تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ مكية كلها في قول الجمهور . وقال ابن عباس
وقتادة : إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة , وهي : { والذين لا يدعون مع الله إلها
آخر } [ الفرقان : 68 ] إلى قوله : { وكان الله غفورا رحيما } [ الفتح : 14 ] . وقال
الضحاك : هي مدنية , وفيها آيات مكية ; قوله : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر
{ الآيات . ومقصود هذه السورة ذكر موضع عظم القرآن , وذكر مطاعن الكفار في النبوة
والرد على مقالاتهم وجهالاتهم ; فمن جملتها قولهم : إن القرآن افتراه محمد , وإنه
ليس من عند الله . { تبارك }{ اختلف في معناه ; فقال الفراء : هو في العربية و }
تقدس }{ واحد , وهما للعظمة . وقال الزجاج : { تبارك }{ تفاعل من البركة . قال : ومعنى
البركة الكثرة من كل ذي خير . وقيل : { تبارك }{ تعالى . وقيل : تعالى عطاؤه , أي زاد
وكثر . وقيل : المعنى دام وثبت إنعامه . قال النحاس : وهذا أولاها في اللغة والاشتقاق
; من برك الشيء إذا ثبت ; ومنه برك الجمل والطير على الماء , أي دام وثبت . فأما
القول الأول فمخلط ; لأن التقديس إنما هو من الطهارة وليس من ذا في شيء . قال
الثعلبي : ويقال تبارك الله , ولا يقال متبارك ولا مبارك ; لأنه ينتهى في أسمائه
وصفاته إلى حيث ورد التوقيف . وقال الطرماح : تباركت لا معط لشيء منعته وليس لما
أعطيت يا رب مانع وقال آخر : تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر قلت : قد ذكر بعض
العلماء في أسمائه الحسنى }{ المبارك }{ وذكرناه أيضا في كتابنا . فإن كان وقع اتفاق
على أنه لا يقال فيسلم للإجماع . وإن كان وقع فيه اختلاف فكثير من الأسماء اختلف في
عده ; كالدهر وغيره . وقد نبهنا على ذلك هنالك , والحمد لله . و }{ الفرقان }{ القرآن
. وقيل : إنه اسم لكل منزل ; كما قال : { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان } [
الأنبياء : 48 ] . وفي تسميته فرقانا وجهان : أحدهما : لأنه فرق بين الحق والباطل ,
والمؤمن والكافر . الثاني : لأن فيه بيان ما شرع من حلال وحرام ; حكاه النقاش . عَلَى
عَبْدِهِ يريد محمدا صلى الله عليه وسلم . لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا اسم }
يكون }{ فيها مضمر يعود على }{ عبده }{ وهو أولى لأنه أقرب إليه . ويجوز أن يكون يعود
على }{ الفرقان } . وقرأ عبد الله بن الزبير : { على عباده } . ويقال : أنذر إذا خوف ;
وقد تقدم في أول }{ البقرة } . والنذير : المحذر من الهلاك . الجوهري : والنذير المنذر
, والنذير الإنذار . والمراد ب }{ العالمين }{ هنا الإنس والجن , لأن النبي صلى الله
عليه وسلم قد كان رسولا إليهما , ونذيرا لهما , وأنه خاتم الأنبياء , ولم يكن غيره
عام الرسالة إلا نوح فإنه عم برسالته جميع الإنس بعد الطوفان , لأنه بدأ به الخلق .
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عظم تعالى نفسه . وَلَمْ يَتَّخِذْ
وَلَدًا نزه سبحانه وتعالى نفسه عما قاله المشركون من أن الملائكة أولاد الله ;
يعني بنات الله سبحانه وتعالى . وعما قالت اليهود : عزير ابن الله ; جل الله تعالى
. وعما قالت النصارى : المسيح ابن الله ; تعالى الله عن ذلك . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ كما قال عبدة الأوثان . وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لا كما قال
المجوس والثنوية : إن الشيطان أو الظلمة يخلق بعض الأشياء . ولا كما يقول من قال :
للمخلوق قدرة الإيجاد . فالآية رد على هؤلاء . فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا أي قدر كل شيء
مما خلق بحكمته على ما أراد , لا عن سهوة وغفلة , بل جرت المقادير على ما خلق الله
إلى يوم القيامة , وبعد القيامة , فهو الخالق المقدر ; فإياه فاعبدوه .
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ذكر ما صنع المشركون على جهة التعجيب في اتخاذهم
الآلهة , مع ما أظهر من الدلالة على وحدانيته وقدرته . لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا يعني
الآلهة . وَهُمْ يُخْلَقُونَ لما اعتقد المشركون فيها أنها تضر وتنفع , عبر عنها كما
يعبر عما يعقل . وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا أي لا دفع
ضر وجلب نفع , فحذف المضاف . وقيل : لا يقدرون أن يضروا أنفسهم أو ينفعوها بشيء ,
ولا لمن يعبدهم , لأنها جمادات . وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا
نُشُورًا أي لا يميتون أحدا , ولا يحيونه . والنشور : الإحياء بعد الموت ; أنشر الله
الموتى فنشروا . وقد تقدم وقال الأعشى : حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت
الناشر .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني مشركي قريش . وقال ابن عباس : القائل منهم ذلك
النضر بن الحرث ; وكذا كل ما في القرآن فيه ذكر الأساطير . قال محمد بن إسحاق : و
كان مؤذيا للنبي صلى الله عليه وسلم . إِنْ هَذَا يعني القرآن . إِلَّا إِفْكٌ
افْتَرَاهُ أي كذب اختلقه . وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ يعني اليهود ;
قاله مجاهد . وقال ابن عباس : المراد بقوله : { قوم آخرون }{ أبو فكيهة مولى بني
الحضرمي وعداس وجبر , وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب . وقد مضى في }{ النحل }
ذكرهم . فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا أي بظلم . وقيل : المعنى فقد أتوا ظلما .
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ قال الزجاج : واحد الأساطير أسطورة ; مثل
أحدوثة وأحاديث . وقال غيره : أساطير جمع أسطار ; مثل أقوال وأقاويل . اكْتَتَبَهَا
يعني محمدا . فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي تلقى عليه وتقرأ حتى
تحفظ . و }{ تملى }{ أصله تملل ; فأبدلت اللام الأخيرة ياء من التضعيف : كقولهم : تقضى
البازي ; وشبهه .
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي قل يا
محمد أنزل هذا القرآن الذي يعلم السر , فهو عالم الغيب , فلا يحتاج إلى معلم . وذكر
{ السر }{ دون الجهر ; لأنه من علم السر فهو في الجهر أعلم . ولو كان القرآن مأخوذا
من أهل الكتاب وغيرهم لما زاد عليها , وقد جاء بفنون تخرج عنها , فليس مأخوذا منها
. وأيضا ولو كان مأخوذا من هؤلاء لتمكن المشركون منه أيضا كما تمكن محمد صلى الله
عليه وسلم ; فهلا عارضوه فبطل اعتراضهم من كل وجه . إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
يريد غفورا لأوليائه رحيما بهم .
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ
فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : { وقالوا }{ ذكر شيئا آخر من مطاعنهم . والضمير
في }{ قالوا }{ لقريش ; وذلك أنهم كان لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس
مشهور , . وقد تقدم في }{ سبحان }{ ذكره ابن إسحاق في السيرة وغيره . مضمنه - أن سادتهم
عتبة بن ربيعة وغيره اجتمعوا معه فقالوا : يا محمد ! إن كنت تحب الرياسة وليناك
علينا , وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا ; فلما أبى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن ذلك رجعوا في باب الاحتجاج معه فقالوا : ما بالك وأنت رسول الله تأكل
الطعام , وتقف بالأسواق ! فعيروه بأكل الطعام ; لأنهم أرادوا أن يكون الرسول ملكا ,
وعيروه بالمشي في الأسواق حين رأوا الأكاسرة والقياصرة والملوك الجبابرة يترفعون عن
الأسواق , وكان عليه السلام يخالطهم في أسواقهم , ويأمرهم وينهاهم ; فقالوا : هذا
يطلب أن يتملك علينا , فما له يخالف سيرة الملوك ; فأجابهم الله بقوله , وأنزل على
نبيه : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق }
[ الفرقان : 20 ] فلا تغتم ولا تحزن , فإنها شكاة ظاهر عنك عارها . الثانية : دخول
الأسواق مباح للتجارة وطلب المعاش . وكان عليه السلام يدخلها لحاجته , ولتذكرة الخلق
بأمر الله ودعوته , ويعرض نفسه فيها على القبائل , لعل الله أن يرجع بهم إلى الحق
. وفي البخاري في صفته عليه السلام : { ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق } . وقد
تقدم في الأعراف وذكر السوق مذكور في غير ما حديث , ذكره أهل الصحيح . وتجارة
الصحابة فيها معروفة , وخاصة المهاجرين ; كما قال أبو هريرة : وإن إخواننا من
المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق ; خرجه البخاري . وسيأتي لهذه المسألة زيادة
بيان في هذه السورة إن شاء الله . لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ أي هلا
. فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا جواب الاستفهام .
أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ في موضع رفع ; والمعنى : أو هلا يلقى }{ إليه كنز
"أَوْ هلاتَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا }{ يأكل }{ بالياء قرأ المدنيون وأبو
عمرو وعاصم . وقرأ سائر الكوفيين بالنون , والقراءتان حسنتان تؤديان عن معنى , وإن
كانت القراءة بالياء أبين ; لأنه قد تقدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحده فأن
يعود الضمير عليه أبين ; ذكره النحاس . وَقَالَ الظَّالِمُونَ أبو جهل والوليد بن
المغيرة وأمثالهما . إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا أي مطبوبا قد خبله
السحر فاختلط عليه أمره , يقولون ذلك لينفروا عنه الناس . وقال مجاهد : { مسحورا }
أي مخدوعا , مثل قوله : { فأنى تسحرون } [ المؤمنون : 89 ] أي من أين تخدعون . وقال
أبو عبيدة : { مسحورا }{ معناه أن له سحرا , أي رئة , فهو لا يستغني عن الطعام
والشراب , فهو مثلكم وليس بملك . وتقول العرب للجبان : قد انتفخ سحره . ولكل من أكل
من آدمي وغيره أو شرب مسحورا ومسحر . قال لبيد : فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير
من هذا الأنام المسحر وقال امرؤ القيس : أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام
وبالشراب أي نغذي ونعلل . وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : من هذه
التي تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم , وقد توفي رسول الله صلى الله
عليه وسلم بين سحري ونحري .
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ أي ضربوا لك هذه الأمثال ليتوصلوا إلى
تكذيبك . فَضَلُّوا عن سبيل الحق وعن بلوغ ما أرادوا . فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا
إلى تصحيح ما قالوه فيك .
شرط ومجازاة , ولم يدغم }{ جعل لك }{ لأن الكلمتين منفصلتان , ويجوز الإدغام لاجتماع
المثلين .{ ويجعل لك }{ في موضع جزم عطفا على موضع }{ جعل } . ويجوز أن يكون في موضع
رفع مقطوعا من الأول . وكذلك قرأ أهل الشام . ويروى عن عاصم أيضا : { ويجعل لك }
بالرفع ; أي وسيجعل لك في الآخرة قصورا . قال مجاهد : كانت قريش ترى البيت من حجارة
قصرا كائنا ما كان . والقصر في اللغة الحبس , وسمي القصر قصرا لأن من فيه مقصور عن
أن يوصل إليه . وقيل : العرب تسمي بيوت الطين القصر . وما يتخذ من الصوف والشعر البيت
. حكاه القشيري . وروى سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة قال : قيل للنبي صلى الله
عليه وسلم : إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا ومفاتيحها ولم يعط ذلك من قبلك ولا يعطاه
أحد بعدك , وليس ذلك بناقصك في الآخرة شيئا ; وإن شئت جمعنا لك ذلك في الآخرة ;
فقال : ( يجمع ذلك لي في الآخرة ) فأنزل الله عز وجل : { تبارك الذي إن شاء جعل لك
خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا } . ويروى أن هذه الآية
أنزلها رضوان خازن الجنان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ; وفي الخبر : إن رضوان لما
نزل سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ; ثم قال : يا محمد ! رب العزة يقرئك السلام
, وهذا سفط - فإذا سفط من نور يتلألأ - يقول لك ربك : هذه مفاتيح خزائن الدنيا , مع
أنه لا ينقص ما لك في الآخرة مثل جناح بعوضة ; فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى
جبريل كالمستشير له ; فضرب جبريل بيده الأرض يشير أن تواضع ; فقال : ( يا رضوان لا
حاجة لي فيها الفقر أحب إلي وأن أكون عبدا صابرا شكورا ) . فقال رضوان : أصبت ! الله
لك . وذكر الحديث .
أي من مسيرة خمسمائة عام .{ سمعوا لها تغيظا وزفيرا }{ قيل : المعنى إذا رأتهم جهنم
سمعوا لها صوت التغيظ عليهم . وقيل : المعنى إذا رأتهم خزانها سمعوا لهم تغيظا
وزفيرا حرصا على عذابهم . والأول أصح ; لما روي مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : ( من كذب علي متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا ) قيل : يا رسول الله
! ولها عينان ؟ قال : ( أما سمعتم الله عز وجل يقول : { إذا رأتهم من مكان بعيد
سمعوا لها تغيظا وزفيرا }{ يخرج عنق من النار له عينان تبصران ولسان ينطق فيقول وكلت
بكل من جعل مع الله إلها آخر فلهو أبصر بهم من الطير بحب السمسم فيلتقطه ) في رواية
( فيخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب السمسم ) ذكره رزين في كتابه ,
وصححه ابن العربي في قبسه , وقال : أي تفصلهم عن الخلق في المعرفة كما يفصل الطائر
حب السمسم من التربة . وخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم . ( يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان
ولسان ينطق يقول إني وكلت بثلاث بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر
وبالمصورين ) . وفي الباب عن أبي سعيد قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب صحيح . وقال
الكلبي : سمعوا لها تغيظا كتغيظ بني آدم وصوتا كصوت الحمار . وقيل : فيه تقديم
وتأخير , سمعوا لها زفيرا وعلموا لها تغيظا . وقال قطرب : التغيظ لا يسمع , ولكن يرى
, والمعنى : رأوا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا ; كقول الشاعر : ورأيت زوجك في الوغى
متقلدا سيفا ورمحا أي وحاملا رمحا . وقيل : { سمعوا لها }{ أي فيها ; أي سمعوا فيها
تغيظا وزفيرا للمعذبين . كما قال تعالى : { لهم فيها زفير وشهيق } [ هود : 106 ] و }
في واللام }{ يتقاربان ; تقول : أفعل هذا في الله ولله .
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ قال قتادة : ذكر لنا أن
عبد الله كان يقول : إن جهنم لتضيق على الكافر كتضييق الزج على الرمح ; ذكره ابن
المبارك في رقائقه . وكذا قال ابن عباس , ذكره الثعلبي والقشيري عنه , وحكاه
الماوردي عن عبد الله بن عمرو . ومعنى }{ مقرنين }{ مكتفين ; قاله أبو صالح . وقيل :
مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال . وقيل : قرنوا مع الشياطين ; أي قرن
كل واحد منهم إلى شيطانه ; قاله يحيى بن سلام . وقد مضى هذا في }{ إبراهيم }{ وقال
عمرو بن كلثوم : فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مقرنينا دَعَوْا هُنَالِكَ
ثُبُورًا أي هلاكا ; قاله الضحاك . ابن عباس : ويلا . وروي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال : ( أول من يقول إبليس وذلك أنه أول من يكسى حلة من النار فتوضع على
حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من خلفه وهو يقول واثبوراه ) . وانتصب على المصدر ,
أي ثبرنا ثبورا ; قاله الزجاج . وقال غيره : هو مفعول به .
فإن هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة . وقال : ثبورا لأنه مصدر يقع للقليل والكثير
فلذلك لم يجمع ; وهو كقولك : ضربته ضربا كثيرا , وقعد قعودا طويلا . ونزلت الآيات في
ابن خطل وأصحابه .
إن قيل : كيف قال }{ أذلك خير }{ ولا خير في النار ; فالجواب أن سيبويه حكى عن العرب
: الشقاء أحب إليك أم السعادة , وقد علم أن السعادة أحب إليه . وقيل : ليس هو من باب
أفعل منك , وإنما هو كقولك : عنده خير . قال النحاس : وهذا قول حسن ; كما قال :
فشركما لخيركما الفداء قيل : إنما قال ذلك لأن الجنة والنار قد دخلتا في باب
المنازل ; فقال ذلك لتفاوت ما بين المنزلتين . وقيل : هو مردود على قوله : { تبارك
الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك }{ الآية . وقيل : هو مردود على قوله : { أو يلقى
إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها } [ الفرقان : 8 ] . وقيل : إنما قال ذلك على
معنى علمكم واعتقادكم أيها الكفار ; وذلك أنهم لما كانوا يعملون عمل أهل النار
صاروا كأنهم يقولون إن في النار خيرا .
لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ أي من النعيم . خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ
وَعْدًا مَسْئُولًا قال الكلبي : وعد الله المؤمنين الجنة جزاء على أعمالهم ,
فسألوه ذلك الوعد فقالوا : { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } [ آل عمران : 194 ]
. وهو معنى قول ابن عباس . وقيل : إن الملائكة تسأل لهم الجنة ; دليله قوله تعالى : { ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم } [ غافر : 8 ] الآية . وهذا قول محمد بن كعب
القرظي . وقيل : معنى }{ وعدا مسئولا }{ أي واجبا وإن لم يكن يسأل كالدين ; حكي عن
العرب : لأعطينك ألفا . وقيل : { وعدا مسئولا }{ يعني أنه واجب لك فتسأله . وقال زيد
بن أسلم : سألوا الله الجنة في الدنيا ورغبوا إليه بالدعاء , فأجابهم في الآخرة إلى
ما سألوا وأعطاهم ما طلبوا . وهذا يرجع إلى القول الأول .
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ قرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وحفص ويعقوب وأبو عمرو في
رواية الدوري : { يحشرهم }{ بالياء . واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ; لقوله في أول
الكلام : { كان على ربك }{ وفي آخره }{ أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء } . الباقون بالنون
على التعظيم . وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ من الملائكة والإنس والجن
والمسيح وعزير ; قاله مجاهد وابن جريج . الضحاك وعكرمة : الأصنام . فَيَقُولُ قراءة
العامة بالياء وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم . وقرأ ابن عامر وأبو حيوة بالنون على
التعظيم . أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ
وهذا استفهام توبيخ للكفار .
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ قرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وحفص ويعقوب وأبو عمرو في
رواية الدوري : { يحشرهم }{ بالياء . واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ; لقوله في أول
الكلام : { كان على ربك }{ وفي آخره }{ أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء } . الباقون بالنون
على التعظيم . وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ من الملائكة والإنس والجن
والمسيح وعزير ; قاله مجاهد وابن جريج . الضحاك وعكرمة : الأصنام . فَيَقُولُ قراءة
العامة بالياء وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم . وقرأ ابن عامر وأبو حيوة بالنون على
التعظيم . أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ
وهذا استفهام توبيخ للكفار .
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ أي يقول الله تعالى عند تبري المعبودين : { فقد كذبوكم بما تقولون }{ أي في قولكم إنهم آلهة . فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا
وَلَا نَصْرًا يعني الآلهة صرف العذاب عنكم ولا نصركم . وقيل : فما يستطيع هؤلاء
الكفار لما كذبهم المعبودون }{ صرفا }{ للعذاب }{ ولا نصرا }{ من الله . وقال ابن زيد :
المعنى فقد كذبكم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد ; وعلى هذا فمعنى }
بما تقولون }{ بما تقولون من الحق . وقال أبو عبيد : المعنى ; فما تقولون فيما
يستطيعون لكم صرفا عن الحق الذي هداكم الله إليه , ولا نصرا لأنفسهم مما ينزل بهم
من العذاب بتكذيبهم إياكم . وقراءة العامة }{ بما تقولون }{ بالتاء على الخطاب . وقد
بينا معناه . وحكى الفراء أنه يقرأ }{ فقد كذبوكم }{ مخففا , { بما يقولون } . وكذا قرأ
مجاهد والبزي بالياء , ويكون معنى }{ يقولون }{ بقولهم . وقرأ أبو حيوة : { بما يقولون
{ بياء }{ فما تستطيعون }{ بتاء على الخطاب لمتخذي الشركاء . ومن قرأ بالياء فالمعنى :
فما يستطيع الشركاء . وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ قال ابن عباس : من يشرك منكم ثم مات
عليه . نُذِقْهُ أي في الآخرة . عَذَابًا كَبِيرًا أي شديدا ; كقوله تعالى : { ولتعلن علوا كبيرا } [ الإسراء : 4 ] أي شديدا .
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ
الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ قوله تعالى : { وما أرسلنا قبلك من
المرسلين }{ نزلت جوابا للمشركين حيث قالوا : { مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في
الأسواق } [ الفرقان : 7 ] . وقال ابن عباس : لما عير المشركون رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالفاقة وقالوا : { مال هذا الرسول يأكل الطعام }{ الآية حزن النبي صلى
الله عليه وسلم لذلك فنزلت تعزية له ; فقال جبريل عليه السلام : السلام عليك يا
رسول الله ! الله ربك يقرئك السلام ويقول لك : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا
إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسوق }{ أي يبتغون المعايش في الدنيا . قوله تعالى
: { إلا إنهم ليأكلون الطعام }{ إذا دخلت اللام لم يكن في }{ إن }{ إلا الكسر , ولو لم
تكن اللام ما جاز أيضا إلا الكسر ; لأنها مستأنفة . هذا قول جميع النحويين . قال
النحاس : إلا أن علي بن سليمان حكى لنا عن محمد بن يزيد قال : يجوز في }{ إن }{ هذه
الفتح وإن كان بعدها اللام ; وأحسبه وهما منه . قال أبو إسحاق الزجاج : وفي الكلام
حذف ; والمعنى وما أرسلنا قبلك رسلا إلا إنهم ليأكلون الطعام , ثم حذف رسلا , لأن
في قوله : { من المرسلين }{ ما يدل عليه . فالموصوف محذوف عند الزجاج . ولا يجوز عنده
حذف الموصول وتبقية الصلة كما قال الفراء . قال الفراء : والمحذوف }{ من }{ والمعنى
إلا من إنهم ليأكلون الطعام . وشبهه بقوله : { وما منا إلا له مقام معلوم } [
الصافات : 164 ] , وقوله }{ وإن منكم إلا واردها } [ مريم : 71 ] أي ما منكم إلا من
هو واردها . وهذا قول الكسائي أيضا . وتقول العرب : ما بعثت إليك من الناس إلا من إنه
ليطيعك . فقولك : إنه ليطيعك صلة من . قال الزجاج : هذا خطأ ; لأن من موصولة فلا يجوز
حذفها . وقال أهل المعاني : المعنى ; وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قيل إنهم
ليأكلون ; دليله قوله تعالى : { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } [ فصلت :
43 ] . وقال ابن الأنباري : كسرت }{ إنهم }{ بعد }{ إلا }{ للاستئناف بإضمار واو . أي إلا
وإنهم . وذهبت فرقة إلى أن قوله : { ليأكلون الطعام }{ كناية عن الحدث . قلت : وهذا
بليغ في معناه , ومثله }{ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه
صديقة كانا يأكلان الطعام } [ المائدة : 75 ] .{ ويمشون في الأسواق }{ قرأ الجمهور }
يمشون }{ بفتح الياء وسكون الميم وتخفيف الشين . وقرأ علي وابن عوف وابن مسعود بضم
الياء وفتح الميم وشد الشين المفتوحة , بمعنى يدعون إلى المشي ويحملون عليه . وقرأ
أبو عبد الرحمن السلمي بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشددة , وهي بمعنى يمشون ;
قال الشاعر : ومشى بأعطان المباءة وابتغى قلائص منها صعبة وركوب وقال كعب بن زهير :
منه تظل سباع الجو ضامزة ولا تمشي بواديه الأراجيل بمعنى تمشي . هذه الآية أصل في
تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك . وقد مضى هذا المعنى في غير
موضع , لكنا نذكر هنا من ذلك ما يكفي فنقول : قال لي بعض مشايخ هذا الزمان في كلام
جريء : إن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا ليسنوا الأسباب للضعفاء ; فقلت مجيبا
له : هذا قول لا يصدر إلا من الجهال والأغبياء , والرعاع السفهاء , أو من طاعن في
الكتاب والسنة العلياء ; وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن أصفيائه ورسله وأنبيائه
بالأسباب والاحتراف فقال وقوله الحق : { وعلمناه صنعة لبوس لكم } [ الأنبياء : 80 ]
. وقال : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق
{ قال العلماء : أي يتجرون ويحترفون . وقال عليه الصلاة والسلام : ( جعل رزقي تحت ظل
رمحي ) وقال تعالى : { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } [ الأنفال : 69 ] وكان الصحابة
رضي الله عنهم يتجرون ويحترفون وفي أموالهم يعملون , ومن خالفهم من الكفار يقاتلون
; أتراهم ضعفاء ! بل هم كانوا والله الأقوياء , وبهم الخلف الصالح اقتدى , وطريقهم
فيه الهدى والاهتداء . قال : إنما تناولوها لأنهم أئمة الاقتداء , فتناولوها مباشرة
في حق الضعفاء , فأما في حق أنفسهم فلا ; وبيان ذلك أصحاب الصفة . قلت : لو كان ذلك
لوجب عليهم وعلى الرسول معهم البيان ; كما ثبت في القرآن }{ وأنزلنا إليك الذكر
لتبين للناس ما نزل إليهم } [ النحل : 44 ] وقال : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من
البينات والهدى } [ البقرة : 159 ] الآية . وهذا من البينات والهدى . وأما أصحاب
الصفة فإنهم كانوا ضيف الإسلام عند ضيق الحال , فكان عليه السلام إذا أتته صدقة
خصهم بها , وإذا أتته هدية أكلها معهم , وكانوا مع هذا يحتطبون ويسوقون الماء إلى
أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم . كذا وصفهم البخاري وغيره . ثم لما افتتح الله
عليهم البلاد ومهد لهم المهاد تأمروا . وبالأسباب أمروا . ثم إن هذا القول يدل على
ضعف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ; لأنهم أيدوا بالملائكة وثبتوا بهم , فلو
كانوا أقوياء ما احتاجوا إلى تأييد الملائكة وتأييدهم إذ ذلك سبب من أسباب النصر ;
نعوذ بالله من قول وإطلاق يئول إلى هذا , بل القول بالأسباب والوسائط سنة الله وسنة
رسوله , وهو الحق المبين , والطريق المستقيم الذي انعقد عليه إجماع المسلمين ; وإلا
كان يكون قوله الحق : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } [ الأنفال :
60 ] - الآية - مقصورا على الضعفاء , وجميع الخطابات كذلك . وفي التنزيل حيث خاطب
موسى الكليم }{ اضرب بعصاك البحر } [ الشعراء : 63 ] وقد كان قادرا على فلق البحر
دون ضرب عصا . وكذلك مريم عليها السلام }{ وهزي إليك بجذع النخلة } [ مريم : 25 ] وقد
كان قادرا على سقوط الرطب دون هز ولا تعب ; ومع هذا كله فلا ننكر أن يكون رجل يلطف
به ويعان , أو تجاب دعوته , أو يكرم بكرامة في خاصة نفسه أو لأجل غيره , ولا تهد
لذلك القواعد الكلية والأمور الجميلة . هيهات هيهات ! لا يقال فقد قال الله تعالى :
{ وفي السماء رزقكم وما توعدون } [ الذاريات : 22 ] فإنا نقول : صدق الله العظيم ,
وصدق رسوله الكريم , وأن الرزق هنا المطر بإجماع أهل التأويل ; بدليل ; قوله : { وينزل لكم من السماء رزقا } [ غافر : 13 ] وقال : { ونزلنا من السماء ماء مباركا
فأنبتنا به جنات وحب الحصيد } [ ق : 9 ] ولم يشاهد ينزل من السماء على الخلق أطباق
الخبز ولا جفان اللحم , بل الأسباب أصل في وجود ذلك ; ومعنى قوله عليه السلام : (
اطلبوا الرزق في خبايا الأرض ) أي بالحرث والحفر والغرس . وقد يسمى الشيء بما يئول
إليه , وسمي المطر رزقا لأنه عنه يكون الرزق , وذلك مشهور في كلام العرب . وقال عليه
السلام : ( لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحدا أعطاه أو
منعه ) وهذا فيما خرج من غير تعب من الحشيش والحطب . ولو قدر رجل بالجبال منقطعا عن
الناس لما كان له بد من الخروج إلى ما تخرجه الآكام وظهور الأعلام حتى يتناول من
ذلك ما يعيش به ; وهو معنى قوله عليه السلام : ( لو أنكم كنتم توكلون على الله حق
توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ) فغدوها ورواحها سبب ; فالعجب
العجب ممن يدعي التجريد والتوكل على التحقيق , ويقعد على ثنيات الطريق , ويدع
الطريق المستقيم , والمنهج الواضح القويم . ثبت في البخاري عن ابن عباس قال : كان
أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون , فإذا قدموا سألوا الناس ;
فأنزل الله تعالى }{ وتزودوا } [ البقرة : 197 ] . ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه
وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أنهم خرجوا إلى أسفارهم بغير زاد , وكانوا المتوكلين
حقا . والتوكل اعتماد القلب على الرب في أن يلم شعثه ويجمع عليه أربه ; ثم يتناول
الأسباب بمجرد الأمر . وهذا هو الحق . سأل رجل الإمام أحمد بن حنبل فقال : إنى أريد
الحج على قدم التوكل . فقال : اخرج وحدك ; فقال : لا , إلا مع الناس . فقال له : أنت
إذن متكل على أجربتهم . وقد أتينا على هذا في كتاب }{ قمع الحرص بالزهد والقناعة ورد
ذل السؤال بالكسب والصناعة } . خرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : ( أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها ) . وخرج
البزار عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تكونن إن
استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب
رايته ) . أخرجه أبو بكر البرقاني مسندا عن أبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ - من
رواية عاصم - عن أبي عثمان النهدي عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: ( لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ ) . ففي
هذه الأحاديث ما يدل على كراهة دخول الأسواق , لا سيما في هذه الأزمان التي يخالط
فيها الرجال النسوان . وهكذا قال علماؤنا لما كثر الباطل في الأسواق وظهرت فيها
المناكر : كره دخولها لأرباب الفضل والمقتدى بهم في الدين تنزيها لهم عن البقاع
التي يعصى الله فيها . فحق على من ابتلاه الله بالسوق أن يخطر بباله أنه قد دخل محل
الشيطان ومحل جنوده , وإنه إن أقام هناك هلك , ومن كانت هذه حاله اقتصر منه على قدر
ضرورته , وتحرز من سوء عاقبته وبليته . تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم السوق
بالمعركة تشبيه حسن ; وذلك أن المعركة موضع القتال , سمي بذلك لتعارك الأبطال فيه ,
ومصارعة بعضهم بعضا . فشبه السوق وفعل الشيطان بها ونيله منهم مما يحملهم من المكر
والخديعة , والتساهل في البيوع الفاسدة والكذب والأيمان الكاذبة , واختلاط الأصوات
وغير ذلك بمعركة الحرب ومن يصرع فيها . قال ابن العربي : أما أكل الطعام فضرورة
الخلق لا عار ولا درك فيه , وأما الأسواق فسمعت مشيخة أهل العلم يقولون : لا يدخل
إلا سوق الكتب والسلاح , وعندي أنه يدخل كل سوق للحاجة إليه ولا يأكل فيها ; لأن
ذلك إسقاط للمروءة وهدم للحشمة ; ومن الأحاديث الموضوعة ( الأكل في السوق دناءة )
. قلت : ما ذكرته مشيخة أهل العلم فنعما هو ; فإن ذلك خال عن النظر إلى النسوان
ومخالطتهن ; إذ ليس بذلك من حاجتهن . وأما غيرهما من الأسواق , فمشحونة منهن , وقلة
الحياء قد غلبت عليهن , حتى ترى المرأة في القيساريات وغيرهن قاعدة متبرجة بزينتها
, وهذا من المنكر الفاشي في زماننا هذا . نعوذ بالله من سخطه . خرج أبو داود
الطيالسي في مسنده حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير عن
سالم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال : ( من دخل سوقا من هذه الأسواق فقال لا إله إلا
الله وحده لا شريك له , له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير
وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وبنى له قصرا
في الجنة ) خرجه الترمذي أيضا وزاد بعد ( ومحا عنه ألف ألف سيئة ) : ( ورفع له ألف
ألف درجة وبنى له بيتا في الجنة ) . وقال : هذا حديث غريب . قال : ابن العربي : وهذا
إذا لم يقصد في تلك البقعة سواه ليعمرها بالطاعة إذ عمرت بالمعصية , وليحليها
بالذكر إذ عطلت بالغفلة , وليعلم الجهلة ويذكر الناسين . وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ
لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ أي إن الدنيا دار بلاء وامتحان , فأراد سبحانه أن
يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر , فالصحيح فتنة
للمريض , والغني فتنة للفقير , والفقير الصابر فتنة للغني . ومعنى هذا أن كل واحد
مختبر بصاحبه ; فالغني ممتحن بالفقير , عليه أن يواسيه ولا يسخر منه . والفقير ممتحن
بالغني , عليه ألا يحسده ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه , وأن يصبر كل واحد منهما على
الحق ; كما قال الضحاك في معنى }{ أتصبرون } : أي على الحق . وأصحاب البلايا يقولون :
لم لم نعاف ؟ والأعمى يقول : لم لم أجعل كالبصير ؟ وهكذا صاحب كل آفة . والرسول
المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره . وكذلك العلماء وحكام
العدل . ألا ترى إلى قولهم }{ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [
الزخرف : 31 ] . فالفتنة أن يحسد المبتلى المعافى , ويحقر المعافى المبتلى . والصبر :
أن يحبس كلاهما نفسه , هذا عن البطر , وذاك عن الضجر .{ أتصبرون }{ محذوف الجواب ,
يعني أم لا تصبرون . فيقتضي جوابا كما قال المزني , وقد أخرجته الفاقة فرأى خصيا في
مراكب ومناكب , فخطر بباله شيء فسمع من يقرأ الآية : { أتصبرون }{ فقال : بلى ربنا !
نصبر ونحتسب . وقد تلا ابن القاسم صاحب مالك هذه الآية حين رأى أشهب بن عبد العزيز
في مملكته عابرا عليه , ثم أجاب نفسه بقوله : سنصبر . وعن أبي الدرداء أنه سمع النبي
صلى الله عليه وسلم يقول : ( ويل للعالم من الجاهل وويل للجاهل من العالم وويل
للمالك من المملوك وويل للملوك من المالك وويل للشديد من الضعيف وويل للضعيف من
الشديد وويل للسلطان من الرعية وويل للرعية من السلطان وبعضهم لبعض فتنة ) وهو قوله
: { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون }{ أسنده الثعلبي تغمده الله برحمته . وقال مقاتل
: نزلت في أبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل , وعقبة بن أبي معيط
وعتبة بن ربيعة والنضر بن الحرث حين رأوا أبا ذر وعبد الله بن مسعود , وعمارا
وبلالا وصهيبا وعامر بن فهيرة , وسالما مولى أبي حذيفة ومهجعا مولى عمر بن الخطاب
وجبرا مولى الحضرمي , وذويهم ; فقالوا على سبيل الاستهزاء : أنسلم فنكون مثل هؤلاء
؟ فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء المؤمنين : { أتصبرون }{ على ما ترون من هذه الحال
الشديدة والفقر ; فالتوقيف ب }{ أتصبرون }{ خاص للمؤمنين المحقين من أمة محمد صلى
الله عليه وسلم . كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين , أي اختبارا
لهم . ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم : { إني جزيتهم اليوم بما صبروا } [
المؤمنون : 111 ] . وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا أي بكل امرئ وبمن يصبر أو يجزع , ومن
يؤمن ومن لا يؤمن , وبمن أدى ما عليه من الحق ومن لا يؤدي . وقيل : { أتصبرون }{ أي
اصبروا . مثل }{ فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] أي انتهوا ; فهو أمر للنبي صلى
الله عليه وسلم بالصبر .
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا يريد لا يخافون البعث ولقاء الله , أي
لا يؤمنون بذلك . قال : إذا لسعته النحل لم يرج لسعتها وخالفها في بيت نوب عوامل
وقيل : { لا يرجون }{ لا يبالون . قال : لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلما على أي جنب كان
في الله مصرعي ابن شجرة : لا يأملون ; قال : أترجو أمة قتلت حسينا شفاعة جده يوم
الحساب لَوْلَا أُنْزِلَ أي هلا أنزل . عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ فيخبروا أن محمدا
صادق . أَوْ نَرَى رَبَّنَا عيانا فيخبرنا برسالته . نظيره قول تعالى : { وقالوا لن
نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } [ الإسراء : 90 ] إلى قوله : { أو تأتي
بالله والملائكة قبيلا } [ الإسراء : 92 ] . لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا حيث سألوا الله الشطط ; لأن الملائكة لا ترى إلا عند
الموت أو عند نزول العذاب , والله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار , فلا
عين تراه . وقال مقاتل : { عتوا }{ علوا في الأرض . والعتو : أشد الكفر وأفحش الظلم
. وإذا لم يكتفوا بالمعجزات وهذا القرآن فكيف يكتفون بالملائكة ؟ وهم لا يميزون
بينهم وبين الشياطين , ولا بد لهم من معجزة يقيمها من يدعي أنه ملك , وليس للقوم
طلب معجزة بعد أن شاهدوا معجزة .
يريد أن الملائكة لا يراها أحد إلا عند الموت : فتبشر المؤمنين بالجنة , وتضرب
المشركين والكفار بمقامع الحديد حتى تخرج أنفسهم .{ ويقولون حجرا محجورا }{ يريد
تقول الملائكة حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال لا إله إلا الله , وأقام
شرائعها ; عن ابن عباس وغيره . وقيل : إن ذلك يوم القيامة ; قاله مجاهد وعطية العوفي
. قال عطية : إذا كان يوم القيامة تلقى المؤمن بالبشرى : فإذا رأى ذلك الكافر تمناه
فلم يره من الملائكة . وانتصب }{ يوم يرون }{ بتقدير لا بشرى للمجرمين يوم يرون
الملائكة .{ يومئذ }{ تأكيد ل }{ يوم يرون } . قال النحاس : لا يجوز أن يكون }{ يوم
يرون }{ منصوبا ب }{ بشرى }{ لأن ما في حيز النفي لا يعمل فيما قبله , ولكن فيه تقدير
أن يكون المعنى يمنعون البشارة يوم يرون الملائكة ; ودل على هذا الحذف ما بعده ,
ويجوز أن يكون التقدير : لا بشرى تكون يوم يرون الملائكة , و }{ يومئذ }{ مؤكد . ويجوز
أن يكون المعنى : اذكر يوم يرون الملائكة : ثم ابتدأ فقال : { لا بشرى يومئذ
للمجرمين ويقولون حجرا محجورا }{ أي وتقول الملائكة حراما محرما أن تكون لهم البشرى
إلا للمؤمنين . قال الشاعر : ألا أصبحت أسماء حجرا محرما وأصبحت من أدنى حموتها حما
أراد ألا أصبحت أسماء حراما محرما . وقال آخر : حنت إلي النخلة القصوى فقلت لها حجر
حرام ألا تلك الدهاريس وروي عن الحسن أنه قال : { ويقولون حجرا }{ وقف من قول
المجرمين ; فقال الله . عز وجل : { محجورا }{ عليهم أن يعاذوا أو يجاروا ; فحجر الله
ذلك عليهم يوم القيامة . والأول قول ابن عباس . وبه قال الفراء ; قاله ابن الأنباري
. وقرأ الحسن وأبو رجاء : { حجرا }{ بضم الحاء والناس على كسرها . وقيل : إن ذلك من
قول الكفار قالوه لأنفسهم ; قاله قتادة فيما ذكر الماوردي . وقيل : هو قول الكفار
للملائكة . وهي كلمة استعاذة وكانت معروفة في الجاهلية ; فكان إذا لقي الرجل من
يخافه قال : حجرا محجورا ; أي حراما عليك التعرض لي . وانتصابه على معنى : حجرت عليك
, أو حجر الله عليك ; كما تقول : سقيا ورعيا . أي إن المجرمين إذا رأوا الملائكة
يلقونهم في النار قالوا : نعوذ بالله منكم ; ذكره القشيري , وحكى معناه المهدوي عن
مجاهد . وقيل : { حجرا }{ من قول المجرمين .{ محجورا }{ من قول الملائكة ; أي قالوا
للملائكة نعوذ بالله منكم أن تتعرضوا لنا . فتقول الملائكة : { محجورا }{ أن تعاذوا
من شر هذا اليوم ; قاله الحسن .
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ هذا تنبيه على عظم قدر يوم القيامة ;
أي قصدنا في ذلك إلى ما كان يعمله المجرمون من عمل بر عند أنفسهم . يقال : قدم فلان
إلى أمر كذا أي قصده . وقال مجاهد : { قدمناه }{ أي عمدنا . وقال الراجز : وقدم
الخوارج الضلال إلى عباد ربهم فقالوا إن دماءكم لنا حلال وقيل : هو قدوم الملائكة ,
أخبر به نفسه تعالى فاعله . فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا أي لا ينتفع به ; أي
أبطلناه بالكفر . وليس }{ هباء }{ من ذوات الهمز وإنما همزت لالتقاء الساكنين
. والتصغير هبي في موضع الرفع , ومن النحويين من يقول : هبي في موضع الرفع ; حكاه
النحاس . وواحده هباة والجمع أهباء . قال الحارث بن حلزة يصف ناقة : فترى خلفها من
الرجع والوق ع منينا كأنه أهباء وروى الحرث عن علي قال : الهباء المنثور شعاع الشمس
الذي يدخل من الكوة . وقال الأزهري : الهباء ما يخرج من الكوة في ضوء الشمس شبيه
بالغبار . تأويله : إن الله تعالى أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور
. فأما الهباء المنبث . فهو ما تثيره الخيل بسنابكها من الغبار . والمنبث المتفرق
. وقال ابن عرفة : الهبوة والهباء التراب الدقيق . الجوهري : ويقال له إذا ارتفع هبا
يهبوا هبوا وأهبيته أنا . والهبوة الغبرة . قال رؤبة . تبدو لنا أعلامه بعد الغرق في
قطع الآل وهبوات الدقق وموضع هابي التراب أي كأن ترابه مثل الهباء في الرقة . وقيل :
إنه ما ذرته الرياح من يابس أوراق الشجر ; قاله قتادة وابن عباس . وقال ابن عباس
أيضا : إنه الماء المهراق . وقيل : إنه الرماد ; قاله عبيد بن يعلى .
تقدم القول فيه عند قوله تعالى : { قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون } [
الفرقان : 15 ] . قال النحاس : والكوفيون يجيزون }{ العسل أحلى من الخل }{ وهذا قول
مردود ; لأن معنى فلان خير من فلان أنه أكثر خيرا منه ولا حلاوة في الخل . ولا يجوز
أن يقال : النصراني خير من اليهودي ; لأنه لا خير فيهما فيكون أحدهما أزيد في الخير
. لكن يقال : اليهودي شر من النصراني ; فعلى هذا كلام العرب . و }{ مستقرا }{ نصب على
الظرف إذا قدر على غير باب }{ أفعل منك }{ والمعنى لهم خير في مستقر . وإذا كان من باب
{ أفعل منك }{ فانتصابه على البيان ; قال النحاس والمهدوي . قال قتادة : { وأحسن
مقيلا }{ منزلا ومأوى . وقيل : هو على ما تعرفه العرب من مقيل نصف النهار . ومنه
الحديث المرفوع ( إن الله تبارك وتعالى يفرغ من حساب الخلق في مقدار نصف يوم فيقيل
أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ) ذكره المهدوي . وقال ابن مسعود : لا ينتصف
النهار يوم القيامة من نهار الدنيا حتى يقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار , ثم
قرأ : { ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم }{ كذا هي في قراءة ابن مسعود . وقال ابن عباس :
الحساب من ذلك اليوم في أوله , فلا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة
في الجنة وأهل النار في النار . ومنه ما روي : ( قيلوا فإن الشياطين لا تقيل ) . وذكر
قاسم بن أصبغ من حديث أبي سعيد . الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) فقلت : ما أطول هذا اليوم . فقال النبي صلى الله
عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة
المكتوبة يصليها في الدنيا ) .
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ أي واذكر يوم تشقق السماء بالغمام
. وقرأه عاصم والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وأبو عمرو : { تشقق }{ بتخفيف الشين وأصله
تتشقق بتاءين فحذفوا الأولى تخفيفا , واختاره أبو عبيد . الباقون }{ تشقق }{ بتشديد
الشين على الادغام , واختاره أبو حاتم . وكذلك في }{ ق } .{ بالغمام }{ أي عن الغمام
. والباء وعن يتعاقبان ; كما تقول : رميت بالقوس وعن القوس . روي أن السماء تتشقق عن
سحاب أبيض رقيق مثل الضبابة , ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم فتنشق السماء عنه
; وهو الذي قال تعالى : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } [
البقرة : 210 ] . وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا من السموات , ويأتي الرب جل
وعز في الثمانية الذين يحملون العرش لفصل القضاء , على ما يجوز أن يحمل عليه إتيانه
; لا على ما تحمل عليه صفات المخلوقين من الحركة والانتقال . وقال ابن عباس : تتشقق
سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس , ثم تنشق السماء
الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في سماء الدنيا , ثم كذلك حتى تنشق السماء
السابعة , ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش ; وهو معنى قوله : { ونزل الملائكة تنزيلا
{ أي من السماء إلى الأرض لحساب الثقلين . وقيل : إن السماء تنشق بالغمام الذي بينها
وبين الناس ; فبتشقق الغمام تتشقق السماء ; فإذا انشقت السماء انتقض تركيبها وطويت
ونزلت الملائكة إلى مكان سواها . وقرأ ابن كثير : { وننزل الملائكة }{ بالنصب من
الإنزال . الباقون .{ ونزل الملائكة }{ بالرفع . دليله }{ تنزيلا }{ ولو كان على الأول
لقال إنزالا . وقد قيل : إن نزل وأنزل بمعنى ; فجاء }{ تنزيلا }{ على }{ نزل }{ وقد قرأ
عبد الوهاب عن أبي عمرو : { ونزل الملائكة تنزيلا } . وقرأ ابن مسعود : { وأنزل
الملائكة } . أبي بن كعب : { ونزلت الملائكة } . وعنه }{ وتنزلت الملائكة } .
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ }{ الملك }{ مبتدأ و }{ الحق }{ صفة له و }
للرحمن }{ الخبر ; لأن الملك الذي يزول وينقطع ليس بملك ; فبطلت يومئذ أملاك
المالكين وانقطعت دعاويهم , وزال كل ملك وملكه . وبقي الملك الحق لله وحده . وَكَانَ
يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا أي لما ينالهم من الأهوال ويلحقهم من الخزي
والهوان , وهو على المؤمنين أخف من صلاة مكتوبة ; على ما تقدم في الحديث . وهذه
الآية دالة عليه ; لأنه إذا كان على الكافرين عسيرا فهو على المؤمنين يسير . يقال :
عسر يعسر , وعسر يعسر .
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ الماضي عضضت . وحكى الكسائي عضضت بفتح
الضاد الأولى . وجاء التوقيف عن أهل التفسير , منهم ابن عباس وسعيد بن المسيب أن
الظالم هاهنا يراد به عقبة بن أبي معيط , وأن خليله أمية بن خلف ; فعقبة قتله علي
بن أبي طالب رضي الله عنه ; وذلك أنه كان في الأسارى يوم بدر فأمر النبي صلى الله
عليه وسلم بقتله ; فقال : أأقتل دونهم ؟ فقال . نعم , بكفرك وعتوك . فقال : من للصبية
؟ فقال : النار . فقام علي رضي الله عنه فقتله . وأمية قتله النبي صلى الله عليه وسلم
, فكان هذا من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه خبر عنهما بهذا فقتلا
على الكفر . ولم يسميا في الآية لأنه أبلغ في الفائدة , ليعلم أن هذا سبيل كل ظالم
قبل من غيره في معصية الله عز وجل : قال ابن عباس وقتادة وغيرهما : وكان عقبة قد هم
بالإسلام فمنعه منه أبي بن خلف وكانا خدنين , وأن النبي صلى الله عليه وسلم قتلهما
جميعا : قتل عقبة يوم بدر صبرا , وأبي بن خلف في المبارزة يوم أحد ; ذكره القشيري
والثعلبي , والأول ذكره النحاس . وقال السهيلي : { ويوم يعض الظالم على يديه }{ هو
عقبة بن أبي معيط , وكان صديقا لأمية بن خلف الجمحي ويروى لأبي بن خلف أخي أمية ,
وكان قد صنع وليمة فدعا إليها قريشا , ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن
يأتيه إلا أن يسلم . وكره عقبة أن يتأخر عن طعامه من أشراف قريش أحد فأسلم ونطق
بالشهادتين , فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل من طعامه , فعاتبه خليله
أمية بن خلف , أو أبي بن خلف وكان غائبا . فقال عقبة : رأيت عظيما ألا يحضر طعامي
رجل من أشراف قريش . فقال له خليله : لا أرضى حتى ترجع وتبصق في وجهه وتطأ عنقه
وتقول كيت وكيت . ففعل عدو الله ما أمره به خليله ; فأنزل الله عز وجل : { ويوم يعض
الظالم على يديه } . قال الضحاك : لما بصق عقبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم
رجع بصاقه في وجهه وشوى وجهه وشفتيه , حتى أثر في وجهه وأحرق خديه , فلم يزل أثر
ذلك في وجهه حتى قتل . وعضه يديه فعل النادم الحزين لأجل طاعته خليله . يَقُولُ يَا
لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ في الدنيا , يعني طريقا إلى الجنة .
يَا دعاء بالويل والثبور على محالفة الكافر ومتابعته . وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ
أَتَّخِذْ فُلَانًا يعني أمية , وكني عنه ولم يصرح باسمه لئلا يكون هذا الوعد
مخصوصا به ولا مقصورا , بل يتناول جميع من فعل مثل فعلهما . وقال مجاهد وأبو رجاء :
الظالم عام في كل ظالم , وفلان : الشيطان . واحتج لصاحب هذا القول بأن بعده }{ وكان
الشيطان للإنسان خذولا } . وقرأ الحسن : { يا ويلتى } . وقد مضى في هود بيانه والخليل
: الصاحب والصديق وقد مضى في }{ النساء }{ بيانه .
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي أي يقول هذا النادم : لقد
أضلني من اتخذته في الدنيا خليلا عن القرآن والإيمان به . وقيل : { عن الذكر }{ أي عن
الرسول . وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا قيل : هذا من قول الله لا من
قول الظالم . وتمام الكلام على هذا عند قوله : { بعد إذ جاءني } . والخذل الترك من
الإعانة ; ومنه خذلان إبليس للمشركين لما ظهر لهم في صورة سراقة بن مالك , فلما رأى
الملائكة تبرأ منهم . وكل من صد عن سبيل الله وأطيع في معصية الله فهو شيطان للإنسان
, خذولا عند نزول العذاب والبلاء . ولقد أحسن من قال : تجنب قرين السوء وأصرم حباله
فإن لم تجد عنه محيصا فداره وأحبب حبيب الصدق واحذر مراءه تنل منه صفو الود ما لم
تماره وفي الشيب ما ينهى الحليم عن الصبا إذا اشتعلت نيرانه في عذاره آخر : اصحب
خيار الناس حيث لقيتهم خير الصحابة من يكون عفيفا والناس مثل دراهم ميزتها فوجدت
منها فضة وزيوفا وفي الصحيح من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (
إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن
يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما
أن تجد ريحا خبيثة ) لفظ مسلم . وأخرجه أبو داود من حديث أنس . وذكر أبو بكر البزار
عن ابن عباس قال : قيل يا رسول الله ; أي جلسائنا خير ؟ قال : ( من ذكركم بالله
رؤيته وزاد في علمكم منطقه وذكركم بالآخرة عمله ) . وقال مالك بن دينار : إنك إن
تنقل الأحجار مع الأبرار خير لك من أن تأكل الخبيص مع الفجار . وأنشد : وصاحب خيار
الناس تنج مسلما وصاحب شرار الناس يوما فتندما .
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا يريد محمدا صلى الله عليه وسلم , يشكوهم إلى الله تعالى
. رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ أي قالوا فيه غير الحق من أنه
سحر وشعر ; عن مجاهد والنخعي . وقيل : معنى }{ مهجورا }{ أي متروكا ; فعزاه الله تبارك
وتعالى وسلاه بقوله : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين } .
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ أي كما جعلنا
لك يا محمد عدوا من مشركي قومك - وهو أبو جهل في قول ابن عباس - فكذلك جعلنا لكل
نبي عدوا من مشركي قومه , فاصبر , لأمري كما صبروا , فإني هاديك وناصرك على كل من
ناوأك . وقد قيل : إن قول الرسول }{ يا رب }{ إنما يقوله يوم القيامة ; أي هجروا
القرآن وهجروني وكذبوني . وقال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من تعلم
القرآن وعلق مصحفه لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول يا رب
العالمين إن عبدك هذا اتخذني مهجورا فاقض بيني وبينه ) . ذكره الثعلبي . وَكَفَى
بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا نصب على الحال أو التمييز , أي يهديك وينصرك فلا
تبال بمن عاداك . وقال ابن عباس : عدو النبي صلى الله عليه وسلم أبو جهل لعنه الله .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً
وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ اختلف في قائل ذلك على قولين :
أحدهما : أنهم كفار قريش ; قاله ابن عباس . والثاني : أنهم اليهود حين رأوا نزول
القرآن مفرقا قالوا : هلا أنزل عليه جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى
والإنجيل على عيسى والزبور على داود . فقال الله تعالى : { كذلك }{ أي فعلنا }{ لنثبت
به فؤادك }{ نقوي به قلبك فتعيه وتحمله ; لأن الكتب المتقدمة أنزلت على أنبياء
يكتبون ويقرءون , والقرآن أنزل على نبي أمي ; ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ ,
ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور , ففرقناه ليكون أوعى للنبي صلى الله عليه وسلم ,
وأيسر على العامل به ; فكان كلما نزل وحي جديد زاده قوة قلب . قلت : فإن قيل هلا
أنزل القرآن دفعة واحدة وحفظه إذا كان ذلك في قدرته ؟ . قيل : في قدرة الله أن يعلمه
الكتاب والقرآن في لحظة واحدة , ولكنه لم يفعل ولا معترض عليه في حكمه , وقد بينا
وجه الحكمة في ذلك . وقد قيل : إن قوله }{ كذلك }{ من كلام المشركين , أي لولا نزل
عليه القرآن جملة واحدة كذلك , أي كالتوراة والإنجيل , فيتم الوقف على }{ كذلك }{ ثم
يبتدئ }{ لنثبت به فؤادك } . ويجوز أن يكون الوقف على قوله : { جملة واحدة }{ ثم يبتدئ
{ كذلك لنثبت به فؤادك }{ على معنى أنزلناه عليك كذلك متفرقا لنثبت به فؤادك . قال
ابن الأنباري : والوجه الأول أجود وأحسن , والقول الثاني قد جاء به التفسير , حدثنا
محمد بن عثمان الشيبي قال حدثنا منجاب قال حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك
عن ابن عباس في قوله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } [ القدر : 1 ] قال :
أنزل القرآن جملة واحدة من عند الله عز وجل في اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام
الكاتبين في السماء , فنجمه السفرة الكرام على جبريل عشرين ليلة , ونجمه جبريل عليه
السلام على محمد عشرين سنة . قال : فهو قوله }{ فلا أقسم بمواقع النجوم } [ الواقعة :
75 ] يعني نجوم القرآن }{ وإنه لقسم لو تعلمون عظيم . إنه لقرآن كريم } [ الواقعة :
76 - 77 ] . قال : فلما لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة , قال
الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ; فقال الله تبارك وتعالى : { كذلك
لنثبت به فؤادك }{ يا محمد . وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا يقول : ورسلناه ترسيلا ; يقول
: شيئا بعد شيء .
يقول : لو أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة ثم سألوك لم يكن عندك ما تجيب به , ولكن
نمسك عليك فإذا سألوك أجبت . قال النحاس : وكان ذلك من علامات النبوة , لأنهم لا
يسألون عن شيء إلا أجيبوا عنه , وهذا لا يكون إلا من نبي , فكان ذلك تثبيتا لفؤاده
وأفئدتهم , ويدل على هذا }{ ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا }{ ولو نزل
جملة بما فيه من الفرائض لثقل عليهم , وعلم الله عز وجل أن الصلاح في إنزاله متفرقا
, لأنهم ينبهون به مرة بعد مرة , ولو نزل جملة واحدة لزال معنى التنبيه وفيه ناسخ
ومنسوخ , فكانوا يتعبدون بالشيء إلى وقت بعينه قد علم الله عز وجل فيه الصلاح , ثم
ينزل النسخ بعد ذلك ; فمحال أن ينزل جملة واحدة : افعلوا كذا ولا تفعلوا . قال
النحاس : والأولى أن يكون التمام }{ جملة واحدة }{ لأنه إذا وقف على }{ كذلك }{ صار
المعنى كالتوراة والإنجيل والزبور ولم يتقدم لها ذكر . قال الضحاك : { وأحسن تفسيرا
{ أي تفصيلا . والمعنى : أحسن من مثلهم تفصيلا ; فحذف لعلم السامع . وقيل : كان
المشركون يستمدون من أهل الكتاب وكان قد غلب على أهل الكتاب التحريف والتبديل ,
فكان ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم أحسن تفسيرا مما عندهم ; لأنهم كانوا
يخلطون الحق بالباطل , والحق المحض أحسن من حق مختلط بباطل , ولهذا قال تعالى : { ولا تلبسوا الحق بالباطل } [ البقرة : 42 ] . وقيل : { لا يأتونك بمثل }{ كقولهم في
صفة عيسى إنه خلق من غير أب إلا جئناك بالحق أي بما فيه نقض حجتهم كآدم إذ خلق من
غير أب وأم .
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ فيه وجهان : [ أحدهما ]
أن ذلك عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم ; من قول العرب : قدم القوم على وجوههم إذا
أسرعوا .[ الثاني ] أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم كما يفعل في
الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه . وهذا هو الصحيح ; لحديث أنس أن رجلا قال : يا
رسول الله , الذين يحشرون على وجوههم , أيحشر الكافر على وجهه ؟ قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم ( أليس الذي أمشاه على الرجلين قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم
القيامة ) : قال قتادة حين بلغه : بلى وعزة ربنا . أخرجه البخاري ومسلم . وحسبك
. أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا لأنهم في جهنم . وقال مقاتل : قال الكفار لأصحاب محمد
. صلى الله عليه وسلم هو شر الخلق . فنزلت الآيةوَأَضَلُّ سَبِيلًا أي دينا وطريقا
. ونظم الآية : ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق , وأنت منصور عليهم بالحجج الواضحة
, وهم محشورون على وجوههم .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ يريد التوراة . وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ
هَارُونَ وَزِيرًا وكان هارون أكبر من موسى بسنة , وقيل : بثلاث . وكان هارون أكثر
لحما من موسى , وأتم طولا , وأبيض جسما , وأفصح لسانا . ومات قبل موسى بثلاث سنين
وكان . في جبهة هارون شامة , وعلى أرنبة أنف موسى شامة , وعلى طرف لسانه شامة , ولم
تكن على أحد قبله ولا تكون على أحد بعده , وقيل إنها كانت سبب العقدة التي في لسانه
. والله أعلم .
فَقُلْنَا اذْهَبَا الخطاب لهما . وقيل : إنما أمر موسى صلى الله عليه وسلم بالذهاب
وحده في المعنى . وهذا بمنزلة قوله : { نسيا حوتهما } [ الكهف : 61 ] . وقوله : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } [ الرحمن : 22 ] وإنما يخرج من أحدهما . قال النحاس :
وهذا مما لا ينبغي أن يجترأ به على كتاب الله تعالى , وقد قال جل وعز : { فقولا له
قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى . قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى . قال
لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى . فأتياه فقولا إنا رسولا ربك } [ طه : 44 - 47 ]
. ونظير هذا : { ومن دونهما جنتان } [ الرحمن : 62 ] . وقد قال جل ثناؤه : { ثم
أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا } [ المومنون : 45 ] قال القشيري : وقوله في موضع
آخر : { اذهب إلى فرعون إنه طغى } [ طه : 24 ] لا ينافي هذا ; لأنهما إذا كانا
مأمورين فكل واحد مأمور . ويجوز أن يقال : أمر موسى أولا , ثم لما قال : { واجعل لي
وزيرا من أهلي } [ طه : 29 ] قال : { اذهبا إلى فرعون } [ طه : 43 ] . إِلَى
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الذين كذبوا بآياتنا }{ يريد فرعون
وهامان والقبط . فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا في الكلام إضمار ; أي فكذبوهما }
فدمرناهم تدميرا }{ أي أهلكناهم إهلاكا .
وَقَوْمَ نُوحٍ في نصب }{ قوم }{ أربعة أقوال : العطف على الهاء والميم في }{ دمرناهم
" . الثاني : بمعنى اذكر . الثالث : بإضمار فعل يفسره ما بعده ; والتقدير : وأغرقنا
قوم نوح أغرقناهم . الرابع : إنه منصوب ب }{ أغرقناهم }{ قاله الفراء . ورده النحاس قال
: لأن }{ أغرقنا }{ ليس مما يتعدى إلى مفعولين فيعمل في المضمر وفي }{ قوم نوح }
. لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ ذكر الجنس والمراد نوح وحده ; لأنه لم يكن في ذلك
الوقت رسول إليهم إلا نوح وحده ; فنوح إنما بعث بلا إله إلا الله , وبالإيمان بما
ينزل الله , فلما كذبوه كان في ذلك تكذيب لكل من بعث بعده بهذه الكلمة . وقيل : إن
من كذب رسولا فقد كذب جميع الرسل ; لأنهم لا يفرق بينهم في الإيمان , ولأنه ما من
نبي إلا يصدق سائر أنبياء الله , فمن كذب منهم نبيا فقد كذب كل من صدقه من النبيين
. أَغْرَقْنَاهُمْ أي بالطوفان . وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً أي علامة ظاهرة على
قدرتناوَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ أي للمشركين من قوم نوحعَذَابًا أَلِيمًا أي في
الآخرة . وقيل : أي هذه سبيلي في كل ظالم .
وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا كله
معطوف على }{ قوم نوح }{ إذا كان }{ قوم نوح }{ منصوبا على العطف , أو بمعنى اذكر
. ويجوز أن يكون كله منصوبا على أنه معطوف على المضمر في }{ دمرناهم }{ أو على المضمر
في }{ جعلناهم }{ وهو اختيار النحاس ; لأنه أقرب إليه . ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار
فعل ; أي اذكر عادا الذين كذبوا هودا فأهلكهم الله بالريح العقيم , وثمود كذبوا
صالحا فأهلكوا بالرجفة . و }{ أصحاب الرس }{ والرس في كلام العرب البئر التي تكون غير
مطوية , والجمع رساس . قال : تنابلة يحفرون الرساسا يعني آبار المعادن . قال ابن عباس
: سألت كعبا عن أصحاب الرس قال : صاحب }{ يس }{ الذي قال : { يا قوم اتبعوا المرسلين
" [ يس : 20 ] قتله قومه ورسوه في بئر لهم يقال لها الرس طرحوه فيها , وكذا قال
مقاتل . السدي : هم أصحاب قصة }{ يس }{ أهل أنطاكية , والرس بئر بأنطاكية قتلوا فيها
حبيبا النجار مؤمن آل }{ يس }{ فنسبوا إليها . وقال علي رضي الله عنه : هم قوم كانوا
يعبدون شجرة صنوبر فدعا عليهم نبيهم ; وكان من ولد يهوذا , فيبست الشجرة فقتلوه
ورسوه في بئر , فأظلتهم سحابة سوداء فأحرقتهم . وقال ابن عباس : هم قوم بأذربيجان
قتلوا أنبياء فجفت أشجارهم وزروعهم فماتوا جوعا وعطشا . وقال وهب بن منبه : كانوا
أهل بئر يقعدون عليها وأصحاب مواشي , وكانوا يعبدون الأصنام , فأرسل الله إليهم
شعيبا فكذبوه وآذوه , وتمادوا على كفرهم وطغيانهم , فبينما هم حول البئر في منازلهم
انهارت بهم وبديارهم ; فخسف الله بهم فهلكوا جميعا . وقال قتادة : أصحاب الرس وأصحاب
الأيكة أمتان أرسل الله إليهما شعيبا فكذبوه فعذبهما الله بعذابين . قال قتادة :
والرس قرية بفلج اليمامة . وقال عكرمة : هم قوم رسوا نبيهم في بئر حيا . دليله ما روى
محمد بن كعب القرظي عمن حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أول الناس يدخل
الجنة يوم القيامة عبد أسود وذلك أن الله تعالى بعث نبيا إلى قومه فلم يؤمن به إلا
ذلك الأسود فحفر أهل القرية بئرا وألقوا فيها نبيهم حيا وأطبقوا عليه حجرا ضخما
وكان العبد الأسود يحتطب على ظهره ويبيعه ويأتيه بطعامه وشرابه فيعينه الله على رفع
تلك الصخرة حتى يدليه إليه فبينما هو يحتطب إذ نام فضرب الله على أذنه سبع سنين
نائما ثم هب من نومه فتمطى واتكأ على شقه الآخر فضرب الله على أذنه سبع سنين ثم هب
فاحتمل حزمة الحطب فباعها وأتى بطعامه وشرابه إلى البئر فلم يجده وكان قومه قد
أراهم الله تعالى آية فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه ومات ذلك النبي ) . قال النبي صلى
الله عليه وسلم : ( إن ذلك العبد الأسود لأول من يدخل الجنة ) وذكر هذا الخبر
المهدوي والثعلبي , واللفظ للثعلبي , وقال : هؤلاء آمنوا بنبيهم فلا يجوز أن يكونوا
أصحاب الرس ; لأن الله تعالى أخبر عن أصحاب الرس أنه دمرهم , إلا أن يدمروا بأحداث
أحدثوها بعد نبيهم . وقال الكلبي : أصحاب الرس قوم أرسل الله إليهم نبيا فأكلوه . وهم
أول من عمل نساؤهم السحق ; ذكره الماوردي . وقيل : هم أصحاب الأخدود الذين حفروا
الأخاديد وحرقوا فيها المؤمنين , وسيأتي . وقيل : هم بقايا من قوم ثمود , وإن الرس
البئر المذكورة في }{ الحج }{ في قوله : { وبئر معطلة } [ الحج : 45 ] على ما تقدم
. وفي الصحاح : والرس اسم بئر كانت لبقية من ثمود . وقال جعفر بن محمد عن أبيه :
أصحاب الرس قوم كانوا يستحسنون لنسائهم السحق , وكان نساؤهم كلهم سحاقات . وروي من
حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن من أشراط الساعة أن يكتفي
الرجال بالرجال والنساء بالنساء وذلك السحق ) . وقيل : الرس ماء ونخل لبني أسد . وقيل
: الثلج المتراكم في الجبال ; ذكره القشيري . وما ذكرناه أولا هو المعروف , وهو كل
حفر احتفر كالقبر والمعدن والبئر . قال أبو عبيدة : الرس كل ركية لم تطو ; وجمعها
رساس . قال الشاعر : وهم سائرون إلى أرضهم فيا ليتهم يحفرون الرساسا والرس اسم واد
في قول زهير : بكرن بكورا واستحرن بسحرة فهن لوادي الرس كاليد للفم ورسست رسا :
حفرت بئرا . ورس الميت أي قبر . والرس : الإصلاح بين الناس , والإفساد أيضا وقد رسست
بينهم ; فهو من الأضداد . وقد قيل في أصحاب الرس غير ما ذكرنا , ذكره الثعلبي وغيره
.{ وقرونا بين ذلك كثيرا }{ أي أمما لا يعلمهم إلا الله بين قوم نوح وعاد . وثمود
وأصحاب الرس . وعن الربيع بن خيثم اشتكى فقيل له : ألا تتداوى فإن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد أمر به ؟ قال : لقد هممت بذلك ثم فكرت فيما بيني وبين نفسي فإذا
عاد وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا كانوا أكثر وأشد حرصا على جمع المال ,
فكان فيهم أطباء , فلا الناعت منهم بقي ولا المنعوت ; فأبى أن يتداوى فما مكث إلا
خمسة أيام حتى مات , رحمه الله .
وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ قال الزجاج . أي وأنذرنا كلا ضربنا له الأمثال
وبينا لهم الحجة , ولم نضرب لهم الأمثال الباطلة كما يفعله هؤلاء الكفرة . وقيل :
انتصب على تقدير ذكرنا كلا ونحوه ; لأن ضرب الأمثال تذكير ووعظ ; ذكره المهدوي
. والمعنى واحد . وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا أي أهلكنا بالعذاب . وتبرت الشيء
كسرته . وقال المؤرج والأخفش : دمرناهم تدميرا . تبدل التاء والباء من الدال والميم .
وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ قال الزجاج . أي وأنذرنا كلا ضربنا له الأمثال
وبينا لهم الحجة , ولم نضرب لهم الأمثال الباطلة كما يفعله هؤلاء الكفرة . وقيل :
انتصب على تقدير ذكرنا كلا ونحوه ; لأن ضرب الأمثال تذكير ووعظ ; ذكره المهدوي
. والمعنى واحد . وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا أي أهلكنا بالعذاب . وتبرت الشيء
كسرته . وقال المؤرج والأخفش : دمرناهم تدميرا . تبدل التاء والباء من الدال والميم .
جواب }{ إذا }{ إن يتخذونك }{ لأن معناه يتخذونك . وقيل : الجواب محذوف وهو قالوا أو
يقولون : { أهذا الذي }{ وقوله : { إن يتخذونك إلا هزوا }{ كلام معترض . ونزلت في أبي
جهل كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم مستهزئا : { أهذا الذي بعث الله رسولا }
والعائد محذوف , أي بعثه الله .{ رسولا }{ نصب على الحال والتقدير : أهذا الذي بعثه
الله مرسلا .{ أهذا }{ رفع بالابتداء و }{ الذي }{ خبره .{ رسولا }{ نصب على الحال . و }
بعث }{ في صلة }{ الذي }{ واسم الله عز وجل رفع ب }{ بعث } . ويجوز أن يكون مصدرا ; لأن
معنى }{ بعث }{ أرسل ويكون معنى رسولا }{ رسالة على هذا . والألف للاستفهام على معنى
التقرير والاحتقار .
إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا أي قالوا قد كاد أن يصرفنا . عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ
صَبَرْنَا عَلَيْهَا أي حبسنا أنفسنا على عبادتها . وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ
يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا يريد من أضل دينا أهم أم محمد , وقد
رأوه في يوم بدر .
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ عجب نبيه صلى الله عليه وسلم من إضمارهم
على الشرك وإصرارهم عليه مع إقرارهم بأنه خالقهم ورازقهم , ثم يعمد إلى حجر يعبده
من غير حجة . قال الكلبي وغيره : كانت العرب إذا هوي الرجل منهم شيئا عبده من دون
الله , فإذا رأى أحسن منه ترك الأول وعبد الأحسن ; فعلى هذا يعني : أرأيت من اتخذ
إلهه بهواه ; فحذف الجار . وقال ابن عباس : الهوى إله يعبد من دون الله , ثم تلا هذه
الآية . قال الشاعر : لعمر أبيها لو تبدت لناسك قد اعتزل الدنيا بإحدى المناسك لصلى
لها قبل الصلاة لربه ولارتد في الدنيا بأعمال فاتك وقيل : { اتخذ إلهه هواه }{ أي
أطاع هواه . وعن الحسن لا يهوى شيئا إلا اتبعه , والمعنى واحد . أَفَأَنْتَ تَكُونُ
عَلَيْهِ وَكِيلًا أي حفيظا وكفيلا حتى ترده إلى الإيمان وتخرجه من هذا الفساد . أي
ليست الهداية والضلالة موكولتين إلى مشيئتك , وإنما عليك التبليغ . وهذا رد على
القدرية . ثم قيل : إنها منسوخة بآية القتال . وقيل : لم تنسخ ; لأن الآية تسلية
للنبي صلى الله عليه وسلم .
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ولم يقل أنهم لأن
منهم من قد علم أنه يؤمن . وذمهم جل وعز بهذا .{ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون }{ سماع
قبول أو يفكرون فيما تقول فيعقلونه ; أي هم بمنزلة من لا يعقل ولا يسمع . وقيل :
المعنى أنهم لما لم ينتفعوا بما يسمعون فكأنهم لم يسمعوا ; والمراد أهل مكة . وقيل :
{ أم }{ بمعنى بل في مثل هذا الموضع . إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ أي في الأكل
والشرب لا يفكرون في الآخرة . بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا إذ لا حساب ولا عقاب على
الأنعام . وقال مقاتل : البهائم تعرف ربها وتهتدي إلى مراعيها وتنقاد لأربابها التي
تعقلها , وهؤلاء لا ينقادون ولا يعرفون ربهم الذي خلقهم ورزقهم . وقيل : لأن البهائم
إن لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك أيضا .
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ يجوز أن تكون هذه الرؤية من رؤية
العين , ويجوز أن تكون من العلم . وقال الحسن وقتادة وغيرهما : مد الظل من طلوع
الفجر إلى طلوع الشمس . وقيل : هو من غيوبة الشمس إلى طلوعها . والأول أصح ; والدليل
على ذلك أنه ليس من ساعة أطيب من تلك الساعة ; فإن فيها يجد المريض راحة والمسافر
وكل ذي علة : وفيها ترد نفوس الأموات والأرواح منهم إلى الأجساد , وتطيب نفوس
الأحياء فيها . وهذه الصفة مفقودة بعد المغرب . وقال أبو العالية : نهار الجنة هكذا ;
وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر . أبو عبيدة : الظل بالغداة والفيء بالعشي ; لأنه
يرجع بعد زوال الشمس ; سمي فيئا لأنه فاء من المشرق إلى جانب المغرب . قال الشاعر ,
وهو حميد بن ثور يصف سرحة وكنى بها عن امرأة : فلا الظل من برد الضحا تستطيعه ولا
الفيء من برد العشي تذوق وقال ابن السكيت : الظل ما نسخته الشمس والفيء ما نسخ
الشمس . وحكى أبو عبيدة عن رؤبة قال : كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل
, وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل . وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا أي دائما مستقرا
لا تنسخه الشمس . ابن عباس : يريد إلى يوم القيامة , وقيل : المعنى لو شاء لمنع
الشمس الطلوع . ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا أي جعلنا الشمس ينسخها
الظل عند مجيئها دالة على أن الظل شيء ومعنى ; لأن الأشياء تعرف بأضدادها ولولا
الشمس ما عرف الظل , ولولا النور ما عرفت الظلمة . فالدليل فعيل بمعنى الفاعل . وقيل
: بمعنى المفعول كالقتيل والدهين والخضيب . أي دللنا الشمس على الظل حتى ذهبت به ;
أي أتبعناها إياه . فالشمس دليل أي حجة وبرهان , وهو الذي يكشف المشكل ويوضحه . ولم
يؤنث الدليل وهو صفة الشمس لأنه في معنى الاسم ; كما يقال : الشمس برهان والشمس حق
.
ثُمَّ قَبَضْنَاهُ يريد ذلك الظل الممدود . إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا أي يسيرا
قبضه علينا . وكل أمر ربنا عليه يسير . فالظل مكثه في هذا الجو بمقدار طلوع الفجر إلى
طلوع الشمس , فإذا طلعت الشمس صار الظل مقبوضا , وخلفه في هذا الجو شعاع الشمس
فأشرق على الأرض وعلى الأشياء إلى وقت غروبها , فإذا غربت فليس هناك ظل , إنما ذلك
بقية نور النهار . وقال قوم : قبضه بغروب الشمس ; لأنها ما لم تغرب فالظل فيه بقية ,
وإنما يتم زواله بمجيء الليل ودخول الظلمة عليه . وقيل : إن هذا القبض وقع بالشمس ;
لأنها إذا طلعت أخذ الظل في الذهاب شيئا فشيئا ; قاله أبو مالك وإبراهيم التيمي
. وقيل : { ثم قبضناه }{ أي قبضنا ضياء الشمس بالفيء }{ قبضا يسيرا } . وقيل : { يسيرا
{ أي سريعا , قاله الضحاك . قتادة : خفيا ; أي إذا غابت الشمس قبض الظل قبضا خفيا ;
كلما قبض جزء منه جعل مكانه جزء من الظلمة , وليس يزول دفعة واحدة . فهذا معنى قول
قتادة ; وهو قول مجاهد .
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا يعني سترا للخلق يقوم مقام اللباس
في ستر البدن . قال الطبري : وصف الليل باللباس تشبيها من حيث يستر الأشياء ويغشاها
. قال ابن العربي : ظن بعض الغفلة أن من صلى عريانا في الظلام أنه يجزئه ; لأن الليل
لباس . وهذا يوجب أن يصلي في بيته عريانا إذا أغلق عليه بابه . والستر في الصلاة
عبادة تختص بها ليست لأجل نظر الناس . ولا حاجة إلى الإطناب في هذا . وَالنَّوْمَ
سُبَاتًا أي راحة لأبدانكم بانقطاعكم عن الأشغال . وأصل السبات من التمدد . يقال :
سبتت المرأة شعرها أي نقضته وأرسلته . ورجل مسبوت أي ممدود الخلقة . وقيل : للنوم
سبات لأنه بالتمدد يكون , وفي التمدد معنى الراحة . وقيل : السبت القطع ; فالنوم
انقطاع عن الاشتغال ; ومنه سبت اليهود لانقطاعهم عن الأعمال فيه . وقيل : السبت
الإقامة في المكان ; فكأن السبات سكون ما وثبوت عليه ; فالنوم سبات على معنى أنه
سكون عن الاضطراب والحركة . وقال الخليل : السبات نوم ثقيل ; أي جعلنا نومكم ثقيلا
ليكمل الإجمام والراحة . وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا من الانتشار للمعاش ; أي
النهار سبب الإحياء للانتشار . شبه اليقظة فيه بتطابق الإحياء مع الإماتة . وكان عليه
السلام إذا أصبح قال : ( الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ) .
وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمتهعطف على قوله : { يغشي الليل النهار } [
الرعد : 3 ] . ذكر شيئا آخر من نعمه , ودل على وحدانيته وثبوت إلهيته . ورياح جمع
كثرة وأرواح جمع قلة . وأصل ريح روح . وقد خطئ من قال في جمع القلة أرياح .{ بشرا }
فيه سبع قراءات : قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو }{ نشرا }{ بضم النون والشين جمع ناشر
على معنى النسب , أي ذات نشر ; فهو مثل شاهد وشهد . ويجوز أن يكون جمع نشور كرسول
ورسل . يقال : ريح النشور إذا أتت من هاهنا وهاهنا . والنشور بمعنى المنشور ;
كالركوب بمعنى المركوب . أي وهو الذي يرسل الرياح منشرة . وقرأ الحسن وقتادة }{ نشرا
{ بضم النون وإسكان الشين مخففا من نشر ; كما يقال : كتب ورسل . وقرأ الأعمش وحمزة
{ نشرا }{ بفتح النون وإسكان الشين على المصدر , أعمل فيه معنى ما قبله ; كأنه قال :
وهو الذي ينشر الرياح نشرا . نشرت الشيء فانتشر , فكأنها كانت مطوية فنشرت عند
الهبوب . ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال من الرياح ; كأنه قال يرسل الرياح
منشرة , أي محيية ; من أنشر الله الميت فنشر , كما تقول أتانا ركضا , أي راكضا .
وقد قيل : إن نشرا ( بالفتح ) من النشر الذي هو خلاف الطي على ما ذكرنا . كأن الريح
في سكونها كالمطوية ثم ترسل من طيها ذلك فتصير كالمنفتحة . وقد فسره أبو عبيد بمعنى
متفرقة في وجوهها , على معنى ينشرها هاهنا وهاهنا . وقرأ عاصم : { بشرا }{ بالباء
وإسكان الشين والتنوين جمع بشير , أي الرياح تبشر بالمطر . وشاهده قوله : { ومن
آياته أن يرسل الرياح مبشرات } . وأصل الشين الضم , لكن سكنت تخفيفا كرسل ورسل .
وروي عنه }{ بشرا }{ بفتح الباء . قال النحاس : ويقرأ }{ بشرا }{ و }{ بشر مصدر بشره
يبشره بمعنى بشره }{ فهذه خمس قراءات . وقرأ محمد اليماني }{ بشرى }{ على وزن حبلى .
وقراءة سابعة }{ بشرى }{ بضم الباء والشين . وأنزلنا من السماء ماء طهورافيه خمس عشرة
مسألة : الأولى : قوله تعالى : { ماء طهورا }{ يتطهر به ; كما يقال : وضوء للماء
الذي يتوضأ به . وكل طهور طاهر وليس كل طاهر طهورا . فالطهور ( بفتح الطاء ) الاسم
. وكذلك الوضوء والوقود . وبالضم المصدر , وهذا هو المعروف في اللغة ; قاله ابن
الأنباري . فبين أن الماء المنزل من السماء طاهر في نفسه مطهر لغيره ; فإن الطهور
بناء مبالغة في طاهر وهذه المبالغة اقتضت أن يكون طاهرا مطهرا . وإلى هذا مذهب
الجمهور . وقيل : إن }{ طهورا }{ بمعنى طاهر ; وهو قول أبي حنيفة ; وتعلق بقوله تعالى
: { وسقاهم ربهم شرابا طهورا } [ الإنسان : 21 ] يعني طاهرا . ويقول الشاعر : خليلي
هل في نظرة بعد توبة أداوي بها قلبي علي فجور إلى رجح الأكفال غيد من الظبا عذاب
الثنايا ريقهن طهور فوصف الريق بأنه طهور وليس بمطهر . وتقول العرب : رجل نئوم وليس
ذلك بمعنى أنه منيم لغيره , وإنما يرجع ذلك إلى فعل نفسه . ولقد أجاب علماؤنا عن
هذا فقالوا : وصف شراب الجنة بأنه طهور يفيد التطهير عن أوضار الذنوب وعن خسائس
الصفات كالغل والحسد , فإذا شربوا هذا الشراب يطهرهم الله من رحض الذنوب وأوضار
الاعتقادات الذميمة , فجاءوا الله بقلب سليم , ودخلوا الجنة بصفات التسليم , وقيل
لهم حينئذ : { سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } [ الزمر : 73 ] . ولما كان حكمه
في الدنيا بزوال حكم الحدث بجريان الماء على الأعضاء كانت تلك حكمته في الآخرة .
وأما قول الشاعر : ريقهن طهور فإنه قصد بذلك المبالغة في وصف الريق بالطهورية
لعذوبته وتعلقه بالقلوب , وطيبه في النفوس , وسكون غليل المحب برشفه حتى كأنه الماء
الطهور , وبالجملة فإن الأحكام الشرعية لا تثبت بالمجازاة الشعرية ; فإن الشعراء
يتجاوزون في الاستغراق حد الصدق إلى الكذب , ويسترسلون في القول حتى يخرجهم ذلك إلى
البدعة والمعصية , وربما وقعوا في الكفر من حيث لا يشعرون . ألا ترى إلى قول بعضهم
: ولو لم تلامس صفحة الأرض رجلها لما كنت أدري علة للتيمم وهذا كفر صراح , نعوذ
بالله منه . قال القاضي أبو بكر بن العربي : هذا منتهى لباب كلام العلماء , وهو
بالغ في فنه ; إلا أني تأملت من طريق العربية فوجدت فيه مطلعا مشرقا , وهو أن بناء
فعول للمبالغة , إلا أن المبالغة قد تكون في الفعل . المتعدي كما قال الشاعر : ضروب
بنصل السيف سوق سمانها وقد تكون في الفعل القاصر كما قال الشاعر : نئوم الضحى لم
تنتطق عن تفضل وإنما تؤخذ طهورية الماء لغيره من الحسن نظافة ومن الشرع طهارة ;
كقوله عليه السلام : ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور ) . وأجمعت الأمة لغة وشريعة
على أن وصف طهور يختص بالماء فلا يتعدى إلى سائر المائعات وهي طاهرة ; فكان
اقتصارهم بذلك على الماء أدل دليل على أن الطهور هو المطهر , وقد يأتي فعول لوجه
آخر ليس من هذا كله وهو العبارة به عن الآلة للفعل لا عن الفعل كقولنا : وقود وسحور
بفتح الفاء , فإنها عبارة عن الحطب والطعام المتسحر به ; فوصف الماء بأنه طهور (
بفتح الطاء ) أيضا يكون خبرا عن الآلة التي يتطهر بها . فإذا ضمت الفاء في الوقود
والسحور والطهور عاد إلى الفعل وكان خبرا عنه . فثبت بهذا أن اسم الفعول ( بفتح
الفاء ) يكون بناء للمبالغة ويكون خبرا عن الآلة , وهو الذي خطر ببال الحنفية ,
ولكن قصرت أشداقها عن لوكه , وبعد هذا يقف البيان عن المبالغة وعن الآلة على الدليل
بقوله تعالى : { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } . وقوله عليه السلام : ( جعلت لي
الأرض مسجدا وطهورا ) يحتمل المبالغة ويحتمل العبارة به عن الآلة ; فلا حجة فيه
لعلمائنا , لكن يبقى قول }{ ليطهركم به } [ الأنفال : 11 ] نص في أن فعله يتعدى إلى
غيره . الثانية : المياه المنزلة من السماء والمودعة في الأرض طاهرة مطهرة على
اختلاف ألوانها وطعومها وأرياحها حتى يخالطها غيرها , والمخالط للماء على ثلاثة
أضرب ضرب يوافقه في صفتيه جميعا , فإذا خالطه فغيره لم يسلبه وصفا منهما لموافقته
لهما وهو التراب . والضرب الثاني يوافقه في إحدى صفتيه وهي الطهارة , فإذا خالطه
غيره سلبه ما خالفه فيه وهو التطهير ; كماء الورد وسائر الطاهرات . والضرب الثالث
يخالفه في الصفتين جميعا , فإذا خالطه غيره سلبه الصفتين جميعا لمخالفته له فيهما
وهو النجس . الثالثة : ذهب المصريون من أصحاب مالك إلى أن قليل الماء يفسده قليل
النجاسة , وأن الكثير لا يفسده إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه من المحرمات . ولم
يحدوا بين القليل والكثير حدا يوقف عنده , إلا أن ابن القاسم روى عن مالك في ,
الجنب يغتسل في حوض من الحياض التي تسقى فيها الدواب , ولم يكن غسل ما به من الأذى
أنه قد أفسد الماء ; وهو مذهب ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم ومن اتبعهم من
المصريين . إلا ابن وهب فإنه يقول في الماء بقول المدنيين من أصحاب مالك . وقولهم
ما حكاه أبو مصعب عنهم وعنه : أن الماء لا تفسده النجاسة الحالة فيه قليلا كان أو
كثيرا إلا أن تظهر فيه النجاسة الحالة فيه وتغير منه طعما أو ريحا أو لونا . وذكر
أحمد بن المعدل أن هذا قول مالك بن أنس في الماء . وإلى هذا ذهب إسماعيل بن إسحاق
ومحمد بن بكير وأبو الفرج الأبهري وسائر المنتحلين لمذهب مالك , من البغداديين ;
وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد والحسن بن صالح وداود بن علي . وهو مذهب أهل البصرة
, وهو الصحيح في النظر وجيد الأثر . وقال أبو حنيفة : إذا وقعت نجاسة في الماء
أفسدته كثيرا كان أو قليلا إذا تحققت عموم النجاسة فيه . ووجه تحققها عنده أن تقع
مثلا نقطة بول في بركة , فإن كانت البركة يتحرك طرفاها بتحرك أحدهما فالكل نجس ,
وإن كانت حركة أحد الطرفين لا تحرك الآخر لم ينجس . وفي المجموعة نحو مذهب أبي
حنيفة . وقال الشافعي بحديث القلتين , وهو حديث مطعون فيه ; اختلف في إسناده ومتنه
; أخرجه أبو داود والترمذي وخاصة الدارقطني , فإنه صدر به كتابه وجمع طرقه . قال
ابن العربي : وقد رام الدارقطني على إمامته أن يصحح حديث القلتين فلم يقدر . وقال
أبو عمر بن عبد البر : وأما ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين فمذهب ضعيف من جهة
النظر , غير ثابت في الأثر ; لأنه قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل , ولأن
القلتين لا يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع , فلو كان ذلك حدا لازما
لوجب على العلماء البحث عنه ليقفوا على حد ما حده النبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه
من أصل دينهم وفرضهم , ولو كان ذلك كذلك ما ضيعوه , فلقد بحثوا عما هو أدون من ذلك
وألطف . قلت : وفيما ذكر ابن المنذر في القلتين من الخلاف يدل على عدم التوقيف
فيهما والتحديد . وفي سنن الدارقطني عن حماد بن زيد عن عاصم بن المنذر قال : القلال
الخوابي العظام . وعاصم هذا هو أحد رواة حديث القلتين . ويظهر من قول الدارقطني
أنها مثل قلال هجر ; لسياقه حديث الإسراء عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : ( لما رفعت إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها مثل قلال هجر
وورقها مثل آذان الفيلة )