يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ سورة الأحزاب مدنية في قول جميعهم . نزلت في
المنافقين وإيذائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم , وطعنهم فيه وفي مناكحته وغيرها
. وهي ثلاث وسبعون آية . وكانت هذه السورة تعدل سورة البقرة . وكانت فيها آية الرجم :
( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ) ; ذكره
أبو بكر الأنباري عن أبي بن كعب . وهذا يحمله أهل العلم على أن الله تعالى رفع من
الأحزاب إليه ما يزيد على ما في أيدينا , وأن آية الرجم رفع لفظها . وقد حدثنا أحمد
بن الهيثم بن خالد قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثنا ابن أبي مريم عن
ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتي آية , فلما كتب المصحف لم يقدر منها إلا على ما
هي الآن . قال أبو بكر : فمعنى هذا من قول أم المؤمنين عائشة : أن الله تعالى رفع
إليه من سورة الأحزاب ما يزيد على ما عندنا . قلت : هذا وجه من وجوه النسخ , وقد
تقدم في }{ البقرة }{ القول فيه مستوفى والحمد لله . وروى زر قال قال لي أبي بن كعب :
كم تعدون سورة الأحزاب ؟ قلت ثلاثا وسبعين آية ; قال : فوالذي يحلف به أبي بن كعب
أن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول , ولقد قرأنا منها آية الرجم : الشيخ والشيخة
إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم . أراد أبي أن ذلك من جملة
ما نسخ من القرآن . وأما ما يحكى من أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة
فأكلتها الداجن فمن تأليف الملاحدة والروافض . ضمت }{ أي }{ لأنه نداء مفرد ,
والتنبيه لازم لها . و }{ النبي }{ نعت لأي عند النحويين ; إلا الأخفش فإنه يقول : إنه
صلة لأي . مكي : ولا يعرف في كلام العرب اسم مفرد صلة لشيء . النحاس : وهو خطأ عند
أكثر النحويين ; لأن الصلة لا تكون إلا جملة , والاحتيال له فيما قال إنه لما كان
نعتا لازما سمي صلة ; وهكذا الكوفيون يسمون نعت النكرة صلة لها . ولا يجوز نصبه على
الموضع عند أكثر النحويين . وأجازه المازني , جعله كقولك : يا زيد الظريف , بنصب }
الظريف }{ على موضع زيد . مكي : وهذا نعت يستغنى عنه , ونعت }{ أي }{ لا يستغنى عنه فلا
يحسن نصبه على الموضع . وأيضا فإن نعت }{ أي }{ هو المنادى في المعنى فلا يحسن نصبه
. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام اليهود
: قريظة والنضير وبني قينقاع ; وقد تابعه ناس منهم على النفاق , فكان يلين لهم
جانبه ; ويكرم صغيرهم وكبيرهم , وإذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه , وكان يسمع منهم ;
فنزلت . وقيل ; إنها نزلت فيما ذكر الواحدي والقشيري والثعلبي والماوردي وغيرهم في
أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور عمرو بن سفيان , نزلوا المدينة على
عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين بعد أحد , وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه
وسلم الأمان على أن يكلموه , فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق
, فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده عمر بن الخطاب : ارفض ذكر آلهتنا اللات
والعزى ومناة , وقل إن لها شفاعة ومنعة لمن عبدها , وندعك وربك . فشق على النبي صلى
الله عليه وسلم ما قالوا . فقال عمر : يا رسول الله ائذن لي في قتلهم . فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : ( إني قد أعطيتهم الأمان ) فقال عمر : اخرجوا في لعنة الله
وغضبه . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من المدينة ; فنزلت الآية .{ يا
أيها النبي اتق الله }{ أي خف الله . اللهَ وَلَا تُطِعِ من أهل مكة , يعني أبا
سفيان وأبا الأعور وعكرمة . الْكَافِرِينَ من أهل المدينة , يعني عبد الله بن أبي
وطعمة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح فيما نهيت عنه , ولا تمل إليهم
. وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ بكفرهمعَلِيمًا فيما يفعل بهم . الزمخشري :
وروي أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا على النبي
صلى الله عليه وسلم في الموادعة التي كانت بينه وبينهم , وقام معهم عبد الله بن أبي
ومعتب بن قشير والجد بن قيس , فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ارفض ذكر
آلهتنا . وذكر الخبر بمعنى ما تقدم . وأن الآية نزلت في نقض العهد ونبذ الموادعة .{ ولا تطع الكافرين }{ من أهل مكة .{ والمنافقين }{ من أهل المدينة فيما طلبوا إليك
. وروي أن أهل مكة دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن دينه ويعطوه
شطر أموالهم , ويزوجه شيبة بن ربيعة بنته , وخوفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن
لم يرجع ; فنزلت . النحاس : ودل بقوله }{ إن الله كان عليما حكيما }{ على أنه كان يميل
إليهم استدعاء لهم إلى الإسلام ; أي لو علم الله عز وجل أن ميلك إليهم فيه منفعة
لما نهاك عنه ; لأنه حكيم . ثم قيل : الخطاب له ولأمته .
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعني القرآن . وفيه زجر عن اتباع مراسم
الجاهلية , وأمر بجهادهم ومنابذتهم , وفيه دليل على ترك اتباع الآراء مع وجود النص
. والخطاب له ولأمته . إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا قراءة العامة
بتاء على الخطاب , وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم . وقرأ السلمي وأبو عمرو وابن أبي
إسحاق : { يعملون }{ بالياء على الخبر ; وكذلك في قوله : { بما تعملون بصيرا } [
الفتح : 24 ] .
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ أي اعتمد عليه في كل أحوالك ; فهو الذي يمنعك ولا يضرك
من خذلك . وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا حافظا . وقال شيخ من أهل الشام : قدم على النبي
صلى الله عليه وسلم وفد من ثقيف فطلبوا منه أن يمتعهم باللات سنة - وهي الطاغية
التي كانت ثقيف تعبدها - وقالوا : لتعلم قريش منزلتنا عندك ; فهم النبي صلى الله
عليه وسلم بذلك , فنزلت }{ وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا }{ أي كافيا لك ما تخافه
منهم . و }{ بالله }{ في موضع رفع لأنه الفاعل . و }{ وكيلا }{ نصب على البيان أو الحال .
مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ قال مجاهد : نزلت في رجل
من قريش كان يدعى ذا القلبين من دهائه , وكان يقول : إن لي في جوفي قلبين , أعقل
بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد . قال : وكان من فهر . الواحدي والقشيري وغيرهما :
نزلت في جميل بن معمر الفهري , وكان رجلا حافظا لما يسمع . فقالت قريش : ما يحفظ هذه
الأشياء إلا وله قلبان . وكان يقول : لي قلبان أعقل بهما أفضل من عقل محمد . فلما هزم
المشركون يوم بدر ومعهم جميل بن معمر , رآه أبو سفيان في العير وهو معلق إحدى نعليه
في يده والأخرى في رجله ; فقال أبو سفيان : ما حال الناس ؟ قال انهزموا . قال : فما
بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك ؟ قال : ما شعرت إلا أنهما في رجلي ; فعرفوا
يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده . وقال السهيلي : كان جميل بن معمر
الجمحي , وهو ابن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح , واسم جمح : تيم ; وكان
يدعى ذا القلبين فنزلت فيه الآية , وفيه يقول الشاعر : وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما
قضى وطرا منها جميل بن معمر قلت : كذا قالوا جميل بن معمر . وقال الزمخشري : جميل بن
أسد الفهري . وقال ابن عباس : سببها أن بعض المنافقين قال : إن محمدا له قلبان ;
لأنه ربما كان في شيء فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه الأول ; فقالوا ذلك عنه
فأكذبهم الله عز وجل . وقيل : نزلت في عبد الله بن خطل . وقال الزهري وابن حبان : نزل
ذلك تمثيلا في زيد بن حارثة لما تبناه النبي صلى الله عليه وسلم ; فالمعنى : كما لا
يكون لرجل قلبان كذلك لا يكون ولد واحد لرجلين . قال النحاس : وهذا قول ضعيف لا يصح
في اللغة , وهو من منقطعات الزهري , رواه معمر عنه . وقيل : هو مثل ضرب للمظاهر ; أي
كما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى تكون له أمان . وقيل :
كان الواحد من المنافقين يقول : لي قلب يأمرني بكذا , وقلب يأمرني بكذا ; فالمنافق
ذو قلبين ; فالمقصود رد النفاق . وقيل : لا يجتمع الكفر والإيمان بالله تعالى في قلب
, كما لا يجتمع قلبان في جوف ; فالمعنى : لا يجتمع اعتقادان متغايران في قلب . ويظهر
من الآية بجملتها نفي أشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك الوقت , وإعلام بحقيقة الأمر
, والله أعلم . القلب بضعة صغيرة على هيئة الصنوبرة , خلقها الله تعالى في الآدمي
وجعلها محلا للعلم , فيحصي به العبد من العلوم ما لا يسع في أسفار , يكتبه الله
تعالى فيه بالخط الإلهي , ويضبطه فيه بالحفظ الرباني , حتى يحصيه ولا ينسى منه شيئا
. وهو بين لمتين : لمة من الملك , ولمة من الشيطان ; كما قال صلى الله عليه وسلم
. خرجه الترمذي ; وقد مضى في }{ البقرة } . وهو محل الخطرات والوساوس ومكان الكفر
والإيمان , وموضع الإصرار والإنابة , ومجرى الانزعاج والطمأنينة . والمعنى في الآية
: أنه لا يجتمع في القلب الكفر والإيمان , والهدى والضلال , والإنابة والإصرار ,
وهذا نفي لكل ما توهمه أحد في ذلك من حقيقة أو مجاز , والله أعلم . أعلم الله عز
وجل في هذه الآية أنه لا أحد بقلبين , ويكون في هذا طعن على المنافقين الذين تقدم
ذكرهم ; أي إنما هو قلب واحد , فإما فيه إيمان وإما فيه كفر ; لأن درجة النفاق
كأنها متوسطة , فنفاها الله تعالى وبين أنه قلب واحد . وعلى هذا النحو يستشهد
الإنسان بهذه الآية , متى نسي شيئا أو وهم . يقول على جهة الاعتذار : ما جعل الله
لرجل من قلبين في جوفه . وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ
مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ يعني قول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي . وذلك مذكور
في سورة }{ المجادلة }{ على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى . وَمَا جَعَلَ
أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ أجمع أهل التفسير على أن هذا نزل في زيد بن حارثة
. وروى الأئمة أن ابن عمر قال : ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت
: { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله } [ الأحزاب : 5 ] وكان زيد فيما روي عن أنس
بن مالك وغيره مسبيا من الشأم , سبته خيل من تهامة , فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد
, فوهبه لعمته خديجة فوهبته خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه , فأقام
عنده مدة , ثم جاء عمه وأبوه يرغبان في فدائه , فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم
وذلك قبل البعث : ( خيراه فإن اختاركما فهو لكما دون فداء ) . فاختار الرق مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم على حريته وقومه ; فقال محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
عند ذلك : ( يا معشر قريش اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه ) وكان يطوف على حلق قريش
يشهدهم على ذلك , فرضي ذلك عمه وأبوه وانصرفا . وكان أبوه لما سبي يدور الشأم ويقول
: بكيت على زيد ولم أدر ما فعل أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل فوالله لا أدري وإني
لسائل أغالك بعدي السهل أم غالك الجبل فيا ليت شعري هل لك الدهر أوبة فحسبي من
الدنيا رجوعك لي بجل تذكرنيه الشمس عند طلوعها وتعرض ذكراه إذا غربها أفل وإن هبت
الأرياح هيجن ذكره فيا طول ما حزني عليه وما وجل سأعمل نص العيس في الأرض جاهدا ولا
أسأم التطواف أو تسأم الإبل حياتي أو تأتي علي منيتي فكل امرئ فان وإن غره الأمل
فأخبر أنه بمكة ; فجاء إليه فهلك عنده . وروي أنه جاء إليه فخيره النبي صلى الله
عليه وسلم كما ذكرنا وانصرف . وسيأتي من ذكره وفضله وشرفه شفاء عند قوله : { فلما
قضى زيد منها وطرا زوجناكها } [ الأحزاب : 37 ] إن شاء الله تعالى . وقتل زيد بمؤتة
من أرض الشأم سنة ثمان من الهجرة , وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمره في تلك
الغزاة , وقال : ( إن قتل زيد فجعفر فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة ) . فقتل
الثلاثة في تلك الغزاة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين . ولما أتى رسول الله صلى الله
عليه وسلم نعي زيد وجعفر بكى وقال : ( أخواي ومؤنساي ومحدثاي ) . الأدعياء جمع
الدعي وهو الذي يدعى ابنا لغير أبيه أو يدعي غير أبيه والمصدر الدعوة بالكسر فأمر
تعالى بدعاء الأدعياء إلى آبائهم للصلب فمن جهل ذلك فيه ولم تشتهر أنسابهم كان مولى
وأخا في الدين وذكر الطبري أن أبا بكرة قرأ هذه الآية وقال أنا ممن لا يعرف أبوه
فأنا أخوكم في الدين ومولاكم . قال الراوي عنه : ولو علم - والله - أن أباه حمار
لانتمى إليه ورجال الحديث يقولون في أبي بكرة نفيع بن الحارث . روي في الصحيح عن
سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة كلاهما قال سمعته أذناي ووعاه قلبي محمدا صلى الله عليه
وسلم يقول : ( من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ) . وفي
حديث أبي ذر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو
يعلمه إلا كفر ) . ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ }{ بأفواهكم }{ تأكيد لبطلان
القول ; أي أنه قول لا حقيقة له في الوجود , إنما هو قول لساني فقط . وهذا كما تقول
: أنا أمشي إليك على قدم ; فإنما تريد بذلك المبرة . وهذا كثير . وقد تقدم هذا المعنى
في غير موضع . وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ }{ الحق }{ نعت لمصدر محذوف ; أي يقول
القول الحق . وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ معناه يبين ; فهو يتعدى بغير حرف جر .
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا
آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ قوله تعالى : { ادعوهم
لآبائهم }{ نزلت في زيد بن حارثة , على ما تقدم بيانه . وفي قول ابن عمر : ما كنا
ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد , دليل على أن التبني كان معمولا به في الجاهلية
والإسلام , يتوارث به ويتناصر , إلى أن نسخ الله ذلك بقوله .{ ادعوهم لآبائهم هو
أقسط عند الله }{ أي أعدل . فرفع الله حكم التبني ومنع من إطلاق لفظه , وأرشد بقوله
إلى أن الأولى والأعدل أن ينسب الرجل إلى أبيه نسبا ; فيقال : كان الرجل في
الجاهلية إذا أعجبه من الرجل جلده وظرفه ضمه إلى نفسه , وجعل له نصيب الذكر من
أولاده من ميراثه , وكان ينسب إليه فيقال فلان بن فلان . وقال النحاس : هذه الآية
ناسخة لما كانوا عليه من التبني , وهو من نسخ السنة بالقرآن ; فأمر أن يدعوا من
دعوا إلى أبيه المعروف , فإن لم يكن له أب معروف نسبوه إلى ولائه , فإن لم يكن له
ولاء معروف قال له يا أخي ; يعني في الدين , قال الله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة
" [ الحجرات : 10 ] . وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ
وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ لو نسبه إنسان إلى أبيه من التبني فإن كان
على جهة الخطأ , وهو أن يسبق لسانه إلى ذلك من غير قصد فلا إثم ولا مؤاخذة ; لقوله
تعالى }{ وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم }{ وكذلك لو دعوت رجلا
إلى غير أبيه وأنت ترى أنه أبوه فليس عليك بأس ; قاله قتادة . ولا يجري هذا المجرى
ما غلب عليه اسم التبني كالحال في المقداد بن عمرو فإنه كان غلب عليه نسب التبني ,
فلا يكاد يعرف إلا بالمقداد بن الأسود ; فإن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبناه في
الجاهلية وعرف به . فلما نزلت الآية قال المقداد : أنا ابن عمرو ; ومع ذلك فبقي
الإطلاق عليه . ولم يسمع فيمن مضى من عصى مطلق ذلك عليه وإن كان متعمدا . وكذلك سالم
مولى أبي حذيفة , كان يدعى لأبي حذيفة . وغير هؤلاء ممن تبني وانتسب لغير أبيه وشهر
بذلك وغلب عليه . وذلك بخلاف الحال في زيد بن حارثة ; فإنه لا يجوز أن يقال فيه زيد
بن محمد , فإن قاله أحد متعمدا عصى لقوله تعالى : { ولكن ما تعمدت قلوبكم }{ أي
فعليكم الجناح . والله أعلم . وقد قيل : إن قول الله تبارك وتعالى : { وليس عليكم
جناح فيما أخطأتم }{ مجمل ; أي وليس عليكم جناح في شيء أخطأتم , وكانت فتيا عطاء
وكثير من العلماء . على هذا إذا حلف رجل ألا يفارق غريمه حتى يستوفي منه حقه , فأخذ
منه ما يرى أنه جيد من دنانير فوجدها زيوفا أنه لا شيء عليه . وكذلك عنده إذا حلف
ألا يسلم على فلان فسلم عليه وهو لا يعرفه أنه لا يحنث ; لأنه لم يتعمد ذلك . و }{ ما
{ في موضع خفض ردا على }{ ما }{ التي مع }{ أخطأتم } . ويجوز أن تكون في موضع رفع على
إضمار مبتدإ ; والتقدير : ولكن الذي تؤاخذون به ما تعمدت قلوبكم . قال قتادة وغيره :
من نسب رجلا إلى غير أبيه , وهو يرى أنه أبوه , خطأ فذلك من الذي رفع الله فيه
الجناح . وقيل : هو أن يقول له في المخاطبة : يا بني ; على غير تبن . وَكَانَ اللهُ
غَفُورًا أي }{ غفورا }{ للعمد ,رَحِيمًا برفع إثم الخطأ .
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ هذه الآية أزال الله تعالى
بها أحكاما كانت في صدر الإسلام ; منها : أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على
ميت عليه دين , فلما فتح الله عليه الفتوح قال : ( أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم
فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته ) أخرجه الصحيحان . وفيهما أيضا
( فأيكم ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه ) . قال ابن العربي : فانقلبت الآن الحال
بالذنوب , فإن تركوا مالا ضويق العصبة فيه , وإن تركوا ضياعا أسلموا إليه ; فهذا
تفسير الولاية المذكورة في هذه الآية بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم وتنبيهه ; (
ولا عطر بعد عروس ) . قال ابن عطية : وقال بعض العلماء العارفين : هو أولى بهم من
أنفسهم ; لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك , وهو يدعوهم إلى النجاة . قال ابن عطية :
ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام : ( أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون
فيها تقحم الفراش ) . قلت : هذا قول حسن في معنى الآية وتفسيرها , والحديث الذي ذكر
أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما
مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه وأنا آخذ
بحجزكم وأنتم تقحمون فيه ) . وعن جابر مثله ; وقال : ( وأنتم تفلتون من يدي ) . قال
العلماء الحجزة للسراويل , والمعقد للإزار ; فإذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه
أخذ بذلك الموضع منه . وهذا مثل لاجتهاد نبينا عليه الصلاة والسلام في نجاتنا ,
وحرصه على تخلصنا من الهلكات التي بين أيدينا ; فهو أولى بنا من أنفسنا ; ولجهلنا
بقدر ذلك وغلبة شهواتنا علينا وظفر عدونا اللعين بناصرنا أحقر من الفراش وأذل من
الفراش , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ! وقيل : أولى بهم أي أنه إذا أمر
بشيء ودعت النفس إلى غيره كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم أولى . وقيل أولى بهم أي
هو أولى بأن يحكم على المؤمنين فينفذ حكمه في أنفسهم ; أي فيما يحكمون به لأنفسهم
مما يخالف حكمه . قال بعض أهل العلم : يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين
الفقراء اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ; فإنه قد صرح بوجوب ذلك عليه حيث قال :
( فعلي قضاؤه ) . والضياع ( بفتح الضاد ) مصدر ضاع , ثم جعل اسما لكل ما هو بصدد أن
يضيع من عيال وبنين لا كافل لهم , ومال لا قيم له . وسميت الأرض ضيعة لأنها معرضة
للضياع , وتجمع ضياعا بكسر الضاد . وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ شرف الله تعالى
أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين ; أي في وجوب التعظيم
والمبرة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال , وحجبهن رضي الله تعالى عنهن بخلاف
الأمهات . وقيل : لما كانت شفقتهن عليهم كشفقة الأمهات أنزلن منزلة الأمهات , ثم هذه
الأمومة لا توجب ميراثا كأمومة التبني . وجاز تزويج بناتهن , ولا يجعلن أخوات للناس
. وسيأتي عدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آية التخيير إن شاء الله تعالى
. واختلف الناس هل هن أمهات الرجال والنساء أم أمهات الرجال خاصة ; على قولين : فروى
الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لها : يا أمة ; فقالت لها :
لست لك بأم , إنما أنا أم رجالكم . قال ابن العربي : وهو الصحيح . قلت : لا فائدة في
اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء , والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال
والنساء ; تعظيما لحقهن على الرجال والنساء . يدل عليه صدر الآية : { النبي أولى
بالمؤمنين من أنفسهم } , وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة . ويدل على ذلك حديث أبي
هريرة وجابر ; فيكون قوله : { وأزواجه أمهاتهم }{ عائدا إلى الجميع . ثم إن في مصحف
أبي بن كعب }{ وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم } . وقرأ ابن عباس : { من أنفسهم وهو أب
لهم وأزواجه أمهاتهم } . وهذا كله يوهن ما رواه مسروق إن صح من جهة الترجيح , وإن لم
يصح فيسقط الاستدلال به في التخصيص , وبقينا على الأصل الذي هو العموم الذي يسبق
إلى الفهوم . والله أعلم . اختلف في كونهن كالأمهات في المحرم وإباحة النظر ; على
وجهين : أحدهما : هن محرم , لا يحرم النظر إليهن . الثاني : أن النظر إليهن محرم ,
لأن تحريم نكاحهن إنما كان حفظا لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهن , وكان من
حفظ حقه تحريم النظر إليهن ; ولأن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت دخول رجل
عليها أمرت أختها أسماء أن ترضعه ليصير ابنا لأختها من الرضاعة , فيصير محرما
يستبيح النظر . وأما اللاتي طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فقد اختلف
في ثبوت هذه الحرمة لهن على ثلاثة أوجه : أحدها : ثبتت لهن هذه الحرمة تغليبا لحرمة
رسول الله صلى الله عليه وسلم . الثاني : لا يثبت لهن ذلك , بل هن كسائر النساء ;
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت عصمتهن , وقال : ( أزواجي في الدنيا هن
أزواجي في الآخرة ) . الثالث : من دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن ثبتت
حرمتها وحرم نكاحها وإن طلقها ; حفظا لحرمته وحراسة لخلوته . ومن لم يدخل بها لم
تثبت لها هذه الحرمة ; وقد هم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه برجم امرأة فارقها
رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجت فقالت : لم هذا ! وما ضرب علي رسول الله صلى
الله عليه وسلم حجابا ولا سميت أم المؤمنين ; فكف عنها عمر رضي الله عنه . قال قوم
: لا يجوز أن يسمى النبي صلى الله عليه وسلم أبا لقوله تعالى : { ما كان محمد أبا
أحد من رجالكم } [ الأحزاب : 40 ] . ولكن يقال : مثل الأب للمؤمنين ; كما قال : (
إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم .. .) الحديث . خرجه أبو داود . والصحيح أنه يجوز
أن يقال : إنه أب للمؤمنين , أي في الحرمة , وقوله تعالى : { ما كان محمد أبا أحد
من رجالكم } [ الأحزاب : 40 ] أي في النسب . وسيأتي . وقرأ ابن عباس : { من أنفسهم
وهو أب لهم وأزواجه } . وسمع عمر هذه القراءة فأنكرها وقال : حكمها يا غلام ؟ فقال :
إنها في مصحف أبي ; فذهب إليه فسأله فقال له أبي : إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك
الصفق بالأسواق ؟ وأغلظ لعمر . وقد قيل في قول لوط عليه السلام }{ هؤلاء بناتي } [
الحجر : 71 ] : إنما أراد المؤمنات ; أي تزوجوهن . وقد تقدم . قال قوم : لا يقال
بناته أخوات المؤمنين , ولا أخوالهن أخوال المؤمنين وخالاتهم . قال الشافعي رضي الله
عنه : تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر الصديق وهي أخت عائشة , ولم يقل هي خالة
المؤمنين . وأطلق قوم هذا وقالوا : معاوية خال المؤمنين ; يعني في الحرمة لا في
النسب . وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ قيل : إنه أراد بالمؤمنين الأنصار ,
وبالمهاجرين قريشا . وفيه قولان : أحدهما : أنه ناسخ للتوارث بالهجرة . حكى سعيد عن
قتادة قال : كان نزل في سورة الأنفال }{ والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم
من شيء يهاجروا } [ الأنفال : 72 ] فتوارث المسلمون بالهجرة ; فكان لا يرث الأعرابي
المسلم من قريبه المسلم المهاجر شيئا حتى يهاجر , ثم نسخ ذلك في هذه السورة بقوله :
{ وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } . الثاني : أن ذلك ناسخ للتوارث بالحلف والمؤاخاة
في الدين ; روى هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض
في كتاب الله }{ وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا , فوجدنا
الأنصار نعم الإخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم ; فآخى أبو بكر خارجة بن زيد ,
وآخيت أنا كعب بن مالك , فجئت فوجدت السلاح قد أثقله ; فوالله لقد مات عن الدنيا ما
ورثه غيري , حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فرجعنا إلى موارثنا . وثبت عن عروة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين الزبير وبين كعب بن مالك , فارتث كعب يوم أحد
فجاء الزبير يقوده بزمام راحلته ; فلو مات يومئذ كعب عن الضح والريح لورثه الزبير ,
فأنزل الله تعالى : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } . فبين الله
تعالى أن القرابة أولى من الحلف , فتركت الوراثة بالحلف وورثوا بالقرابة . وقد مضى
في }{ الأنفال }{ الكلام في توريث ذوي الأرحام . وقوله : { في كتاب الله }{ يحتمل أن
يريد القرآن , ويحتمل أن يريد اللوح المحفوظ الذي قضى فيه أحوال خلقه . و }{ من
المؤمنين }{ متعلق ب }{ أولى }{ لا بقوله : { وأولو الأرحام }{ بالإجماع ; لأن ذلك كان
يوجب تخصيصا ببعض المؤمنين , ولا خلاف في عمومها , وهذا حل إشكالها ; قاله ابن
العربي . النحاس : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين
والمهاجرين }{ يجوز أن يتعلق }{ من المؤمنين }{ ب }{ أولو }{ فيكون التقدير : وأولو
الأرحام من المؤمنين والمهاجرين . ويجوز أن يكون المعنى أولى من المؤمنين . وقال
المهدوي : وقيل إن معناه : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إلا ما يجوز
لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعين أمهات المؤمنين . والله تعالى أعلم
. إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا يريد الإحسان في الحياة
, والوصية عند الموت ; أي أن ذلك جائز ; قاله قتادة والحسن وعطاء . وقال محمد بن
الحنفية , نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني ; أي يفعل هذا مع الولي والقريب
وإن كان كافرا ; فالمشرك ولي في النسب لا في الدين فيوصى له بوصية . واختلف العلماء
هل يجعل الكافر وصيا ; فجوز بعض ومنع بعض . ورد النظر إلى السلطان في ذلك بعض ; منهم
مالك رحمه الله تعالى . وذهب مجاهد وابن زيد والرماني إلى أن المعنى : إلى أوليائكم
من المؤمنين . ولفظ الآية يعضد هذا المذهب , وتعميم الولي أيضا حسن . وولاية النسب لا
تدفع الكافر , وإنما تدفع أن يلقى إليه بالمودة كولي الإسلام . كَانَ ذَلِكَ فِي
الْكِتَابِ مَسْطُورًا }{ الكتاب }{ يحتمل الوجهين المذكورين المتقدمين في }{ كتاب
الله } . و }{ مسطورا }{ من قولك سطرت الكتاب إذا أثبته أسطارا . وقال قتادة : أي
مكتوبا عند الله عز وجل ألا يرث كافر مسلما . قال قتادة : وفي بعض القراءة }{ كان ذلك
عند الله مكتوبا } . وقال القرظي : كان ذلك في التوراة .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ أي عهدهم على الوفاء بما حملوا ,
وأن يبشر بعضهم ببعض , ويصدق بعضهم بعضا ; أي كان مسطورا حين كتب الله ما هو كائن ,
وحين أخذ الله تعالى المواثيق من الأنبياء . وَمِنْكَ يا محمدوَمِنْ نُوحٍ
وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وإنما خص هؤلاء الخمسة وإن دخلوا
في زمرة النبيين تفضيلا لهم . وقيل : لأنهم أصحاب الشرائع والكتب , وأولو العزم من
الرسل وأئمة الأمم . ويحتمل أن يكون هذا تعظيما في قطع الولاية بين المسلمين
والكافرين ; أي هذا مما لم تختلف فيه الشرائع , أي شرائع الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام . أي كان في ابتداء الإسلام توارث بالهجرة , والهجرة سبب متأكد في الديانة ,
ثم توارثوا بالقرابة مع الإيمان وهو سبب وكيد ; فأما التوارث بين مؤمن وكافر فلم
يكن في دين أحد من الأنبياء الذين أخذ عليهم المواثيق ; فلا تداهنوا في الدين ولا
تمالئوا الكفار . ونظيره : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا }{ إلى قوله }{ ولا
تتفرقوا فيه } [ الشورى : 13 ] . ومن ترك التفرق في الدين ترك موالاة الكفار . وقيل :
أي النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم كان ذلك في الكتاب مسطورا ومأخوذا به المواثيق
من الأنبياء . وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا أي عهدا وثيقا عظيما على
الوفاء بما التزموا من تبليغ الرسالة , وأن يصدق بعضهم بعضا . والميثاق هو اليمين
بالله تعالى ; فالميثاق الثاني تأكيد للميثاق الأول باليمين . وقيل : الأول هو
الإقرار بالله تعالى , والثاني في أمر النبوة . ونظير هذا قوله تعالى : { وإذ أخذ
الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن
به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري } [ آل عمران : 81 ] الآية . أي أخذ
عليهم أن يعلنوا أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم , ويعلن محمد صلى الله عليه
وسلم أن لا نبي بعده . وقدم محمدا في الذكر لما روى قتادة عن الحسن عن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى }{ وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم
ومنك ومن نوح }{ قال : ( كنت أولهم في الخلق وآخرهم في البعث ) . وقال مجاهد : هذا في
ظهر آدم عليه الصلاة والسلام .
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ فيه أربعة أوجه : أحدها : ليسأل الأنبياء
عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم ; حكاه النقاش . وفي هذا تنبيه ; أي إذا كان الأنبياء
يسألون فكيف من سواهم . الثاني : ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم ; حكاه علي بن
عيسى . الثالث : ليسأل الأنبياء عليهم السلام عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم ;
حكاه ابن شجرة . الرابع : ليسأل الأفواه الصادقة عن القلوب المخلصة , وفي التنزيل :
{ فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } [ الأعراف : 6 ] . وقد تقدم . وقيل :
فائدة سؤالهم توبيخ الكفار ; كما قال تعالى : { أأنت قلت للناس } [ المائدة : 116 ]
. وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا وهو عذاب جهنم .
يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة اللهيعني غزوة الخندق والأحزاب وبني قريظة , وكانت
حالا شديدة معقبة بنعمة ورخاء وغبطة , وتضمنت أحكاما كثيرة وآيات باهرات عزيزة ,
ونحن نذكر من ذلك بعون الله تعالى ما يكفي في عشر مسائل . الأولى : اختلف في أي سنة
كانت ; فقال ابن إسحاق : كانت في شوال من السنة الخامسة . وقال ابن وهب وابن القاسم
عن مالك رحمه الله : كانت وقعة الخندق سنة أربع , وهي وبنو قريظة في يوم واحد ,
وبين بني قريظة والنضير أربع سنين . قال ابن وهب وسمعت مالكا يقول : أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالقتال من المدينة , وذلك قوله تعالى : { إذ جاءوكم من فوقكم
ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر } [ الأحزاب : 10 ] . قال :
ذلك يوم الخندق , جاءت قريش من هاهنا واليهود من هاهنا والنجدية من هاهنا . يريد
مالك : إن الذين جاءوا من فوقهم بنو قريظة , ومن أسفل منهم قريش وغطفان . وكان
سببها : أن نفرا من اليهود منهم كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وسلام بن أبي الحقيق
وسلام بن مشكم وحيي بن أخطب النضريون وهوذة بن قيس وأبو عمار من بني وائل , وهم
كلهم يهود , هم الذين حزبوا الأحزاب وألبوا وجمعوا , خرجوا في نفر من بني النضير
ونفر من بني وائل فأتوا مكة فدعوا إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم , وواعدوهم
من أنفسهم بعون من انتدب إلى ذلك ; فأجابهم أهل مكة إلى ذلك , ثم خرج اليهود
المذكورون إلى غطفان فدعوهم إلى مثل ذلك فأجابوهم ; فخرجت قريش يقودهم أبو سفيان بن
حرب , وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري على فزارة ,
والحارث بن عوف المري على بني مرة , ومسعود بن رخيلة على أشجع . فلما سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم باجتماعهم وخروجهم شاور أصحابه , فأشار عليه سلمان بحفر الخندق
فرضي رأيه . وقال المهاجرون يومئذ : سلمان منا . وقال الأنصار : سلمان منا ! فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سلمان منا أهل البيت ) . وكان الخندق أول مشهد
شهده سلمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ حر . فقال : يا رسول الله ,
إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا ; فعمل المسلمون في الخندق مجتهدين , ونكص
المنافقون وجعلوا يتسللون لواذا فنزلت فيهم آيات من القرآن ذكرها ابن إسحاق وغيره .
وكان من فرغ من المسلمين من حصته عاد إلى غيره , حتى كمل الخندق . وكانت فيه آيات
بينات وعلامات للنبوات . قلت : ففي هذا الذي ذكرناه من هذا الخبر من الفقه وهي
:الثانية : مشاورة السلطان أصحابه وخاصته في أمر القتال ; وقد مضى ذلك في }{ آل
عمران , والنمل } . وفيه التحصن من العدو بما أمكن من الأسباب واستعمالها ; وقد مضى
ذلك في غير موضع . وفيه أن حفر الخندق يكون مقسوما على الناس ; فمن فرغ منهم عاون
من لم يفرغ , فالمسلمون يد على من سواهم ; وفي البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال
: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب
الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه , وكان كثير الشعر , فسمعته يرتجز بكلمات ابن
رواحة ويقول : اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا وأما ما كان فيه من الآيات وهي :الثالثة : فروى النسائي عن
أبي سكينة رجل من المحررين عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لما
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر
, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول ووضع رداءه ناحية الخندق وقال : { وتمت كلمة ربك صدقا } [ الأنعام : 115 ] الآية ; فندر ثلث الحجر وسلمان الفارسي
قائم ينظر , فبرق مع ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم برقة , ثم ضرب الثانية وقال
: { وتمت } [ الأنعام : 115 ] الآية ; فندر الثلث الآخر ; فبرقت برقة فرآها سلمان ,
ثم ضرب الثالثة وقال : { وتمت كلمة ربك صدقا }{ الآية ; فندر الثلث الباقي , وخرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رداءه وجلس . قال سلمان : يا رسول الله , رأيتك
حين ضربت ! ما تضرب ضربة إلا كانت معها برقة ؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
: ( رأيت ذلك يا سلمان ) ؟ فقال : أي والذي بعثك بالحق يا رسول الله ! قال : ( فإني
حين ضربت الضربة الأولى رفعت لي مدائن كسرى وما حولها ومدائن كثيرة حتى رأيتها
بعيني - قال له من حضره من أصحابه : يا رسول الله , ادع الله أن يفتحها علينا
ويغنمنا ذراريهم ويخرب بأيدينا بلادهم ; فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم
ضربت الضربة الثانية فرفعت لي مدائن قيصر وما حولها حتى رأيتها بعيني - قالوا : يا
رسول الله , ادع الله تعالى أن يفتحها علينا ويغنمنا ذراريهم ويخرب بأيدينا بلادهم
; فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم ضرب الضربة الثالثة فرفعت لي مدائن
الحبشة وما حولها من القرى حتى رأيتها بعيني - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
عند ذلك : دعوا الحبشة ما ودعوكم واتركوا الترك ما تركوكم ) . وخرجه أيضا عن البراء
قال : لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحفر الخندق عرض لنا صخرة لا تأخذ
فيها المعاول , فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ; فجاء رسول الله صلى
الله عليه وسلم فألقى ثوبه وأخذ المعول وقال : ( باسم الله ) فضرب ضربة فكسر ثلث
الصخرة ثم قال : ( الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر إلى قصورها
الحمراء الآن من مكاني هذا ) قال : ثم ضرب أخرى وقال : ( باسم الله ) فكسر ثلثا آخر
ثم قال : ( الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض ) . ثم
ضرب الثالثة وقال : ( باسم الله ) فقطع الحجر وقال : ( الله أكبر أعطيت مفاتيح
اليمن والله إني لأبصر باب صنعاء ) . صححه أبو محمد عبد الحق . الرابعة : فلما فرغ
رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفر الخندق أقبلت قريش في نحو عشرة آلاف بمن معهم
من كنانة وأهل تهامة , وأقبلت غطفان بمن معها من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد ,
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى نزلوا بظهر سلع في ثلاثة آلاف
وضربوا عسكرهم والخندق بينهم وبين المشركين , واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم -
في قول ابن شهاب - وخرج عدو الله حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي ,
وكان صاحب عقد بني قريظة ورئيسهم , وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعاهده ; فلما سمع كعب بن أسد حيي بن أخطب أغلق دونه باب حصنه وأبى أن يفتح له ;
فقال له : افتح لي يا أخي ; فقال له : لا أفتح لك , فإنك رجل مشئوم , تدعوني إلى
خلاف محمد وأنا قد عاقدته وعاهدته , ولم أر منه إلا وفاء وصدقا , فلست بناقض ما
بيني وبينه . فقال حيي : افتح لي حتى أكلمك وأنصرف عنك ; فقال : لا أفعل ; فقال :
إنما تخاف أن آكل معك جشيشتك ; فغضب كعب وفتح له ; فقال : يا كعب ! إنما جئتك بعز
الدهر , جئتك بقريش وسادتها , وغطفان وقادتها ; قد تعاقدوا على أن يستأصلوا محمدا
ومن معه ; فقال له كعب : جئتني والله بذل الدهر وبجهام لا غيث فيه ! ويحك يا حيي ؟
دعني فلست بفاعل ما تدعوني إليه ; فلم يزل حيي بكعب يعده ويغره حتى رجع إليه وعاقده
على خذلان محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأن يسير معهم , وقال له حيي بن أخطب :
إن انصرفت قريش وغطفان دخلت عندك بمن معي من اليهود . فلما انتهى خبر كعب وحيي إلى
النبي صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج , وسيد الأوس سعد بن
معاذ , وبعث معهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير , وقال لهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم : ( انطلقوا إلى بني قريظة فإن كان ما قيل لنا حقا فالحنوا لنا لحنا ولا
تفتوا في أعضاد الناس . وإن كان كذبا فاجهروا به للناس ) فانطلقوا حتى أتوهم
فوجدوهم على أخبث ما قيل لهم عنهم , ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا
: لا عهد له عندنا ; فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه ; وكانت فيه حدة فقال له سعد بن
عبادة : دع عنك مشاتمتهم , فالذي بيننا وبينهم أكثر من ذلك , ثم أقبل سعد وسعد حتى
أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة المسلمين فقالا : عضل والقارة - يعرضان
بغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه - فقال النبي صلى الله عليه وسلم . (
أبشروا يا معشر المسلمين ) وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف , وأتى المسلمين عدوهم
من فوقهم ; يعني من فوق الوادي من قبل المشرق , ومن أسفل منهم من بطن الوادي من قبل
المغرب , حتى ظنوا بالله الظنون ; وأظهر المنافقون كثيرا مما كانوا يسرون , فمنهم
من قال : إن بيوتنا عورة , فلننصرف إليها , فإنا نخاف عليها ; وممن قال ذلك : أوس
بن قيظي . ومنهم من قال : يعدنا محمد أن يفتح كنوز كسرى وقيصر , وأحدنا اليوم لا
يأمن على نفسه يذهب إلى الغائط ! وممن قال ذلك : معتب بن قشير أحد بني عمرو بن عوف
. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام المشركون بضعا وعشرين ليلة قريبا من
شهر لم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى . فلما رأى رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه اشتد على المسلمين البلاء بعث إلى عيينة بن حصن الفزاري , وإلى الحارث بن
عوف المري , وهما قائدا غطفان , فأعطاهما ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما من
غطفان ويخذلا قريشا ويرجعا بقومهما عنهم . وكانت هذه المقالة مراوضة ولم تكن عقدا ;
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما أنهما قد أنابا ورضيا أتى سعد بن معاذ
وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما فقالا : يا رسول الله , هذا أمر تحبه
فنصنعه لك , أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع , أو أمر تصنعه لنا ؟ قال : ( بل
أمر أصنعه لكم , والله ما أصنعه إلا أني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة )
فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله , والله لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك
بالله وعبادة الأوثان , لا نعبد الله ولا نعرفه , وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة
إلا شراء أو قرى , فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا !
والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم ! ! فسر رسول الله صلى الله
عليه وسلم بذلك وقال : ( أنتم وذاك ) . وقال لعيينة والحارث : ( انصرفا فليس لكما
عندنا إلا السيف ) . وتناول سعد الصحيفة وليس فيها شهادة فمحاها . الخامسة : فأقام
رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون على حالهم , والمشركون يحاصرونهم ولا قتال
بينهم ; إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود العامري من بني عامر بن لؤي ,
وعكرمة بن أبي جهل , وهبيرة بن أبي وهب , وضرار بن الخطاب الفهري , وكانوا فرسان
قريش وشجعانهم , أقبلوا حتى وقفوا على الخندق , فلما رأوه قالوا : إن هذه لمكيدة ,
ما كانت العرب تكيدها . ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق , فضربوا خيلهم فاقتحمت بهم
, وجاوزوا الخندق وصاروا بين الخندق وبين سلع , وخرج علي بن أبي طالب في نفر من
المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها , وأقبلت الفرسان نحوهم , وكان
عمرو بن عبد ود أثبتته الجراح يوم بدر فلم يشهد أحدا , وأراد يوم الخندق أن يرى
مكانه , فلما وقف هو وخيله ; نادى : من يبارز ؟ فبرز له علي بن أبي طالب وقال له :
يا عمرو , إنك عاهدت الله فيما بلغنا أنك لا تدعى إلى إحدى خلتين إلا أخذت إحداهما
؟ قال نعم . قال : فإني أدعوك إلى الله والإسلام . قال : لا حاجة لي بذلك . قال :
فأدعوك إلى البراز . قال : يا بن أخي , والله ما أحب أن أقتلك لما كان بيني وبين
أبيك . فقال له علي : أنا والله أحب أن أقتلك . فحمي عمرو بن عبد ود ونزل عن فرسه ,
فعقره وصار نحو علي , فتنازلا وتجاولا وثار النقع بينهما حتى حال دونهما , فما
انجلى النقع حتى رئي علي على صدر عمرو يقطع رأسه , فلما رأى أصحابه أنه قد قتله علي
اقتحموا بخيلهم الثغرة منهزمين هاربين . وقال علي رضي الله عنه في ذلك : نصر
الحجارة من سفاهة رأيه ونصرت دين محمد بضراب نازلته فتركته متجدلا كالجذع بين دكادك
وروابي وعففت عن أثوابه ولو أنني كنت المقطر بزني أثوابي لا تحسبن الله خاذل دينه
ونبيه يا معشر الأحزاب قال ابن هشام : أكثر أهل العلم بالسير يشك فيها لعلي . قال
ابن هشام : وألقى عكرمة بن أبي جهل رمحه يومئذ وهو منهزم عن عمرو ; فقال حسان بن
ثابت في ذلك : فر وألقى لنا رمحه لعلك عكرم لم تفعل ووليت تعدو كعدو الظليم ما إن
تجور عن المعدل ولم تلق ظهرك مستأنسا كأن قفاك قفا فرعل قال ابن هشام : فرعل صغير
الضباع . وكانت عائشة رضي الله عنها في حصن بني حارثة , وأم سعد بن معاذ معها ,
وعلى سعد درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه , وفي يده حربته وهو يقول : لبث قليلا يلحق
الهيجا جمل لا بأس بالموت إذا كان الأجل ورمي يومئذ سعد بن معاذ بسهم فقطع منه
الأكحل . واختلف فيمن رماه ; فقيل : رماه حبان بن قيس ابن العرقة , أحد بني عامر بن
لؤي , فلما أصابه قال له : خذها وأنا ابن العرقة . فقال له سعد : عرق الله وجهك في
النار . وقيل : إن الذي رماه خفاجة بن عاصم بن حبان . وقيل : بل الذي رماه أبو
أسامة الجشمي , حليف بني مخزوم . ولحسان مع صفية بنت عبد المطلب خبر طريف يومئذ ;
ذكره ابن إسحاق وغيره . قالت صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها : كنا يوم الأحزاب
في حصن حسان بن ثابت , وحسان معنا في النساء والصبيان , والنبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه في نحر العدو لا يستطيعون الانصراف إلينا , فإذا يهودي يدور , فقلت لحسان :
انزل إليه فاقتله ; فقال : ما أنا بصاحب هذا يا ابنة عبد المطلب ! فأخذت عمودا
ونزلت من الحصن فقتلته , فقلت : يا حسان , انزل فاسلبه , فلم يمنعني من سلبه إلا
أنه رجل . فقال : ما لي بسلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب ! قال : فنزلت فسلبته . قال
أبو عمر بن عبد البر : وقد أنكر هذا عن حسان جماعة من أهل السير وقالوا : لو كان في
حسان من الجبن ما وصفتم لهجاه بذلك الذين كان يهاجيهم في الجاهلية والإسلام , ولهجي
بذلك ابنه عبد الرحمن ; فإنه كان كثيرا ما يهاجي الناس من شعراء العرب ; مثل
النجاشي وغيره . السادسة : وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيم بن مسعود بن عامر
الأشجعي فقال : يا رسول الله , إني قد أسلمت ولم يعلم قومي بإسلامي , فمرني بما شئت
; فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما أنت رجل واحد من غطفان فلو خرجت
فخذلت عنا إن استطعت كان أحب إلينا من بقائك معنا فاخرج فإن الحرب خدعة ) . فخرج
نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة - وكان ينادمهم في الجاهلية - فقال : يا بني قريظة
, قد عرفتم ودي إياكم , وخاصة ما بيني وبينكم ; قالوا : قل فلست عندنا بمتهم ; فقال
لهم : إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم , البلد بلدكم , فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ,
وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه , وقد ظاهرتموهم عليه فإن رأوا نهزة
أصابوها , وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل , ولا طاقة لكم به
, فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا . ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لهم : قد
عرفتم ودي لكم معشر قريش , وفراقي محمدا , وقد بلغني أمر أرى من الحق أن أبلغكموه
نصحا لكم , فاكتموا علي ; قالوا نفعل ; قال : تعلمون أن معشر يهود , قد ندموا على
ما كان من خذلانهم محمدا , وقد أرسلوا إليه : إنا قد ندمنا على ما فعلنا , فهل
يرضيك أن نأخذ من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم , ثم نكون
معك على ما بقي منهم حتى نستأصلهم . ثم أتى غطفان فقال مثل ذلك . فلما كان ليلة
السبت وكان ذلك من صنع الله عز وجل لرسوله والمؤمنين , أرسل أبو سفيان إلى بني
قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان يقول لهم : إنا لسنا بدار مقام , قد
هلك الخف والحافر , فاغدوا صبيحة غد للقتال حتى نناجز محمدا ; فأرسلوا إليهم : إن
اليوم يوم السبت , وقد علمتم ما نال منا من تعدى في السبت , ومع ذلك فلا نقاتل معكم
حتى تعطونا رهنا ; فلما رجع الرسول بذلك قالوا : صدقنا والله نعيم بن مسعود ; فردوا
إليهم الرسل وقالوا : والله لا نعطيكم رهنا أبدا فاخرجوا معنا إن شئتم وإلا فلا عهد
بيننا وبينكم . فقال بنو قريظة : صدق والله نعيم بن مسعود . وخذل الله بينهم ,
واختلفت كلمتهم , وبعث الله عليهم ريحا عاصفا في ليال شديدة البرد ; فجعلت الريح
تقلب آنيتهم وتكفأ قدورهم . السابعة : فلما اتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم
اختلاف أمرهم , بعث حذيفة بن اليمان ليأتيه بخبرهم , فأتاهم واستتر في غمارهم ,
وسمع أبا سفيان يقول : يا معشر قريش , ليتعرف كل امرئ جليسه . قال حذيفة : فأخذت
بيد جليسي وقلت : ومن أنت ؟ فقال أنا فلان . ثم قال أبو سفيان : ويلكم يا معشر قريش
إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام , ولقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة ,
ولقينا من هذه الريح ما ترون , ما يستمسك لنا بناء , ولا تثبت لنا قدر , ولا تقوم
لنا نار , فارتحلوا فإني مرتحل ; ووثب على جمله فما حل عقال يده إلا وهو قائم . قال
حذيفة : ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لي إذ بعثني , قال لي : ( مر إلى
القوم فاعلم ما هم عليه ولا تحدث شيئا ) - لقتلته بسهم ; ثم أتيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم عند رحيلهم , فوجدته قائما يصلي في مرط لبعض نسائه مراجل - قال ابن
هشام : المراجل ضرب من وشي اليمن - فأخبرته فحمد الله . قلت : وخبر حذيفة هذا مذكور
في صحيح مسلم , وفيه آيات عظيمة , رواه جرير عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه
قال : كنا عند حذيفة فقال رجل لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه
وأبليت . فقال حذيفة : أنت كنت تفعل ذلك ! لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ) ؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد
, ثم قال : ( ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ) ؟ فسكتنا فلم
يجبه أحد . فقال : ( قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم ) فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن
أقوم . قال : ( اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي ) قال : فلما وليت من عنده
جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم , فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار , فوضعت
سهما في كبد القوس فأردت أن أرميه , فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
ولا تذعرهم علي ) ولو رميته لأصبته : فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام , فلما أتيته
فأخبرته بخبر القوم وفرغت قررت , فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل
عباءة كانت عليه يصلي فيها , فلم أزل نائما حتى أصبحت , فلما أصبحت قال : ( قم يا
نومان ) . ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذهب الأحزاب , رجع إلى
المدينة ووضع المسلمون سلاحهم , فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم في صورة دحية بن
خليفة الكلبي , على بغلة عليها قطيفة ديباج فقال له : يا محمد , إن كنتم قد وضعتم
سلاحكم فما وضعت الملائكة سلاحها . إن الله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة , وإني
متقدم إليهم فمزلزل بهم حصونهم . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي :الثامنة :
مناديا فنادى : لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ; فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا
دون بني قريظة . وقال آخرون : لا نصلي العصر إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم وإن فاتنا الوقت . قال : فما عنف واحدا من الفريقين . وفي هذا من الفقه تصويب
المجتهدين . وقد مضى بيانه في }{ الأنبياء } . وكان سعد بن معاذ إذ أصابه السهم دعا
ربه فقال : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش فأبقني لها ; فإنه لا قوم أحب أن
أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه . اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم
فاجعلها لي شهادة , ولا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة . وروى ابن وهب عن مالك
قال : بلغني أن سعد بن معاذ مر بعائشة رضي الله عنها ونساء معها في الأطم ( فارع )
, وعليه درع مقلصة مشمر الكمين , وبه أثر صفرة وهو يرتجز : لبث قليلا يدرك الهيجا
جمل لا بأس بالموت إذا حان الأجل فقالت عائشة رضي الله عنها : لست أخاف أن يصاب سعد
اليوم إلا في أطرافه ; فأصيب في أكحله . وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قالت
عائشة رضي الله عنها : ما رأيت رجلا أجمل من سعد بن معاذ حاشا رسول الله صلى الله
عليه وسلم . فأصيب في أكحله ثم قال : اللهم إن كان حرب قريظة لم يبق منه شيء
فاقبضني إليك , وإن كان قد بقيت منه بقية فأبقني حتى أجاهد مع رسولك أعداءه ; فلما
حكم في بني قريظة توفي ; ففرح الناس وقالوا : نرجو أن يكون قد استجيبت دعوته
. التاسعة : ولما خرج المسلمون إلى بني قريظة أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم
الراية علي بن أبي طالب , واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم , ونهض علي وطائفة معه
حتى أتوا بني قريظة ونازلوهم , فسمعوا سب الرسول صلى الله عليه وسلم , فانصرف علي
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : يا رسول الله , لا تبلغ إليهم , وعرض
له . فقال له : ( أظنك سمعت منهم شتمي . لو رأوني لكفوا عن ذلك ) ونهض إليهم فلما
رأوه أمسكوا . فقال لهم : ( نقضتم العهد يا إخوة القرود أخزاكم الله وأنزل بكم
نقمته ) فقالوا : ما كنت جاهلا يا محمد فلا تجهل علينا ; ونزل رسول الله صلى الله
عليه وسلم فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة . وعرض عليهم سيدهم كعب ثلاث خصال ليختاروا
أيها شاءوا : إما أن يسلموا ويتبعوا محمدا على ما جاء به فيسلموا . قال : وتحرزوا
أموالكم ونساءكم وأبناءكم , فوالله إنكم لتعلمون أنه الذي تجدونه مكتوبا في كتابكم
. وإما أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثم يتقدموا ; فيقاتلون حتى يموتوا من آخرهم .
وإما أن يبيتوا المسلمين ليلة السبت في حين طمأنينتهم فيقتلوهم قتلا . فقالوا له :
أما الإسلام فلا نسلم ولا نخالف حكم التوراة , وأما قتل أبنائنا ونسائنا فما جزاؤهم
المساكين منا أن نقتلهم , ونحن لا نتعدى في السبت . ثم بعثوا إلى أبي لبابة ,
وكانوا حلفاء بني عمرو بن عوف وسائر الأوس , فأتاهم فجمعوا إليه أبناءهم ونساءهم
ورجالهم وقالوا له : يا أبا لبابة , أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ فقال نعم , -
وأشار بيده إلى حلقه - إنه الذبح إن فعلتم . ثم ندم أبو لبابة في الحين , وعلم أنه
خان الله ورسوله , وأنه أمر لا يستره الله عليه عن نبيه صلى الله عليه وسلم .
فانطلق إلى المدينة ولم يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فربط نفسه في سارية
وأقسم ألا يبرح من مكانه حتى يتوب الله عليه فكانت امرأته تحله لوقت كل صلاة . قال
ابن عيينة وغيره : فيه نزلت : { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول
وتخونوا أماناتكم } [ الأنفال : 27 ] الآية . وأقسم ألا يدخل أرض بني قريظة أبدا
مكانا أصاب فيه الذنب . فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من فعل أبي لبابة
قال : ( أما إنه لو أتاني لاستغفرت له وأما إذ فعل ما فعل فلا أطلقه حتى يطلقه الله
تعالى ) فأنزل الله تعالى في أمر أبي لبابة : { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } [ التوبة
: 102 ] الآية . فلما نزل فيه القرآن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاقه ,
فلما أصبح بنو قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم , فتواثب الأوس
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله , وقد علمت أنهم حلفاؤنا ,
وقد أسعفت عبد الله بن أبي بن سلول في بني النضير حلفاء الخزرج , فلا يكن حظنا أوكس
وأنقص عندك من حظ غيرنا , فهم موالينا . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
يا معشر الأوس ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم - قالوا بلى . قال - : فذلك إلى سعد
بن معاذ ) . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب له خيمة في المسجد , ليعوده
من قريب في مرضه من جرحه الذي أصابه في الخندق . فحكم فيهم بأن تقتل المقاتلة ,
وتسبى الذرية والنساء , وتقسم أموالهم . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبع أرقعة ) . وأمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأخرجوا إلى موضع بسوق المدينة اليوم - زمن ابن إسحاق - فخندق بها خنادق , ثم
أمر عليه السلام فضربت أعناقهم في تلك الخنادق , وقتل يومئذ حيي بن أخطب وكعب بن
أسد , وكانا رأس القوم , وكانوا من الستمائة إلى السبعمائة . وكان على حيي حلة
فقاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة , أنملة أنملة لئلا يسلبها . فلما
نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتي به ويداه مجموعتان إلى عنقه بحبل قال
: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك . ولكنه من يخذل الله يخذل ثم قال : يا أيها
الناس , لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل , ثم جلس فضربت
عنقه . وقتل من نسائهم امرأة , وهي بنانة امرأة الحكم القرظي التي طرحت الرحى على
خلاد بن سويد فقتلته . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من أنبت منهم
وترك من لم ينبت . وكان عطية القرظي ممن لم ينبت , فاستحياه رسول الله صلى الله
عليه وسلم , وهو مذكور في الصحابة . ووهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن
قيس بن شماس ولد الزبير بن باطا فاستحياهم ; منهم عبد الرحمن بن الزبير أسلم وله
صحبة . ووهب أيضا عليه السلام رفاعة بن سموأل القرظي لأم المنذر سلمى بنت قيس , أخت
سليط بن قيس من بني النجار , وكانت قد صلت إلى القبلتين ; فأسلم رفاعة وله صحبة
ورواية . وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قال : أتى ثابت بن قيس بن شماس إلى ابن
باطا - وكانت له عنده يد - وقال : قد استوهبتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليدك التي لك عندي , قال : ذلك يفعل الكريم بالكريم , ثم قال : وكيف يعيش رجل لا
ولد له ولا أهل ؟ قال : فأتى ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ,
فأعطاه أهله وولده ; فأتى فأعلمه فقال : كيف يعيش رجل لا مال له ؟ فأتى ثابت النبي
صلى الله عليه وسلم فطلبه فأعطاه ماله , فرجع إليه فأخبره ; قال : ما فعل ابن أبي
الحقيق الذي كأن وجهه مرآة صينية ؟ قال : قتل . قال : فما فعل المجلسان , يعني بني
كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة ؟ قال : قتلوا . قال : فما فعلت الفئتان ؟ قال :
قتلتا . قال : برئت ذمتك , ولن أصب فيها دلوا أبدا , يعني النخل , فألحقني بهم ,
فأبى أن يقتله فقتله غيره . واليد التي كانت لابن باطا عند ثابت أنه أسره يوم بعاث
فجز ناصيته وأطلقه . العاشرة : وقسم صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة فأسهم
للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما . وقد قيل : للفارس سهمان وللراجل سهم . وكانت
الخيل للمسلمين يومئذ ستة وثلاثين فرسا . ووقع للنبي صلى الله عليه وسلم من سبيهم
ريحانة بنت عمرو بن خنافة أحد بني عمرو بن قريظة , فلم تزل عنده إلى أن مات صلى
الله عليه وسلم . وقيل : إن غنيمة قريظة هي أول غنيمة قسم فيها للفارس والراجل ,
وأول غنيمة جعل فيها الخمس . وقد تقدم أن أول ذلك كان في بعث عبد الله بن جحش ;
فالله أعلم . قال : أبو عمر : وتهذيب ذلك أن تكون غنيمة قريظة أول غنيمة جرى فيها
الخمس بعد نزول قوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } [
الأنفال : 41 ] الآية . وكان عبد الله بن جحش قد خمس قبل ذلك في بعثه , ثم نزل
القرآن بمثل ما فعله ; وكان ذلك من فضائله رحمة الله عليه . وكان فتح قريظة في آخر
ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة من الهجرة . فلما تم أمر بني قريظة أجيبت
دعوة الرجل الفاضل الصالح سعد بن معاذ , فانفجر جرحه , وانفتح عرقه , فجرى دمه ومات
رضي الله عنه . وهو الذي أتى الحديث فيه : ( اهتز لموته عرش الرحمن ) يعني سكان
العرش من الملائكة فرحوا بقدوم روحه واهتزوا له . وقال ابن القاسم عن مالك : حدثني
يحيى بن سعيد قال : لقد نزل لموت سعد بن معاذ سبعون ألف ملك , ما نزلوا إلى الأرض
قبلها . قال مالك : ولم يستشهد يوم الخندق من المسلمين إلا أربعة أو خمسة . قلت :
الذي استشهد يوم الخندق من المسلمين ستة نفر فيما ذكر أهل العلم بالسير : سعد بن
معاذ أبو عمرو من بني عبد الأشهل , وأنس بن أوس بن عتيك , وعبد الله بن سهل ,
وكلاهما أيضا من بني عبد الأشهل , والطفيل بن النعمان , وثعلبة بن غنمة , وكلاهما
من بني سلمة , وكعب بن زيد من بني دينار بن النجار , أصابه سهم غرب فقتله , رضي
الله عنهم . وقتل من الكفار ثلاثة : منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار
, أصابه سهم مات منه بمكة . وقد قيل : إنما هو عثمان بن أمية بن منبه بن عبيد بن
السباق . ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي , اقتحم الخندق فتورط فيه فقتل ,
وغلب المسلمون على جسده ; فروي عن الزهري أنهم أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
في جسده عشرة آلاف درهم فقال : ( لا حاجة لنا بجسده ولا بثمنه ) فخلى بينهم وبينه .
وعمرو بن عبد ود الذي قتله علي مبارزة , وقد تقدم . واستشهد يوم قريظة من المسلمين
خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو من بني الحارث بن الخزرج ; طرحت عليه امرأة من بني
قريظة رحى فقتلته . ومات في الحصار أبو سنان بن محصن بن حرثان الأسدي , أخو عكاشة
بن محصن , فدفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقبرة بني قريظة التي يتدافن فيها
المسلمون السكان بها اليوم . ولم يصب غير هذين , ولم يغز كفار قريش المؤمنين بعد
الخندق . وأسند الدارمي أبو محمد في مسنده : أخبرنا يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب
عن المقبري عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال : حبسنا يوم الخندق حتى
ذهب هوي من الليل حتى كفينا ; وذلك قول الله عز وجل : { وكفى الله المؤمنين القتال
وكان الله قويا عزيزا } [ الأحزاب : 25 ] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا
فأقام فصلى الظهر فأحسن كما كان يصليها في وقتها , ثم أمره فأقام العصر فصلاها , ثم
أمره فأقام المغرب فصلاها , ثم أمره فأقام العشاء فصلاها , وذلك قبل أن ينزل : { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } [ البقرة : 239 ] خرجه النسائي أيضا . وقد مضت هذه
المسألة في }{ طه } . وقد ذكرنا في هذه الغزاة أحكاما كثيرة لمن تأملها في مسائل عشر
. ثم نرجع إلى أول الآي وهي تسع عشرة آية تضمنت ما ذكرناه . عليكم إذ جاءتكميعني
الأحزاب . جنود فأرسلنا عليهمقال مجاهد : هي الصبا , أرسلت على الأحزاب يوم الخندق
حتى ألقت قدورهم ونزعت فساطيطهم . قال : والجنود الملائكة ولم تقاتل يومئذ . وقال
عكرمة : قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب : انطلقي لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم
, فقالت الشمال : إن محوة لا تسري بليل . فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نصرت
بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ) . وكانت هذه الريح معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم ;
لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا قريبا منها , لم يكن بينهم وبينها
إلا عرض الخندق , وكانوا في عافية منها , ولا خبر عندهم بها . ريحا وجنودا لموقرئ
بالياء ; أي لم يرها المشركون . قال المفسرون : بعث الله تعالى عليهم الملائكة
فقلعت الأوتاد , وقطعت أطناب الفساطيط , وأطفأت النيران , وأكفأت القدور , وجالت
الخيل بعضها في بعض , وأرسل الله عليهم الرعب , وكثر تكبير الملائكة في جوانب
العسكر ; حتى كان سيد كل خباء يقول : يا بني فلان هلم إلي فإذا اجتمعوا قال لهم :
النجاء النجاء ; لما بعث الله تعالى عليهم من الرعب . تروها وكان الله بما
تعملونوقرئ : { يعملون }{ بالياء على الخبر , وهي قراءة أبي عمرو . الباقون بالتاء ;
يعني من حفر الخندق والتحرز من العدو .
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ }{ إذ }{ في موضع نصب
بمعنى واذكر . وكذا }{ وإذ قالت طائفة منهم } .{ من فوقكم }{ يعني من فوق الوادي , وهو
أعلاه من قبل المشرق , جاء منه عوف بن مالك في بني نصر , وعيينة بن حصن في أهل نجد
, وطليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد .{ ومن أسفل منكم }{ يعني من بطن الوادي من قبل
المغرب , جاء منه أبو سفيان بن حرب على أهل مكة , ويزيد بن جحش على قريش , وجاء أبو
الأعور السلمي ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة مع عامر بن الطفيل من
وجه الخندق . وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ أي شخصت . وقيل : مالت ; فلم تلتفت إلا إلى
عدوها دهشا من فرط الهول . وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ أي زالت عن أماكنها
من الصدور حتى بلغت الحناجر وهي الحلاقيم , واحدها حنجرة ; فلولا أن الحلوق ضاقت
عنها لخرجت ; قاله قتادة . وقيل : هو على معنى المبالغة على مذهب العرب على إضمار
كاد ; قال : إذا ما غضبنا غضبة مضرية هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما أي كادت تقطر
. ويقال : إن الرئة تنفتح عند الخوف فيرتفع القلب حتى يكاد يبلغ الحنجرة مثلا ;
ولهذا يقال للجبان : انتفخ سحره . وقيل : إنه مثل مضروب في شدة الخوف ببلوغ القلوب
الحناجر وإن لم تزل عن أماكنها مع بقاء الحياة . قال معناه عكرمة . روى حماد بن زيد
عن أيوب عن عكرمة قال : بلغ فزعها . والأظهر أنه أراد اضطراب القلب وضربانه , أي
كأنه لشدة اضطرابه بلغ الحنجرة . والحنجرة والحنجور ( بزيادة النون ) حرف الحلق
. وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَ قال الحسن : ظن المنافقون أن المسلمين يستأصلون
, وظن المؤمنون أنهم ينصرون . وقيل : هو خطاب للمنافقين ; أي قلتم هلك محمد وأصحابه
. واختلف القراء في قوله تعالى : { الظنونا , والرسولا , والسبيلا }{ آخر السورة ;
فأثبت ألفاتها في الوقف والوصل نافع وابن عامر . وروي عن أبي عمرو والكسائي تمسكا
بخط المصحف , مصحف عثمان , وجميع المصاحف في جميع البلدان . واختاره أبو عبيد ; إلا
أنه قال : لا ينبغي للقارئ أن يدرج القراءة بعدهن لكن يقف عليهن . قالوا : ولأن
العرب تفعل ذلك في قوافي أشعارهم ومصاريعها ; قال : نحن جلبنا القرح القوافلا
تستنفر الأواخر الأوائلا وقرأ أبو عمرو والجحدري ويعقوب وحمزة بحذفها في الوصل
والوقف معا . قالوا : هي زائدة في الخط كما زيدت الألف في قوله تعالى : { ولأوضعوا
خلالكم } [ التوبة : 47 ] فكتبوها كذلك , وغير هذا . وأما الشعر فموضع ضرورة , بخلاف
القرآن فإنه أفصح اللغات ولا ضرورة فيه . قال ابن الأنباري : ولم يخالف المصحف من
قرأ .{ الظنون . والسبيل . والرسول }{ بغير ألف في الحروف الثلاثة , وخطهن في المصحف
بألف لأن الألف التي في }{ أطعنا }{ والداخلة في أول }{ الرسول . والظنون . والسبيل }
كفى من الألف المتطرفة المتأخرة كما كفت ألف أبي جاد من ألف هواز . وفيه حجة أخرى :
أن الألف أنزلت منزلة الفتحة وما يلحق دعامة للحركة التي تسبق والنية فيه السقوط ;
فلما عمل على هذا كانت الألف مع الفتحة كالشيء الواحد يوجب الوقف سقوطهما ويعمل على
أن صورة الألف في الخط لا توجب موضعا في اللفظ , وأنها كالألف في }{ ساحران }{ وفي }
فاطر السموات والأرض }{ وفي }{ واعدنا موسى }{ وما يشبههن مما يحذف من الخط وهو موجود
في اللفظ , وهو مسقط من الخط . وفيه حجة ثالثة هي أنه كتب على لغة من يقول لقيت
الرجلا . وقرئ على لغة من يقول : لقيت الرجل , بغير ألف . أخبرنا أحمد بن يحيى عن
جماعة من أهل اللغة أنهم رووا عن العرب قام الرجلو , بواو , ومررت بالرجلي , بياء ,
في الوصل والوقف . ولقيت الرجلا ; بألف في الحالتين كلتيهما . قال الشاعر : أسائلة
عميرة عن أبيها خلال الجيش تعترف الركابا فأثبت الألف في }{ الركاب }{ بناء على هذه
اللغة . وقال الآخر : إذا الجوزاء أردفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا وعلى هذه
اللغة بنى نافع وغيره . وقرأ ابن كثير وابن محيصن والكسائي بإثباتها في الوقف وحذفها
في الوصل . قال ابن الأنباري : ومن وصل بغير ألف ووقف بألف فجائز أن يحتج بأن الألف
احتاج إليها عند السكت حرصا على بقاء الفتحة , وأن الألف تدعمها وتقويها .
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ }{ هنا }{ للقريب من المكان . و }{ هنالك }{ للبعيد
. و }{ هناك }{ للوسط . ويشار به إلى الوقت ; أي عند ذلك اختبر المؤمنون ليتبين المخلص
من المنافق . وكان هذا الابتلاء بالخوف والقتال والجوع والحصر والنزال . وَزُلْزِلُوا
زِلْزَالًا شَدِيدًا أي حركوا تحريكا . قال الزجاج : كل مصدر من المضاعف على فعلال
يجوز فيه الكسر والفتح ; نحو قلقلته قلقالا وقلقالا , وزلزلوا زلزالا وزلزالا
. والكسر أجود ; لأن غير المضاعف على الكسر نحو دحرجته دحراجا . وقراءة العامة بكسر
الزاي . وقرأ عاصم والجحدري }{ زلزالا }{ بفتح الزاي . قال ابن سلام : أي حركوا بالخوف
تحريكا شديدا . وقال الضحاك : هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق
. وقيل : إنه اضطرابهم عما كانوا عليه ; فمنهم من اضطرب في نفسه ومنهم من اضطرب في
دينه . و }{ هنالك }{ يجوز أن يكون العامل فيه }{ ابتلي }{ فلا يوقف على }{ هنالك }
. ويجوز أن يكون }{ وتظنون بالله الظنونا }{ فيوقف على }{ هنالك } .
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك ونفاق
. مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا أي باطلا من القول . وذلك أن
طعمة بن أبيرق ومعتب بن قشير وجماعة نحو من سبعين رجلا قالوا يوم الخندق : كيف
يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا يستطيع أحدنا أن يتبرز ؟ وإنما قالوا ذلك لما فشا في
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قوله عند ضرب الصخرة , على ما تقدم في حديث
النسائي ; فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ الطائفة
تقع على الواحد فما فوقه . وعني به هنا أوس بن قيظي والد عرابة بن أوس ; الذي يقول
فيه الشماخ : إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين و }{ يثرب }{ هي المدينة ;
وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة وطابة . وقال أبو عبيدة : يثرب اسم أرض ,
والمدينة ناحية منها . السهيلي : وسميت يثرب لأن الذي نزلها من العماليق اسمه يثرب
بن عميل بن مهلائيل بن عوض بن عملاق بن لاوق بن إرم . وفي بعض هذه الأسماء اختلاف
. وبنو عميل هم الذين سكنوا الجحفة فأجحفت بهم السيول فيها . وبها سميت الجحفة .{ لا
مقام لكم }{ بفتح الميم قراءة العامة . وقرأ حفص والسلمي والجحدري وأبو حيوة : بضم
الميم ; يكون مصدرا من أقام يقيم ; أي لا إقامة , أو موضعا يقيمون فيه . ومن فتح فهو
اسم مكان ; أي لا موضع لكم تقيمون فيه .{ فارجعوا }{ أي إلى منازلكم . أمروهم بالهروب
من عسكر النبي صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس : قالت اليهود لعبد الله بن أبي بن
سلول وأصحابه من المنافقين : ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان وأصحابه
! فارجعوا إلى المدينة فإنا مع القوم فأنتم آمنون . فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ
فَرِيقٌ مِنْهُمُ في الرجوع إلى منازلهم بالمدينة , وهم بنو حارثة بن الحارث , في
قول ابن عباس . وقال يزيد بن رومان : قال ذلك أوس بن قيظي عن ملإ من قومه
. النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا أي سائبة ضائعة ليست بحصينة , وهي مما يلي
العدو . وقيل : ممكنة للسراق لخلوها من الرجال . يقال : دار معورة وذات عورة إذا كان
يسهل دخولها . يقال : عور المكان عورا فهو عور . وبيوت عورة . وأعور فهو معور . وقيل :
عورة ذات عورة . وكل مكان ليس بممنوع ولا مستور فهو عورة ; قاله الهروي . وقرأ ابن
عباس وعكرمة ومجاهد وأبو رجاء العطاردي : { عورة }{ بكسر الواو ; يعني قصيرة الجدران
فيها خلل . تقول العرب : دار فلان عورة إذا لم تكن حصينة . وقد أعور الفارس إذا بدا
فيه خلل للضرب والطعن ; قال الشاعر : متى تلقهم لم تلق في البيت معورا ولا الضيف
مفجوعا ولا الجار مرملا الجوهري : والعورة كل خلل يتخوف منه في ثغر أو حرب . النحاس
: يقال أعور المكان إذا تبينت فيه عورة , وأعور الفارس إذا تبين فيه موضع الخلل
. المهدوي : ومن كسر الواو في }{ عورة }{ فهو شاذ ; ومثله قولهم : رجل عور ; أي لا شيء
له , وكان القياس أن يعل فيقال : عار ; كيوم راح , ورجل مال ; أصلهما روح ومول . ثم
قال تعالىعَوْرَةٌ وَمَا هِيَ تكذيبا لهم وردا عليهم فيما ذكروه . بِعَوْرَةٍ إِنْ
يُرِيدُونَ إِلَّا أي ما يريدون إلا الهرب . قيل : من القتل . وقيل : من الدين . وحكى
النقاش أن هذه الآية نزلت في قبيلتين من الأنصار : بني حارثة وبني سلمة ; وهموا أن
يتركوا مراكزهم يوم الخندق , وفيهم أنزل الله تعالى : { إذ همت طائفتان منكم أن
تفشلا } [ آل عمران : 122 ] الآية . فلما نزلت هذه الآية قالوا : والله ما ساءنا ما
كنا هممنا به ; إذ الله ولينا . وقال السدي : الذي استأذنه منهم رجلان من الأنصار من
بني حارثة أحدهما - أبو عرابة بن أوس , والآخر أوس بن قيظي . قال الضحاك : ورجع
ثمانون رجلا بغير إذنه .
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا وهي البيوت أو المدينة ; أي من
نواحيها وجوانبها , الواحد قطر , وهو الجانب والناحية . وكذلك القتر لغة في القطر
. ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا أي لجاءوها ; هذا على قراءة نافع وابن كثير
بالقصر . وقرأ الباقون بالمد ; أي لأعطوها من أنفسهم , وهو اختيار أبي عبيد وأبي
حاتم . وقد جاء في الحديث : أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعذبون في الله
ويسألون الشرك , فكل أعطى ما سألوه إلا بلالا . وفيه دليل على قراءة المد , من
الإعطاء . ويدل على قراءة القصر قوله : { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون
الأدبار } ; فهذا يدل على }{ لآتوها }{ مقصورا . وفي }{ الفتنة }{ هنا وجهان : أحدهما :
سئلوا القتال في العصبية لأسرعوا إليه ; قاله الضحاك . الثاني : ثم سئلوا الشرك
لأجابوا إليه مسرعين ; قاله الحسن . وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا أي
بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا ; قاله السدي والقتبي والحسن
والفراء . وقال أكثر المفسرين : أي وما احتبسوا عن فتنة الشرك إلا قليلا ولأجابوا
بالشرك مسرعين ; وذلك لضعف نياتهم ولفرط نفاقهم ; فلو اختلطت بهم الأحزاب لأظهروا
الكفر .
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ أي من
قبل غزوة الخندق وبعد بدر . قال قتادة : وذلك أنهم غابوا عن بدر ورأوا ما أعطى الله
أهل بدر من الكرامة والنصر , فقالوا لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن . وقال يزيد بن
رومان : هم بنو حارثة , هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة , فلما نزل فيهم ما نزل
عاهدوا الله ألا يعودوا لمثلها فذكر الله لهم الذي أعطوه من أنفسهم .{ وكان عهد
الله مسئولا }{ أي مسئولا عنه . قال مقاتل والكلبي : هم سبعون رجلا بايعوا النبي صلى
الله عليه وسلم ليلة العقبة وقالوا : اشترط لنفسك ولربك ما شئت . فقال : ( أشترط
لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم
وأموالكم وأولادكم ) فقالوا : فما لنا إذا فعلنا ذلك يا نبي الله ؟ قال : ( لكم
النصر في الدنيا والجنة في الآخرة ) . فذلك قوله تعالى :وَكَانَ عَهْدُ اللهِ
مَسْئُولًا أي أن الله ليسألهم عنه يوم القيامة .
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ
أي من حضر أجله مات أو قتل ; فلا ينفع الفرار . وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا
قَلِيلًا أي في الدنيا بعد الفرار إلى أن تنقضي آجالكم ; وكل ما هو آت فقريب . وروى
الساجي عن يعقوب الحضرمي }{ وإذا لا يمتعون }{ بياء . وفي بعض الروايات }{ وإذا لا
تمتعوا }{ نصب ب }{ إذا }{ والرفع بمعنى ولا تمتعون . و }{ إذا }{ ملغاة , ويجوز إعمالها
. فهذا حكمها إذا كان قبلها الواو والفاء . فإذا كانت مبتدأة نصبت بها فقلت : إذا
أكرمك .
قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ أي المعترضين منكم لأن يصدوا الناس
عن النبي صلى الله عليه وسلم ; وهو مشتق من عاقني عن كذا أي صرفني عنه . وعوق , على
التكثيروَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا على لغة أهل الحجاز
. وغيرهم يقولون : { هلموا }{ للجماعة , وهلمي للمرأة ; لأن الأصل : { ها }{ التي
للتنبيه ضمت إليها }{ لم }{ ثم حذفت الألف استخفافا وبنيت على الفتح . ولم يجز فيها
الكسر ولا الضم لأنها لا تنصرف . ومعنى }{ هلم }{ أقبل ; وهؤلاء طائفتان ; أي منكم من
يثبط ويعوق . والعوق المنع والصرف ; يقال : عاقه يعوقه عوقا , وعوقه واعتاقه بمعنى
واحد . قال مقاتل : هم عبد الله بن أبي وأصحابه المنافقون .{ والقائلين لإخوانهم هلم
{ فيهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم المنافقون ; قالوا للمسلمين : ما محمد وأصحابه
إلا أكلة رأس , وهو هالك ومن معه , فهلم إلينا . الثاني : أنهم اليهود من بني قريظة
; قالوا لإخوانهم من المنافقين : هلم إلينا ; أي تعالوا إلينا وفارقوا محمدا فإنه
هالك , وإن أبا سفيان إن ظفر لم يبق منكم أحدا . والثالث : ما حكاه ابن زيد : أن
رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف ; فقال أخوه - وكان من
أمه وأبيه - : هلم إلي , قد تبع بك وبصاحبك ; أي قد أحيط بك وبصاحبك . فقال له :
كذبت , والله لأخبرنه بأمرك ; وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره ,
فوجده قد نزل عليه جبريل عليه السلام بقوله تعالى : { قد يعلم الله المعوقين منكم
والقائلين لإخوانهم هلم إلينا } . ذكره الماوردي والثعلبي أيضا . ولفظه : قال ابن زيد
هذا يوم الأحزاب , انطلق رجل من عند النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أخاه بين يديه
رغيف وشواء ونبيذ ; فقال له : أنت في هذا ونحن بين الرماح والسيوف ؟ فقال : هلم إلى
هذا فقد تبع لك ولأصحابك , والذي تحلف به لا يستقل بها محمد أبدا . فقال : كذبت
. فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره فوجده قد نزل عليه جبريل بهذه الآية
. وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا خوفا من الموت . وقيل : لا يحضرون
القتال إلا رياء وسمعة .
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أي بخلاء عليكم ; أي بالحفر في الخندق والنفقة في سبيل الله ;
قال مجاهد وقتادة . وقيل : بالقتال معكم . وقيل : بالنفقة على فقرائكم ومساكينكم
. وقيل : أشحة بالغنائم إذا أصابوها ; قاله السدي . وانتصب على الحال . قال الزجاج :
ونصبه عند الفراء من أربع جهات : إحداها : أن يكون على الذم ; ويجوز أن يكون عنده
نصبا بمعنى يعوقون أشحة . ويجوز أن يكون التقدير : والقائلين أشحة . ويجوز عنده }{ ولا
يأتون البأس إلا قليلا }{ أشحة ; أي أنهم يأتونه أشحة على الفقراء بالغنيمة . النحاس
: ولا يجوز أن يكون العامل فيه }{ المعوقين }{ ولا }{ القائلين } ; لئلا يفرق بين
الصلة والموصول . ابن الأنباري : { إلا قليلا }{ غير تام ; لأن }{ أشحة }{ متعلق بالأول
, فهو ينتصب من أربعة أوجه : أحدها : أن تنصبه على القطع من }{ المعوقين }{ كأنه قال
: قد يعلم الله الذين يعوقون عن القتال ويشحون عن الإنفاق على فقراء المسلمين
. ويجوز أن يكون منصوبا على القطع من }{ القائلين }{ أي وهم أشحة . ويجوز أن تنصبه على
القطع مما في }{ يأتون } ; كأنه قال : ولا يأتون البأس إلا جبناء بخلاء . ويجوز أن
تنصب }{ أشحة }{ على الذم . فمن هذا الوجه الرابع يحسن أن تقف على قوله : { إلا قليلا
" .{ أشحة عليكم }{ وقف حسن . ومثله }{ أشحة على الخير }{ حال من المضمر في }{ سلقوكم }
وهو العامل فيه . فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ
تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ وصفهم بالجبن ;
وكذا سبيل الجبان ينظر يمينا وشمالا محددا بصره , وربما غشي عليه . وفي }{ الخوف }
وجهان : أحدهما : من قتال العدو إذا أقبل ; قال السدي . الثاني : الخوف من النبي صلى
الله عليه وسلم إذا غلب ; قاله ابن شجرة .{ رأيتهم ينظرون إليك }{ خوفا من القتال
على القول الأول . ومن النبي صلى الله عليه وسلم على الثاني .{ تدور أعينهم }{ لذهاب
عقولهم حتى لا يصح منهم النظر إلى جهة . وقيل : لشدة خوفهم حذرا أن يأتيهم القتل من
كل جهة . فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ وحكى الفراء }
صلقوكم }{ بالصاد . وخطيب مسلاق ومصلاق إذا كان بليغا . وأصل الصلق الصوت ; ومنه قول
النبي صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله الصالقة والحالقة والشاقة ) . قال الأعشى :
فيهم المجد والسماحة والنجـ ـدة فيهم والخاطب السلاق قال قتادة : ومعناه بسطوا
ألسنتهم فيكم في وقت قسمة الغنيمة , يقولون : أعطنا أعطنا , فإنا قد شهدنا معكم
. فعند الغنيمة أشح قوم وأبسطهم لسانا , ووقت البأس أجبن قوم وأخوفهم . قال النحاس :
هذا قول حسن ; لأن بعدهأَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ وقيل : المعنى بالغوا في مخاصمتكم
والاحتجاج عليكم . وقال القتبي : المعنى آذوكم بالكلام الشديد السلق : الأذى . ومنه
قول الشاعر : ولقد سلقنا هوازنا بنواهل حتى انحنينا }{ أشحة على الخير }{ أي على
الغنيمة ; قاله يحيى بن سلام . وقيل : على المال أن ينفقوه في سبيل الله ; قاله
السدي . أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا يعني بقلوبهم وإن كان ظاهرهم الإيمان ; والمنافق
كافر على الحقيقة لوصف الله عز وجل لهم بالكفر . فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ
أي لم يثبهم عليها ; إذا لم يقصدوا وجه الله تعالى بها . وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى
اللهِ يَسِيرًا يحتمل وجهين : أحدهما : وكان نفاقهم على الله هينا . الثاني : وكان
إحباط عملهم على الله هينا .
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي لجبنهم ; يظنون الأحزاب لم ينصرفوا
وكانوا انصرفوا , ولكنهم لم يتباعدوا في السير . وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ أي وإن
يرجع الأحزاب إليهم للقتال . يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ
تمنوا أن يكونوا مع الأعراب حذرا من القتل وتربصا للدوائر . وقرأ طلحة بن مصرف }{ لو
أنهم بدى في الأعراب } ; يقال : باد وبدى ; مثل غاز وغزى . ويمد مثل صائم وصوام . بدا
فلان يبدو إذا خرج إلى البادية . وهي البداوة والبداوة ; بالكسر والفتح . وأصل الكلمة
من البدو وهو الظهور .{ يسألون }{ وقرأ يعقوب في رواية رويسيَسْأَلُونَ عَنْ
أَنْبَائِكُمْ أي عن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم . يتحدثون : أما هلك محمد
وأصحابه , أما غلب أبو سفيان وأحزابه ! أي يودوا لو أنهم بادون سائلون عن أنبائكم
من غير مشاهدة القتال لفرط جبنهم . وقيل : أي هم أبدا لجبنهم يسألون عن أخبار
المؤمنين , وهل أصيبوا . وقيل : كان منهم في أطراف المدينة من لم يحضر الخندق ,
جعلوا يسألون عن أخباركم ويتمنون هزيمة المسلمين . وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا
قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا أي رميا بالنبل والحجارة على طريق الرياء والسمعة ; ولو
كان ذلك لله لكان قليله كثيرا .
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ هذا عتاب للمتخلفين عن
القتال ; أي كان لكم قدوة في النبي صلى الله عليه وسلم حيث بذل نفسه لنصرة دين الله
في خروجه إلى الخندق . والأسوة القدوة . وقرأ عاصم }{ أسوة }{ بضم الهمزة . الباقون
بالكسر ; وهما لغتان . والجمع فيهما واحد عند الفراء . والعلة عنده في الضم على لغة
من كسر في الواحدة : الفرق بين ذوات الواو وذوات الياء ; فيقولون كسوة وكسا , ولحية
ولحى . الجوهري : والأسوة والإسوة بالضم والكسر لغتان . والجمع أسى وإسى . وروى عقبة
بن حسان الهجري عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر }{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة
حسنة }{ قال : في جوع النبي صلى الله عليه وسلم ; ذكره الخطيب أبو بكر أحمد وقال :
تفرد به عقبة بن حسان عن مالك , ولم أكتبه إلا بهذا الإسناد . قوله تعالى }{ أسوة }
الأسوة القدوة . والأسوة ما يتأسى به ; أي يتعزى به . فيقتدى به في جميع أفعاله
ويتعزى به في جميع أحواله ; فلقد شج وجهه , وكسرت رباعيته , وقتل عمه حمزة , وجاع
بطنه , ولم يلف إلا صابرا محتسبا , وشاكرا راضيا . وعن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال
: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر ;
فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين . خرجه أبو عيسى الترمذي وقال فيه :
حديث غريب . وقال صلى الله عليه وسلم لما شج : ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )
وقد تقدم . واختلف في هذه الأسوة بالرسول عليه السلام , هل هي على الإيجاب أو على
الاستحباب ; على قولين : أحدهما : على الإيجاب حتى يقوم دليل على الاستحباب . الثاني
: على الاستحباب حتى يقوم دليل على الإيجاب . ويحتمل أن يحمل على الإيجاب في أمور
الدين , وعلى الاستحباب في أمور الدنيا . لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ قال سعيد بن جبير : المعنى لمن كان يرجو لقاء الله بإيمانه ويصدق بالبعث
الذي فيه جزاء الأفعال . وقيل : أي لمن كان يرجو ثواب الله في اليوم الآخر . ولا يجوز
عند الحذاق من النحويين أن يكتب }{ يرجو }{ إلا بغير ألف إذا كان لواحد ; لأن العلة
التي في الجمع ليست في الواحد . وقيل : إن }{ لمن }{ بدل من قوله : { لكم }{ ولا
يجيزه البصريون ; لأن الغائب لا يبدل من المخاطب , وإنما اللام من }{ لمن }{ متعلقة ب
{ حسنة } , و }{ أسوة }{ اسم }{ كان }{ و }{ لكم }{ الخبر . واختلف فيمن أريد بهذا الخطاب
على قولين : أحدهما : المنافقون ; عطفا على ما تقدم من خطابهم . الثاني : المؤمنون ;
لقوله : { لمن كان يرجو الله واليوم الآخر "وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا خوفا من
عقابه , ورجاء لثوابه .
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ
وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ ومن العرب من يقول : { راء }{ على القلب
.{ قالوا هذا ما وعدنا الله }{ يريد قوله تعالى في سورة البقرة : { أم حسبتم أن
تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم } [ البقرة : 214 ] الآية . فلما
رأوا الأحزاب يوم الخندق فقالوا : { هذا ما وعدنا الله ورسوله } , قاله قتادة . وقول
ثان رواه كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده قال : خطب رسول الله صلى
الله عليه وسلم عام ذكرت الأحزاب فقال : ( أخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة
عليها - يعني على قصور الحيرة ومدائن كسرى - فأبشروا بالنصر ) فاستبشر المسلمون
وقالوا : الحمد لله , موعد صادق , إذ وعدنا بالنصر بعد الحصر . فطلعت الأحزاب فقال
المومنون : { هذا ما وعدنا الله ورسوله } . ذكره الماوردي . و }{ ما وعدنا }{ إن جعلت }
ما }{ بمعنى الذي فالهاء محذوفة . وإن جعلتها مصدرا لم تحتج إلى عائدوَمَا زَادَهُمْ
إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا قال الفراء : وما زادهم النظر إلى الأحزاب . وقال علي
بن سليمان : { رأى }{ يدل على الرؤية , وتأنيث الرؤية غير حقيقي , والمعنى : ما
زادهم الرؤية إلا إيمانا بالرب وتسليما , قاله الحسن . ولو قال : ما زادوهم لجاز
. ولما اشتد الأمر على المسلمين وطال المقام في الخندق , قام عليه السلام على التل
الذي عليه مسجد الفتح في بعض الليالي , وتوقع ما وعده الله من النصر وقال : ( من
يذهب ليأتينا بخبرهم وله الجنة ) فلم يجبه أحد . وقال ثانيا وثالثا فلم يجبه أحد ,
فنظر إلى جانبه وقال : ( من هذا ) ؟ فقال حذيفة . فقال : ( ألم تسمع كلامي منذ
الليلة ) ؟ قال حذيفة : فقلت يا رسول الله , منعني أن أجيبك الضر والقر . قال : (
انطلق حتى تدخل في القوم فتسمع كلامهم وتأتيني بخبرهم . اللهم احفظه من بين يديه ومن
خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى ترده إلي , انطلق ولا تحدث شيئا حتى تأتيني ) . فانطلق
حذيفة بسلاحه , ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يقول : ( يا صريخ المكروبين
ويا مجيب المضطرين اكشف همي وغمي وكربي فقد ترى حالي وحال أصحابي ) فنزل جبريل وقال
: ( إن الله قد سمع دعوتك وكفاك هول عدوك ) فخر رسول الله صلى الله عليه وسلم على
ركبتيه وبسط يديه وأرخى عينيه وهو يقول : ( شكرا شكرا كما رحمتني ورحمت أصحابي )
. وأخبره جبريل أن الله تعالى مرسل عليهم ريحا , فبشر أصحابه بذلك قال حذيفة :
فانتهيت إليهم وإذا نيرانهم تتقد , فأقبلت ريح شديدة فيها حصباء فما تركت لهم نارا
إلا أطفأتها ولا بناء إلا طرحته , وجعلوا يتترسون من الحصباء . وقام أبو سفيان إلى
راحلته وصاح في قريش : النجاء النجاء ! وفعل كذلك عيينة بن حصن والحارث بن عوف
والأقرع بن حابس . وتفرقت الأحزاب , وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاد إلى
المدينة وبه من الشعث ما شاء الله , فجاءته فاطمة بغسل فكانت تغسل رأسه , فأتاه
جبريل فقال : ( وضعت السلاح ولم تضعه أهل السماء , ما زلت أتبعهم حتى , جاوزت بهم
الروحاء - ثم قال - انهض إلى بني قريظة ) . وقال أبو - سفيان : ما زلت أسمع قعقعة
السلاح حتى جاوزت الروحاء .
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ رفع
بالابتداء , وصلح الابتداء بالنكرة لأن }{ صدقوا }{ في موضع النعت . فَمِنْهُمْ مَنْ
قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا }{ من }{ في
موضع رفع بالابتداء . وكذا }{ ومنهم من ينتظر }{ والخبر في المجرور . والنحب : النذر
والعهد , تقول منه : نحبت أنحب , بالضم . قال الشاعر : وإذا نحبت كلب على الناس إنهم
أحق بتاج الماجد المتكرم وقال آخر : قد نحب المجد علينا نحبا وقال آخر : أنحب فيقضى
أم ضلال وباطل وروى البخاري ومسلم والترمذي عن أنس قال : قال عمي أنس بن النضر -
سميت به - ولم يشهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر عليه فقال : أول
مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه , أما والله لئن أراني الله مشهدا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد ليرين الله ما أصنع . قال : فهاب أن يقول
غيرها , فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد من العام القابل , فاستقبله
سعد بن مالك فقال : يا أبا عمرو أين ؟ قال : واها لريح الجنة ! أجدها دون أحد ,
فقاتل حتى قتل , فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية . فقالت عمتي
الربيع بنت النضر : فما عرفت أخي إلا ببنانه . ونزلت هذه الآية }{ رجال صدقوا ما
عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا }{ لفظ الترمذي
, وقال : هذا حديث حسن صحيح . وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى }{ من
المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه }{ الآية : منهم طلحة بن عبيد الله ثبت مع
رسول , الله صلى الله عليه وسلم حتى أصيبت , يده , فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
( أوجب طلحة الجنة ) . وفي الترمذي عنه : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
قالوا لأعرابي جاهل : سله عمن قضى نحبه من هو ؟ وكانوا لا يجترئون على مسألته ,
يوقرونه ويهابونه , فسأله الأعرابي فأعرض عنه , ثم سأله فأعرض عنه , ثم إني اطلعت
من باب المسجد وعلي ثياب خضر , فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أين
السائل عمن قضى نحبه ) ؟ قال الأعرابي : أنا يا رسول الله . قال : ( هذا ممن قضى
نحبه ) قال : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس بن بكير . وروى البيهقي
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد , مر على مصعب بن
عمير وهو مقتول على طريقه , فوقف عليه ودعا له , ثم تلا هذه الآية : { من المؤمنين
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه - إلى - تبديلا }{ ثم قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : ( أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم
وزوروهم والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه ) . وقيل
: النحب الموت , أي مات على ما عاهد عليه , عن ابن عباس . والنحب أيضا الوقت والمدة
يقال : قضى فلان نحبه إذا مات . وقال ذو الرمة : عشية فر الحارثيون بعد ما قضى نحبه
في ملتقى الخيل هوبر والنحب أيضا الحاجة والهمة , يقول قائلهم ما لي عندهم نحب ,
وليس المراد بالآية . والمعنى في هذا الموضع بالنحب النذر كما قدمنا أولا , أي منهم
من بذل جهده على الوفاء بعهده حتى قتل , مثل حمزة وسعد بن معاذ وأنس بن النضر
وغيرهم . ومنهم من ينتظر الشهادة وما بدلوا عهدهم ونذرهم . وقد روي عن ابن عباس أنه
قرأ }{ فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومنهم من بدل تبديلا } . قال أبو بكر
الأنباري : وهذا الحديث عند أهل العلم مردود , لخلافه الإجماع , ولأن فيه طعنا على
المؤمنين والرجال الذين مدحهم الله وشرفهم بالصدق والوفاء , فما يعرف فيهم مغير وما
وجد من جماعتهم مبدل , رضي الله عنهم .
لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ أي أمر الله بالجهاد ليجزي الصادقين
في الآخرة بصدقهم . وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ في الآخرةإِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا أي إن شاء أن يعذبهم لم يوفقهم
للتوبة , وإن لم يشأ أن يعذبهم تاب عليهم قبل الموت .
وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا قال محمد
بن عمرو يرفعه إلى عائشة : قالت }{ الذين كفروا }{ هاهنا أبو سفيان وعيينة بن بدر ,
رجع أبو سفيان إلى تهامة , ورجع عيينة إلى نجدوَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ
الْقِتَالَ بأن أرسل عليهم ريحا وجنودا حتى رجعوا ورجعت بنو قريظة إلى صياصيهم ,
فكفي أمر قريظة - بالرعب . وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا أمرهعَزِيزًا لا يغلب .
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يعني الذين عاونوا
الأحزاب : قريشا وغطفان وهم بنو قريظة وقد مضى خبرهممِنْ صَيَاصِيهِمْ أي حصونهم
واحدها صيصة . قال الشاعر : فأصبحت الثيران صرعى وأصبحت نساء تميم يبتدرن الصياصيا
ومنه قيل لشوكة الحائك التي بها يسوي السداة واللحمة : صيصة . قال , دريد بن الصمة :
فجئت إليه والرماح تنوشه كوقع الصياصي في النسيج الممدد ومنه : صيصة الديك التي في
رجله . وصياصي البقر قرونها , لأنها تمتنع بها . وربما كانت تركب في الرماح مكان
الأسنة , ويقال : جذ الله صئصئه , أي أصلهوَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وهم الرجال . وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وهم النساء والذرية , على
ما تقدم .
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ
تَطَئُوهَا بعد . قال يزيد بن رومان وابن زيد ومقاتل : يعني حنين , ولم يكونوا
نالوها , فوعدهم الله إياها . وقال قتادة : كنا نتحدث أنها مكة . وقال الحسن : هي
فارس والروم . وقال عكرمة : كل أرض تفتح إلى يوم القيامة .{ وكان الله على كل شيء
قديرا }{ فيه وجهان : أحدهما : على ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير , قال محمد
بن إسحاق . الثاني : على ما أراد أن يفتحه من الحصون والقرى قدير , قاله النقاش
. وقيل :وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مما وعدكموهقَدِيرًا لا ترد قدرته ولا
يجوز عليه العجز تعالى . ويقال تأسرون وتأسرون ( بكسر السين وضمها ) حكاه الفراء .
يا أيهاقال علماؤنا : هذه الآية متصلة : بمعنى ما تقدم من المنع من إيذاء النبي صلى
الله عليه وسلم , وكان قد تأذى ببعض الزوجات . قيل : سألنه شيئا من عرض الدنيا .
وقيل : زيادة في النفقة . وقيل : آذينه بغيرة بعضهن على بعض . وقيل : أمر صلى الله
عليه وسلم بتلاوة هذه الآية عليهن وتخييرهن بين الدنيا والآخرة . وقال الشافعي رحمه
الله تعالى , : إن من ملك زوجة فليس عليه تخييرها . أمر صلى الله عليه وسلم أن يخير
نساءه فاخترنه . وجملة ذلك أن الله سبحانه خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أن
يكون نبيا ملكا وعرض عليه مفاتيح خزائن الدنيا , وبين أن يكون نبيا مسكينا , فشاور
جبريل فأشار عليه بالمسكنة فاختارها , فلما اختارها وهي أعلى المنزلتين , أمره الله
عز وجل أن يخير زوجاته , فربما كان فيهن من يكره المقام معه على الشدة تنزيها له .
وقيل : إن السبب الذي أوجب التخيير لأجله , أن امرأة من أزواجه سألته أن يصوغ لها
حلقة من ذهب , فصاغ لها حلقة من فضة وطلاها بالذهب - وقيل بالزعفران - فأبت إلا أن
تكون من ذهب , فنزلت آية التخيير فخيرهن , فقلن اخترنا الله ورسوله . وقيل : إن
واحدة منهن اختارت الفراق . فالله أعلم . روى البخاري ومسلم واللفظ لمسلم - عن جابر
بن عبد الله قال : دخل أبو بكر يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم , فوجد الناس
جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم , قال : فأذن لأبي بكر فدخل , ثم جاء عمر فاستأذن
فأذن له , فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا . قال : -
فقال والله لأقولن شيئا أضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال : يا رسول الله ,
لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها , فضحك رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقال : { هن حولي كما ترى يسألنني النفقة ) فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ
عنقها , وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها , كلاهما يقول : تسألن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ما ليس عنده ! ! فقلن : والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا
أبدا ليس عنده . ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين ثم نزلت عليه هذه الآية : { يا
أيها النبي قل لأزواجك - حتى بلغ - للمحسنات منكن أجرا عظيما } . قال : فبدأ بعائشة
فقال : ( يا عائشة , إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب ألا تعجلي فيه حتى تستشيري
أبويك ) قالت : وما هو يا رسول الله ؟ فتلا عليها الآية . قالت : أفيك يا رسول الله
أستشير أبوي ! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة , وأسألك ألا تخبر أمرأة من
نسائك بالذي قلت . قال : ( لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها , إن الله لم يبعثني
معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا ) . وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها
قالت : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال : ( يا عائشة ,
إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك ) قالت : وقد علم أن أبوي
لم يكونا ليأمراني بفراقه , قالت ثم قال : ( إن الله يقول : { يا أيها النبي قل
لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا -
حتى بلغ - للمحسنات منكن أجرا عظيما }{ فقلت : أفي هذا أستأمر أبوي ! فإني أريد الله
ورسوله والدار الآخرة , وفعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما فعلت . قال : هذا
حديث حسن صحيح قال العلماء : وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تشاور
أبويها لأنه كان يحبها , وكان يخاف أن يحملها فرط الشباب على أن تختار فراقه ,
ويعلم من أبويها أنهما لا يشيران عليها بفراقه . النبي قلكان للنبي صلى الله عليه
وسلم أزواج , منهن من دخل بها , ومنهن من عقد عليها ولم يدخل بها , ومنهن من خطبها
فلم يتم نكاحه معها . فأولهن : خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب
. وكانت قبله عند أبي هالة واسمه زرارة بن النباش الأسدي , وكانت قبله عند عتيق بن
عائذ , ولدت منه غلاما اسمه عبد مناف . وولدت من أبي هالة هند بن أبي هالة , وعاش
إلى زمن الطاعون فمات فيه . ويقال : إن الذي عاش إلى زمن الطاعون هند بن هند ,
وسمعت نادبته تقول حين مات : واهند بن هنداه , واربيب رسول الله . ولم يتزوج رسول
الله صلى الله عليه وسلم على خديجة غيرها حتى ماتت . وكانت يوم تزوجها رسول الله
صلى الله عليه وسلم بنت أربعين سنة , وتوفيت بعد أن مضى من النبوة سبع سنين , وقيل
: عشر . أو كان لها حين توفيت خمس وستون سنة . وهي أول امرأة آمنت به . وجميع
أولاده منها غير إبراهيم . قال حكيم بن حزام : توفيت خديجة فخرجنا بها من منزلها
حتى دفناها بالحجون , ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرتها , ولم تكن يومئذ
سنة الجنازة الصلاة عليها . ومنهن : سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس العامرية ,
أسلمت قديما وبايعت , وكانت عند ابن عم لها يقال له السكران بن عمرو , وأسلم أيضا ,
وهاجرا جميعا إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية , فلما قدما مكة مات زوجها . وقيل :
مات بالحبشة , فلما حلت خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم , فتزوجها ودخل بها
بمكة , وهاجر بها إلى المدينة , فلما كبرت أراد طلاقها فسألته ألا يفعل وأن يدعها
في نسائه , وجعلت ليلتها لعائشة حسبما هو مذكور في الصحيح فأمسكها , وتوفيت
بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين . ومنهن : عائشة بنت أبي بكر الصديق , وكانت مسماة
لجبير بن مطعم , فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال أبو بكر : يا رسول
الله , دعني أسلها من جبير سلا رفيقا , فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة
قبل الهجرة بسنتين , وقيل بثلاث سنين , وبنى بها بالمدينة وهي بنت تسع , وبقيت عنده
تسع سنين , ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة , ولم يتزوج بكرا
غيرها . وماتت سنة تسع وخمسين , وقيل ثمان وخمسين . ومنهن : حفصة بنت عمر بن الخطاب
القرشية العدوية , تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلقها , فأتاه جبريل
فقال : ( إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة ) فراجعها . قال الواقدي :
وتوفيت في شعبان سنة خمس وأربعين في خلافة معاوية , وهي ابنة ستين سنة . وقيل :
ماتت في خلافة عثمان بالمدينة . ومنهن : أم سلمة , واسمها هند بنت أبي أمية
المخزومية - واسم أبي أمية سهيل - تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال
بقين من شوال سنة أربع , زوجها منه ابنها سلمة على الصحيح , وكان عمر ابنها صغيرا ,
وتوفيت في سنة تسع وخمسين . وقيل : سنة ثنتين وستين , والأول أصح . وصلى عليها سعيد
بن زيد . وقيل أبو هريرة . وقبرت بالبقيع وهي ابنة أربع وثمانين سنة . ومنهن , أم
حبيبة , واسمها رملة بنت أبي سفيان . بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن
أمية الضمري إلى النجاشي , ليخطب عليه أم حبيبة فزوجه إياها , وذلك سنة سبع من
الهجرة , وأصدق النجاشي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار , وبعث بها
مع شرحبيل بن حسنة , وتوفيت سنة أربع وأربعين . وقال الدارقطني : كانت أم حبيبة تحت
عبيد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة على النصرانية , فزوجها النجاشي النبي صلى الله
عليه وسلم , وأمهرها عنه أربعة آلاف , وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة . ومنهن :
زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية , وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه
وسلم زينب , وكان اسم أبيها برة , فقالت : يا رسول الله , بدل اسم أبي فإن البرة
حقيرة , فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو كان أبوك مؤمنا سميناه باسم رجل
منا أهل البيت ولكني قد سميته جحشا والجحش من البرة ) ذكر هذا الحديث الدارقطني .
تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في سنة خمس من الهجرة , وتوفيت سنة
عشرين , وهي بنت ثلاث وخمسين . ومنهن : زينب بنت خذيمة بن الحارث بن عبد الله بن
عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالية , كانت تسمى في الجاهلية أم
المساكين , لإطعامها إياهم . تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان على رأس
واحد وثلاثين شهرا من الهجرة , فمكثت عنده ثمانية أشهر , وتوفيت في حياته في آخر
ربيع الأول على رأس تسعة وثلاثين شهرا , ودفنت بالبقيع . ومنهن : جويرية بنت الحارث
بن أبي ضرار الخزاعية المصطلقية , أصابها في غزوة بني المصطلق فوقعت في سهم ثابت بن
قيس بن شماس فكاتبها , فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها , وذلك
في شعبان سنة ست , وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية ,
وتوفيت في ربيع الأول سنة ست وخمسين . وقيل : سنة خمسين وهي ابنة خمس وستين . ومنهن
: صفية بنت حيي بن أخطب الهارونية , سباها النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر
واصطفاها لنفسه , وأسلمت وأعتقها , وجعل عتقها صداقها . وفي الصحيح : أنها وقعت في
سهم دحية الكلبي فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس , وماتت في سنة
اثنتين وخمسين . وقيل : سنة اثنتين وخمسين , ودفنت بالبقيع . ومنهن : ريحانة بنت زيد
بن عمرو بن خنافة من بني النضير , سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقها ,
وتزوجها في سنة ست , وماتت مرجعه من حجة الوداع , فدفنها بالبقيع . وقال الواقدي :
ماتت سنة ست عشرة وصلى عليها عمر . قال أبو الفرج الجوزي : وقد سمعت من يقول : إنه
كان يطؤها بملك اليمين ولم يعتقها . قلت : ولهذا والله أعلم لم يذكرها أبو القاسم
عبد الرحمن السهيلي في عداد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم . ومنهن : ميمونة بنت
الحارث الهلالية , تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف على عشرة أميال من مكة
, وذلك في سنة سبع من الهجرة في عمرة القضية , وهي آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى
الله عليه وسلم , وقدر الله تعالى أنها ماتت في المكان الذي بنى فيه رسول الله صلى
الله عليه وسلم بها , ودفنت هنالك , وذلك في سنة إحدى وستين . وقيل : ثلاث وستين .
وقيل ثمان وستين . فهؤلاء المشهورات من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم , وهن اللاتي
دخل بهن , رضي الله عنهن . فأما من تزوجهن ولم يدخل بهن فمنهن : الكلابية .
واختلفوا في اسمها , فقيل فاطمة . وقيل عمرة . وقيل العالية . قال الزهري : تزوج
فاطمة بنت الضحاك الكلابية فاستعاذت منه فطلقها , وكانت تقول : أنا الشقية . تزوجها
في ذي القعدة سنة ثمان من الهجرة , وتوفيت سنة ستين . ومنهن : أسماء بنت النعمان بن
الجون بن الحارث الكندية , وهي الجونية . قال قتادة : لما دخل عليها دعاها فقالت :
تعال أنت , فطلقها . وقال غيره : هي التي استعاذت منه . وفي البخاري قال : تزوج
رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل , فلما أدخلت عليه بسط يده إليها
فكأنها كرهت ذلك , فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين . وفي لفظ آخر قال أبو
أسيد : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجونية , فلما دخل عليها قال : ( هبي لي
نفسك ) فقالت : وهل تهب الملكة نفسها للسوقة فأهوى بيده ليضعها عليها لتسكن , فقالت
: أعوذ بالله منك فقال : ( قد عذت بمعاذ ) ثم خرج علينا فقال : ( يا أبا أسيد ,
اكسها رازقيين وألحقها بأهلها ) . ومنهن : قتيلة بنت قيس , أخت الأشعث بن قيس ,
زوجها إياه الأشعث , ثم انصرف إلى حضرموت , فحملها إليه فبلغه وفاة النبي صلى الله
عليه وسلم فردها إلى بلاده , فارتد وارتدت معه . ثم تزوجها عكرمة بن أبي جهل , فوجد
من ذلك أبو بكر وجدا شديدا . فقال له عمر : إنها والله ما هي من أزواجه , ما خيرها
ولا حجبها . ولقد برأها الله منه بالارتداد . وكان عروة ينكر أن يكون تزوجها . ومنهن
: أم شريك الأزدية , واسمها غزية بنت جابر بن حكيم , وكانت قبله عند أبي بكر بن أبي
سلمى , فطلقها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بها . وهي التي وهبت نفسها . وقيل
: إن التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم . ومنهن : خولة بنت
الهزيل بن هبيرة , تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم , فهلكت قبل أن تصل إليه
. ومنهن : شراف بنت خليفة , أخت دحية , تزوجها ولم يدخل بها . ومنهن ليلى بنت الخطيم
, أخت قيس , تزوجها وكانت غيورا فاستقالته فأقالها . ومنهن : عمرة بنت معاوية
الكندية , تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قال الشعبي : تزوج امرأة من كندة فجيء
بها بعد ما مات . ومنهن : ابنة جندب بن ضمرة الجندعية . قال بعضهم : تزوجها رسول
الله صلى الله عليه وأنكر بعضهم وجود ذلك . ومنهن : الغفارية . قال بعضهم : تزوج
امرأة من غفار , فأمرها فنزعت ثيابها فرأى بياضا فقال : ( الحقي بأهلك ) . ويقال :
إنما رأى البياض بالكلابية . فهؤلاء اللاتي , عقد عليهن ولم يدخل بهن , صلى الله
عليه وسلمفأما من خطبهن فلم يتم نكاحه معهن , ومن وهبت له نفسها :فمنهن : أم هانئ
بنت أبي طالب , واسمها فاختة . خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني امرأة
مصبية واعتذرت إليه فعذرها . ومنهن : ضباعة بنت عامر . ومنهن : صفية بنت بشامة بن
نضلة , خطبها النبي صلى الله عليه وسلم وكان أصابها سباء , فخيرها النبي صلى الله
عليه وسلم , فقال : ( إن شئت أنا وإن شئت زوجك ) ؟ قالت : زوجي . فأرسلها , فلعنتها
بنو تميم , قاله ابن عباس . ومنهن : أم شريك . وقد تقدم ذكرها . ومنهن : ليلى بنت
الخطيم , وقد تقدم ذكرها . ومنهن : خولة بنت حكيم بن أمية , وهبت نفسها للنبي صلى
الله عليه وسلم فأرجأها , فتزوجها عثمان بن مظعون . ومنهن : جمرة بنت الحارث بن عوف
المري , خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبوها : إن بها سوءا ولم يكن بها ,
فرجع إليها أبوها وقد برصت , وهي أم شبيب بن البرصاء الشاعر . ومنهن : سودة القرشية
, خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مصبية . فقالت : أخاف أن يضغو صبيتي
عند رأسك . فحمدها ودعا لها . ومنهن : امرأة لم يذكر اسمها . قال مجاهد : خطب رسول
الله صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت : أستأمر أبي . فلقيت أباها فأذن لها , فلقيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( قد التحفنا لحافا غيرك ) . فهؤلاء جميع
أزواج النبي صلى الله عليه وسلم . وكان له من السراري سريتان : مارية القبطية ,
وريحانة , في قول قتادة . وقال غيره : كان له أربع : مارية , وريحانة , وأخرى جميلة
أصابها في السبي , وجارية وهبتها له زينب بنت جحش . لأزواجك إن كنتن تردن الحياة
الدنيا{ إن }{ شرط , وجوابه }{ فتعالين } , فعلق التخيير على شرط . وهذا يدل على أن
التخيير والطلاق المعلقين على شرط صحيحان , فينفذان ويمضيان , خلافا للجهال
المبتدعة الذين يزعمون أن الرجل إذا قال لزوجته : أنت طالق إن دخلت الدار , أنه لا
يقع الطلاق إن دخلت الدار , لأن الطلاق الشرعي هو المنجز في الحال لا غير
. وزينتهاهو جواب الشرط , وهو فعل جماعة النساء , من قولك }{ تعالى } , وهو دعاء إلى
الإقبال إليه يقال : تعال بمعنى أقبل , وضع لمن له جلالة ورفعة , ثم صار في
الاستعمال لكل داع إلى الإقبال , وأما في هذا الموضع فهو على أصله , فإن الداعي هو
رسول الله صلى الله عليه وسلم . فتعالينقرئ }{ أمتعكن }{ بضم العين . قال ابن عباس وابن
عمر وجابر بن زيد والحسن والشافعي وأحمد وعطاء وإسحاق وأصحاب الرأي : المتعة واجبة
للمطلقة قبل البناء والفرض , ومندوبة في حق غيرها . وقال مالك وأصحابه : المتعة
مندوب إليها في كل مطلقة وإن دخل بها , إلا في التي لم يدخل بها وقد فرض لها فحسبها
ما فرض لها ولا متعة لها . قال أبو ثور : لها المتعة ولكل مطلقة . وأجمع أهل العلم
على أن التي لم يفرض لها ولم يدخل بها لا شيء لها غير المتعة . قال الزهري : يقضي
لها بها القاضي . وقال جمهور الناس : لا يقضي بها لها . قلت : هذا الإجماع إنما هو
في الحرة , فأما الأمة إذا طلقت قبل الفرض والمسيس فالجمهور على أن لها المتعة .
وقال الأوزاعي والثوري : لا متعة لها لأنها تكون لسيدها وهو لا يستحق مالا في
مقابلة تأذي مملوكته بالطلاق . وأما ربط مذهب مالك فقال ابن شعبان : المتعة بإزاء
غم الطلاق , ولذلك ليس للمختلعة والمبارئة والملاعنة متعة قبل البناء ولا بعده ;
لأنها هي التي اختارت الطلاق . وقال الترمذي وعطاء والنخعي : للمختلعة متعة . وقال
أصحاب الرأي : للملاعنة متعة . قال ابن القاسم : ولا متعة في نكاح مفسوخ . قال ابن
المواز : ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد ; مثل ملك أحد الزوجين صاحبه . قال
ابن القاسم : وأصل ذلك قوله تعالى : { وللمطلقات متاع بالمعروف }{ فكان هذا الحكم
مختصا بالطلاق دون الفسخ . وروى ابن وهب عن مالك أن المخيرة لها المتعة بخلاف الأمة
تعتق تحت العبد فتختار هي نفسها , فهذه لا متعة لها . وأما الحرة تخير أو تملك أو
يتزوج عليها أمة فتختار هي نفسها في ذلك كله فلها المتعة ; لأن الزوج سبب للفراق
. قال مالك : ليس للمتعة عندنا حد معروف في قليلها ولا كثيرها . وقد اختلف الناس في
هذا ; فقال ابن عمر : أدنى ما يجزئ في المتعة ثلاثون درهما أو شبهها . وقال ابن
عباس : أرفع المتعة خادم ثم كسوة ثم نفقة . عطاء : أوسطها الدرع والخمار والملحفة .
أبو حنيفة : ذلك أدناها . وقال ابن محيريز : على صاحب الديوان ثلاثة دنانير , وعلى
العبد المتعة . وقال الحسن : يمتع كل بقدره , هذا بخادم وهذا بأثواب وهذا بثوب وهذا
بنفقة ; وكذلك يقول مالك بن أنس , وهو مقتضى القرآن فإن الله سبحانه لم يقدرها ولا
حددها وإنما قال : { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } . ومتع الحسن بن علي
بعشرين ألفا وزقاق من عسل . ومتع شريح بخمسمائة درهم . وقد قيل : إن حالة المرأة
معتبرة أيضا ; قاله بعض الشافعية , قالوا : لو اعتبرنا حال الرجل وحده لزم منه أنه
لو تزوج امرأتين إحداهما شريفة والأخرى دنية ثم طلقهما قبل المسيس ولم يسم لهما أن
يكونا متساويتين في المتعة فيجب للدنية ما يجب للشريفة وهذا خلاف ما قال الله تعالى
: { متاعا بالمعروف }{ ويلزم منه أن , الموسر العظيم اليسار إذا تزوج امرأة دنية أن
يكون مثلها ; لأنه إذا طلقها قبل الدخول والفرض لزمته المتعة على قدر حال ومهر
مثلها ; فتكون المتعة على هذا أضعاف مهر مثلها ; فتكون قد استحقت قبل الدخول أضعاف
ما تستحقه بعد الدخول من مهر المثل الذي فيه غاية الابتذال وهو الوطء . وقال أصحاب
الرأي وغيرهم : متعة التي تطلق قبل الدخول والفرض نصف مهر مثلها لا غير ; لأن مهر
المثل مستحق بالعقد , والمتعة هي بعض مهر المثل ; فيجب لها كما يجب نصف المسمى إذا
طلق قبل الدخول , وهذا يرده قوله تعالى : { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره }
وهذا دليل على رفض التحديد ; والله بحقائق الأمور عليم . من جهل المتعة حتى مضت
أعوام فليدفع ذلك إليها وإن تزوجت , وإلى ورثتها إن ماتت , رواه ابن المواز عن ابن
القاسم . وقال أصبغ : لا شيء عليه إن ماتت لأنها تسلية للزوجة عن الطلاق وقد فات
ذلك . ووجه الأول أنه حق ثبت عليه وينتقل عنها إلى ورثتها كسائر الحقوق , وهذا يشعر
بوجوبها في المذهب , والله أعلم . أمتعكن وأسرحكن سراحابضم الحاء على الاستئناف .
والسراح الجميل : هو أن يكون طلاقا للسنة من غير ضرار ولا منع واجب لهااختلف
العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه على قولين : الأول : أنه
خيرهن بإذن الله تعالى في البقاء على الزوجية أو الطلاق , فاخترن البقاء , قالته
عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي وابن شهاب وربيعة . ومنهن من قال : إنما خيرهن بين
الدنيا فيفارقهن , وبين الآخرة فيمسكهن , لتكون لهن المنزلة العليا كما كانت لزوجهن
, ولم يخيرهن في الطلاق , ذكره الحسن وقتادة . ومن الصحابة علي فيما رواه عنه أحمد
بن حنبل أنه قال : لم يخير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلا بين الدنيا
والآخرة . قلت : القول الأول أصح , لقول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن الرجل يخير
امرأته فقالت : قد خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفكان طلاقا في رواية :
فاخترناه فلم يعده طلاقا ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التخيير
المأمور بين البقاء والطلاق , لذلك قال : ( يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا
تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ) الحديث . ومعلوم أنه لم يرد الاستئمار في اختيار
الدنيا وزينتها على الآخرة . فثبت أن الاستئمار إنما وقع في الفرقة , أو النكاح .
والله أعلم . واختلف العلماء في المخيرة إذا اختارت زوجها , فقال جمهور العلماء من
السلف وغيرهم وأئمة الفتوى : إنه لا يلزمه طلاق , لا واحدة ولا أكثر , هذا قول عمر
بن الخطاب وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وعائشة . ومن التابعين عطاء
ومسروق وسليمان بن يسار وربيعة وابن شهاب . وروي عن علي وزيد أيضا : إن اختارت
زوجها فواحدة بائنة , وهو قول الحسن البصري والليث , وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك
. وتعلقوا بأن قوله : اختاري , كناية عن إيقاع الطلاق , فإذا أضافه إليها وقعت طلقة
, كقوله : أنت بائن . والصحيح الأول , لقول عائشة : خيرنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم فاخترناه فلم يعده علينا طلاقا . أخرجه الصحيحان . قال ابن المنذر : وحديث
عائشة دل على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم يكن ذلك طلاقا , ويدل على أن اختيارها
نفسها يوجب الطلاق , ويدل على معنى ثالث , وهو أن المخيرة إذا اختارت نفسها أنها
تطليقة يملك زوجها رجعتها , إذ غير جائز أن يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم
بخلاف ما أمره الله . وروي هذا عن عمر وابن مسعود وابن عباس . وبه قال ابن أبي ليلى
والثوري والشافعي . وروي عن علي أنها إذا اختارت نفسها أنها واحدة بائنة . وهو قول
أبي حنيفة وأصحابه . ورواه ابن خويز منداد عن مالك . وروي عن زيد بن ثابت أنها إذا
اختارت نفسها أنها ثلاث . وهو قول الحسن البصري , وبه قال مالك والليث , لأن الملك
إنما يكون بذلك . وروي عن علي رضي الله عنه أنها إذا اختارت نفسها فليس بشيء . وروي
عنه أنها إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية . ذهب جماعة من المدنيين وغيرهم إلى أن
التمليك والتخيير سواء , والقضاء ما قضت فيهما جميعا , وهو قول عبد العزيز بن أبي
سلمة . قال ابن شعبان : وقد اختاره كثير من أصحابنا , وهو قول جماعة من أهل المدينة
. قال أبو عمر : وعلى هذا القول أكثر الفقهاء . والمشهور من مذهب مالك الفرق بينهما
, وذلك أن التمليك عند مالك وهو قول الرجل لامرأته : قد ملكتك , أي قد ملكتك ما جعل
الله لي من الطلاق واحدة أو اثنتين أو ثلاثا , فلما جاز أن يملكها بعض ذلك دون بعض
وادعى ذلك , كان القول قوله مع يمينه إذا ناكرها . وقالت طائفة من أهل المدينة : له
المناكرة في التمليك وفي التخيير سواء في المدخول بها . والأول قول مالك في المشهور
. وروى ابن خويز منداد . عن مالك أن للزوج أن يناكر المخيرة في الثلاث , وتكون طلقة
بائنة كما قال أبو حنيفة . وبه قال أبو الجهم . قال سحنون : وعليه أكثر أصحابنا
. وتحصيل مذهب مالك : أن المخيرة إذا اختارت نفسها وهي مدخول بها فهو الطلاق كله ,
وإن أنكر زوجها فلا نكرة له . وإن اختارت واحدة فليس بشيء , وإنما الخيار البتات ,
إما أخذته وإما تركته , لأن معنى التخيير التسريح , قال الله تعالى في آية التخيير
: { فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا }{ فمعنى التسريح البتات , قال الله تعالى :
{ الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } [ البقرة : 229 ] . والتسريح
بإحسان هو الطلقة الثالثة , روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم . ومن
جهة المعنى أن قوله : اختاريني أو اختاري نفسك يقتضي ألا يكون له عليها سبيل إذا
اختارت نفسها , ولا يملك منها شيئا , إذ قد جعل إليها أن تخرج ما يملكه منها أو
تقيم معه إذا اختارته , فإذا اختارت البعض من الطلاق لم تعمل بمقتضى اللفظ , وكانت
بمنزلة من خير بين شيئين فاختار غيرهما . وأما التي لم يدخل بها فله مناكرتها في
التخيير والتمليك إذا زادت على واحدة , لأنها تبين في الحال . واختلفت الرواية عن
مالك متى يكون لها الخيار , فقال مرة : لها الخيار ما دامت في المجلس قبل القيام أو
الاشتغال بما يدل على الإعراض . فإن لم تختر ولم تقض شيئا حتى افترقا من مجلسهما
بطل ما كان من ذلك إليها , وعلى هذا أكثر الفقهاء . وقال مرة : لها الخيار أبدا ما
لم يعلم أنها تركت , وذلك يعلم بأن تمكنه من نفسها بوطء أو مباشرة , فعلى هذا إن
منعت نفسها ولم تختر شيئا كان له رفعها على الحاكم لتوقع أو تسقط , فإن أبت أسقط
الحاكم تمليكها . وعلى القول الأول إذا أخذت في غير ذلك من حديث أو عمل أو مشي أو
ما ليس في التخيير بشيء كما ذكرنا سقط تخييرها . واحتج بعض أصحابنا لهذا القول
بقوله تعالى : { فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره } [ النساء : 140 ] .
وأيضا فإن الزوج أطلق لها القول ليعرف الخيار منها , فصار كالعقد بينهما , فإن
قبلته وإلا سقط , كالذي يقول : قد وهبت لك أو بايعتك , فإن قبل وإلا كان الملك
باقيا بحاله . هذا قول الثوري والكوفيين والأوزاعي والليث والشافعي وأبي ثور , وهو
اختيار ابن القاسم ووجه الرواية الثانية أن ذلك قد صار في يدها ملكته على زوجها
بتمليكه إياها فلما ملكت ذلك وجب أن يبقى في يدها كبقائه في يد زوجها . قلت : وهذا
هو الصحيح لقوله عليه السلام لعائشة : ( إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تستعجلي حتى
تستأمري أبويك ) رواه الصحيح , وخرجه البخاري , وصححه الترمذي . وقد تقدم في أول
الباب . وهو حجة لمن قال : إنه إذا خير الرجل امرأته أو ملكها أن لها أن تقضي في
ذلك وإن افترقا من مجلسهما , روي هذا عن الحسن والزهري , وقال مالك في إحدى روايتيه
. قال أبو عبيد : والذي عندنا في هذا الباب , اتباع السنة في عائشة في هذا الحديث ,
حين جعل لها التخيير إلى أن تستأمر أبويها , ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجا من
الأمر . قال المروزي . هذا أصح الأقاويل عندي , وقاله ابن المنذر والطحاوي .
اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه على قولين : الأول :
أنه خيرهن بإذن الله تعالى في البقاء على الزوجية أو الطلاق , فاخترن البقاء ,
قالته عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي وابن شهاب وربيعة . ومنهن من قال : إنما خيرهن
بين الدنيا فيفارقهن , وبين الآخرة فيمسكهن , لتكون لهن المنزلة العليا كما كانت
لزوجهن , ولم يخيرهن في الطلاق , ذكره الحسن وقتادة . ومن الصحابة علي فيما رواه عنه
أحمد بن حنبل أنه قال : لم يخير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلا بين الدنيا
والآخرة . قلت : القول الأول أصح , لقول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن الرجل
يخير امرأته فقالت : قد خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفكان طلاقا في رواية :
فاخترناه فلم يعده طلاقا ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التخيير
المأمور بين البقاء والطلاق , لذلك قال : ( يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا
تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ) الحديث . ومعلوم أنه لم يرد الاستئمار في اختيار
الدنيا وزينتها على الآخرة . فثبت أن الاستئمار إنما وقع في الفرقة , أو النكاح
. والله أعلم . اختلف العلماء في المخيرة إذا اختارت زوجها , فقال جمهور العلماء من
السلف وغيرهم وأئمة الفتوى : إنه لا يلزمه طلاق , لا واحدة ولا أكثر , هذا قول عمر
بن الخطاب وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وعائشة . ومن التابعين عطاء
ومسروق وسليمان بن يسار وربيعة وابن شهاب . وروي عن علي وزيد أيضا : إن اختارت زوجها
فواحدة بائنة , وهو قول الحسن البصري والليث , وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك
. وتعلقوا بأن قوله : اختاري , كناية عن إيقاع الطلاق , فإذا أضافه إليها وقعت طلقة
, كقوله : أنت بائن . والصحيح الأول , لقول عائشة : خيرنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم فاخترناه فلم يعده علينا طلاقا . أخرجه الصحيحان . قال ابن المنذر : وحديث عائشة
يدل على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم يكن ذلك طلاقا , ويدل على أن اختيارها
نفسها يوجب الطلاق , ويدل على معنى ثالث , وهو أن المخيرة إذا اختارت نفسها أنها
تطليقة يملك زوجها رجعتها , إذ غير جائز أن يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم
بخلاف ما أمره الله . وروي هذا عن عمر وابن مسعود وابن عباس . وبه قال ابن أبي ليلى
والثوري والشافعي . وروي عن علي أنها إذا اختارت نفسها أنها واحدة بائنة . وهو قول
أبي حنيفة وأصحابه . ورواه ابن خويز منداد عن مالك . وروي عن زيد بن ثابت أنها إذا
اختارت نفسها أنها ثلاث . وهو قول الحسن البصري , وبه قال مالك والليث , لأن الملك
إنما يكون بذلك . وروي عن علي رضي الله عنه أنها إذا اختارت نفسها فليس بشيء . وروي
عنه أنها إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية . ذهب جماعة من المدنيين وغيرهم إلى أن
التمليك والتخيير سواء , والقضاء ما قضت فيهما جميعا , وهو قول عبد العزيز بن أبي
سلمة . قال ابن شعبان : وقد اختاره كثير من أصحابنا , وهو قول جماعة من أهل المدينة
. قال أبو عمر : وعلى هذا القول أكثر الفقهاء . والمشهور من مذهب مالك الفرق بينهما ,
وذلك أن التمليك عند مالك وهو قول الرجل لامرأته : قد ملكتك , أي قد ملكتك ما جعل
الله لي من الطلاق واحدة أو اثنتين أو ثلاثا , فلما جاز أن يملكها بعض ذلك دون بعض
وادعى ذلك , كان القول قوله مع يمينه إذا ناكرها . وقالت طائفة من أهل المدينة : له
المناكرة في التمليك وفي التخيير سواء في المدخول بها . والأول قول مالك في المشهور
. وروى ابن خويز منداد . عن مالك أن للزوج أن يناكر المخيرة في الثلاث , وتكون طلقة
بائنة كما قال أبو حنيفة . وبه قال أبو الجهم . قال سحنون : وعليه أكثر أصحابنا .
وتحصيل مذهب مالك : أن المخيرة إذا اختارت نفسها وهي مدخول بها فهو الطلاق كله ,
وإن أنكر زوجها فلا نكرة له . وإن اختارت واحدة فليس بشيء , وإنما الخيار البتات ,
إما أخذته وإما تركته , لأن معنى التخيير التسريح , قال الله تعالى في آية التخيير
: { فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا }{ فمعنى التسريح البتات , قال الله تعالى :
{ الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } [ البقرة : 229 ] . والتسريح بإحسان
هو الطلقة الثالثة , روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم . ومن جهة المعنى
أن قوله : اختاريني أو اختاري نفسك يقتضي ألا يكون له عليها سبيل إذا اختارت نفسها
, ولا يملك منها شيئا , إذ قد جعل إليها أن تخرج ما يملكه منها أو تقيم معه إذا
اختارته , فإذا اختارت البعض من الطلاق لم تعمل بمقتضى اللفظ , وكانت بمنزلة من خير
بين شيئين فاختار غيرهما . وأما التي لم يدخل بها فله مناكرتها في التخيير والتمليك
إذا زادت على واحدة , لأنها تبين في الحال . اختلفت الرواية عن مالك متى يكون لها
الخيار , فقال مرة : لها الخيار ما دامت في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل
على الإعراض . فإن لم تختر ولم تقض شيئا حتى افترقا من مجلسهما بطل ما كان من ذلك
إليها , وعلى هذا أكثر الفقهاء . وقال مرة : لها الخيار أبدا ما لم يعلم أنها تركت ,
وذلك يعلم بأن تمكنه من نفسها بوطء أو مباشرة , فعلى هذا إن منعت نفسها ولم تختر
شيئا كان له رفعها على الحاكم لتوقع أو تسقط فإن أبت أسقط الحاكم تمليكها . وعلى
القول الأول إذا أخذت في غير ذلك من حديث أو عمل أو مشي أو ما ليس في التخيير بشيء
كما ذكرنا سقط تخييرها . واحتج بعض أصحابنا لهذا القول بقوله تعالى : { فلا تقعدوا
معهم حتى يخوضوا في حديث غيره } [ النساء : 140 ] . وأيضا فإن الزوج أطلق لها القول
ليعرف الخيار منها , فصار كالعقد بينهما , فإن قبلته وإلا سقط , كالذي يقول : قد
وهبت لك أو بايعتك , فإن قبل وإلا كان الملك باقيا بحاله . هذا قول الثوري والكوفيين
والأوزاعي والليث والشافعي وأبي ثور , وهو اختيار ابن القاسم ووجه الرواية الثانية
أن ذلك قد صار في يدها ملكته على زوجها بتمليكه إياها فلما ملكت ذلك وجب أن يبقى في
يدها كبقائه في يد زوجها . قلت : وهذا هو الصحيح لقوله عليه السلام لعائشة : ( إني
ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك ) رواه الصحيح , وخرجه
البخاري , وصححه الترمذي . وقد تقدم في أول الباب . وهو حجة لمن قال : إنه إذا خير
الرجل امرأته أو ملكها أن لها أن تقضي في ذلك وإن افترقا من مجلسهما , روي هذا عن
الحسن والزهري , وقال مالك في إحدى روايتيه . قال أبو عبيد : والذي عندنا في هذا
الباب , اتباع السنة في عائشة في هذا الحديث , حين جعل لها التخيير إلى أن تستأمر
أباها , ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجا من الأم . قال المروزي . هذا أصح الأقاويل
عندي , وقاله ابن المنذر والطحاوي .