والجواب . ثبت عن عمر بن الخطاب أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو
في مشربة له فقال : السلام عليك يا رسول الله , السلام عليكم أيدخل عمر ؟ وفي صحيح
مسلم أن أبا موسى جاء إلى عمر بن الخطاب فقال : السلام عليكم , هذا أبو موسى ,
السلام عليكم , هذا الأشعري .. . الحديث . الحادية عشرة : ذكر الخطيب في جامعه عن
علي بن عاصم الواسطي قال : قدمت البصرة فأتيت منزل شعبة فدققت عليه الباب فقال : من
هذا ؟ قلت أنا ; فقال : يا هذا ! ما لي صديق يقال له أنا , ثم خرج إلي فقال : حدثني
محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة
لي فطرقت عليه الباب فقال : ( من هذا ) ؟ فقلت أنا ; فقال : ( أنا أنا ) كأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كره قولي هذا , أو قوله هذا . وذكر عن عمر بن شبة حدثنا
محمد بن سلام عن أبيه قال : دققت على عمرو بن عبيد الباب فقال لي : من هذا ؟ فقلت
أنا ; فقال : لا يعلم الغيب إلا الله . قال الخطيب : سمعت علي بن المحسن القاضي يحكي
عن بعض الشيوخ أنه كان إذا دق بابه فقال من ذا ؟ فقال الذي على الباب أنا , يقول
الشيخ : أنا هم دق . الثانية عشرة : ثم لكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة ;
كما رواه أبو بكر الخطيب مسندا عن أبي عبد الملك مولى أم مسكين بنت عاصم بن عمر بن
الخطاب قال : أرسلتني مولاتي إلى أبي هريرة فجاء معي , فلما قام بالباب قال : أندر
؟ قالت أندرون . وترجم عليه ( باب الاستئذان بالفارسية ) . وذكر عن أحمد بن صالح قال
: كان الدراوردي من أهل أصبهان نزل المدينة , فكان يقول للرجل إذا أراد أن يدخل :
أندرون , فلقبه أهل المدينة الدراوردي . الثالثة عشرة : روى أبو داود عن كلدة بن
حنبل أن صفوان بن أمية بعثه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن وجداية وضغابيس
والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة , فدخلت ولم أسلم فقال : ( ارجع فقل السلام
عليكم ) وذلك بعدما أسلم صفوان بن أمية . وروى أبو الزبير عن جابر أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : ( من لم يبدأ بالسلام فلا تأذنوا له ) . وذكر ابن جريج أخبرني عطاء
قال : سمعت أبا هريرة يقول : إذا قال الرجل أدخل ؟ ولم يسلم فقل لا حتى تأتي
بالمفتاح ; فقلت السلام عليكم ؟ قال نعم . وروي أن حذيفة جاءه رجل فنظر إلى ما في
البيت فقال : السلام عليكم أأدخل ؟ فقال حذيفة : أما بعينك فقد دخلت ! وأما باستك
فلم تدخل . الرابعة عشرة : ومما يدخل في هذا الباب ما رواه أبو داود عن أبي هريرة
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رسول الرجل إلى الرجل إذنه ) ; أي إذا أرسل
إليه فقد أذن له في الدخول , يبينه قوله عليه السلام : ( إذا دعي أحدكم إلى طعام
فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن ) . أخرجه أبو داود أيضا عن أبي هريرة . الخامسة عشرة
: فإن وقعت العين على العين فالسلام قد تعين , ولا تعد رؤيته إذنا لك في دخولك عليه
, فإذا قضيت حق السلام لأنك الوارد عليه تقول : أدخل ؟ فإن أذن لك وإلا رجعت .
السادسة عشرة : هذه الأحكام كلها إنما هي في بيت ليس لك , فأما بيتك الذي تسكنه فإن
كان فيه أهلك فلا إذن عليها , إلا أنك تسلم إذا دخلت . قال قتادة : إذا دخلت بيتك
فسلم على أهلك , فهم أحق من سلمت عليهم . فإن كان فيه معك أمك أو أختك فقالوا :
تنحنح واضرب برجلك حتى ينتبها لدخولك ; لأن الأهل لا حشمة بينك وبينها . وأما الأم
والأخت فقد يكونا على حالة لا تحب أن تراهما فيها . قال ابن القاسم قال مالك :
ويستأذن الرجل على أمه وأخته إذا أراد أن يدخل عليهما . وقد روى عطاء بن يسار أن
رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أستأذن على أمي ؟ قال ( نعم ) قال : إني
أخدمها ؟ قال : ( استأذن عليها ) فعاوده ثلاثا ; قال ( أتحب أن تراها عريانة ) ؟
قال لا ; قال : ( فاستأذن عليها ) ذكره الطبري . السابعة عشرة : فإن دخل بيت نفسه
وليس فيه أحد ; فقال علماؤنا : يقول السلام علينا , من ربنا التحيات الطيبات
المباركات , لله السلام . رواه ابن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم , وسنده ضعيف
. وقال قتادة : إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين
; فإنه يؤمر بذلك . قال : وذكر لنا أن الملائكة ترد عليهم . قال ابن العربي : والصحيح
ترك السلام والاستئذان , والله أعلم . قلت : قول قتادة حسن .
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ
وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ }{ فإن لم تجدوا
فيها أحدا }{ الضمير في }{ تجدوا فيها }{ للبيوت التي هي بيوت الغير . وحكى الطبري عن
مجاهد أنه قال : معنى قوله : { فإن لم تجدوا فيها أحدا }{ أي لم يكن لكم فيها متاع
. وضعف الطبري هذا التأويل , وكذلك هو في غاية الضعف ; وكأن مجاهدا رأى أن البيوت
غير المسكونة إنما تدخل دون إذن إذا كان للداخل فيها متاع . ورأى لفظة }{ المتاع }
متاع البيت , الذي هو البسط والثياب ; وهذا كله ضعيف . والصحيح أن هذه الآية مرتبطة
بما قبلها والأحاديث ; التقدير : يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم
حتى تستأنسوا وتسلموا , فإن أذن لكم فادخلوا وإلا فارجعوا ; كما فعل عليه السلام مع
سعد , وأبو موسى مع عمر رضي الله عنهما . فإن لم تجدوا فيها أحدا يأذن لكم فلا
تدخلوها حتى تجدوا إذنا . وأسند الطبري عن قتادة قال : قال رجل من المهاجرين : لقد
طلبت عمري هذه الآية فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي ارجع فأرجع
وأنا مغتبط ; لقوله تعالى : { هو أزكى لكم } . سواء كان الباب مغلقا أو مفتوحا ;
لأن الشرع قد أغلقه بالتحريم للدخول حتى يفتحه الإذن من ربه , بل يجب عليه أن يأتي
الباب ويحاول الإذن على صفة لا يطلع منه على البيت لا في إقباله ولا في انقلابه
. فقد روى علماؤنا عن عمر بن الخطاب أنه قال : ( من ملأ عينيه من قاعة بيت فقد فسق )
وروي في الصحيح عن سهل بن سعد أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله صلى الله عليه
وسلم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرى يرجل به رأسه ; فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم : ( لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الله الإذن من أجل
البصر ) . وروي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لو أن رجلا اطلع
عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح ) . إذا ثبت أن الإذن
شرط في دخول المنزل فإنه يجوز من الصغير والكبير . وقد كان أنس بن مالك دون البلوغ
يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم رضي
الله عنهم . وسيأتي لهذا مزيد بيان في آخر السورة إن شاء الله تعالى . وَاللهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ توعد لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غفلة
للمعاصي والنظر إلى ما لا يحل ولا يجوز , ولغيرهم ممن يقع في محظور.
روي أن بعض الناس لما نزلت آية الاستئذان تعمق في الأمر , فكان لا يأتي موضعا خربا
ولا مسكونا إلا سلم واستأذن ; فنزلت هذه الآية , أباح الله تعالى فيها رفع
الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد لأن العلة في الاستئذان إنما هي لأجل خوف الكشفة
على الحرمات , فإذا زالت العلة زال الحكم . اختلف العلماء في المراد بهذه البيوت ;
فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد : هي الفنادق التي في طرق السابلة . قال مجاهد :
لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل , وفيها متاع لهم ; أي استمتاع
بمنفعتها . وعن محمد بن الحنفية أيضا أن المراد بها دور مكة , ويبينه قول مالك . وهذا
على القول بأنها غير متملكة , وأن الناس شركاء فيها , وأن مكة أخذت عنوة . وقال ابن
زيد والشعبي : هي حوانيت القيساريات . قال الشعبي : لأنهم جاءوا بيوعهم فجعلوها فيها
, وقالوا للناس هلم . وقال عطاء : المراد بها الخرب التي يدخلها الناس للبول والغائط
; ففي هذا أيضا متاع . وقال جابر بن زيد : ليس يعني بالمتاع الجهاز , ولكن ما سواه
من الحاجة ; أما منزل ينزله قوم من ليل أو نهار , أو خربة يدخلها لقضاء حاجة , أو
دار ينظر إليها , فهذا متاع وكل منافع الدنيا متاع . قال أبو جعفر النحاس : وهذا شرح
حسن من قول إمام من أئمة المسلمين , وهو موافق للغة . والمتاع في كلام العرب :
المنفعة ; ومنه أمتع الله بك . ومنه }{ فمتعوهن } [ الأحزاب : 49 ] . قلت : واختاره
أيضا القاضي أبو بكر بن العربي وقال : أما من فسر المتاع بأنه جميع الانتفاع فقد
طبق المفصل وجاء بالفيصل , وبين أن الداخل فيها إنما هو لما له من الانتفاع فالطالب
يدخل في الخانكات وهي المدارس لطلب العلم , والساكن يدخل الخانات وهي الفناتق , أي
الفنادق , والزبون يدخل الدكان للابتياع , والحاقن يدخل الخلاء للحاجة ; وكل يؤتى
على وجهه من بابه . وأما قول ابن زيد والشعبي فقول ! وذلك أن بيوت القيساريات محظورة
بأموال الناس , غير مباحة لكل من أراد دخولها بإجماع , ولا يدخلها إلا من أذن له
ربها , بل أربابها موكلون بدفع الناس.