Prev  

4. Surah An-Nisâ' سورة النساء

  Next  



تفسير القرطبي - النساء - An-Nisa -
 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
بِسْم ِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
    +/- -/+  
الأية
1
 
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي سورة النساء : وهي مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي وهي قوله : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } [ النساء : 58 ] على ما يأتي بيانه . قال النقاش : وقيل : نزلت عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة . وقد قال بعض الناس : إن قوله تعالى : { يا أيها الناس { حيث وقع إنما هو مكي ; وقاله علقمة وغيره , فيشبه أن يكون صدر السورة مكيا , وما نزل بعد الهجرة فإنما هو مدني . وقال النحاس : هذه السورة مكية . قلت : والصحيح الأول , فإن في صحيح البخاري عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ; تعني قد بنى بها . ولا خلاف بين العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بنى بعائشة بالمدينة . ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها . وأما من قال : إن قوله .{ يا أيها الناس } مكي حيث وقع فليس بصحيح ; فإن البقرة مدنية وفيها قوله , { يا أيها الناس { في موضعين , وقد تقدم . والله أعلم قد مضى في { البقرة { اشتقاق { الناس { ومعنى التقوى والرب والخلق والزوج والبث , فلا معنى للإعادة . وفي الآية تنبيه على الصانع . خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ تأنيث لفظ النفس . ولفظ النفس يؤنث وإن عني به مذكر . ويجوز في الكلام { من نفس واحد { وهذا على مراعاة المعنى ; إذ المراد بالنفس آدم عليه السلام ; قاله مجاهد وقتادة . وهي قراءة ابن أبي عبلة { واحد { بغير هاء . وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا يعني حواء وقد مضى معنى الزوج في { البقرة { زَوْجَهَا معناه فرق ونشر في الأرض ; ومنه { وزرابي مبثوثة } [ الغاشية : 16 ] وقد تقدم في { البقرة } . وَبَثَّ يعني آدم وحواء . قال مجاهد : خلقت حواء من قصيرى آدم . وفي الحديث : ( خلقت المرأة من ضلع عوجاء )  , وقد مضى في البقرة . مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا حصر ذريتهما في نوعين ; فاقتضى أن الخنثى ليس بنوع , لكن له حقيقة ترده إلى هذين النوعين وهي الآدمية فيلحق بأحدهما , على ما تقدم ذكره في { البقرة { من اعتبار نقص الأعضاء وزيادتها . وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ كرر الاتقاء تأكيدا وتنبيها لنفوس المأمورين . و { الذي { في موضع نصب على النعت ." والأرحام { معطوف . أي اتقوا الله أن تعصوه , واتقوا الأرحام أن تقطعوها . وقرأ أهل المدينة { تساءلون { بإدغام التاء في السين . وأهل الكوفة بحذف التاء , لاجتماع تاءين , وتخفيف السين ; لأن المعنى يعرف ; وهو كقوله : { ولا تعاونوا على الإثم } [ المائدة : 2 ] و { تنزل { وشبهه . وقرأ إبراهيم النخعي وقتادة والأعمش وحمزة } الأرحام { بالخفض . وقد تكلم النحويون في ذلك . فأما البصريون فقال رؤساؤهم : هو لحن لا تحل القراءة به . وأما الكوفيون فقالوا : هو قبيح ; ولم يزيدوا على هذا ولم يذكروا علة قبحه ; قال النحاس : فيما علمت . وقال سيبويه : لم يعطف على المضمر المخفوض ; لأنه بمنزلة التنوين , والتنوين لا يعطف عليه . وقال جماعة : هو معطوف على المكني ; فإنهم كانوا يتساءلون بها , يقول الرجل : سألتك بالله والرحم ; هكذا فسره الحسن والنخعي ومجاهد , وهو الصحيح في المسألة , على ما يأتي . وضعفه أقوام منهم الزجاج , وقالوا : يقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإظهار الخافض ; كقوله { فخسفنا به وبداره الأرض } [ القصص : 81 ] ويقبح { مررت به وزيد } . قال الزجاج عن المازني : لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان . يحل كل واحد منهما محل صاحبه ; فكما لا يجوز { مررت بزيد وك { كذلك لا يجوز { مررت بك وزيد } . وأما سيبويه فهي عنده قبيحة ولا تجوز إلا في الشعر ; كما قال : فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب عطف { الأيام { على الكاف في { بك { بغير الباء للضرورة . وكذلك قول الآخر : نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب مهوى نفانف عطف { الكعب { على الضمير في { بينها { ضرورة . وقال أبو علي : ذلك ضعيف في القياس . وفي كتاب التذكرة المهدية عن الفارسي أن أبا العباس المبرد قال : لو صليت خلف إمام يقرأ { ما أنتم بمصرخي } [ إبراهيم : 22 ] و { اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام { لأخذت نعلي ومضيت . قال الزجاج : قراءة حمزة مع ضعفها وقبحها في العربية خطأ عظيم في أصول أمر الدين ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تحلفوا بآبائكم )  فإذا لم يجز الحلف بغير الله فكيف يجوز بالرحم . ورأيت إسماعيل بن إسحاق يذهب إلى أن الحلف بغير الله أمر عظيم , وأنه خاص لله تعالى . قال النحاس : وقول بعضهم { والأرحام { قسم خطأ من المعنى والإعراب ; لأن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على النصب . وروى شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء قوم من مضر حفاة عراة , فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير لما رأى من فاقتهم ; ثم صلى الظهر وخطب الناس فقال : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم , إلى : والأرحام )  ; ثم قال : ( تصدق رجل بديناره تصدق رجل بدرهمه تصدق رجل بصاع تمره .. .) وذكر الحديث . فمعنى هذا على النصب ; لأنه حضهم على صلة أرحامهم . وأيضا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت )  . فهذا يرد قول من قال : المعنى أسألك بالله وبالرحم . وقد قال أبو إسحاق : معنى { تساءلون به { يعني تطلبون حقوقكم به . ولا معنى للخفض أيضا مع هذا . قلت : هذا ما وقفت عليه من القول لعلماء اللسان في منع قراءة } والأرحام { بالخفض , واختاره ابن عطية . ورده الإمام أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري , واختار العطف فقال : ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين ; لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم تواترا يعرفه أهل الصنعة , وإذا ثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن رد ذلك فقد رد على النبي صلى الله عليه وسلم , واستقبح ما قرأ به , وهذا مقام محذور , ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو ; فإن العربية تتلقى من النبي صلى الله عليه وسلم , ولا يشك أحد في فصاحته . وأما ما ذكر من الحديث ففيه نظر ; لأنه عليه السلام قال لأبي العشراء : ( وأبيك لو طعنت في خاصرته )  . ثم النهي إنما جاء في الحلف بغير الله , وهذا توسل إلى الغير بحق الرحم فلا نهي فيه . قال القشيري : وقد قيل هذا إقسام بالرحم , أي اتقوا الله وحق الرحم ; كما تقول : افعل كذا وحق أبيك . وقد جاء في التنزيل : " والنجم , والطور , والتين , لعمرك { وهذا تكلف وقلت : لا تكلف فيه فإنه لا يبعد أن يكون { والأرحام { من هذا القبيل , فيكون أقسم بها كما أقسم بمخلوقاته الدالة على وحدانيته وقدرته تأكيدا لها حتى قرنها بنفسه . والله أعلم . ولله أن يقسم بما شاء ويمنع ما شاء ويبيح ما شاء , فلا يبعد أن يكون قسما . والعرب تقسم بالرحم . ويصح أن تكون الباء مرادة فحذفها كما حذفها في قوله : مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا ببين غرابها فجر وإن لم يتقدم باء . قال ابن الدهان أبو محمد سعيد بن مبارك : والكوفي يجيز عطف الظاهر على المجرور ولا يمنع منه . ومنه قوله : آبك أيه بي أو مصدر من حمر الجلة جأب حشور ومنه : فاذهب فما بك والأيام من عجب وقول الآخر : وما بينها والكعب غوط نفانف ومنه : فحسبك والضحاك سيف مهند وقول الآخر : وقد رام آفاق السماء فلم يجد له مصعدا فيها ولا الأرض مقعدا وقول الآخر : ما إن بها والأمور من تلف ما حم من أمر غيبه وقعا وقول الآخر : أمر على الكتيبة لست أدري أحتفي كان فيها أم سواها ف { سواها { مجرور الموضع بفي . وعلى هذا حمل بعضهم قوله تعالى : { وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين } [ الحجر : 20 ] فعطف على الكاف والميم . وقرأ عبد الله بن يزيد { والأرحام { بالرفع على الابتداء , والخبر مقدر , تقديره : والأرحام أهل أن توصل . ويحتمل أن يكون إغراء ; لأن من العرب من يرفع المغرى . وأنشد الفراء : إن قوما منهم عمير وأشبا ه عمير ومنهم السفاح لجديرون باللقاء إذا قا ل أخو النجدة السلاح السلاح وقد قيل : إن { والأرحام { بالنصب عطف على موضع به ; لأن موضعه نصب , ومنه قوله : فلسنا بالجبال ولا الحديدا وكانوا يقولون : أنشدك بالله والرحم . والأظهر أنه نصب بإضمار فعل كما ذكرنا . اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة . وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسماء وقد سألته أأصل أمي ( نعم صلي أمك )  فأمرها بصلتها وهي كافرة . فلتأكيدها دخل الفضل في صلة الكافر , حتى انتهى الحال بأبي حنيفة وأصحابه فقالوا بتوارث ذوي الأرحام إن لم يكن عصبة ولا فرض مسمى , ويعتقون على من اشتراهم من ذوي رحمهم لحرمة الرحم ; وعضدوا ذلك بما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من ملك ذا رحم محرم فهو حر )  . وهو قول أكثر أهل العلم . روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود , ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة . وهو قول الحسن البصري وجابر بن زيد وعطاء والشعبي والزهري , وإليه ذهب الثوري وأحمد وإسحاق . ولعلمائنا في ذلك ثلاثة أقوال : الأول - أنه مخصوص بالآباء والأجداد . الثاني - الجناحان يعني الإخوة . الثالث - كقول أبي حنيفة . وقال الشافعي : لا يعتق عليه إلا أولاده وآباؤه وأمهاته , ولا يعتق عليه إخوته ولا أحد من ذوي قرابته ولحمته . والصحيح الأول للحديث الذي ذكرناه وأخرجه الترمذي والنسائي . وأحسن طرقه رواية النسائي له ; رواه من حديث ضمرة عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ملك ذا رحم محرم فقد عتق عليه )  . وهو حديث ثابت بنقل العدل عن العدل ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بعلة توجب تركه ; غير أن النسائي قال في آخره : هذا حديث منكر . وقال غيره : تفرد به ضمرة . وهذا هو معنى المنكر والشاذ في اصطلاح المحدثين . وضمرة عدل ثقة , وانفراد الثقة بالحديث لا يضره . والله أعلم . واختلفوا من هذا الباب في ذوي المحارم من الرضاعة . فقال أكثر أهل العلم لا يدخلون في مقتضى الحديث . وقال شريك القاضي بعتقهم . وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الأب لا يعتق على الابن إذا ملكه ; واحتجوا بقوله عليه السلام : ( لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه )  . قالوا : فإذا صح الشراء فقد ثبت الملك , ولصاحب الملك التصرف . وهذا جهل منهم بمقاصد الشرع ; فإن الله تعالى يقول : { وبالوالدين إحسانا } [ الإسراء : 23 ] فقد قرن بين عبادته وبين الإحسان للوالدين في الوجوب , وليس من الإحسان أن يبقى والده في ملكه وتحت سلطانه ; فإذا يجب عليه عتقه إما لأجل الملك عملا بالحديث ( فيشتريه فيعتقه )  , أو لأجل الإحسان عملا بالآية . ومعنى الحديث عند الجمهور أن الولد لما تسبب إلى عتق أبيه باشترائه نسب الشرع العتق إليه نسبة الإيقاع منه . وأما اختلاف العلماء فيمن يعتق بالملك , فوجه القول الأول ما ذكرناه من معنى الكتاب والسنة , ووجه الثاني إلحاق القرابة القريبة المحرمة بالأب المذكور في الحديث , ولا أقرب للرجل من ابنه فيحمل على الأب , والأخ يقاربه في ذلك لأنه يدلي بالأبوة ; فإنه يقول : أنا ابن أبيه . وأما القول الثالث فمتعلقه حديث ضمرة وقد ذكرناه . والله أعلم . قوله تعالى : { والأرحام { الرحم اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره . وأبو حنيفة يعتبر الرحم المحرم في منع الرجوع في الهبة , ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام مع أن القطيعة موجودة والقرابة حاصلة ; ولذلك تعلق بها الإرث والولاية وغيرهما من الأحكام . فاعتبار المحرم زيادة على نص الكتاب من غير مستند . وهم يرون ذلك نسخا , سيما وفيه إشارة إلى التعليل بالقطيعة , وقد جوزوها في حق بني الأعمام وبني الأخوال والخالات . والله أعلم . وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ أي حفيظا ; عن ابن عباس ومجاهد . ابن زيد : عليما . وقيل : { رقيبا } حافظا ; قيل : بمعنى فاعل . فالرقيب من صفات الله تعالى , والرقيب : الحافظ والمنتظر ; تقول رقبت أرقب رقبة ورقبانا إذا انتظرت . والمرقب : المكان العالي المشرف , يقف عليه الرقيب . والرقيب : السهم الثالث من السبعة التي لها أنصباء . ويقال : إن الرقيب ضرب من الحيات , فهو لفظ مشترك . والله أعلم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا
    +/- -/+  
الأية
2
 
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وأراد باليتامى الذين كانوا أيتاما ; كقوله : " وألقي السحرة ساجدين } [ الأعراف : 120 ] ولا سحر مع السجود , فكذلك لا يتم مع البلوغ . وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : { يتيم أبي طالب { استصحابا لما كان .{ وآتوا { أي أعطوا . والإيتاء الإعطاء . ولفلان أتو , أي عطاء . أبو زيد : أتوت الرجل آتوه إتاوة , وهي الرشوة . واليتيم من لم يبلغ الحلم , وقد تقدم في { البقرة } مستوفى . وهذه الآية خطاب للأولياء والأوصياء . نزلت - في قول مقاتل والكلبي - في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم , فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه ; فنزلت , فقال العم : نعوذ بالله من الحوب الكبير ! ورد المال . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من يوق شح نفسه ورجع به هكذا فإنه يحل داره )  يعني جنته . فلما قبض الفتى المال أنفقه في سبيل الله , فقال عليه السلام : ( ثبت الأجر وبقي الوزر )  . فقيل : كيف يا رسول الله ؟ فقال : ( ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده )  لأنه كان مشركا . وإيتاء اليتامى أموالهم يكون بوجهين : أحدهما - إجراء الطعام والكسوة ما دامت الولاية ; إذ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكلي والاستبداد كالصغير والسفيه الكبير . الثاني - الإيتاء بالتمكن وإسلام المال إليه , وذلك عند الابتلاء والإرشاد , وتكون تسميته مجازا , المعنى : الذي كان يتيما , وهو استصحاب الاسم ; كقوله تعالى : { وألقي السحرة ساجدين } [ الأعراف : 120 ] أي الذين كانوا سحرة . وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : { يتيم أبي طالب } . فإذا تحقق الولي رشده حرم عليه إمساك ماله عنه وكان عاصيا . وقال أبو حنيفة : إذا بلغ خمسا وعشرين سنة أعطي ماله كله على كل حال , لأنه يصير جدا . قلت : لما لم يذكر الله تعالى في هذه الآية إيناس الرشد وذكره في قوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 6 ] . قال أبو بكر الرازي الحنفي في أحكام القرآن : لما لم يقيد الرشد في موضع وقيد في موضع وجب استعمالهما , فأقول : إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وهو سفيه لم يؤنس منه الرشد , وجب دفع المال إليه , وإن كان دون ذلك لم يجب , عملا بالآيتين . وقال أبو حنيفة : لما بلغ رشده صار يصلح أن يكون جدا فإذا صار يصلح أن يكون جدا فكيف يصح إعطاؤه المال بعلة اليتم وباسم اليتيم ؟ ! وهل ذلك إلا في غاية البعد ؟ . قال ابن العربي : وهذا باطل لا وجه له ; لا سيما على أصله الذي يرى المقدرات لا تثبت قياسا وإنما تؤخذ من جهة النص , وليس في هذه المسألة . وسيأتي ما للعلماء في الحجر إن شاء الله تعالى . وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أي لا تتبدلوا الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة , ولا الدرهم الطيب بالزيف . وكانوا في الجاهلية لعدم الدين لا يتحرجون عن أموال اليتامى , فكانوا يأخذون الطيب والجيد من أموال اليتامى ويبدلونه بالرديء من أموالهم ; ويقولون : اسم باسم ورأس برأس ; فنهاهم الله عن ذلك . هذا قول سعيد بن المسيب والزهري والسدي والضحاك وهو ظاهر الآية . وقيل : المعنى لا تأكلوا أموال اليتامى وهي محرمة خبيثة وتدعوا الطيب وهو مالكم . وقال مجاهد وأبو صالح وباذان : لا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله . وقال ابن زيد : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان ويأخذ الأكبر الميراث . عطاء : لا تربح على يتيمك الذي عندك وهو غر صغير . وهذان القولان خارجان عن ظاهر الآية ; فإنه يقال : تبدل الشيء بالشيء أي أخذه مكانه . ومنه البدل . وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ قال مجاهد : وهذه الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق ; فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك , ثم نسخ بقوله } وإن تخالطوهم فإخوانكم } [ البقرة : 220 ] . وقال ابن فورك عن الحسن : تأول الناس في هذه الآية النهي عن الخلط فاجتنبوه من قبل أنفسهم , فخفف عنهم في آية البقرة . وقالت طائفة من المتأخرين : إن { إلى { بمعنى مع , كقوله تعالى : { من أنصاري إلى الله } [ الصف : 14 ] . وأنشد القتبي : يسدون أبواب القباب بضمر إلى عنن مستوثقات الأواصر وليس بجيد . وقال الحذاق : { إلى { على بابها وهي تتضمن الإضافة , أي لا تضيفوا أموالهم وتضموها إلى أموالكم في الأكل . فنهوا أن يعتقدوا أموال اليتامى كأموالهم فيتسلطوا عليها بالأكل والانتفاع . إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا { إنه { أي الأكل { كان حوبا كبيرا { أي إثما كبيرا ; عن ابن عباس والحسن وغيرهما . يقال : حاب الرجل يحوب حوبا إذا أثم . وأصله الزجر للإبل ; فسمي الإثم حوبا ; لأنه يزجر عنه وبه . ويقال في الدعاء : اللهم اغفر حوبتي ; أي إثمي . والحوبة أيضا الحاجة . ومنه في الدعاء : إليك أرفع حوبتي ; أي حاجتي . والحوب الوحشة ; ومنه قوله عليه السلام لأبي أيوب : ( إن طلاق أم أيوب لحوب )  . وفيه ثلاث لغات { حوبا { بضم الحاء وهي قراءة العامة ولغة أهل الحجاز . وقرأ الحسن { حوبا { بفتح الحاء . وقال الأخفش : وهي لغة تميم . مقاتل : لغه الحبش . والحوب المصدر , وكذلك الحيابة . والحوب الاسم . وقرأ أبي بن كعب { حابا { على المصدر مثل القال . ويجوز أن يكون اسما مثل الزاد . والحوأب ( بهمزة بعد الواو )  . المكان الواسع . والحوأب ماء أيضا . ويقال : ألحق الله به الحوبة أي المسكنة والحاجة ; ومنه قولهم : بات بحيبة سوء . وأصل الياء الواو . وتحوب فلان أي تعبد وألقى الحوب عن نفسه . والتحوب أيضا التحزن . وهو أيضا الصياح الشديد ; كالزجر , وفلان يتحوب من كذا أي يتوجع وقال طفيل : فذوقوا كما ذقنا غداة محجر من الغيظ في أكبادنا والتحوب .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا
    +/- -/+  
الأية
3
 
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ { وإن خفتم { شرط , وجوابه { فانكحوا } . أي إن خفتم ألا تعدلوا في مهورهن وفي النفقة عليهن { فانكحوا ما طاب لكم { أي غيرهن . وروى الأئمة واللفظ لمسلم عن عروة بن الزبير عن عائشة في قول الله تعالى : { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع { قالت : يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره , فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن . وذكر الحديث . وقال ابن خويز منداد : ولهذا قلنا إنه يجوز أن يشتري الوصي من مال اليتيم لنفسه , ويبيع من نفسه من غير محاباة . وللموكل النظر فيما اشترى وكيله لنفسه أو باع منها . وللسلطان النظر فيما يفعله الوصي من ذلك . فأما الأب فليس لأحد عليه نظر ما لم تظهر عليه المحاباة فيعترض عليه السلطان حينئذ ; وقد مضى في { البقرة { القول في هذا . وقال الضحاك والحسن وغيرهما : إن الآية ناسخة لما كان في الجاهلية وفي أول الإسلام ; من أن للرجل أن يتزوج من الحرائر ما شاء , فقصرتهن الآية على أربع . وقال ابن عباس وابن جبير وغيرهما : المعنى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا في النساء ; لأنهم كانوا يتحرجون في اليتامى ولا يتحرجون في النساء و { خفتم { من الأضداد ; فإنه يكون المخوف منه معلوم الوقوع , وقد يكون مظنونا ; فلذلك اختلف العلماء في تفسير هذا الخوف . فقال أبو عبيدة : { خفتم { بمعنى أيقنتم . وقال آخرون : { خفتم { ظننتم . قال ابن عطية : وهذا الذي اختاره الحذاق , وأنه على بابه من الظن لا من اليقين . التقدير من غلب على ظنه التقصير في القسط لليتيمة فليعدل عنها . و { تقسطوا { معناه تعدلوا . يقال : أقسط الرجل إذا عدل . وقسط إذا جار وظلم صاحبه . قال الله تعالى : { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } [ الجن : 15 ] يعني الجائرون . وقال عليه السلام : ( المقسطون في الدين على منابر من نور يوم القيامة )  يعني العادلين . وقرأ ابن وثاب والنخعي { تقسطوا { بفتح التاء من قسط على تقدير زيادة { لا { كأنه قال : وإن خفتم أن تجوروا . قوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء { إن قيل : كيف جاءت { ما { للآدميين وإنما أصلها لما لا يعقل ; فعنه أجوبة خمسة : الأول - أن { من { و } ما { قد يتعاقبان ; قال الله تعالى : " والسماء وما بناها } [ الشمس : 5 ] أي ومن بناها . وقال { فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع } [ النور : 45 ] . فما هاهنا لمن يعقل وهن النساء ; لقوله بعد ذلك { من النساء { مبينا لمبهم . وقرأ ابن أبي عبلة } من طاب { على ذكر من يعقل . الثاني : قال البصريون : { ما { تقع للنعوت كما تقع لما لا يعقل يقال : ما عندك ؟ فيقال : ظريف وكريم . فالمعنى فانكحوا الطيب من النساء ; أي الحلال , وما حرمه الله فليس بطيب . وفي التنزيل { وما رب العالمين { فأجابه موسى على وفق ما سأل ; وسيأتي . الثالث : حكى بعض الناس أن { ما { في هذه الآية ظرفية , أي ما دمتم تستحسنون النكاح قال ابن عطية : وفي هذا المنزع ضعف . جواب رابع : قال الفراء { ما { هاهنا مصدر . وقال النحاس : وهذا بعيد جدا ; لا يصح فانكحوا الطيبة . قال الجوهري : طاب الشيء يطيب طيبة وتطيابا . قال علقمة : كأن تطيابها في الأنف مشموم جواب خامس : وهو أن المراد بما هنا العقد ; أي فانكحوا نكاحا طيبا . وقراءة ابن أبي عبلة ترد هذه الأقوال الثلاثة . وحكى أبو عمرو بن العلاء أن أهل مكة إذا سمعوا الرعد قالوا : سبحان ما سبح له الرعد . أي سبحان من سبح له الرعد . ومثله قولهم : سبحان ما سخركن لنا . أي من سخركن . واتفق كل من يعاني العلوم على أن قوله تعالى : { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى { ليس له مفهوم ; إذ قد أجمع المسلمون على أن من لم يخف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة : اثنتين أو ثلاثا أو أربعا كمن خاف . فدل على أن الآية نزلت جوابا لمن خاف ذلك , وأن حكمها أعم من ذلك . تعلق أبو حنيفة بهذه الآية في تجويزه نكاح اليتيمة قبل البلوغ . وقال : إنما تكون يتيمة قبل البلوغ , وبعد البلوغ هي امرأة مطلقة لا يتيمة ; بدليل أنه لو أراد البالغة لما نهي عن حطها عن صداق مثلها ; لأنها تختار ذلك فيجوز إجماعا . وذهب مالك والشافعي والجمهور من العلماء إلى أن ذلك لا يجوز حتى تبلغ وتستأمر ; لقوله تعالى : " ويستفتونك في النساء } [ النساء : 127 ] والنساء اسم ينطلق على الكبار كالرجال في الذكور , واسم الرجل لا يتناول الصغير ; فكذلك اسم النساء , والمرأة لا يتناول الصغيرة . وقد قال : { في يتامى النساء } [ النساء : 127 ] والمراد به هناك اليتامى هنا ; كما قالت عائشة رضي الله عنها . فقد دخلت اليتيمة الكبيرة في الآية فلا تزوج إلا بإذنها , ولا تنكح الصغيرة إذ لا إذن لها , فإذا بلغت جاز نكاحها لكن لا تزوج إلا بإذنها . كما رواه الدارقطني من حديث محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال : زوجني خالي قدامة بن مظعون بنت أخيه عثمان بن مظعون , فدخل المغيرة بن شعبة على أمها , فأرغبها في المال وخطبها إليها , فرفع شأنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال قدامة : يا رسول الله ابنة أخي وأنا وصي أبيها ولم أقصر بها , زوجتها من قد علمت فضله وقرابته . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنها يتيمة واليتيمة أولى بأمرها )  فنزعت مني وزوجها المغيرة بن شعبة . قال الدارقطني : لم يسمعه محمد بن إسحاق من نافع , وإنما سمعه من عمر بن حسين عنه . ورواه ابن أبي ذئب عن عمر بن حسين عن نافع عن عبد الله بن عمر : أنه تزوج بنت خاله عثمان بن مظعون قال : فذهبت أمها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن ابنتي تكره ذلك . فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفارقها ففارقها . وقال : ( ولا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن فإذا سكتن فهو إذنها )  . فتزوجها بعد عبد الله المغيرة بن شعبة . فهذا يرد ما يقوله أبو حنيفة من أنها إذا بلغت لم تحتج إلى ولي , بناء على أصله في عدم اشتراط الولي في صحة النكاح . وقد مضى في { البقرة { ذكره ; فلا معنى لقولهم : إن هذا الحديث محمول على غير البالغة لقوله ( إلا بإذنها )  فإنه كان لا يكون لذكر اليتيم معنى والله أعلم . وفي تفسير عائشة للآية من الفقه ما قال به مالك صداق المثل , والرد إليه فيما فسد من الصداق ووقع الغبن في مقداره ; لقولها : ( بأدنى من سنة صداقها )  . فوجب أن يكون صداق المثل معروفا لكل صنف من الناس على قدر أحوالهم . وقد قال مالك : للناس مناكح عرفت لهم وعرفوا لها . أي صدقات وأكفاء . وسئل مالك عن رجل زوج ابنته من ابن أخ له فقير فاعترضت أمها فقال : إني لأرى لها في ذلك متكلما . فسوغ لها في ذلك الكلام حتى يظهر هو من نظره ما يسقط اعتراض الأم عليه . وروي { لا أرى { بزيادة الألف والأول أصح . وجائز لغير اليتيمة أن تنكح بأدنى من صداق مثلها ; لأن الآية إنما خرجت في اليتامى . هذا مفهومها وغير اليتيمة بخلافها . فإذا بلغت اليتيمة وأقسط الولي في صداقها جاز له أن يتزوجها , ويكون هو الناكح والمنكح على ما فسرته عائشة . وبه قال أبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأبو ثور , وقاله من التابعين الحسن وربيعة , وهو قول الليث . وقال زفر والشافعي : لا يجوز له أن يتزوجها إلا بإذن السلطان , أو يزوجها منه ولي لها هو أقعد بها منه ; أو مثله في القعدد ; وأما أن يتولى طرفي العقد بنفسه فيكون ناكحا منكحا فلا . واحتجوا بأن الولاية شرط من شروط العقد لقوله عليه السلام : ( لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل )  . فتعديد الناكح والمنكح والشهود واجب ; فإذا اتحد اثنان منهم سقط واحد من المذكورين . وفي المسألة قول ثالث , وهو أن تجعل أمرها إلى رجل يزوجها منه . روي هذا عن المغيرة بن شعبة , وبه قال أحمد , ذكره ابن المنذر . قوله تعالى : { ما طاب لكم من النساء { معناه ما حل لكم ; عن الحسن وابن جبير وغيرهما . واكتفى بذكر من يجوز نكاحه ; لأن المحرمات من النساء كثير . وقرأ ابن إسحاق والجحدري وحمزة { طاب } { بالإمالة { وفي مصحف أبي { طيب { بالياء ; فهذا دليل الإمالة .{ من النساء { دليل على أنه لا يقال نساء إلا لمن بلغ الحلم . وواحد النساء نسوة , ولا واحد لنسوة من لفظه , ولكن يقال امرأة . مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وموضعها من الإعراب نصب على البدل من { ما { وهي نكرة لا تنصرف ; لأنها معدولة وصفة ; كذا قال أبو علي . وقال الطبري : هي معارف ; لأنها لا يدخلها الألف واللام , وهي بمنزلة عمر في التعريف ; قاله الكوفي . وخطأ الزجاج هذا القول . وقيل : لم ينصرف ; لأنه معدول عن لفظه ومعناه , فأحاد معدول عن واحد واحد , ومثنى معدولة عن اثنين اثنين , وثلاث معدولة عن ثلاثة ثلاثة , ورباع عن أربعة أربعة . وفي كل واحد منها لغتان : فعال ومفعل ; يقال أحاد وموحد وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ورباع ومربع , وكذلك إلى معشر وعشار . وحكى أبو إسحاق الثعلبي لغة ثالثة : أحد وثنى وثلث وربع مثل عمر وزفر . وكذلك قرأ النخعي في هذه الآية . وحكى المهدوي عن النخعي وابن وثاب { ثلاث وربع { بغير ألف في ربع فهو مقصور من رباع استخفافا ; كما قال : أقبل سيل جاء من عند الله يحرد حرد الجنة المغله قال الثعلبي : ولا يزاد من هذا البناء على الأربع إلا بيت جاء عن الكميت : فلم يستثيروك حتى رمي ت فوق الرجال خصالا عشارا يعني طعنت عشرة . وقال ابن الدهان : وبعضهم يقف على المسموع وهو من أحاد إلى رباع ولا يعتبر بالبيت لشذوذه . وقال أبو عمرو بن الحاجب : ويقال أحاد وموحد وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ورباع ومربع . وهل يقال فيما عداه إلى التسعة أو لا يقال ؟ فيه خلاف أصحها أنه لم يثبت . وقد نص البخاري في صحيحه على ذلك . وكونه معدولا عن معناه أنه لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد غير المعدولة ; تقول : جاءني اثنان وثلاثة , ولا يجوز مثنى وثلاث حتى يتقدم قبله جمع , مثل جاءني القوم أحاد وثناء وثلاث ورباع من غير تكرار . وهي في موضع الحال هنا وفي الآية , وتكون صفة ; ومثال كون هذه الأعداد صفة يتبين في قوله تعالى : { أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع } [ فاطر : 1 ] فهي صفة للأجنحة وهي نكرة . وقال ساعدة بن جؤية : ولكنما أهلي بواد أنيسه ذئاب تبغى الناس مثنى وموحد وأنشد الفراء : قتلنا به من بين مثنى وموحد بأربعة منكم وآخر خامس فوصف ذئابا وهي نكرة بمثنى وموحد , وكذلك بيت الفراء ; أي قتلنا به ناسا , فلا تنصرف إذا هذه الأسماء في معرفة ولا نكرة . وأجاز الكسائي والفراء صرفه في العدد على أنه نكرة . وزعم الأخفش أنه إن سمى به صرفه في المعرفة والنكرة ; لأنه قد زال عنه العدل . اعلم أن هذا العدد مثنى وثلاث ورباع لا يدل على إباحة تسع , كما قاله من بعد فهمه للكتاب والسنة , وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة , وزعم أن الواو جامعة ; وعضد ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم نكح تسعا , وجمع بينهن في عصمته . والذي صار إلى هذه الجهالة , وقال هذه المقالة الرافضة وبعض أهل الظاهر ; فجعلوا مثنى مثل اثنين , وكذلك ثلاث ورباع . وذهب بعض أهل الظاهر أيضا إلى أقبح منها , فقالوا بإباحة الجمع بين ثمان عشرة ; تمسكا منه بأن العدل في تلك الصيغ يفيد التكرار والواو للجمع ; فجعل مثنى بمعنى اثنين اثنين وكذلك ثلاث ورباع . وهذا كله جهل باللسان والسنة , ومخالفة لإجماع الأمة , إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع . وأخرج مالك في موطئه , والنسائي والدارقطني في سننهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن أمية الثقفي وقد أسلم وتحته عشر نسوة : ( اختر منهن أربعا وفارق سائرهن )  . في كتاب أبي داود عن الحارث بن قيس قال : أسلمت وعندي ثمان نسوة , فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( اختر منهن أربعا )  . وقال مقاتل : إن قيس بن الحارث كان عنده ثمان نسوة حرائر ; فلما نزلت هذه الآية أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق أربعا ويمسك أربعا . كذا قال : { قيس بن الحارث } , والصواب أن ذلك كان حارث بن قيس الأسدي كما ذكر أبو داود . وكذا روى محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير : أن ذلك كان حارث بن قيس , وهو المعروف عند الفقهاء . وأما ما أبيح من ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فذلك من خصوصياته ; على ما يأتي بيانه في { الأحزاب } . وأما قولهم : إن الواو جامعة ; فقد قيل ذلك , لكن الله تعالى خاطب العرب بأفصح اللغات . والعرب لا تدع أن تقول تسعة وتقول اثنين وثلاثة وأربعة . وكذلك تستقبح ممن يقول : أعط فلانا أربعة ستة ثمانية , ولا يقول ثمانية عشر . وإنما الواو في هذا الموضع بدل ; أي انكحوا ثلاثا بدلا من مثنى , ورباع بدلا من ثلاث ; ولذلك عطف بالواو ولم يعطف بأو . ولو جاء بأو لجاز ألا يكون لصاحب المثنى ثلاث , ولا لصاحب الثلاث رباع . وأما قولهم : إن مثنى تقتضي اثنين , وثلاث ثلاثة , ورباع أربعة , فتحكم بما لا يوافقهم أهل اللسان عليه , وجهالة منهم . وكذلك جهل الآخرين , بأن مثنى تقتضي اثنين اثنين , وثلاث ثلاثة ثلاثة , ورباع أربعة أربعة , ولم يعلموا أن اثنين اثنين , وثلاثا ثلاثا , وأربعا أربعا , حصر للعدد . ومثنى وثلاث ورباع بخلافها . ففي العدد المعدول عند العرب زيادة معنى ليست في الأصل ; وذلك أنها إذا قالت : جاءت الخيل مثنى , إنما تعني بذلك اثنين اثنين ; أي جاءت مزدوجة . قال الجوهري : وكذلك معدول العدد . وقال غيره : إذا قلت جاءني قوم مثنى أو ثلاث أو أحاد أو عشار , فإنما تريد أنهم جاءوك واحدا واحدا , أو اثنين اثنين , أو ثلاثة ثلاثة , أو عشرة عشرة , وليس هذا المعنى في الأصل ; لأنك إذا قلت جاءني قوم ثلاثة ثلاثة , أو قوم عشرة عشرة , فقد حصرت عدة القوم بقولك ثلاثة وعشرة . فإذا قلت جاءوني رباع وثناء فلم تحصر عدتهم . وإنما تريد أنهم جاءوك أربعة أربعة أو اثنين اثنين . وسواء كثر عددهم أو قل في هذا الباب , فقصرهم كل صيغة على أقل ما تقتضيه بزعمه تحكم . وأما اختلاف علماء المسلمين في الذي يتزوج خامسة وعنده أربع وهي : فقال مالك والشافعي : عليه الحد إن كان عالما . وبه قال أبو ثور . وقال الزهري : يرجم إذا كان عالما , وإن كان جاهلا أدنى الحدين الذي هو الجلد , ولها مهرها ويفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا . وقالت طائفة : لا حد عليه في شيء من ذلك . هذا قول النعمان . وقال يعقوب ومحمد : يحد في ذات المحرم ولا يحد في غير ذلك من النكاح . وذلك مثل أن يتزوج مجوسية أو خمسة في عقدة أو تزوج متعة أو تزوج بغير شهود , أو أمة تزوجها بغير إذن مولاها . وقال أبو ثور : إذا علم أن هذا لا يحل له يجب أن يحد فيه كله إلا التزوج بغير شهود . وفيه قول ثالث قاله النخعي في الرجل ينكح الخامسة متعمدا قبل أن تنقضي عدة الرابعة من نسائه : جلد مائة ولا ينفى . فهذه فتيا علمائنا في الخامسة على ما ذكره ابن المنذر فكيف بما فوقها . ذكر الزبير بن بكار حدثني إبراهيم الحزامي عن محمد بن معن الغفاري قال : أتت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ; فقالت : يا أمير المؤمنين , إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل وأنا أكره أن أشكوه , وهو يعمل بطاعة الله عز وجل . فقال لها : نعم الزوج زوجك : فجعلت تكرر عليه القول وهو يكرر عليها الجواب . فقال له كعب الأسدي : يا أمير المؤمنين , هذه المرأة تشكو زوجها في مباعدته إياها عن فراشه . فقال عمر : كما فهمت كلامها فاقض بينهما . فقال كعب : علي بزوجها , فأتي به فقال له : إن امرأتك هذه تشكوك . قال : أفي طعام أم شراب ؟ قال لا . فقالت المرأة : يا أيها القاضي الحكيم رشده ألهى خليلي عن فراشي مسجده زهده في مضجعي تعبده فاقض القضا كعب ولا تردده نهاره وليله ما يرقده فلست في أمر النساء أحمده فقال زوجها : زهدني في فرشها وفي الحجل أني امرؤ أذهلني ما قد نزل في سورة النحل وفي السبع الطول وفي كتاب الله تخويف جلل فقال كعب : إن لها عليك حقا يا رجل نصيبها في أربع لمن عقل فأعطها ذاك ودع عنك العلل ثم قال : إن الله عز وجل قد أحل لك من النساء مثنى وثلاث ورباع , فلك ثلاثة أيام ولياليهن تعبد فيهن ربك . فقال عمر : والله ما أدري من أي أمريك أعجب ؟ أمن فهمك أمرهما أم من حكمك بينهما ؟ اذهب فقد وليتك قضاء البصرة . وروى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة حدثنا أنس بن مالك قال : أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة تستعدي زوجها , فقالت : ليس لي ما للنساء ; زوجي يصوم الدهر . قال : ( لك يوم وله يوم , للعبادة يوم وللمرأة يوم )  . فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا قال الضحاك وغيره : في الميل والمحبة والجماع والعشرة والقسم بين الزوجات الأربع والثلاث والاثنتين فَوَاحِدَةً فمنع من الزيادة التي تؤدي إلى ترك العدل في القسم وحسن العشرة . وذلك دليل على وجوب ذلك , والله أعلم . وقرئت بالرفع , أي فواحدة فيها كفاية أو كافية . وقال الكسائي : فواحدة تقنع . وقرئت بالنصب بإضمار فعل , أي فانكحوا واحدة . أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ يريد الإماء . وهو عطف على { فواحدة { أي إن خاف ألا يعدل في واحدة فما ملكت يمينه . وفي هذا دليل على ألا حق لملك اليمين في الوطء ولا القسم ; لأن المعنى { فإن خفتم ألا تعدلوا { في القسم { فواحدة أو ما ملكت أيمانكم { فجعل ملك اليمين كله بمنزلة واحدة , فانتفى بذلك أن يكون للإماء حق في الوطء أو في القسم . إلا أن ملك اليمين في العدل قائم بوجوب حسن الملكة والرفق بالرقيق . وأسند تعالى الملك إلى اليمين إذ هي صفة مدح , واليمين مخصوصة بالمحاسن لتمكنها . ألا ترى أنها المنفقة ؟ كما قال عليه السلام : ( حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه )  وهي المعاهدة المبايعة , وبها سميت الألية يمينا , وهي المتلقية لرايات المجد ; كما قال : إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا أي ذلك أقرب إلى ألا تميلوا عن الحق وتجوروا ; عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما . يقال : عال الرجل يعول إذا جار ومال . ومنه قولهم : عال السهم عن الهدف مال عنه . قال ابن عمر : إنه لعائل الكيل والوزن ; قال الشاعر : قالوا اتبعنا رسول الله واطرحوا قول الرسول وعالوا في الموازين أي جاروا . وقال أبو طالب : بميزان صدق لا يغل شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل يريد غير مائل . وقال آخر : ثلاثة أنفس وثلاث ذود لقد عال الزمان على عيالي أي جار ومال . وعال الرجل يعيل إذا افتقر فصار عالة . ومنه قوله تعالى : { وإن خفتم عيلة } [ التوبة : 38 ] . ومنه قول الشاعر : وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل وهو عائل وقوم عيلة , والعيلة والعالة الفاقة , وعالني الشيء يعولني إذا غلبني وثقل علي , وعال الأمر اشتد وتفاقم . وقال الشافعي : { ألا تعولوا } [ النساء : 3 ] ألا تكثر عيالكم . قال الثعلبي : وما قال هذا غيره , وإنما يقال : أعال يعيل إذا كثر عياله . وزعم ابن العربي أن عال على سبعة معان لا ثامن لها , يقال : عال مال , الثاني زاد , الثالث جار , الرابع افتقر , الخامس أثقل , حكاه ابن دريد . قالت الخنساء : ويكفي العشيرة ما عالها السادس عال قام بمئونة العيال ; ومنه قوله عليه السلام : ( وابدأ بمن تعول )  . السابع عال غلب ; ومنه عيل صبره . أي غلب . ويقال : أعال الرجل كثر عياله . وأما عال بمعنى كثر عياله فلا يصح . قلت : أما قول الثعلبي { ما قاله غيره { فقد أسنده الدارقطني في سننه عن زيد بن أسلم , وهو قول جابر بن زيد ; فهذان إمامان من علماء المسلمين وأئمتهم قد سبقا الشافعي إليه . وأما ما ذكره ابن العربي من الحصر وعدم الصحة فلا يصح . وقد ذكرنا : عال الأمر اشتد وتفاقم , حكاه الجوهري . وقال الهروي في غريبيه : { وقال أبو بكر : يقال عال الرجل في الأرض يعيل فيها أي ضرب فيها . وقال الأحمر : يقال عالني الشيء يعيلني عيلا ومعيلا إذا أعجزك } . وأما عال كثر عياله فذكره الكسائي وأبو عمر الدوري وابن الأعرابي . قال الكسائي أبو الحسن علي بن حمزة : العرب تقول عال يعول وأعال يعيل أي كثر عياله . وقال أبو حاتم : كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا , ولعله لغة . قال الثعلبي المفسر : قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب : سألت أبا عمر الدوري عن هذا وكان إماما في اللغة غير مدافع فقال : هي لغة حمير ; وأنشد : وإن الموت يأخذ كل حي بلا شك وإن أمشى وعالا يعني وإن كثرت ماشيته وعياله . وقال أبو عمرو بن العلاء : لقد كثرت وجوه العرب حتى خشيت أن آخذ عن لاحن لحنا . وقرأ طلحة بن مصرف { ألا تعيلوا { وهي حجة الشافعي رضي الله عنه . قال ابن عطية : وقدح الزجاج وغيره في تأويل عال من العيال بأن قال : إن الله تعالى قد أباح كثرة السراري وفي ذلك تكثير العيال , فكيف يكون أقرب إلى ألا يكثر العيال . وهذا القدح غير صحيح ; لأن السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع , وإنما العيال القادح الحرائر ذوات الحقوق الواجبة . وحكى ابن الأعرابي أن العرب تقول : عال الرجل إذا كثر عياله . تعلق بهذه الآية من أجاز للمملوك أن يتزوج أربعا , لأن الله تعالى قال : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } يعني ما حل { مثنى وثلاث ورباع { ولم يخص عبدا من حر . وهو قول داود والطبري وهو المشهور عن مالك وتحصيل مذهبه على ما في موطئه , وكذلك روى عنه ابن القاسم وأشهب . وذكر ابن المواز أن ابن وهب روى عن مالك أن العبد لا يتزوج إلا اثنتين ; قال وهو قول الليث . قال أبو عمر : قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والليث بن سعد : لا يتزوج العبد أكثر من اثنتين ; وبه قال أحمد وإسحاق . وروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف في العبد لا ينكح أكثر من اثنتين ; ولا أعلم لهم مخالفا من الصحابة . وهو قول الشعبي وعطاء وابن سيرين والحكم وإبراهيم وحماد . والحجة لهذا القول القياس الصحيح على طلاقه وحده . وكل من قال حده نصف حد الحر , وطلاقه تطليقتان , وإيلاؤه شهران , ونحو ذلك من أحكامه فغير بعيد أن يقال : تناقض في قوله { ينكح أربعا { والله أعلم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ۚ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا
    +/- -/+  
الأية
4
 
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ الصدقات جمع , الواحدة صدقة . قال الأخفش : وبنو تميم يقولون صدقة والجمع صدقات , وإن شئت فتحت وإن شئت أسكنت . قال المازني : يقال صداق المرأة بالكسر , ولا يقال بالفتح . وحكى يعقوب وأحمد بن يحيى بالفتح عن النحاس . والخطاب في هذه الآية للأزواج ; قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد وابن جريج . أمرهم الله تعالى بأن يتبرعوا بإعطاء المهور نحلة منهم لأزواجهم . وقيل : الخطاب للأولياء ; قاله أبو صالح . وكان الولي يأخذ مهر المرأة ولا يعطيها شيئا , فنهوا عن ذلك وأمروا أن يدفعوا ذلك إليهن . قال في رواية الكلبي : أن أهل الجاهلية كان الولي إذا زوجها فإن كانت معه في العشرة لم يعطها من مهرها كثيرا ولا قليلا , وإن كانت غريبة حملها على بعير إلى زوجها ولم يعطها شيئا غير ذلك البعير ; فنزل : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } . وقال المعتمر بن سليمان عن أبيه : زعم حضرمي أن المراد بالآية المتشاغرون الذين كانوا يتزوجون امرأة بأخرى , فأمروا أن يضربوا المهور . والأول أظهر ; فإن الضمائر واحدة وهي بجملتها للأزواج فهم المراد ; لأنه قال : { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى { إلى قوله : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } . وذلك يوجب تناسق الضمائر وأن يكون الأول فيها هو الآخر . هذه الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة , وهو مجمع عليه ولا خلاف فيه إلا ما روي عن بعض أهل العلم من أهل العراق أن السيد إذا زوج عبده من أمته أنه لا يجب فيه صداق ; وليس بشيء ; لقوله تعالى { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة { فعم . وقال : { فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف } [ النساء : 25 ] . وأجمع العلماء أيضا أنه لا حد لكثيره , واختلفوا في قليله على ما يأتي بيانه في قوله : { وآتيتم إحداهن قنطارا } [ النساء : 20 ] . وقرأ الجمهور } صدقاتهن { بفتح الصاد وضم الدال . وقرأ قتادة { صدقاتهن { بضم الصاد وسكون الدال . وقرأ النخعي وابن وثاب بضمهما والتوحيد { صدقتهن { نِحْلَةً النحلة والنحلة , بكسر النون وضمها لغتان . وأصلها من العطاء ; نحلت فلانا شيئا أعطيته . فالصداق عطية من الله تعالى للمرأة . وقيل : { نحلة { أي عن طيب نفس من الأزواج من غير تنازع . وقال قتادة : معنى { نحلة { فريضة واجبة . ابن جريج وابن زيد : فريضة مسماة . قال أبو عبيد : ولا تكون النحلة إلا مسماة معلومة . وقال الزجاج : { نحلة { تدينا . والنحلة الديانة والملة . يقال . هذا نحلته أي دينه . وهذا يحسن مع كون الخطاب للأولياء الذين كانوا يأخذونه في الجاهلية , حتى قال بعض النساء في زوجها : لا يأخذ الحلوان من بناتنا تقول : لا يفعل ما يفعله غيره . فانتزعه الله منهم وأمر به للنساء . و { نحلة { منصوبة على أنها حال من الأزواج بإضمار فعل من لفظها تقديره انحلوهن نحلة . وقيل : هي نصب وقيل على التفسير . وقيل : هي مصدر على غير الصدر في موضع الحال . فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ مخاطبة للأزواج , ويدل بعمومه على أن هبة المرأة صداقها لزوجها بكرا كانت أو ثيبا جائزة ; وبه قال جمهور الفقهاء . ومنع مالك من هبة البكر الصداق لزوجها وجعل ذلك للولي مع أن الملك لها . وزعم الفراء أنه مخاطبة للأولياء ; لأنهم كانوا يأخذون الصداق ولا يعطون المرأة منه شيئا , فلم يبح لهم منه إلا ما طابت به نفس المرأة . والقول الأول أصح ; لأنه لم يتقدم للأولياء ذكر , والضمير في { منه { عائد على الصداق . وكذلك قال عكرمة وغيره . وسبب الآية فيما ذكر أن قوما تحرجوا أن يرجع إليهم شيء مما دفعوه إلى الزوجات فنزلت { فإن طبن لكم } . واتفق العلماء على أن المرأة المالكة لأمر نفسها إذا وهبت صداقها لزوجها نفذ ذلك عليها , ولا رجوع لها فيه . إلا أن شريحا رأى الرجوع لها فيه , واحتج بقوله : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا { وإذا كانت طالبة له لم تطب به نفسا . قال ابن العربي : وهذا باطل ; لأنها قد طابت وقد أكل فلا كلام لها ; إذ ليس المراد صورة الأكل , وإنما هو كناية عن الإحلال والاستحلال , وهذا بين . فإن شرطت عليه عند عقد النكاح ألا يتزوج عليها , وحطت عنه لذلك شيئا من صداقها , ثم تزوج عليها فلا شيء لها عليه في رواية ابن القاسم ; لأنها شرطت عليه ما لا يجوز شرطه . كما اشترط أهل بريرة أن تعتقها عائشة والولاء لبائعها , فصحح النبي صلى الله عليه وسلم العقد وأبطل الشرط . كذلك ههنا يصح إسقاط بعض الصداق عنه وتبطل الزيجة . قال ابن عبد الحكم : إن كان بقي من صداقها مثل صداق مثلها أو أكثر لم ترجع عليه بشيء , وإن كانت وضعت عنه شيئا من صداقها فتزوج عليها رجعت عليه بتمام صداق مثلها ; لأنه شرط على نفسه شرطا وأخذ عنه عوضا كان لها واجبا أخذه منه , فوجب عليه الوفاء لقوله عليه السلام : ( المؤمنون عند شروطهم )  . وفي الآية دليل على أن العتق لا يكون صداقا ; لأنه ليس بمال ; إذ لا يمكن للمرأة هبته ولا الزوج أكله . وبه قال مالك وأبو حنيفة وزفر ومحمد والشافعي . وقال أحمد بن حنبل وإسحاق ويعقوب : يكون صداقا ولا مهر لها غير العتق ; على حديث صفية - رواه الأئمة - أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها وجعل عتقها صداقها . وروي عن أنس أنه فعله , وهو راوي حديث صفية . وأجاب الأولون بأن قالوا : لا حجة في حديث صفية ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا في النكاح بأن يتزوج بغير صداق , وقد أراد زينب فحرمت على زيد فدخل عليها بغير ولي ولا صداق . فلا ينبغي الاستدلال بمثل هذا ; والله أعلم . نَفْسًا قيل : هو منصوب على البيان . ولا يجيز سيبويه ولا الكوفيون أن يتقدم ما كان منصوبا على البيان , وأجاز ذلك المازني وأبو العباس المبرد إذا كان العامل فعلا . وأنشد : وما كان نفسا بالفراق تطيب وفي التنزيل { خشعا أبصارهم يخرجون } [ القمر : 7 ] فعلى هذا يجوز { شحما تفقأت . ووجها حسنت } . وقال أصحاب سيبويه : إن { نفسا { منصوبة بإضمار فعل تقديره أعني نفسا , وليست منصوبة على التمييز ; وإذا كان هذا فلا حجة فيه . وقال الزجاج . الرواية : وما كان نفسي .. . واتفق الجميع على أنه لا يجوز تقديم المميز إذا كان العامل غير متصرف كعشرين درهما . فَكُلُوهُ ليس المقصود صورة الأكل , وإنما المراد به الاستباحة بأي طريق كان , وهو المعني بقوله في الآية التي بعدها { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } [ النساء : 10 ] . وليس المراد نفس الأكل ; إلا أن الأكل لما كان أوفى أنواع التمتع بالمال عبر عن التصرفات بالأكل . ونظيره قوله تعالى : { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } [ الجمعة : 9 ] يعلم أن صورة البيع غير مقصودة , وإنما المقصود ما يشغله عن ذكر الله تعالى مثل النكاح وغيره ; ولكن ذكر البيع لأنه أهم ما يشتغل به عن ذكر الله تعالى . هَنِيئًا مَرِيئًا منصوب على الحال من الهاء في { كلوه { وقيل : نعت لمصدر محذوف , أي أكلا هنيئا بطيب الأنفس . هنأه الطعام والشراب يهنؤه , وما كان هنيئا ; ولقد هنؤ , والمصدر الهنء . وكل ما لم يأت بمشقة ولا عناء فهو هنيء . وهنيء اسم فاعل من هنؤ كظريف من ظرف . وهنئ يهنأ فهو هنئ على فعل كزمن . وهنأني الطعام ومرأني على الإتباع ; فإذا لم يذكر { هنأني { قلت : أمرأني الطعام بالألف , أي انهضم . قال أبو علي : وهذا كما جاء في الحديث ( ارجعن مأزورات غير مأجورات )  . فقلبوا الواو من { موزورات { ألفا إتباعا للفظ مأجورات . وقال أبو العباس عن ابن الأعرابي : يقال هنيء وهنأني ومرأني وأمرأني ولا يقال مرئني ; حكاه الهروي . وحكى القشيري أنه يقال : هنئني ومرئني بالكسر يهنأني ويمرأني , وهو قليل . وقيل : { هنيئا { لا إثم فيه , و { مريئا { لا داء فيه . قال كثير : هنيئا مريئا غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت ودخل رجل على علقمة وهو يأكل شيئا وهبته امرأته من مهرها فقال له : كل من الهنيء المريء . وقيل : الهنيء الطيب المساغ الذي لا ينغصه شيء , والمريء المحمود العاقبة , التام الهضم الذي لا يضر ولا يؤذي . يقول : لا تخافون في الدنيا به مطالبة , ولا في الآخرة تبعة . يدل عليه ما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن هذه الآية { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه { فقال : ( إذا جادت لزوجها بالعطية طائعة غير مكرهة لا يقضي به عليكم سلطان , ولا يؤاخذكم الله تعالى به في الآخرة )  وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ( إذا اشتكى أحدكم شيئا فليسأل امرأته درهما من صداقها ثم ليشتر به عسلا فليشربه بماء السماء ; فيجمع الله عز وجل له الهنيء والمريء والماء المبارك )  . والله أعلم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا
    +/- -/+  
الأية
5
 
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ لما أمر الله تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم في قوله : { وآتوا اليتامى أموالهم { وإيصال الصدقات إلى الزوجات , بين أن السفيه وغير البالغ لا يجوز دفع ماله إليه . فدلت الآية على ثبوت الوصي والولي والكفيل للأيتام . وأجمع أهل العلم على أن الوصية إلى المسلم الحر الثقة العدل جائزة . واختلفوا في الوصية إلى المرأة الحرة ; فقال عوام أهل العلم : الوصية لها جائزة . واحتج أحمد بأن عمر رضي الله عنه أوصى إلى حفصة . وروي عن عطاء بن أبي رباح أنه قال في رجل أوصى إلى امرأته قال : لا تكون المرأة وصيا ; فإن فعل حولت إلى رجل من قومه . واختلفوا في الوصية إلى العبد ; فمنعه الشافعي وأبو ثور ومحمد ويعقوب . وأجازه مالك والأوزاعي وابن عبد الحكم . وهو قول النخعي إذا أوصى إلى عبده . وقد مضى القول في هذا في { البقرة { مستوفى . { السفهاء { قد مضى في { البقرة { معنى السفه لغة . واختلف العلماء في هؤلاء السفهاء , من هم ؟ فروى سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال : هم اليتامى لا تؤتوهم أموالكم . قال النحاس : وهذا من أحسن ما قيل في الآية . وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي مالك قال : هم الأولاد الصغار , لا تعطوهم أموالكم فيفسدوها وتبقوا بلا شيء . وروى سفيان عن حميد الأعرج عن مجاهد قال : هم النساء . قال النحاس وغيره : وهذا القول لا يصح ; إنما تقول العرب في النساء سفائه أو سفيهات ; لأنه الأكثر في جمع فعيلة . ويقال : لا تدفع مالك مضاربة ولا إلى وكيل لا يحسن التجارة . وروي عن عمر أنه قال : من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا ; فذلك قوله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم { يعني الجهال بالأحكام . ويقال : لا تدفع إلى الكفار ; ولهذا كره العلماء أن يوكل المسلم ذميا بالشراء والبيع , أو يدفع إليه مضاربة . وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : ( السفهاء هنا كل من يستحق الحجر )  . وهذا جامع . وقال ابن خويز منداد : وأما الحجر على السفيه فالسفيه له أحوال : حال يحجر عليه لصغره , وحالة لعدم عقله بجنون أو غيره , وحالة لسوء نظره لنفسه في ماله . فأما المغمى عليه فاستحسن مالك ألا يحجر عليه لسرعة زوال ما به . والحجر يكون مرة في حق الإنسان ومرة في حق غيره ; فأما المحجور عليه في حق نفسه من ذكرنا . والمحجور عليه في حق غيره العبد والمديان والمريض في الثلثين , والمفلس وذات الزوج لحق الزوج , والبكر في حق نفسها . فأما الصغير والمجنون فلا خلاف في الحجر عليهما . وأما الكبير فلأنه لا يحسن النظر لنفسه في ماله , ولا يؤمن منه إتلاف ماله في غير وجه , فأشبه الصبي ; وفيه خلاف يأتي . ولا فرق بين أن يتلف ماله في المعاصي أو القرب والمباحات . واختلف أصحابنا إذا أتلف ماله في القرب ; فمنهم من حجر عليه , ومنهم من لم يحجر عليه . والعبد لا خلاف فيه . والمديان ينزع ما بيده لغرمائه ; لإجماع الصحابة , وفعل عمر ذلك بأسيفع جهينة ; ذكره مالك في الموطأ . والبكر ما دامت في الخدر محجور عليها ; لأنها لا تحسن النظر لنفسها . حتى إذا تزوجت ودخل إليها الناس , وخرجت وبرز وجهها عرفت المضار من المنافع . وأما ذات الزوج فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يجوز لامرأة ملك زوجها عصمتها قضاء في مالها إلا في ثلثها )  . قلت : وأما الجاهل بالأحكام وإن كان غير محجور عليه لتنميته لماله وعدم تدبيره , فلا يدفع إليه المال ; لجهله بفاسد البياعات وصحيحها وما يحل وما يحرم منها . وكذلك الذمي مثله في الجهل بالبياعات ولما يخاف من معاملته بالربا وغيره . والله أعلم . واختلفوا في وجه إضافة المال إلى المخاطبين على هذا , وهي للسفهاء ; فقيل : أضافها إليهم لأنها بأيديهم وهم الناظرون فيها فنسبت إليهم اتساعا ; كقوله تعالى : { فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] وقوله { فاقتلوا أنفسكم } [ البقرة : 54 ] . وقيل : أضافها إليهم لأنها من جنس أموالهم ; فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد , ومن ملك إلى ملك , أي هي لهم إذا احتاجوها كأموالكم التي تقي أعراضكم وتصونكم وتعظم أقداركم , وبها قوام أمركم . وقول ثان قاله أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة : ( أن المراد أموال المخاطبين حقيقة )  . قال ابن عباس : ( لا تدفع مالك الذي هو سبب معيشتك إلى امرأتك وابنك وتبقى فقيرا تنظر إليهم وإلى ما في أيديهم ; بل كن أنت الذي تنفق عليهم )  . فالسفهاء على هذا هم النساء والصبيان ; صغار ولد الرجل وامرأته . وهذا يخرج مع قول مجاهد وأبي مالك في السفهاء . ودلت الآية على جواز الحجر على السفيه ; لأمر الله عز وجل بذلك في قوله : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم { وقال { فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا } [ البقرة : 282 ] . فأثبت الولاية على السفيه كما أثبتها على الضعيف . وكان معنى الضعيف راجعا إلى الصغير , ومعنى السفيه إلى الكبير البالغ ; لأن السفه اسم ذم ولا يذم الإنسان على ما لم يكتسبه , والقلم مرفوع عن غير البالغ , فالذم والحرج منفيان عنه ; قاله الخطابي . واختلف العلماء في أفعال السفيه قبل الحجر عليه ; فقال مالك وجميع أصحابه غير ابن القاسم : إن فعل السفيه وأمره كله جائز حتى يضرب الإمام على يده . وهو قول الشافعي وأبي يوسف . وقال ابن القاسم : أفعاله غير جائزة وإن لم يضرب عليه الإمام . وقال أصبغ : إن كان ظاهر السفه فأفعاله مردودة , وإن كان غير ظاهر السفه فلا ترد أفعاله حتى يحجر عليه الإمام . واحتج سحنون لقول مالك بأن قال : لو كانت أفعال السفيه مردودة قبل الحجر ما احتاج السلطان أن يحجر على أحد . وحجة ابن القاسم ما رواه البخاري من حديث جابر أن رجلا أعتق عبدا ليس له مال غيره فرده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن حجر عليه قبل ذلك . واختلفوا في الحجر على الكبير ; فقال مالك وجمهور الفقهاء : يحجر عليه . وقال أبو حنيفة : لا يحجر على من بلغ عاقلا إلا أن يكون مفسدا لماله ; فإذا كان كذلك منع من تسليم المال إليه حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة , فإذا بلغها سلم إليه بكل حال , سواء كان مفسدا أو غير مفسد ; لأنه يحبل منه لاثنتي عشرة سنة , ثم يولد له لستة أشهر فيصير جدا وأبا , وأنا أستحي أن أحجر على من يصلح أن يكون جدا . وقيل عنه : إن في مدة المنع من المال إذا بلغ مفسدا ينفذ تصرفه على الإطلاق , وإنما يمنع من تسليم المال احتياطا . وهذا كله ضعيف في النظر والأثر . وقد روى الدارقطني : حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الصواف أخبرنا حامد بن شعيب أخبرنا شريح بن يونس أخبرنا يعقوب بن إبراهيم - هو أبو يوسف القاضي - أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر أتى الزبير فقال : إني اشتريت بيع كذا وكذا , وإن عليا يريد أن يأتي أمير المؤمنين فيسأله أن يحجر علي فيه . فقال الزبير : أنا شريكك في البيع . فأتى علي عثمان فقال : إن ابن جعفر اشترى بيع كذا وكذا فاحجر عليه . فقال الزبير : فأنا شريكه في البيع . فقال عثمان : كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير ؟ قال يعقوب : أنا آخذ بالحجر وأراه , وأحجر وأبطل بيع المحجور عليه وشراءه , وإذا اشترى أو باع قبل الحجر أجزت بيعه . قال يعقوب بن إبراهيم : وإن أبا حنيفة لا يحجر ولا يأخذ بالحجر . فقول عثمان : كيف أحجر على رجل , دليل على جواز الحجر على الكبير ; فإن عبد الله بن جعفر ولدته أمه بأرض الحبشة , وهو أول مولود ولد في الإسلام بها , وقدم مع أبيه على النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر فسمع منه وحفظ عنه . وكانت خيبر سنة خمس من الهجرة . وهذا يرد على أبي حنيفة قوله . وستأتي حجته إن شاء الله تعالى . الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا أي لمعاشكم وصلاح دينكم . وفي { التي { ثلاث لغات : التي واللت بكسر التاء واللت بإسكانها . وفي تثنيتها أيضا ثلاث لغات : اللتان واللتا بحذف النون واللتان بشد النون . وأما الجمع فتأتي لغاته في موضعه من هذه السورة إن شاء الله تعالى . والقيام والقوام : ما يقيمك بمعنى . يقال : فلان قيام أهله وقوام بيته , وهو الذي يقيم شأنه , أي يصلحه . ولما انكسرت القاف من قوام أبدلوا الواو ياء . وقراءة أهل المدينة { قيما { بغير ألف . قال الكسائي والفراء : قيما وقواما بمعنى قياما , وانتصب عندهما على المصدر . أي ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي تصلح بها أموركم فيقوموا بها قياما . وقال الأخفش : المعنى قائمة بأموركم . يذهب إلى أنها جمع . وقال البصريون : قيما جمع قيمة ; كديمة وديم , أي جعلها الله قيمة للأشياء . وخطأ أبو علي هذا القول وقال : هي مصدر كقيام وقوام وأصلها قوم , ولكن شذت في الرد إلى الياء كما شذ قولهم : جياد في جمع جواد ونحوه . وقوما وقواما وقياما معناها ثباتا في صلاح الحال ودواما في ذلك . وقرأ الحسن والنخعي { اللاتي { جعل على جمع التي , وقراءة العامة { التي { على لفظ الجماعة . قال الفراء : الأكثر في كلام العرب { النساء اللواتي , والأموال التي { وكذلك غير الأموال ; ذكره النحاس : وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ قيل : معناه اجعلوا لهم فيها أو افرضوا لهم فيها . وهذا فيمن يلزم الرجل نفقته وكسوته من زوجته وبنيه الأصاغر . فكان هذا دليلا على وجوب نفقة الولد على الوالد والزوجة على زوجها . وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الصدقة ما ترك غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول تقول المرأة : إما أن تطعمني وإما أن تطلقني ويقول العبد أطعمني واستعملني ويقول الابن أطعمني إلى من تدعني )  ؟ فقالوا : يا أبا هريرة , سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا , هذا من كيس أبي هريرة ! . قال المهلب : النفقة على الأهل والعيال واجبة بإجماع ; وهذا الحديث حجة في ذلك . قال ابن المنذر : واختلفوا في نفقة من بلغ من الأبناء ولا مال له ولا كسب ; فقالت طائفة : على الأب أن ينفق على ولده الذكور حتى يحتلموا , وعلى النساء حتى يتزوجن ويدخل بهن . فإن طلقها بعد البناء أو مات عنها فلا نفقة لها على أبيها . وإن طلقها قبل البناء فهي على نفقتها . ولا نفقة لولد الولد على الجد ; هذا قول مالك . وقالت طائفة : ينفق على ولد ولده حتى يبلغوا الحلم والمحيض . ثم لا نفقة عليه إلا أن يكونوا زمنى , وسواء في ذلك الذكور والإناث ما لم يكن لهم أموال , وسواء في ذلك ولده أو ولد ولده وإن سفلوا ما لم يكن لهم أب دونه يقدر على النفقة عليهم ; هذا قول الشافعي . وأوجبت طائفة النفقة لجميع الأطفال والبالغين من الرجال والنساء إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها عن نفقة الوالد ; على ظاهر قوله عليه السلام لهند : ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف )  . وفي حديث أبي هريرة ( يقول الابن أطعمني إلى من تدعني ؟ )  يدل على أنه إنما يقول ذلك من لا طاقة له على الكسب والتحرف . ومن بلغ سن الحلم فلا يقول ذلك ; لأنه قد بلغ حد السعي على نفسه والكسب لها , بدليل قوله تعالى : { حتى إذا بلغوا النكاح } [ النساء : 6 ] الآية . فجعل بلوغ النكاح حدا في ذلك . وفي قوله : ( تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني )  يرد على من قال : لا يفرق بالإعسار ويلزم المرأة الصبر ; وتتعلق النفقة بذمته بحكم الحاكم . هذا قول عطاء والزهري . وإليه ذهب الكوفيون متمسكين بقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } [ البقرة : 280 ] . قالوا : فوجب أن ينظر إلى أن يوسر . وقوله تعالى : " وأنكحوا الأيامى منكم } [ النور : 32 ] الآية . قالوا : فندب تعالى إلى إنكاح الفقير ; فلا يجوز أن يكون الفقر سببا للفرقة وهو مندوب منعه إلى النكاح . ولا حجة لهم في هذه الآية على ما يأتي بيانه في موضعها . والحديث نص في موضع الخلاف . وقيل : الخطاب لولي اليتيم لينفق عليه من ماله الذي له تحت نظره ; على ما تقدم من الخلاف في إضافة المال . فالوصي ينفق على اليتيم على قدر ماله وحاله ; فإن كان صغيرا وماله كثير اتخذ له ظئرا وحواضن ووسع عليه في النفقة . وإن كان كبيرا قدر له ناعم اللباس وشهي الطعام والخدم . وإن كان دون ذلك فبحسبه . وإن كان دون ذلك فخشن الطعام واللباس قدر الحاجة . فإن كان اليتيم فقيرا لا مال له وجب على الإمام القيام به من بيت المال ; فإن لم يفعل الإمام وجب ذلك على المسلمين الأخص به فالأخص . وأمه أخص به فيجب عليها إرضاعه والقيام به . ولا ترجع عليه ولا على أحد . وقد مضى في البقرة عند قوله : { والوالدات يرضعن أولادهن } [ البقرة : 233 ] . وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا أراد تليين الخطاب والوعد الجميل . واختلف في القول المعروف ; فقيل : معناه ادعوا لهم : بارك الله فيكم , وحاطكم وصنع لكم , وأنا ناظر لك , وهذا الاحتياط يرجع نفعه إليك . وقيل : معناه وعدوهم وعدا حسنا ; أي إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم . ويقول الأب لابنه : مالي إليك مصيره , وأنت إن شاء الله صاحبه إذا ملكت رشدك وعرفت تصرفك .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا ۚ وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللهِ حَسِيبًا
    +/- -/+  
الأية
6
 
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ أخبر تعالى عن تصويره للبشر في أرحام الأمهات , وأصل الرحم من الرحمة , لأنها مما يتراحم به . واشتقاق الصورة من صاره إلى كذا إذا أماله ; فالصورة مائلة إلى شبه وهيئة . وهذه الآية تعظيم لله تعالى , وفي ضمنها الرد على نصارى نجران , وأن عيسى من المصورين , وذلك مما لا ينكره عاقل . وأشار تعالى إلى شرح التصوير في سورة { الحج { و } المؤمنون } . وكذلك شرحه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود , على ما يأتي هناك بيانه إن شاء الله تعالى وفيها الرد على الطبائعيين أيضا إذ يجعلونها فاعلة مستبدة . وقد مضى الرد عليهم في آية التوحيد وفي مسند ابن سنجر - واسمه محمد بن سنجر - حديث ( إن الله تعالى يخلق عظام الجنين وغضاريفه من مني الرجل وشحمه ولحمه من مني المرأة )  . وفي هذا أدل دليل على أن الولد يكون من ماء الرجل والمرأة , وهو صريح في قوله تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } [ الحجرات : 13 ] وفي صحيح مسلم من حديث ثوبان وفيه أن اليهودي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أه2ل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان . قال : ( ينفعك إن حدثتك )  ؟ . قال : أسمع بأذني , قال : جئتك أسألك عن الولد . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله تعالى وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله .. .) الحديث . وسيأتي بيانه آخر } الشورى { إن شاء الله تعالى . كَيْفَ يَشَاءُ يعني من حسن وقبح وسواد وبياض وطول وقصر وسلامة وعاهة , إلى غير ذلك من الشقاء والسعادة . وذكر عن إبراهيم بن أدهم أن القراء اجتمعوا إليه ليسمعوا ما عنده من الأحاديث , فقال لهم : إني مشغول عنكم بأربعة أشياء , فلا أتفرغ لرواية الحديث . فقيل له : وما ذاك الشغل ؟ قال : أحدها إني أتفكر في يوم الميثاق حيث قال : ( هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي )  فلا أدري من أي الفريقين كنت في ذلك الوقت والثاني حيث صورت في الرحم فقال الملك الذي هو موكل على الأرحام : ( يا رب شقي هو أم سعيد )  فلا أدري كيف كان الجواب في ذلك الوقت والثالث حين يقبض ملك الموت روحي فيقول : ( يا رب مع الكفر أم مع الإيمان )  فلا أدري كيف يخرج الجواب والرابع حيث يقول : { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } [ يس : 59 ] فلا أدري في أي الفريقين أكون . لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أي لا خالق ولا مصور سواه وذلك دليل على وحدانيته , فكيف يكون عيسى إلها مصورا وهو مصور . الْعَزِيزُ الذي لا يغالب . الْحَكِيمُ ذو الحكمة أو المحكم , وهذا أخص بما ذكر من التصوير .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ۚ نَصِيبًا مَفْرُوضًا
    +/- -/+  
الأية
7
 
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا فيه خمس مسائل : الأولى : لما ذكر الله تعالى أمر اليتامى وصله بذكر المواريث . ونزلت الآية في أوس بن ثابت الأنصاري , توفي وترك امرأة يقال لها : أم كجة وثلاث بنات له منها ; فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصياه يقال لهما : سويد وعرفجة ; فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته وبناته شيئا , وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا , ويقولون : لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل , وطاعن بالرمح , وضارب بالسيف , وحاز الغنيمة . فذكرت أم كجة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهما , فقالا : يا رسول الله , ولدها لا يركب فرسا , ولا يحمل كلا ولا ينكأ عدوا . فقال عليه السلام : ( انصرفا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهن )  . فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم , وإبطالا لقولهم وتصرفهم بجهلهم ; فإن الورثة الصغار كان ينبغي أن يكونوا أحق بالمال من الكبار , لعدم تصرفهم والنظر في مصالحهم , فعكسوا الحكم , وأبطلوا الحكمة فضلوا بأهوائهم , وأخطئوا في آرائهم وتصرفاتهم . الثانية : قال علماؤنا : في هذه الآية فوائد ثلاث : إحداها : بيان علة الميراث وهي القرابة . الثانية : عموم القرابة كيفما تصرفت من قريب أو بعيد . الثالثة : إجمال النصيب المفروض . وذلك مبين في آية المواريث ; فكان في هذه الآية توطئة للحكم , وإبطال لذلك الرأي الفاسد حتى وقع البيان الشافي . الثالثة : ثبت أن أبا طلحة لما تصدق بماله - بئر حاء - وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال له : ( اجعلها في فقراء أقاربك )  فجعلها لحسان وأبي . قال أنس : ( وكانا أقرب إليه مني )  . قال أبو داود : بلغني عن محمد بن عبد الله الأنصاري أنه قال : أبو طلحة الأنصاري زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار . وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام يجتمعان في الأب الثالث وهو حرام . وأبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار . قال الأنصاري : بين أبي طلحة وأبي ستة آباء . قال : وعمرو بن مالك يجمع حسان وأبي بن كعب وأبا طلحة . قال أبو عمر : في هذا ما يقضي على القرابة أنها ما كانت في هذا القعدد ونحوه , وما كان دونه فهو أحرى أن يلحقه اسم القرابة . الرابعة : قوله تعالى : { مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا { أثبت الله تعالى للبنات نصيبا في الميراث ولم يبين كم هو ; فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سويد وعرفجة ألا يفرقا من مال أوس شيئا ; فإن الله جعل لبناته نصيبا ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل ربنا . فنزلت { يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] إلى قوله تعالى : { الفوز العظيم } [ النساء : 13 ] فأرسل إليهما ( أن أعطيا أم كجة الثمن مما ترك أوس , ولبناته الثلثين , ولكما بقية المال )  . الخامسة : استدل علماؤنا بهذه الآية في قسمة المتروك على الفرائض إذا كان فيه تغيير عن حاله , كالحمام والبيت وبيدر الزيتون والدار التي تبطل منافعها بإقرار أهل السهام فيها . فقال مالك : يقسم ذلك وإن لم يكن في نصيب أحدهم ما ينتفع به ; لقوله تعالى : { مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا } . وهو قول ابن كنانة , وبه قال الشافعي , ونحوه قول أبي حنيفة . قال أبو حنيفة : في الدار الصغيرة بين اثنين فطلب أحدهما القسمة وأبى صاحبه قسمت له . وقال ابن أبي ليلى : إن كان فيهم من لا ينتفع بما يقسم له فلا يقسم . وكل قسم يدخل فيه الضرر على أحدهما دون الآخر فإنه لا يقسم ; وهو قول أبي ثور . قال ابن المنذر : وهو أصح القولين . ورواه ابن القاسم عن مالك فيما ذكر ابن العربي . قال ابن القاسم : وأنا أرى أن كل ما لا ينقسم من الدور والمنازل والحمامات , وفي قسمته الضرر ولا ينتفع به إذا قسم , أن يباع ولا شفعة فيه ; لقوله عليه السلام : ( الشفعة في كل ما لا يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة )  . فجعل عليه السلام الشفعة في كل ما يتأتى فيه إيقاع الحدود , وعلق الشفعة فيما لم يقسم مما يمكن إيقاع الحدود فيه . هذا دليل الحديث . قلت : ومن الحجة لهذا القول ما خرجه الدارقطني من حديث ابن جريج أخبرني صديق بن موسى عن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا تعضية على أهل الميراث إلا ما حمل القسم )  . قال أبو عبيد : هو أن يموت الرجل ويدع شيئا إن قسم بين ورثته كان في ذلك ضرر على جميعهم أو على بعضهم . يقول : فلا يقسم ; وذلك مثل الجوهرة والحمام والطيلسان وما أشبه ذلك . والتعضية التفريق , يقال : عضيت الشيء إذا فرقته . ومنه قوله تعالى : " الذين جعلوا القرآن عضين } [ الحجر : 91 ] . وقال تعالى : { غير مضار } [ النساء : 12 ] فنفى المضارة . وكذلك قال عليه السلام : ( لا ضرر ولا ضرار )  . وأيضا فإن الآية ليس فيها تعرض للقسمة , وإنما اقتضت الآية وجوب الحظ والنصيب للصغير والكبير قليلا كان أو كثيرا , ردا على الجاهلية فقال : { للرجال نصيب } { وللنساء نصيب } [ النساء : 32 ] وهذا ظاهر جدا . فأما إبراز ذلك النصيب فإنما يؤخذ من دليل آخر ; وذلك بأن يقول الوارث : قد وجب لي نصيب بقول الله عز وجل فمكنوني منه ; فيقول له شريكه : أما تمكينك على الاختصاص فلا يمكن ; لأنه يؤدي إلى ضرر بيني وبينك من إفساد المال , وتغيير الهيئة , وتنقيص القيمة ; فيقع الترجيح . والأظهر سقوط القسمة فيما يبطل المنفعة وينقص المال مع ما ذكرناه من الدليل . والله الموفق . قال الفراء : { نصيبا مفروضا { هو كقولك : قسما واجبا , وحقا لازما ; فهو اسم في معنى المصدر فلهذا انتصب . الزجاج : انتصب على الحال . أي لهؤلاء أنصباء في حال الفرض . الأخفش : أي جعل الله لهم نصيبا . والمفروض : المقدر الواجب .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا
    +/- -/+  
الأية
8
 
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ بين الله تعالى أن من لم يستحق شيئا إرثا وحضر القسمة , وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون أن يكرموا ولا يحرموا , إن كان المال كثيرا ; والاعتذار إليهم إن كان عقارا أو قليلا لا يقبل الرضخ . ( وإن كان عطاء من القليل ففيه أجر عظيم ; درهم يسبق مائة ألف )  . فالآية على هذا القول محكمة ; قاله ابن عباس . وامتثل ذلك جماعة من التابعين : عروة بن الزبير وغيره , وأمر به أبو موسى الأشعري وروي عن ابن عباس أنها منسوخة نسخها قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } [ النساء : 11 ] ) وقال سعيد بن المسيب : نسخها آية الميراث والوصية . وممن قال إنها منسوخة أبو مالك وعكرمة والضحاك . والأول أصح ; فإنها مبينة استحقاق الورثة لنصيبهم , واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم . قال ابن جبير : ضيع الناس هذه الآية . قال الحسن : ولكن الناس شحوا . وفي البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى : { وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين { قال : ( هي محكمة وليست بمنسوخة )  . وفي رواية قال : ( إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت , لا والله ما نسخت ولكنها مما تهاون بها ; هما واليان : وال يرث وذلك الذي يرزق , ووال لا يرث وذلك الذي يقول بالمعروف , ويقول : لا أملك لك أن أعطيك )  . قال ابن عباس : ( أمر الله المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم , ويتاماهم ومساكينهم من الوصية , فإن لم تكن وصية وصل لهم من الميراث )  . قال النحاس : فهذا أحسن ما قيل في الآية , أن يكون على الندب والترغيب في فعل الخير , والشكر لله عز وجل . وقالت طائفة : هذا الرضخ واجب على جهة الفرض , تعطي الورثة لهذه الأصناف ما طابت به نفوسهم , كالماعون والثوب الخلق وما خف . حكى هذا القول ابن عطية والقشيري . والصحيح أن هذا على الندب ; لأنه لو كان فرضا لكان استحقاقا في التركة ومشاركة في الميراث , لأحد الجهتين معلوم وللآخر مجهول . وذلك مناقض للحكمة , وسبب للتنازع والتقاطع . وذهبت فرقة إلى أن المخاطب والمراد في الآية المحتضرون الذين يقسمون أموالهم بالوصية , لا الورثة . وروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وابن زيد . ( فإذا أراد المريض أن يفرق ماله بالوصايا وحضره من لا يرث ينبغي له ألا يحرمه )  . وهذا والله أعلم - يتنزل حيث كانت الوصية واجبة , ولم تنزل آية الميراث . والصحيح الأول وعليه المعول . فإذا كان الوارث صغيرا لا يتصرف في ماله ; فقالت طائفة : يعطى ولي الوارث الصغير من مال محجوره بقدر ما يرى . وقيل : لا يعطى بل يقول لمن حضر القسمة : ليس لي شيء من هذا المال إنما هو لليتيم , فإذا بلغ عرفته حقكم . فهذا هو القول المعروف . وهذا إذا لم يوص الميت له بشيء ; فإن أوصى يصرف له ما أوصى . ورأى عبيدة ومحمد بن سيرين أن الرزق في هذه الآية أن يصنع لهم طعاما يأكلونه ; وفعلا ذلك , ذبحا شاة من التركة , وقال عبيدة : لولا هذه الآية لكان هذا من مالي . وروى قتادة عن يحيى بن يعمر قال : ثلاث محكمات تركهن الناس : هذه الآية , وآية الاستئذان { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } [ النور : 58 ] , وقوله : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } [ الحجرات : 13 ] . فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ الضمير عائد على معنى القسمة ; إذ هي بمعنى المال والميراث ; لقوله تعالى : { ثم استخرجها من وعاء أخيه } [ يوسف : 76 ] أي السقاية ; لأن الصواع مذكر . ومنه قوله عليه السلام : ( واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب )  فأعاد مذكرا على معنى الدعاء . وكذلك قوله لسويد بن طارق الجعفي حين سأله عن الخمر ( إنه ليس بدواء ولكنه داء )  فأعاد الضمير على معنى الشراب . ومثله كثير . يقال : قاسمه المال وتقاسماه واقتسماه , والاسم القسمة مؤنثة ; والقسم مصدر قسمت الشيء فانقسم , والموضع مقسم مثل مجلس , وتقسمهم الدهر فتقسموا , أي فرقهم فتفرقوا . والتقسيم التفريق . والله أعلم . وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا قال سعيد بن جبير : يقال لهم خذوا بورك لكم . وقيل : قولوا مع الرزق وددت أن لو كان أكثر من هذا . وقيل : لا حاجة مع الرزق إلى عذر , نعم إن لم يصرف إليهم شيء فلا أقل من قول جميل ونوع اعتذار .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا
    +/- -/+  
الأية
9
 
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ قوله تعالى : { وليخش { حذفت الألف من { ليخش } للجزم بالأمر , ولا يجوز عند سيبويه إضمار لام الأمر قياسا على حروف الجر إلا في ضرورة الشعر . وأجاز الكوفيون حذف اللام مع الجزم ; وأنشد الجميع : محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من شيء تبالا أراد لتفد , ومفعول { يخش { محذوف لدلالة الكلام عليه . و { خافوا { جواب { لو } . التقدير لو تركوا لخافوا . ويجوز حذف اللام في جواب { لو " . وهذه الآية قد اختلف العلماء في تأويلها ; فقالت طائفة : ( هذا وعظ للأوصياء , أي افعلوا باليتامى ما تحبون أن يفعل بأولادكم من بعدكم )  ; قاله ابن عباس . ولهذا قال الله تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } [ النساء : 10 ] . وقالت طائفة : المراد جميع الناس , أمرهم باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس ; وإن لم يكونوا في حجورهم . وأن يشددوا لهم القول كما يريد كل واحد منهم أن يفعل بولده بعده . ومن هذا ما حكاه الشيباني قال : كنا على قسطنطينية في عسكر مسلمة بن عبد الملك , فجلسنا يوما في جماعة من أهل العلم فيهم ابن الديلمي , فتذاكروا ما يكون من أهوال آخر الزمان . فقلت له : يا أبا بشر , ودي ألا يكون لي ولد . فقال لي : ما عليك ! ما من نسمة قضى الله بخروجها من رجل إلا خرجت , أحب أو كره , ولكن إذا أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم ; ثم تلا الآية . وفي رواية : ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله منه , وإن تركت ولدا من بعدك حفظهم الله فيك ؟ فقلت : بلى ! فتلا هذه الآية { وليخش الذين لو تركوا { إلى آخرها . قلت : ومن هذا المعنى ما روى محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أحسن الصدقة جاز على الصراط ومن قضى حاجة أرملة أخلف الله في تركته )  . وقول ثالث قاله جمع من المفسرين : هذا في الرجل يحضره الموت فيقول له من بحضرته عند وصيته : إن الله سيرزق ولدك فانظر لنفسك , وأوص بمالك في سبيل الله , وتصدق وأعتق . حتى يأتي على عامة ماله أو يستغرقه فيضر ذلك بورثته ; فنهوا عن ذلك . فكأن الآية تقول لهم : ( كما تخشون على ورثتكم وذريتكم بعدكم , فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم ولا تحملوه على تبذير ماله )  ; قاله ابن عباس وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد . روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : ( إذا حضر الرجل الوصية فلا ينبغي أن يقول أوص بمالك فإن الله تعالى رازق ولدك , ولكن يقول قدم لنفسك واترك لولدك )  ; فذلك قوله تعالى : { فليتقوا الله " . وقال مقسم وحضرمي : نزلت في عكس هذا , وهو أن يقول للمحتضر من يحضره : أمسك على ورثتك , وأبق لولدك فليس أحد أحق بمالك من أولادك , وينهاه عن الوصية , فيتضرر بذلك ذوو القربى وكل من يستحق أن يوصى له ; فقيل لهم : كما تخشون على ذريتكم وتسرون بأن يحسن إليهم , فكذلك سددوا القول في جهة المساكين واليتامى , واتقوا الله في ضررهم . وهذان القولان مبنيان على وقت وجوب الوصية قبل نزول آية المواريث ; روي عن سعيد بن جبير وابن المسيب . قال ابن عطية : وهذان القولان لا يطرد واحد منهما في كل الناس , بل الناس صنفان ; يصلح لأحدهما القول الواحد , ولآخر القول الثاني . وذلك أن الرجل إذا ترك ورثته مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية , ويحمل على أن يقدم لنفسه . وإذا ترك ورثة ضعفاء مهملين مقلين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط ; فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين , فالمراعاة إنما هو الضعف فيجب أن يمال معه . قلت : وهذا التفصيل صحيح ; لقوله عليه السلام لسعد : ( إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس )  . فإن لم يكن للإنسان ولد , أو كان وهو غني مستقل بنفسه وماله عن أبيه فقد أمن عليه ; فالأولى بالإنسان حينئذ تقديم ماله بين يديه حتى لا ينفقه من بعده فيما لا يصلح , فيكون وزره عليه . وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا السديد : العدل والصواب من القول ; أي مروا المريض بأن يخرج من ماله ما عليه من الحقوق الواجبة , ثم يوصي لقرابته بقدر ما لا يضر بورثته الصغار . وقيل : المعنى قولوا للميت قولا عدلا , وهو أن يلقنه بلا إله إلا الله , ولا يأمره بذلك , ولكن يقول ذلك في نفسه حتى يسمع منه ويتلقن . هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله )  ولم يقل مروهم ; لأنه لو أمر بذلك لعله يغضب ويجحد . وقيل : المراد اليتيم ; أن لا ينهروه ولا يستخفوا به .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا
    +/- -/+  
الأية
10
 
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا روي أنها نزلت في رجل من غطفان يقال له : مرثد بن زيد , ولي مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله ; فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية , قال مقاتل بن حيان ; ولهذا قال الجمهور : إن المراد الأوصياء الذين يأكلون ما لم يبح لهم من مال اليتيم . وقال ابن زيد : نزلت في الكفار الذين كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار . وسمي أخذ المال على كل وجوهه أكلا ; لما كان المقصود هو الأكل وبه أكثر إتلاف الأشياء . وخص البطون بالذكر لتبيين نقصهم , والتشنيع عليهم بضد مكارم الأخلاق . وسمى المأكول نارا بما يئول إليه ; كقوله تعالى : { إني أراني أعصر خمرا } [ يوسف : 36 ] أي عنبا . وقيل : نارا أي حراما ; لأن الحرام يوجب النار , فسماه الله تعالى باسمه . وروى أبو سعيد الخدري قال : حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به قال : ( رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار يخرج من أسافلهم فقلت يا جبريل من هؤلاء قال هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما )  . فدل الكتاب والسنة على أن أكل مال اليتيم من الكبائر . وقال صلى الله عليه وسلم : ( اجتنبوا السبع الموبقات )  وذكر فيها ( وأكل مال اليتيم )  . وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية ابن عباس بضم الياء على اسم ما لم يسم فاعله ; من أصلاه الله حر النار إصلاء . قال الله تعالى : { سأصليه سقر } [ المدثر : 26 ] . وقرأ أبو حيوة بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام من التصلية لكثرة الفعل مرة بعد أخرى . دليله قوله تعالى : { ثم الجحيم صلوه } [ الحاقة : 31 ] . ومنه قولهم : صليته مرة بعد أخرى . وتصليت : استدفأت بالنار . قال : وقد تصليت حر حربهم كما تصلى المقرور من قرس وقرأ الباقون بفتح الياء من صلي النار يصلاها صلى وصلاء . قال الله تعالى : { لا يصلاها إلا الأشقى } [ الليل : 15 ] . والصلاء هو التسخن بقرب النار أو مباشرتها ; ومنه قول الحارث بن عباد : لم أكن من جناتها علم الله إني لحرها اليوم صال والسعير : الجمر المشتعل . وهذه آية من آيات الوعيد , ولا حجة فيها لمن يكفر بالذنوب . والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة فيصلى ثم يحترق ويموت ; بخلاف أهل النار لا يموتون ولا يحيون , فكأن هذا جمع بين الكتاب والسنة , لئلا يقع الخبر فيهما على خلاف مخبره , ساقط بالمشيئة عن بعضهم ; لقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] . وهكذا القول في كل ما يرد عليك من هذا المعنى . روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل )  . فقال رجل من القوم كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يرعى بالبادية .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ۚ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ۚ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ۚ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ۚ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ ۗ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا
    +/- -/+  
الأية
11
 
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الدأب العادة والشأن . ودأب الرجل في عمله يدأب دأبا ودءوبا إذا جد واجتهد , وأدأبته أنا . وأدأب بعيره إذا جهده في السير . والدائبان الليل والنهار . قال أبو حاتم : وسمعت يعقوب يذكر { كدأب { بفتح الهمزة , وقال لي وأنا غليم : على أي شيء يجوز { كدأب { ؟ فقلت له : أظنه من دئب يدأب دأبا . فقبل ذلك مني وتعجب من جودة تقديري على صغري ; ولا أدري أيقال أم لا . قال النحاس : { وهذا القول خطأ , لا يقال البتة دئب ; وإنما يقال : دأب يدأب دءوبا ودأبا ; هكذا حكى النحويون , منهم الفراء حكاه في كتاب المصادر ; كما قال امرؤ القيس : كدأبك من أم الحويرث قبلها وجازتها أم الرباب بمأسل فأما الدأب فإنه يجوز ; كما يقال : شعر وشعر ونهر ونهر ; لأن فيه حرفا من { حروف الحلق } . واختلفوا في الكاف ; فقيل : هي في موضع رفع تقديره دأبهم كدأب آل فرعون , أي صنيع الكفار معك كصنيع آل فرعون مع موسى . وزعم الفراء أن المعنى : كفرت العرب ككفر آل فرعون . قال النحاس : لا يجوز أن تكون الكاف متعلقة بكفروا , لأن كفروا داخلة في الصلة . وقيل : هي متعلقة ب { أخذهم الله } , أي أخذهم أخذا كما أخذ آل فرعون . وقيل : هي متعلقة بقوله { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم .. ." [ آل عمران : 10 ] أي لم تغن عنهم كما لم تغن الأموال والأولاد عن آل فرعون . وهذا جواب لمن تخلف عن الجهاد وقال : شغلتنا أموالنا وأهلونا . ويصح أن يعمل فيه فعل مقدر من لفظ الوقود , ويكون التشبيه في نفس الاحتراق . ويؤيد هذا المعنى } .. . وحاق بآل فرعون سوء العذاب .{ النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } [ المؤمن : 46 ] . والقول الأول أرجح , واختاره غير واحد من العلماء . قال ابن عرفة : { كدأب آل فرعون { أي كعادة آل فرعون . يقول : اعتاد هؤلاء الكفرة الإلحاد والإعنات للنبي صلى الله عليه وسلم كما اعتاد آل فرعون من إعنات الأنبياء ; وقال معناه الأزهري . فأما قوله في سورة ( الأنفال )  { كدأب آل فرعون { فالمعنى جوزي هؤلاء بالقتل والأسر كما جوزي آل فرعون بالغرق والهلاك . كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ يحتمل أن يريد الآيات المتلوة , ويحتمل أن يريد الآيات المنصوبة للدلالة على الوحدانية .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ۚ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ ۚ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۚ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ ۚ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ۚ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ۚ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ ۚ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ۚ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ ۗ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ
    +/- -/+  
الأية
12
 
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ الخطاب للرجال . والولد هنا بنو الصلب وبنو بنيهم وإن سفلوا , ذكرانا وإناثا واحدا فما زاد بإجماع . وأجمع العلماء على أن للزوج النصف مع عدم الولد أو ولد الولد , وله مع وجوده الربع . وترث المرأة من زوجها الربع مع فقد الولد , والثمن مع وجوده . وأجمعوا على أن حكم الواحدة من الأزواج والثنتين والثلاث والأربع في الربع إن لم يكن له ولد , وفي الثمن إن كان له ولد واحد , وأنهن شركاء في ذلك ; لأن الله عز وجل لم يفرق بين حكم الواحدة منهن وبين حكم الجميع , كما فرق بين حكم الواحدة من البنات والواحدة من الأخوات وبين حكم الجميع منهن . وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ الكلالة مصدر ; من تكلله النسب أي أحاط به . وبه سمي الإكليل , وهي منزلة من منازل القمر لإحاطتها بالقمر إذا احتل بها . ومنه الإكليل أيضا وهو التاج والعصابة المحيطة بالرأس . ( فإذا مات الرجل وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة )  . هذا قول أبي بكر الصديق وعمر وعلي وجمهور أهل العلم . وذكر يحيى بن آدم عن شريك وزهير وأبي الأحوص عن أبي إسحاق عن سليمان بن عبد قال : ما رأيتهم إلا وقد تواطئوا وأجمعوا على أن الكلالة من مات ليس له ولد ولا والد . وهكذا قال صاحب كتاب العين وأبو منصور اللغوي وابن عرفة والقتبي وأبو عبيد وابن الأنباري . فالأب والابن طرفان للرجل ; فإذا ذهبا تكلله النسب . ومنه قيل : روضة مكللة إذا حفت بالنور . وأنشدوا : مسكنه روضة مكللة عم بها الأيهقان والذرق يعني نبتين . وقال امرؤ القيس : أصاح ترى برقا أريك وميضه كلمع اليدين في حبي مكلل فسموا القرابة كلالة ; لأنهم أطافوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هو منهم , وإحاطتهم به أنهم ينتسبون معه . كما قال أعرابي : مالي كثير ويرثني كلالة متراخ نسبهم . وقال الفرزدق : ورثتم قناة المجد لا عن كلالة عن ابني مناف عبد شمس وهاشم وقال آخر : وإن أبا المرء أحمى له ومولى الكلالة لا يغضب وقيل : إن الكلالة مأخوذة من الكلال وهو الإعياء ; فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بعد وإعياء . قال الأعشى : فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من وجى حتى تلاقي محمدا وذكر أبو حاتم والأثرم عن أبي عبيدة قال : الكلالة كل من لم يرثه أب أو ابن أو أخ فهو عند العرب كلالة . قال أبو عمر : ذكر أبي عبيدة الأخ هنا مع الأب والابن في شرط الكلالة غلط لا وجه له , ولم يذكره في شرط الكلالة غيره . وروي عن عمر بن الخطاب أن ( الكلالة من لا ولد له خاصة )  ; وروي عن أبي بكر ثم رجعا عنه . وقال ابن زيد : الكلالة الحي والميت جميعا . وعن عطاء : الكلالة المال . قال ابن العربي : وهذا قول طريف لا وجه له . قلت : له وجه يتبين بالإعراب آنفا . وروي عن ابن الأعرابي أن الكلالة بنو العم الأباعد . وعن السدي أن الكلالة الميت . وعنه مثل قول الجمهور . وهذه الأقوال تتبين وجوهها بالإعراب ; فقرأ بعض الكوفيين { يورث كلالة { بكسر الراء وتشديدها . وقرأ الحسن وأيوب { يورث { بكسر الراء وتخفيفها , على اختلاف عنهما . وعلى هاتين القراءتين لا تكون الكلالة إلا الورثة أو المال . كذلك حكى أصحاب المعاني ; فالأول من ورث , والثاني من أورث . و { كلالة { مفعوله و { كان { بمعنى وقع . ومن قرأ { يورث { بفتح الراء احتمل أن تكون الكلالة المال , والتقدير : يورث وراثة كلالة فتكون نعتا لمصدر محذوف . ويجوز أن تكون الكلالة اسما للورثة وهي خبر كان ; فالتقدير : ذا ورثة . ويجوز أن تكون تامة بمعنى وقع , و { يورث { نعت لرجل , و { رجل { رفع بكان , و { كلالة { نصب على التفسير أو الحال ; على أن الكلالة هو الميت , التقدير : وإن كان رجل يورث متكلل النسب إلى الميت . ذكر الله عز وجل في كتابه الكلالة في موضعين : آخر السورة وهنا , ولم يذكر في الموضعين وارثا غير الإخوة . فأما هذه الآية فأجمع العلماء على أن الإخوة فيها عنى بها الإخوة للأم ; لقوله تعالى : { فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } . وكان سعد بن أبي وقاص يقرأ { وله أخ أو أخت من أمه } . ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم أو الأب ليس ميراثهم كهذا ; فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في آخر السورة هم إخوة المتوفى لأبيه وأمه أو لأبيه ; لقوله عز وجل { وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين } [ النساء : 176 ] . ولم يختلفوا أن ميراث الإخوة للأم ليس هكذا ; فدلت الآيتان أن الإخوة كلهم جميعا كلالة . وقال الشعبي : ( الكلالة ما كان سوى الولد والوالد من الورثة إخوة أو غيرهم من العصبة )  . كذلك قال علي وابن مسعود وزيد وابن عباس , وهو القول الأول الذي بدأنا به . قال الطبري : والصواب أن الكلالة هم الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده , لصحة خبر جابر : فقلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة , أفأوصي بمالي كله ؟ قال : ( لا )  . قال أهل اللغة : يقال رجل كلالة وامرأة كلالة . ولا يثنى ولا يجمع ; لأنه مصدر كالوكالة والدلالة والسماحة والشجاعة . وأعاد ضمير مفرد في قوله : { وله أخ { ولم يقل لهما . ومضى ذكر الرجل والمرأة على عادة العرب إذا ذكرت اسمين ثم أخبرت عنهما وكانا في الحكم سواء ربما أضافت إلى أحدهما وربما أضافت إليهما جميعا ; تقول : من كان عنده غلام وجارية فليحسن إليه وإليها وإليهما وإليهم ; قال الله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة } [ البقرة : 45 ] . وقال تعالى : { إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما } [ النساء : 135 ] ويجوز أولى بهم ; عن الفراء وغيره . ويقال في امرأة : مرأة , وهو الأصل . وأخ أصله أخو , يدل عليه أخوان ; فحذف منه وغير على غير قياس . قال الفراء ضم أول أخت , لأن المحذوف منها واو , وكسر أول بنت ; لأن المحذوف منها ياء . وهذا الحذف والتعليل على غير قياس أيضا . فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ هذا التشريك يقتضي التسوية بين الذكر والأنثى وإن كثروا . وإذا كانوا يأخذون بالأم فلا يفضل الذكر على الأنثى . وهذا إجماع من العلماء , وليس في الفرائض موضع يكون فيه الذكر والأنثى سواء إلا في ميراث الإخوة للأم . فإذا ماتت امرأة وتركت زوجها وأمها وأخاها لأمها فللزوج النصف وللأم الثلث وللأخ من الأم السدس . فإن تركت أخوين وأختين - والمسألة بحالها - فللزوج النصف وللأم السدس وللأخوين والأختين الثلث , وقد تمت الفريضة . وعلى هذا عامة الصحابة ; لأنهم حجبوا الأم بالأخ والأخت من الثلث إلى السدس . وأما ابن عباس فإنه لم ير العول ولو جعل للأم الثلث لعالت المسألة , وهو لا يرى ذلك . والعول مذكور في غير هذا الموضع , ليس هذا موضعه . فإن تركت زوجها وإخوة لأم وأخا لأب وأم ; فللزوج النصف , ولإخوتها لأمها الثلث , وما بقي فلأخيها لأمها وأبيها . وهكذا من له فرض مسمى أعطيه , والباقي للعصبة إن فضل . فإن تركت ستة إخوة مفترقين فهذه الحمارية , وتسمى أيضا المشتركة . قال قوم : ( للإخوة للأم الثلث , وللزوج النصف , وللأم السدس )  , وسقط الأخ والأخت من الأب والأم , والأخ والأخت من الأب . روي عن علي وابن مسعود وأبي موسى والشعبي وشريك ويحيى بن آدم , وبه قال أحمد بن حنبل واختاره ابن المنذر ; لأن الزوج والأم والأخوين للأم أصحاب فرائض مسماة ولم يبق للعصبة شيء . وقال قوم : ( الأم واحدة , وهب أن أباهم كان حمارا ! وأشركوا بينهم في الثلث )  ; ولهذا سميت المشتركة والحمارية . روي هذا عن عمر وعثمان وابن مسعود أيضا وزيد بن ثابت ومسروق وشريح , وبه قال مالك والشافعي وإسحاق . ولا تستقيم هذه المسألة أن لو كان الميت رجلا . فهذه جملة من علم الفرائض تضمنتها الآية , والله الموفق للهداية . وكانت الوراثة في الجاهلية بالرجولية والقوة , وكانوا يورثون الرجال دون النساء ; فأبطل الله عز وجل ذلك بقوله : { للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب } [ النساء : 32 ] كما تقدم . وكانت الوراثة أيضا في الجاهلية وبدء الإسلام بالمحالفة , قال الله عز وجل : { والذين عقدت أيمانكم } [ النساء : 33 ] على ما يأتي بيانه . ثم صارت بعد المحالفة بالهجرة ; قال الله تعالى : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } [ الأنفال : 72 ] وسيأتي . وهناك يأتي القول في ذوي الأرحام وميراثهم , إن شاء الله تعالى . وسيأتي في سورة } النور { ميراث ابن الملاعنة وولد الزنا والمكاتب بحول الله تعالى . والجمهور من العلماء على أن الأسير المعلوم حياته أن ميراثه ثابت ; لأنه داخل في جملة المسلمين الذين أحكام الإسلام جارية عليهم . وقد روي عن سعيد بن المسيب أنه قال في الأسير في يد العدو : لا يرث . وقد تقدم ميراث المرتد في سورة { البقرة { والحمد لله . مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ { غير مضار { نصب على الحال والعامل { يوصى } . أي يوصي بها غير مضار , أي غير مدخل الضرر على الورثة . أي لا ينبغي أن يوصي بدين ليس عليه ليضر بالورثة ; ولا يقر بدين . فالإضرار راجع إلى الوصية والدين ; أما رجوعه إلى الوصية فبأن يزيد على الثلث أو يوصي لوارث , فإن زاد فإنه يرد , إلا أن يجيزه الورثة ; لأن المنع لحقوقهم لا لحق الله تعالى . وإن أوصى لوارث فإنه يرجع ميراثا . وأجمع العلماء على أن الوصية للوارث لا تجوز . وقد تقدم هذا في { البقرة } . وأما رجوعه إلى الدين فبالإقرار في حالة لا يجوز له فيها ; كما لو أقر في مرضه لوارثه أو لصديق ملاطف ; فإن ذلك لا يجوز عندنا . وروي عن الحسن أنه قرأ { غير مضار وصية من الله { على الإضافة . قال النحاس : وقد زعم بعض أهل اللغة أن هذا لحن ; لأن اسم الفاعل لا يضاف إلى المصدر . والقراءة حسنة على حذف , والمعنى : غير مضار ذي وصية , أي غير مضار بها ورثته في ميراثهم . وأجمع العلماء على أن إقراره بدين لغير وارث حال المرض جائز إذا لم يكن عليه دين في الصحة . فإن كان عليه دين في الصحة ببينة وأقر لأجنبي بدين ; فقالت طائفة : يبدأ بدين الصحة ; هذا قول النخعي والكوفيين . قالوا : فإذا استوفاه صاحبه فأصحاب الإقرار في المرض يتحاصون . وقالت طائفة : هما سواء إذا كان لغير وارث . هذا قول الشافعي وأبي ثور وأبي عبيد , وذكر أبو عبيد إنه قول أهل المدينة ورواه عن الحسن . قد مضى في } البقرة { الوعيد في الإضرار في الوصية ووجوهها . وقد روى أبو داود من حديث شهر بن حوشب ( وهو مطعون فيه )  عن أبي هريرة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار )  . قال : وقرأ علي أبو هريرة من هاهنا { من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار { حتى بلغ { ذلك الفوز العظيم } . وقال ابن عباس : ( الإضرار في الوصية من الكبائر )  ; ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم , إلا أن مشهور مذهب مالك وابن القاسم أن الموصي لا يعد فعله مضارة في ثلثه ; لأن ذلك حقه فله التصرف فيه كيف شاء . وفي المذهب قوله : أن ذلك مضارة ترد . وبالله التوفيق . قوله تعالى : { وصية { نصب على المصدر في موضع الحال والعامل { يوصيكم { ويصح أن يعمل فيها { مضار { والمعنى أن يقع الضرر بها أو بسببها فأوقع عليها تجوزا , قال ابن عطية ; وذكر أن الحسن بن أبي الحسن قرأ { غير مضار وصية { بالإضافة ; كما تقول : شجاع حرب . وبضة المتجرد ; في قول طرفة بن العبد . والمعنى على ما ذكرناه من التجوز في اللفظ لصحة المعنى . وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ يعني عليم بأهل الميراث حليم على أهل الجهل منكم . وقرأ بعض المتقدمين { والله عليم حكيم } [ النساء : 26 ] يعني حكيم بقسمة الميراث والوصية .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
تِلْكَ حُدُودُ اللهِ ۚ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
    +/- -/+  
الأية
13
 
تِلْكَ حُدُودُ اللهِ و { تلك { بمعنى هذه , أي هذه أحكام الله قد بينها لكم لتعرفوها وتعملوا بها . وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ في قسمة المواريث فيقر بها ويعمل بها كما أمره الله تعالى يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا والجنات : البساتين , وإنما سميت جنات لأنها تجن من فيها أي تستره بشجرها , ومنه : المجن والجنين والجنة .{ من تحتها { أي من تحت أشجارها , ولم يجر لها ذكر , لأن الجنات دالة عليها .{ الأنهار { أي ماء الأنهار , فنسب الجري إلى الأنهار توسعا , وإنما يجري الماء وحده فحذف اختصارا , كما قال تعالى : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] أي أهلها . وقال الشاعر : نبئت أن النار بعدك أوقدت واستب بعدك يا كليب المجلس أراد : أهل المجلس ; فحذف . والنهر : مأخوذ من أنهرت , أي وسعت , ومنه قول قيس بن الخطيم : ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها أي وسعتها , يصف طعنة . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه )  . معناه : ما وسع الذبح حتى يجري الدم كالنهر . وجمع النهر : نهر وأنهار . ونهر نهر : كثير الماء ; قال أبو ذؤيب : أقامت به فابتنت خيمة على قصب وفرات نهر وروي : إن أنهار الجنة ليست في أخاديد , إنما تجري على سطح الجنة منضبطة بالقدرة حيث شاء أهلها . والوقف على { الأنهار { حسن وليس بتام وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الكبير .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ
    +/- -/+  
الأية
14
 
وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ يريد في قسمة المواريث فلم يقسمها ولم يعمل بها وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ أي يخالف أمره يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ والعصيان إن أريد به الكفر فالخلود على بابه , وإن أريد به الكبائر وتجاوز أوامر الله تعالى فالخلود مستعار لمدة ما . كما تقول : خلد الله ملكه . وقال زهير : ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع . وقرأ نافع وابن عامر { ندخله { بالنون في الموضعين , على معنى الإضافة إلى نفسه سبحانه . الباقون بالياء كلاهما ; لأنه سبق ذكر اسم الله تعالى أي يدخله الله .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ۖ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا
    +/- -/+  
الأية
15
 
وَاللَّاتِي لما ذكر الله تعالى في هذه السورة الإحسان إلى النساء وإيصال صدقاتهن إليهن , وانجر الأمر إلى ذكر ميراثهن مع مواريث الرجال , ذكر أيضا التغليظ عليهن فيما يأتين به من الفاحشة , لئلا تتوهم المرأة أنه يسوغ لها ترك التعفف . قوله تعالى : { واللاتي } { اللاتي { جمع التي , وهو اسم مبهم للمؤنث , وهي معرفة ولا يجوز نزع الألف واللام منه للتنكير , ولا يتم إلا بصلته ; وفيه ثلاث لغات كما تقدم . ويجمع أيضا { اللات { بحذف الياء وإبقاء الكسرة ; و { اللائي { بالهمزة وإثبات الياء , و { اللاء { بكسر الهمزة وحذف الياء , و { اللا { بحذف الهمزة . فإن جمعت الجمع قلت في اللاتي : اللواتي , وفي اللاء : اللوائي . وقد روي عنهم { اللوات } بحذف الياء وإبقاء الكسرة ; قاله ابن الشجري . قال الجوهري : أنشد أبو عبيد : من اللواتي والتي واللاتي زعمن أن قد كبرت لدات واللوا بإسقاط التاء . وتصغير التي اللتيا بالفتح والتشديد ; قال الراجز : بعد اللتيا واللتيا والتي إذا علتها نفس تودت وبعض الشعراء أدخل على { التي { حرف النداء , وحروف النداء لا تدخل على ما فيه الألف واللام إلا في قولنا : يا الله وحده ; فكأنه شبهها به من حيث كانت الألف واللام غير مفارقتين لها . وقال : من اجلك يالتي تيمت قلبي وأنت بخيلة بالود عني ويقال : وقع في اللتيا والتي ; وهما اسمان من أسماء الداهية . يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ الفاحشة في هذا الموضع الزنا , والفاحشة الفعلة القبيحة , وهي مصدر كالعاقبة والعافية . وقرأ ابن مسعود { بالفاحشة { بباء الجر . مِنْ نِسَائِكُمْ إضافة في معنى الإسلام وبيان حال المؤمنات ; كما قال { واستشهدوا شهيدين من رجالكم " [ البقرة : 282 ] لأن الكافرة قد تكون من نساء المسلمين بنسب ولا يلحقها هذا الحكم . فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ أي من المسلمين , فجعل الله الشهادة على الزنا خاصة أربعة تغليظا على المدعي وسترا على العباد . وتعديل الشهود بالأربعة في الزنا حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن ; قال الله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } [ النور : 4 ] وقال هنا : { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } . وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال : جاءت اليهود برجل وامرأة منهم قد زنيا فقال : النبي صلى الله عليه وسلم ( ائتوني بأعلم رجلين منكم )  فأتوه بابني صوريا فنشدهما : ( كيف تجدان أمر هذين في التوراة ؟ )  قالا : نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما . قال : ( فما يمنعكما أن ترجموهما )  ; قالا : ذهب سلطاننا فكرهنا القتل ; فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود , فجاءوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ; فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما . وقال قوم : إنما كان الشهود في الزنا أربعة ليترتب شاهدان على كل واحد من الزانيين كسائر الحقوق ; إذ هو حق يؤخذ من كل واحد منهما ; وهذا ضعيف ; فإن اليمين تدخل في الأموال واللوث في القسامة ولا مدخل لواحد منهما هنا . ولا بد أن يكون الشهود ذكورا ; لقوله : { منكم { ولا خلاف فيه بين الأمة . وأن يكونوا عدولا ; لأن الله تعالى شرط العدالة في البيوع والرجعة , وهذا أعظم , وهو بذلك أولى . وهذا من حمل المطلق على المقيد بالدليل , على ما هو مذكور في أصول الفقه . ولا يكونون ذمة , وإن كان الحكم على ذمية , وسيأتي ذلك في { المائدة { وتعلق أبو حنيفة بقوله : " أربعة منكم { في أن الزوج إذا كان أحد الشهود في القذف لم يلاعن . وسيأتي بيانه في } النور { إن شاء الله تعالى . فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا هذه أول عقوبات الزناة ; وكان هذا في ابتداء الإسلام ; قاله عبادة بن الصامت والحسن ومجاهد حتى نسخ بالأذى الذي بعده , ثم نسخ ذلك بآية { النور { وبالرجم في الثيب . وقالت فرقة : بل كان الإيذاء هو الأول ثم نسخ بالإمساك , ولكن التلاوة أخرت وقدمت ; ذكره ابن فورك , وهذا الإمساك والحبس في البيوت كان في صدر الإسلام قبل أن يكثر الجناة , فلما كثروا وخشي قوتهم اتخذ لهم سجن ; قاله ابن العربي . واختلف العلماء هل كان هذا السجن حدا أو توعدا بالحد على قولين : أحدهما : أنه توعد بالحد , والثاني : ( أنه حد )  ; قال ابن عباس والحسن . زاد ابن زيد : وأنهم منعوا من النكاح حتى يموتوا عقوبة لهم حين طلبوا النكاح من غير وجهه . وهذا يدل على أنه كان حدا بل أشد ; غير أن ذلك الحكم كان ممدودا إلى غاية وهو الأذى في الآية الأخرى , على اختلاف التأويلين في أيهما قبل ; وكلاهما ممدود إلى غاية وهي قوله عليه السلام في حديث عبادة بن الصامت : ( خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم )  . وهذا نحو قوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } [ البقرة : 187 ] فإذا جاء الليل ارتفع حكم الصيام لانتهاء غايته لا لنسخه . هذا قول المحققين المتأخرين من الأصوليين , فإن النسخ إنما يكون في القولين المتعارضين من كل وجه اللذين لا يمكن الجمع بينهما , والجمع ممكن بين الحبس والتعيير والجلد والرجم , وقد قال بعض العلماء : إن الأذى والتعيير باق مع الجلد ; لأنهما لا يتعارضان بل يحملان على شخص واحد . وأما الحبس فمنسوخ بإجماع , وإطلاق المتقدمين النسخ على مثل هذا تجوز . والله أعلم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا ۖ فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا ۗ إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا
    +/- -/+  
الأية
16
 
الَّذِينَ يَقُولُونَ { الذين { بدل من قوله { للذين اتقوا { وإن شئت كان رفعا أي هم الذين , أو نصبا على المدح . رَبَّنَا أي يا ربنا . إِنَّنَا آمَنَّا أي صدقنا . فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا دعاء بالمغفرة . وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أصل { قنا } وقنا حذفت الواو كما حذفت في يقي ويشي , لأنها بين ياء وكسرة , مثل يعد ; هذا قول البصريين . وقال الكوفيون : حذفت فرقا بين اللازم والمتعدي . قال محمد بن يزيد : هذا خطأ ; لأن العرب تقول : ورم يرم ; فيحذفون الواو . والمراد بالآية الدعاء في ألا يكون المرء ممن يدخلها بمعاصيه وتخرجه الشفاعة . ويحتمل أن يكون دعاء مؤكدا لطلب دخول الجنة ; لتكون الرغبة في معنى النجاة والفوز من الطرفين ; كما قال أحد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم أنا إنما أقول في دعائي : اللهم أدخلني الجنة وعافني من النار , ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( حولها ندندن )  خرجه أبو داود في سننه وابن ماجه أيضا .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
    +/- -/+  
الأية
17
 
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ قيل : هذه الآية عامة لكل من عمل ذنبا . وقيل : لمن جهل فقط , والتوبة لكل من عمل ذنبا في موضع آخر . واتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين ; لقوله تعالى : { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون } .[ النور : 31 ] . وتصح من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه خلافا للمعتزلة في قولهم : لا يكون تائبا من أقام على ذنب . ولا فرق بين معصية ومعصية - هذا مذهب أهل السنة . وإذا تاب العبد فالله سبحانه بالخيار إن شاء قبلها , وإن شاء لم يقبلها . وليس قبول التوبة واجبا على الله من طريق العقل كما قال المخالف ; لأن من شرط الواجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه , والحق سبحانه خالق الخلق ومالكهم , والمكلف لهم ; فلا يصح أن يوصف بوجوب شيء عليه , تعالى عن ذلك , غير أنه قد أخبر سبحانه وهو الصادق في وعده بأنه يقبل التوبة عن العاصين من عباده بقوله تعالى : " وهو يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات } [ الشورى : 25 ] . وقول : { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } [ التوبة : 104 ] وقوله : { وإني لغفار لمن تاب " [ طه : 82 ] فإخباره سبحانه وتعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء . والعقيدة أنه لا يجب عليه شيء عقلا ; فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب . قال أبو المعالي وغيره : وهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن , لا قطعا على الله تعالى بقبول التوبة . قال ابن عطية : وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى . فإذا فرضنا رجلا قد تاب توبة نصوحا تامة الشروط فقال أبو المعالي : يغلب على الظن قبول توبته . وقال غيره : يقطع على الله تعالى بقبول توبته كما أخبر عن نفسه جل وعز . قال ابن عطية : وكان أبي رحمه الله يميل إلى هذا القول ويرجحه , وبه أقول , والله تعالى أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض معنى قوله : { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } [ الشورى : 25 ] وقوله تعالى : { وإني لغفار } [ طه : 82 ] . وإذا تقرر هذا فاعلم أن في قوله { على الله { حذفا وليس على ظاهره , وإنما المعنى على فضل الله ورحمته بعباده . وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : ( أتدري ما حق العباد على الله )  ؟ قال : الله ورسوله أعلم . قال : ( أن يدخلهم الجنة )  . فهذا كله معناه : على فضله ورحمته بوعده الحق وقوله الصدق . دليله قوله تعالى : { كتب على نفسه الرحمة } [ الأنعام : 12 ] أي وعد بها . وقيل : { على { هاهنا معناها { عند } والمعنى واحد , التقدير : عند الله , أي إنه وعد ولا خلف في وعده أنه يقبل التوبة إذا كانت بشروطها المصححة لها ; وهي أربعة : الندم بالقلب , وترك المعصية في الحال , والعزم على ألا يعود إلى مثلها , وأن يكون ذلك حياء من الله تعالى لا من غيره ; فإذا اختل شرط من هذه الشروط لم تصح التوبة . وقد قيل من شروطها : الاعتراف بالذنب وكثرة الاستغفار , وقد تقدم في { آل عمران { كثير من معاني التوبة وأحكامها . ولا خلاف فيما أعلمه أن التوبة لا تسقط حدا ; ولهذا قال علماؤنا : إن السارق والسارقة والقاذف متى تابوا وقامت الشهادة عليهم أقيمت عليهم الحدود . وقيل : { على { بمعنى } من { أي إنما التوبة من الله للذين ; قاله أبو بكر بن عبدوس , والله أعلم . وسيأتي في { التحريم { الكلام في التوبة النصوح والأشياء التي يتاب منها . لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ السوء في هذه الآية , و { الأنعام } .{ أنه من عمل منكم سوءا بجهالة } [ الأنعام : 54 ] يعم الكفر والمعاصي ; فكل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته . قال قتادة : أجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة , عمدا كانت أو جهلا ; وقال ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد والسدي . وروي عن الضحاك ومجاهد أنهما قالا : الجهالة هنا العمد . وقال عكرمة : أمور الدنيا كلها جهالة ; يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة الله . وهذا القول جار مع قوله تعالى : { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } [ محمد : 36 ] . وقال الزجاج : يعني قوله } بجهالة { اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية . وقيل : { بجهالة { أي لا يعلمون كنه العقوبة ; ذكره ابن فورك . قال ابن عطية : وضعف قوله هذا ورد عليه . ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا قال ابن عباس والسدي : معناه قبل المرض والموت . وروي عن الضحاك أنه قال : كل ما كان قبل الموت فهو قريب . وقال أبو مجلز والضحاك أيضا وعكرمة وابن زيد وغيرهم : قبل المعاينة للملائكة والسوق , وأن يغلب المرء على نفسه . ولقد أحسن محمود الوراق حيث قال : قدم لنفسك توبة مرجوة قبل الممات وقبل حبس الألسن بادر بها غلق النفوس فإنها ذخر وغنم للمنيب المحسن قال علماؤنا رحمهم الله : وإنما صحت التوبة منه في هذا الوقت ; لأن الرجاء باق ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل . وقد روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )  . قال : هذا حديث حسن غريب . ومعنى ما لم يغرغر : ما لم تبلغ روحه حلقومه ; فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به . قاله الهروي وقيل : المعنى يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار . والمبادر في الصحة أفضل , وألحق لأمله من العمل الصالح . والبعد كل البعد الموت ; كما قال : وأين مكان البعد إلا مكانيا وروى صالح المري عن الحسن قال : من عير أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله به . وقال الحسن أيضا : إن إبليس لما هبط قال : بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح في جسده . قال الله تعالى : ( فبعزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم تغرغر نفسه )  .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
    +/- -/+  
الأية
18
 
نفى سبحانه أن يدخل في حكم التائبين من حضره الموت وصار في حين اليأس ; كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان ; لأن التوبة في ذلك الوقت لا تنفع , لأنها حال زوال التكليف . وبهذا قال ابن عباس وابن زيد وجمهور المفسرين . وأما الكفار يموتون على كفرهم فلا توبة لهم في الآخرة , وإليهم الإشارة بقوله تعالى : { أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما { وهو الخلود . وإن كانت الإشارة بقوله إلى الجميع فهو في جهة العصاة عذاب لا خلود معه ; وهذا على أن السيئات ما دون الكفر ; أي ليست التوبة لمن عمل دون الكفر من السيئات ثم تاب عند الموت , ولا لمن مات كافرا فتاب يوم القيامة . وقد قيل : إن السيئات هنا الكفر , فيكون المعنى وليست التوبة للكفار الذين يتوبون عند الموت , ولا للذين يموتون وهم كفار . وقال أبو العالية : نزل أول الآية في المؤمنين { إنما التوبة على الله } . والثانية في المنافقين .{ وليست التوبة للذين يعملون السيئات { يعني قبول التوبة للذين أصروا على فعلهم .{ حتى إذا حضر أحدهم الموت { يعني الشرق والنزع ومعاينة ملك الموت ." قال إني تبت الآن { فليس لهذا توبة . ثم ذكر توبة الكفار فقال تعالى : { ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما { أي وجيعا دائما . وقد تقدم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا
    +/- -/+  
الأية
19
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ هذا متصل بما تقدم ذكره من الزوجات . والمقصود نفي الظلم عنهن وإضرارهن ; والخطاب للأولياء . و { أن { في موضع رفع ب { يحل } ; أي لا يحل لكم وراثة النساء . و { كرها { مصدر ف ي موضع الحال . واختلفت الروايات وأقوال المفسرين في سبب نزولها ; فروى البخاري عن ابن عباس { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن { قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته , إن شاء بعضهم تزوجها , وإن شاءوا زوجوها , وإن شاءوا لم يزوجوها , فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك . وأخرجه أبو داود بمعناه . وقال الزهري وأبو مجلز : كان من عادتهم إذا مات الرجل يلقي ابنه من غيرها أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها ; فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت , وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا ; وإن شاء عضلها لتفتدي منه بما ورثته من الميت أو تموت فيرثها , فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } . فيكون المعنى : لا يحل لكم أن ترثوهن من أزواجهن فتكونوا أزواجا لهن . وقيل : كان الوارث إن سبق فألقى عليها ثوبا فهو أحق بها , وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحق بنفسها ; قاله السدي . وقيل : كان يكون عند الرجل عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة فيكره فراق العجوز لمالها فيمسكها ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها أو تموت فيرث مالها . فنزلت هذه الآية . وأمر الزوج أن يطلقها إن كره صحبتها ولا يمسكها كرها ; فذلك قوله تعالى : { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } . والمقصود من الآية إذهاب ما كانوا عليه في جاهليتهم , وألا تجعل النساء كالمال يورثن عن الرجال كما يورث المال .{ وكرها { بضم الكاف قراءة حمزة والكسائي , الباقون بالفتح , وهما لغتان . وقال القتبي : الكره ( بالفتح ) بمعنى الإكراه , والكره ( بالضم )  المشقة . يقال : لتفعل ذلك طوعا أو كرها , يعني طائعا أو مكرها . والخطاب للأولياء . وقيل : لأزواج النساء إذا حبسوهن مع سوء العشرة طماعية إرثها , أو يفتدين ببعض مهورهن , وهذا أصح . واختاره ابن عطية قال : ودليل ذلك قوله تعالى : { إلا أن يأتين بفاحشة )  وإذا أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعا من الأمة , وإنما ذلك للزوج , على ما يأتي بيانه في المسألة بعد هذا . كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا قد تقدم معنى العضل وأنه المنع في { البقرة } . وقال عطاء الخراساني : كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها , فنسخ ذلك بالحدود . وإذا تنزلنا على القول بأن المراد بالخطاب في العضل الأولياء ففقهه أنه متى صح في ولي أنه عاضل نظر القاضي في أمر المرأة وزوجها . إلا الأب في بناته ; فإنه إن كان في عضله صلاح فلا يعترض , قولا واحدا , وذلك بالخاطب والخاطبين وإن صح عضله ففيه قولان في مذهب مالك : أنه كسائر الأولياء , يزوج القاضي من شاء التزويج من بناته وطلبه . والقول الآخر - لا يعرض له : يجوز أن يكون { تعضلوهن { جزما على النهي , فتكون الواو عاطفة جملة كلام مقطوعة من الأولى , ويجوز أن يكون نصبا عطفا على { أن ترثوا { فتكون الواو مشتركة عطفت فعلا على فعل . وقرأ ابن مسعود { ولا أن تعضلوهن { فهذه القراءة تقوي احتمال النصب , وأن العضل مما لا يجوز بالنص . آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ اختلف الناس في معنى الفاحشة ; فقال الحسن : هو الزنا , وإذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى سنة , وترد إلى زوجها ما أخذت منه . وقال أبو قلابة ; إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه . وقال السدي : إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن . وقال ابن سيرين وأبو قلابة : لا يحل له أن يأخذ منها فدية إلا أن يجد على بطنها رجلا , قال الله تعالى : { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } . وقال ابن مسعود وابن عباس والضحاك وقتادة : الفاحشة المبينة في هذه الآية البغض والنشوز , قالوا : فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها ; وهذا هو مذهب مالك . قال ابن عطية : إلا أني لا أحفظ له نصا في الفاحشة في الآية . وقال قوم : الفاحشة البذاء باللسان وسوء العشرة قولا وفعلا ; وهذا في معنى النشوز . ومن أهل العلم من يجيز أخذ المال من الناشز على جهة الخلع ; إلا أنه يرى ألا يتجاوز ما أعطاها ركونا إلى قوله تعالى : { لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } . وقال مالك وجماعة من أهل العلم : للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك . قال ابن عطية : والزنا أصعب على الزوج من النشوز والأذى , وكل ذلك فاحشة تحل أخذ المال . قال أبو عمر : قول ابن سيرين وأبي قلابة عندي ليس بشيء ; لأن الفاحشة قد تكون البذاء والأذى ; ومنه قيل للبذيء : فاحش ومتفحش , وعلى أنه لو اطلع منها على الفاحشة كان له لعانها , وإن شاء طلقها ; وأما أن يضارها حتى تفتدي منه بمالها فليس له ذلك , ولا أعلم أحدا قال : له أن يضارها ويسيء إليها حتى تختلع منه إذا وجدها تزني غير أبي قلابة . والله أعلم . وقال الله عز وجل : { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله } [ البقرة : 229 ] يعني في حسن العشرة والقيام بحق الزوج وقيامه بحقها { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } [ البقرة : 229 ] وقال الله عز وجل : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } [ النساء : 4 ] فهذه الآيات أصل هذا الباب . وقول رابع { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة { إلا أن يزنين فيحبسن في البيوت , فيكون هذا قبل النسخ , وهذا في معنى قول عطاء , وهو ضعيف . { مبينة { بكسر الياء قراءة نافع وأبي عمرو , والباقون بفتح الياء . وقرأ ابن عباس { مبينة { بكسر الباء وسكون الياء , من أبان الشيء , يقال : أبان الأمر بنفسه , وأبنته وبين وبينته , وهذه القراءات كلها لغات فصيحة . مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ أي على ما أمر الله به من حسن المعاشرة . والخطاب للجميع , إذ لكل أحد عشرة , زوجا كان أو وليا ; ولكن المراد بهذا الأمر في الأغلب الأزواج , وهو مثل قوله تعالى : { فإمساك بمعروف } [ البقرة : 229 ] . وذلك توفية حقها من المهر والنفقة , وألا يعبس في وجهها بغير ذنب , وأن يكون منطلقا في القول لا فظا ولا غليظا ولا مظهرا ميلا إلى غيرها . والعشرة : المخالطة والممازجة . ومنه قول طرفة : فلئن شطت نواها مرة لعلى عهد حبيب معتشر جعل الحبيب . جمعا كالخليط والغريق . وعاشره معاشرة , وتعاشر القوم واعتشروا . فأمر الله سبحانه بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن لتكون أدمة ما بينهم وصحبتهم على الكمال , فإنه أهدأ للنفس وأهنأ للعيش . وهذا واجب على الزوج ولا يلزمه في القضاء . وقال بعضهم : هو أن يتصنع لها كما تتصنع له . وقال يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي : أتيت محمد ابن الحنفية فخرج إلي في ملحفة حمراء ولحيته تقطر من الغالية , فقلت : ما هذا ؟ قال : إن هذه الملحفة ألقتها علي امرأتي ودهنتني بالطيب , وإنهن يشتهين منا ما نشتهيه منهن . وقال ابن عباس رضي الله عنه : إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين المرأة لي . وهذا داخل فيما ذكرناه . قال ابن عطية : وإلى معنى الآية ينظر قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( فاستمتع بها وفيها عوج )  أي لا يكن منك سوء عشرة مع اعوجاجها ; فعنها تنشأ المخالفة وبها يقع الشقاق , وهو سبب الخلع . واستدل علماؤنا بقوله تعالى : { وعاشروهن بالمعروف { على أن المرأة إذا كانت لا يكفيها خادم واحد أن عليه أن يخدمها قدر كفايتها , كابنة الخليفة والملك وشبههما ممن لا يكفيها خادم واحد , وأن ذلك هو المعاشرة بالمعروف . وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يلزمه إلا خادم واحد - وذلك يكفيها خدمة نفسها , وليس في العالم امرأة إلا وخادم واحد يكفيها ; وهذا كالمقاتل تكون له أفراس عدة فلا يسهم له إلا لفرس واحد ; لأنه لا يمكنه القتال إلا على فرس واحد . قال علماؤنا : وهذا غلط ; لأن مثل بنات الملوك اللاتي لهن خدمة كثيرة لا يكفيها خادم واحد ; لأنها تحتاج من غسل ثيابها لإصلاح مضجعها وغير ذلك إلى ما لا يقوم به الواحد , وهذا بين . والله أعلم . بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا { فإن كرهتموهن { أي لدمامة أو سوء خلق من غير ارتكاب فاحشة أو نشوز ; فهذا يندب فيه إلى الاحتمال , فعسى أن يئول الأمر إلى أن يرزق الله منها أولادا صالحين . و { أن { رفع ب { عسى { وأن والفعل مصدر . قلت : ومن هذا المعنى ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر )  أو قال ( غيره )  . المعنى : أي لا يبغضها بغضا كليا يحمله على فراقها . أي لا ينبغي له ذلك بل يغفر سيئتها لحسنتها ويتغاضى عما يكره لما يحب . وقال مكحول : سمعت ابن عمر يقول : إن الرجل ليستخير الله تعالى فيخار له , فيسخط على ربه عز وجل فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له . وذكر ابن العربي قال أخبرني أبو القاسم بن حبيب بالمهدية , عن أبي القاسم السيوري عن أبي بكر بن عبد الرحمن حيث قال : كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد من العلم والدين في المنزلة والمعرفة . وكانت له زوجة سيئة العشرة وكانت تقصر في حقوقه وتؤذيه بلسانها ; فيقال له في أمرها ويعذل بالصبر عليها , فكان يقول : أنا رجل قد أكمل الله علي النعمة في صحة بدني ومعرفتي وما ملكت يميني , فلعلها بعثت عقوبة على ذنبي فأخاف إن فارقتها أن تنزل بي عقوبة هي أشد منها . قال علماؤنا : في هذا دليل على كراهة الطلاق مع الإباحة . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله لا يكره شيئا أباحه إلا الطلاق والأكل وإن الله ليبغض المعى إذا امتلأ )  .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ۚ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا
    +/- -/+  
الأية
20
 
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ لما مضى في الآية المتقدمة حكم الفراق الذي سببه المرأة , وأن للزوج أخذ المال منها عقب ذلك بذكر الفراق الذي سببه الزوج , وبين أنه إذا أراد الطلاق من غير نشوز وسوء عشرة فليس له أن يطلب منها مالا . واختلف العلماء إذا كان الزوجان يريدان الفراق وكان منهما نشوز وسوء عشرة ; فقال مالك رضي الله عنه : للزوج أن يأخذ منها إذا تسببت في الفراق ولا يراعى تسببه هو . وقال جماعة من العلماء : لا يجوز له أخذ المال إلا أن تنفرد هي بالنشوز وتطلبه في ذلك . وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فيها دليل على جواز المغالاة في المهور ; لأن الله تعالى لا يمثل إلا بمباح . وخطب عمر رضي الله عنه فقال : ألا لا تغالوا في صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ; ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية . فقامت إليه امرأة فقالت : يا عمر , يعطينا الله وتحرمنا ! أليس الله سبحانه وتعالى يقول : { وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا { ؟ فقال عمر : أصابت امرأة وأخطأ عمر . وفي رواية فأطرق عمر ثم قال : كل الناس أفقه منك يا عمر ! . وفي أخرى : امرأة أصابت ورجل أخطأ . وترك الإنكار . أخرجه أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي العجفاء السلمي قال : خطب عمر الناس , فذكره إلى قوله : اثنتي عشرة أوقية , ولم يذكر : فقامت إليه امرأة . إلى آخره . وأخرجه ابن ماجه في سننه عن أبي العجفاء , وزاد بعد قوله : أوقية . وإن الرجل ليثقل صدقة امرأته حتى تكون لها عداوة في نفسه , ويقول : قد كلفت إليك علق القربة - أو عرق القربة ; وكنت رجلا عربيا مولدا ما أدري ما علق القربة أو عرق القربة . قال الجوهري : وعلق القربة لغة في عرق القربة . قال غيره : ويقال علق القربة عصامها الذي تعلق به . يقول كلفت إليك حتى عصام القربة . وعرق القربة ماؤها ; يقول : جشمت إليك حتى سافرت واحتجت إلى عرق القربة , وهو ماؤها في السفر . ويقال : بل عرق القربة أن يقول : نصبت لك وتكلفت حتى عرقت عرق القربة , وهو سيلانها . وقيل : إنهم كانوا يتزودون الماء فيعلقونه على الإبل يتناوبونه فيشق على الظهر ; ففسر به اللفظان : العرق والعلق . وقال الأصمعي : عرق القربة كلمة معناها الشدة . قال : ولا أدري ما أصلها . قال الأصمعي : وسمعت ابن أبي طرفة وكان من أفصح من رأيت يقول : سمعت شيخاننا يقولون : لقيت من فلان عرق القربة , يعنون الشدة . وأنشدني لابن الأحمر : ش ليست بمشتمة تعد وعفوها و عرق السقاء على القعود اللاغب ش قال أبو عبيد : أراد أنه يسمع الكلمة تغيظه وليست بشتم فيؤاخذ صاحبها بها , وقد أبلغت إليه كعرق القربة , فقال : كعرق السقا لما لم يمكنه الشعر ; ثم قال : على القعود اللاغب , وكان معناه أن تعلق القربة على القعود في أسفارهم . وهذا المعنى شبيه بما كان الفراء يحكيه ; زعم أنهم كانوا في المفاوز في أسفارهم يتزودون الماء فيعلقونه على الإبل يتناوبونه ; فكان في ذلك تعب ومشقة على الظهر . وكان الفراء يجعل هذا التفسير في علق القربة باللام . وقال قوم : لا تعطي الآية جواز المغالاة بالمهور ; لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة ; كأنه قال : وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد . وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم : ( من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة )  . ومعلوم أنه لا يكون مسجد كمفحص قطاة . وقد قال صلى الله عليه وسلم لابن أبي حدرد وقد جاء يستعينه في مهره , فسأله عنه فقال : مائتين ; فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ( كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة أو جبل )  . فاستقرأ بعض الناس من هذا منع المغالاة بالمهور ; وهذا لا يلزم , وإنكار النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل المتزوج ليس إنكارا لأجل المغالاة والإكثار في المهور , وإنما الإنكار لأنه كان فقيرا في تلك الحال فأحوج نفسه إلى الاستعانة والسؤال , وهذا مكروه باتفاق . وقد أصدق عمر أم كلثوم بنت علي من فاطمة رضوان الله عليهم أربعين ألف درهم . وروى أبو داود عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : ( أترضى أن أزوجك فلانة )  ؟ قال : نعم . وقال للمرأة : ( أترضين أن أزوجك فلانا )  ؟ قالت : نعم . فزوج أحدهما من صاحبه ; فدخل بها الرجل ولم يفرض لها صداقا ولم يعطها شيئا , وكان ممن شهد الحديبية وله سهم بخيبر ; فلما حضرته الوفاة قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني فلانة ولم أفرض لها صداقا ولم أعطها شيئا , وإني أشهدكم أني قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر ; فأخذت سهمها فباعته بمائة ألف . وقد أجمع العلماء على ألا تحديد في أكثر الصداق ; لقوله تعالى : { وآتيتم إحداهن قنطارا { واختلفوا في أقله , وسيأتي عند قوله تعالى : { أن تبتغوا بأموالكم } [ النساء : 24 ] . ومضى القول في تحديد القنطار في { آل عمران } . وقرأ ابن محيصن { وآتيتم احداهن { بوصل ألف } إحداهن { وهي لغة ; ومنه قول الشاعر : وتسمع من تحت العجاج لها ازملا وقول الآخر : إن لم أقاتل فألبسوني برقعا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا قال بكر بن عبد الله المزني : لا يأخذ الزوج من المختلعة شيئا ; لقول الله تعالى : { فلا تأخذوا } , وجعلها ناسخة لآية { البقرة } . وقال ابن زيد وغيره : هي منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا } [ البقرة : 229 ] . والصحيح أن هذه الآيات محكمة وليس فيها ناسخ ولا منسوخ وكلها يبنى بعضها على بعض . قال الطبري : هي محكمة , ولا معنى لقول بكر : إن أرادت هي العطاء ; فقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم لثابت أن يأخذ من زوجته ما ساق إليها . أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا { بهتانا { مصدر في موضع الحال { وإثما { معطوف عليه { مبينا { من نعته .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا
    +/- -/+  
الأية
21
 
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ فيه ست مسائل [ الأولى ] قوله تعالى : { إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين { قال أبو العباس المبرد : كان ناس من بني إسرائيل جاءهم النبيون يدعونهم إلى الله عز وجل فقتلوهم , فقام أناس من بعدهم من المؤمنين فأمروهم بالإسلام فقتلوهم ; ففيهم نزلت هذه الآية . وكذلك قال معقل بن أبي مسكين : كانت الأنبياء صلوات الله عليهم تجيء إلى بني إسرائيل بغير كتاب فيقتلونهم , فيقوم قوم ممن اتبعهم فيأمرون بالقسط , أي بالعدل , فيقتلون . وقد روي عن ابن مسعود قال قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس , بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر , بئس القوم قوم يمشي المؤمن بينهم بالتقية )  وروى أبو عبيدة بن الجراح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فقتلوا جميعا في آخر النهار من ذلك اليوم وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية ) . ذكره المهدوي وغيره . وروى شعبة عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : كانت بنو إسرائيل تقتل اليوم سبعين نبيا ثم تقوم سوق بقلهم من آخر النهار . فإن قال قائل : الذين وعظوا بهذا لم يقتلوا نبيا . فالجواب عن هذا أنهم رضوا فعل من قتل فكانوا بمنزلته ; وأيضا فإنهم قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهموا بقتلهم ; قال الله عز وجل : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك } [ الأنفال : 30 ] .[ الثانية ] دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة , وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة . قال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه )  . وعن درة بنت أبي لهب قالت : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال : من خير الناس يا رسول الله ؟ قال : ( آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم لرحمه )  . وفي التنزيل : " المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف } [ التوبة : 67 ] ثم قال : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } [ التوبة : 71 ] . فجعل تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين ; فدل على أن أخص أوصاف المؤمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه . ثم إن الأمر بالمعروف لا يليق بكل أحد , وإنما يقوم به السلطان إذ كانت إقامة الحدود إليه , والتعزيز إلى رأيه , والحبس والإطلاق له , والنفي والتغريب ; فينصب في كل بلدة رجلا صالحا قويا عالما أمينا ويأمره بذلك , ويمضي الحدود على وجهها من غير زيادة . قال الله تعالى : " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر } [ الحج : 41 ] .[ الثالثة ] وليس من شرط الناهي أن يكون عدلا عند أهل السنة , خلافا للمبتدعة حيث تقول : لا يغيره إلا عدل . وهذا ساقط ; فإن العدالة محصورة في القليل من الخلق , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس . فإن تشبثوا بقوله تعالى : { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } [ البقرة : 44 ] وقوله : { كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } [ الصف : 3 ] ونحوه , قيل لهم : إنما وقع الذم هاهنا على ارتكاب ما نهي عنه لا على نهيه عن المنكر . ولا شك في أن النهي عنه ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه , ولذلك يدور في جهنم كما يدور الحمار بالرحى , كما بيناه في البقرة عند قوله تعالى : { أتأمرون الناس بالبر } [ البقرة : 44 ] .[ الرابعة ] أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبد البر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه , وإنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره ; فإن لم يقدر فبلسانه , فإن لم يقدر فبقلبه ليس عليه أكثر من ذلك . وإذا أنكر بقلبه فقد أدى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك . قال : والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تأكيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدا ولكنها مقيدة بالاستطاعة . قال الحسن : إنما يكلم مؤمن يرجى أو جاهل يعلم ; فأما من وضع سيفه أو سوطه فقال : اتقني اتقني فما لك وله . وقال ابن مسعود : بحسب المرء إذا رأى منكرا لا يستطيع تغييره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره . وروى ابن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لمؤمن أن يذل نفسه )  . قالوا : يا رسول الله وما إذلاله نفسه ؟ قال : ( يتعرض من البلاء لما لا يقوم له )  . قلت : وخرجه ابن ماجه عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن بن جندب عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم , وكلاهما قد تكلم فيه . وروي عن بعض الصحابة أنه قال : إن الرجل إذا رأى منكرا لا يستطيع النكير عليه فليقل ثلاث مرات } اللهم إن هذا منكر { فإذا قال ذلك فقد فعل ما عليه , وزعم ابن العربي أن من رجا زواله وخاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل جاز له عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغرر , وإن لم يرج زواله فأي فائدة عنده . قال : والذي عندي أن النية إذا خلصت فليقتحم كيف ما كان ولا يبالي . قلت : هذا خلاف ما ذكره أبو عمر من الإجماع . وهذه الآية تدل على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع خوف القتل . وقال تعالى : { وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك } [ لقمان : 17 ] . وهذا إشارة إلى الإذاية .[ الخامسة ] روى الأئمة عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )  . قال العلماء : الأمر بالمعروف باليد على الأمراء , وباللسان على العلماء , وبالقلب على الضعفاء , يعني عوام الناس . فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعله , وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة أو بالقتل فليفعل , فإن زال بدون القتل لم يجز القتل ; وهذا تلقي من قول الله تعالى : { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } [ الحجرات : 9 ] . وعليه بنى العلماء أنه إذا دفع الصائل على النفس أو على المال عن نفسه أو عن ماله أو نفس غيره فله ذلك ولا شيء عليه . ولو رأى زيد عمرا وقد قصد مال بكر فيجب عليه أن يدفعه عنه إذا لم يكن صاحب المال قادرا عليه ولا راضيا به ; حتى لقد قال العلماء : لو فرضنا قودا . وقيل : كل بلدة يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء : إمام عادل لا يظلم , وعالم على سبيل الهدى , ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحرضون على طلب العلم والقرآن , ونساؤهم مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى .[ السادسة ] روى أنس بن مالك قال : قيل يا رسول الله , متى نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ قال : ( إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم )  . قلنا : يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا ؟ قال : ( الملك في صغاركم والفاحشة في كباركم والعلم في رذالتكم )  . قال زيد : تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ( والعلم في رذالتكم )  إذا كان العلم في الفساق . خرجه ابن ماجه . وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في { المائدة { وغيرها إن شاء الله تعالى وتقدم معنى { فبشرهم } .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۚ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا
    +/- -/+  
الأية
22
 
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ يقال : كان الناس يتزوجون امرأة الأب برضاها بعد نزول قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } [ النساء : 19 ] حتى نزلت هذه الآية : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم { فصار حراما في الأحوال كلها ; لأن النكاح يقع على الجماع والتزوج , فإن كان الأب تزوج امرأة أو وطئها بغير نكاح حرمت على ابنه ; على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى . { ما نكح { قيل : المراد بها النساء . وقيل : العقد , أي نكاح آباؤكم الفاسد المخالف لدين الله ; إذ الله قد أحكم وجه النكاح وفصل شروطه . وهو اختيار الطبري . ف { من { متعلقة ب { تنكحوا { و } ما نكح { مصدر . قال : ولو كان معناه ولا تنكحوا النساء اللاتي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضع { ما } { من } . فالنهي على هذا إنما وقع على ألا ينكحوا مثل نكاح آبائهم الفاسد . والأول أصح , وتكون { ما { بمعنى { الذي { و } من } . والدليل عليه أن الصحابة تلقت الآية على ذلك المعنى ; ومنه استدلت على منع نكاح الأبناء حلائل الآباء . وقد كان في العرب قبائل قد أعتادت أن يخلف ابن الرجل على امرأة أبيه , وكانت هذه السيرة في الأنصار لازمة , وكانت في قريش مباحة مع التراضي . ألا ترى أن عمرو بن أمية خلف على امرأة أبيه بعد موته فولدت له مسافرا وأبا معيط , وكان لها من أمية أبو العيص وغيره ; فكان بنو أمية إخوة مسافر وأبي معيط وأعمامهما . ومن ذلك صفوان بن أمية بن خلف تزوج بعد أبيه امرأته فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد , وكان أمية قتل عنها . ومن ذلك منظور بن زبان خلف على مليكة بنت خارجة , وكانت تحت أبيه زبان بن سيار . ومن ذلك حصن بن أبي قيس تزوج امرأة أبيه كبيشة بنت معن . والأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه . وقال الأشعث بن سوار : توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت : إني أعدك ولدا , ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمره ; فأتته فأخبرته فأنزل الله هذه الآية . وقد كان في العرب من تزوج ابنته , وهو حاجب بن زرارة تمجس وفعل هذه الفعلة ; ذكر ذلك النضر بن شميل في كتاب المثالب . فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السيرة . إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ أي تقدم ومضى . والسلف ; من تقدم من آبائك وذوي قرابتك . وهذا استثناء منقطع , أي لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه . وقيل : { إلا { بمعنى بعد , أي بعد ما سلف ; كما قال تعالى : { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } [ الدخان : 56 ] أي بعد الموتة الأولى . وقيل : { إلا ما قد سلف } أي ولا ما سلف ; كقوله تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } [ النساء : 92 ] يعني ولا خطأ . وقيل : في الآية تقديم وتأخير , معناه : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا إلا ما قد سلف . وقيل : في الآية إضمار لقوله { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء { فإنكم إن فعلتم تعاقبون وتؤاخذون إلا ما قد سلف . إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا عقب بالذم البالغ المتتابع , وذلك دليل على أنه فعل انتهى من القبح إلى الغاية . قال أبو العباس : سألت ابن الأعرابي عن نكاح المقت فقال : هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها ; ويقال لهذا الرجل : الضيزن . وقال ابن عرفة : كانت العرب إذا تزوج الرجل امرأة أبيه فأولدها قيل للولد : المقتي . وأصل المقت البغض ; من مقته يمقته مقتا فهو ممقوت ومقيت . فكانت العرب تقول للرجل من امرأة أبيه : مقيت ; فسمى تعالى هذا النكاح { مقتا { إذ هو ذا مقت يلحق فاعله . وقيل : المراد بالآية النهي عن أن يطأ الرجل امرأة وطئها الآباء , إلا ما قد سلف من الآباء في الجاهلية من الزنى بالنساء لا على وجه المناكحة فإنه جائز لكم زواجهن . وأن تطئوا بعقد النكاح ما وطئه آباؤكم من الزنى ; قال ابن زيد : وعليه فيكون الاستثناء متصلا , ويكون أصلا في أن الزنى لا يحرم على ما يأتي بيانه . والله أعلم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
    +/- -/+  
الأية
23
 
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم { أي نكاح أمهاتكم ونكاح بناتكم ; فذكر الله تعالى في هذه الآية ما يحل من النساء وما يحرم , كما ذكر تحريم حليلة الأب . فحرم الله سبعا من النسب وستا من رضاع وصهر , وألحقت السنة المتواترة سابعة ; وذلك الجمع بين المرأة وعمتها , ونص عليه الإجماع . وثبتت الرواية عن ابن عباس قال : حرم من النسب سبع ومن الصهر سبع , وتلا هذه الآية . وقال عمرو بن سالم مولى الأنصار مثل ذلك , وقال : السابعة قوله تعالى : { والمحصنات } . فالسبع المحرمات من النسب : الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات , وبنات الأخ وبنات الأخت . والسبع المحرمات بالصهر والرضاع : الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة , وأمهات النساء والربائب وحلائل الأبناء والجمع بين الأختين , والسابعة { ولا تنكحوا ما نكح آبائكم } . قال الطحاوي : وكل هذا من المحكم المتفق عليه , وغير جائز نكاح واحدة منهن بإجماع إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهن أزواجهن ; فإن جمهور السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة , ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم ; وبهذا قول جميع أئمة الفتوى بالأمصار . وقالت طائفة من السلف : الأم والربيبة سواء , لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالأخرى . قالوا : ومعنى قول : { وأمهات نسائكم { أي اللاتي دخلتم بهن .{ وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } . وزعموا أن شرط الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعا ; رواه خلاس عن علي بن أبي طالب . وروي عن ابن عباس وجابر وزيد بن ثابت , وهو قول ابن الزبير ومجاهد . قال مجاهد : الدخول مراد في النازلتين ; وقول الجمهور مخالف لهذا وعليه الحكم والفتيا , وقد شدد أهل العراق فيه حتى قالوا : لو وطئها بزنى أو قبلها أو لمسها بشهوة حرمت عليه ابنتها . وعندنا وعند الشافعي إنما تحرم بالنكاح الصحيح ; والحرام لا يحرم الحلال على ما يأتي . وحديث خلاس عن علي لا تقوم به حجة , ولا تصح روايته عند أهل العلم بالحديث , والصحيح عنه مثل قول الجماعة . قال ابن جريج : قلت لعطاء الرجل ينكح المرأة ثم لا يراها ولا يجامعها حتى يطلقها أوتحل له أمها ؟ قال : لا , هي مرسلة دخل بها أو لم يدخل . فقلت له : أكان ابن عباس يقرأ : { وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن { ؟ قال : لا لا . وروى سعيد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : { وأمهات نسائكم { قال : هي مبهمة لا تحل بالعقد على الابنة ; وكذلك روى مالك في موطئه عن زيد بن ثابت , وفيه : { فقال زيد لا , الأم مبهمة ليس فيها شرط وإنما الشرط في الربائب } . قال ابن المنذر : وهذا هو الصحيح ; لدخول جميع أمهات النساء في قوله تعالى : { وأمهات نسائكم } . ويؤيد هذا القول من جهة الإعراب أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحدا ; فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات , على أن تكون { الظريفات { نعتا لنسائك ونساء زيد ; فكذلك الآية لا يجوز أن يكون { اللاتي { من نعتهما جميعا ; لأن الخبرين مختلفان , ولكنه يجوز على معنى أعني . وأنشد الخليل وسيبويه : إن بها أكتل أو رزاما خويربين ينقفان الهاما خويربين يعني لصين , بمعنى أعني . وينقفان : يكسران ; نقفت رأسه كسرته . وقد جاء صريحا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج البنت )  أخرجه في الصحيحين وإذا تقرر هذا وثبت فاعلم أن التحريم ليس صفة للأعيان , والأعيان ليست موردا للتحليل والتحريم ولا مصدرا , وإنما يتعلق التكليف بالأمر والنهي بأفعال المكلفين من حركة وسكون ; لكن الأعيان لما كانت موردا للأفعال أضيف الأمر والنهي والحكم إليها وعلق بها مجازا على معنى الكناية بالمحل عن الفعل الذي يحل به . قوله تعالى : { أمهاتكم { تحريم الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه ; ولهذا يسميه أهل العلم المبهم , أي لا باب فيه ولا طريق إليه لانسداد التحريم وقوته ; وكذلك تحريم البنات والأخوات ومن ذكر من المحرمات . والأمهات جمع أمهة ; يقال : أم وأمهة بمعنى واحد , وجاء القرآن بهما . وقد تقدم في الفاتحة بيانه . وقيل : إن أصل أم أمهة على وزن فعلة مثل قبرة وحمرة لطيرين , فسقطت وعادت في الجمع . قال الشاعر : أمهتي خندف والدوس أبي وقيل : أصل الأم أمة , وأنشدوا : تقبلتها عن أمة لك طالما تثوب إليها في النوائب أجمعا ويكون جمعها أمات . قال الراعي : كانت نجائب منذر ومحرق أماتهن وطرقهن فحيلا فالأم اسم لكل أنثى لها عليك ولادة ; فيدخل في ذلك الأم دنية , وأمهاتها وجداتها وأم الأب وجداته وإن علون . والبنت اسم لكل أنثى لك عليها ولادة , وإن شئت قلت : كل أنثى يرجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات ; فيدخل في ذلك بنت الصلب وبناتها وبنات الأبناء وإن نزلن . والأخت اسم لكل أنثى جاورتك في أصليك أو في أحدهما والبنات جمع بنت , والأصل بنية , والمستعمل ابنة وبنت . قال الفراء : كسرت الباء من بنت لتدل الكسرة على الياء , وضمت الألف من أخت لتدل على حذف الواو , فإن أصل أخت أخوة , والجمع أخوات . والعمة اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدك في أصليه أو في أحدهما . وإن شئت قلت : كل ذكر رجع نسبه إليك فأخته عمتك . وقد تكون العمة من جهة الأم , وهي أخت أب أمك . والخالة اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو في أحدهما . وإن شئت قلت : كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة فأختها خالتك . وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك . وبنت الأخ اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة بواسطة أو مباشرة ; وكذلك بنت الأخت . فهذه السبع المحرمات من النسب . وقرأ نافع - في رواية أبي بكر بن أبي أويس - بتشديد الخاء من الأخ إذا كانت فيه الألف واللام مع نقل الحركة . وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وهي في التحريم مثل من ذكرنا ; قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب )  . وقرأ عبد الله } وأمهاتكم اللائي { بغير تاء ; كقوله تعالى : { واللائي يئسن من المحيض } [ الطلاق : 4 ] قال الشاعر : من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ولكن ليقتلن البريء المغفلا } أرضعنكم { فإذا أرضعت المرأة طفلا حرمت عليه لأنها أمه , وبنتها لأنها أخته , وأختها لأنها خالته , وأمها لأنها جدته , وبنت زوجها صاحب اللبن لأنها أخته , وأخته لأنها عمته , وأمه لأنها جدته , وبنات بنيها وبناتها لأنهن بنات إخوته وأخواته . قال أبو نعيم عبيد الله بن هشام الحلبي : سئل مالك عن المرأة أيحج معها أخوها من الرضاعة ؟ قال : نعم . قال أبو نعيم : وسئل مالك عن امرأة تزوجت فدخل بها زوجها . ثم جاءت امرأة فزعمت أنها أرضعتهما ; قال : يفرق بينهما , وما أخذت من شيء له فهو لها , وما بقي عليه فلا شيء عليه . ثم قال مالك : إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مثل هذا فأمر بذلك ; فقالوا : يا رسول الله , إنها امرأة ضعيفة ; فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أليس يقال إن فلانا تزوج أخته )  ؟ التحريم بالرضاع إنما يحصل إذا اتفق الإرضاع في الحولين ; كما تقدم في { البقرة } . ولا فرق بين قليل الرضاع وكثيره عندنا إذا وصل إلى الأمعاء ولو مصة واحدة . واعتبر الشافعي في الإرضاع شرطين : أحدهما خمس رضعات ; لحديث عائشة قالت : كان فيما أنزل الله عشر رضعات معلومات يحرمن , ثم نسخن بخمس معلومات , وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن . موضع الدليل منه أنها أثبتت أن العشر نسخن بخمس , فلو تعلق التحريم بما دون الخمس لكان ذلك نسخا للخمس . ولا يقبل على هذا خبر واحد ولا قياس ; لأنه لا ينسخ بهما . وفي حديث سهلة ( أرضعيه خمس رضعات يحرم بهن )  . الشرط الثاني : أن يكون في الحولين , فإن كان خارجا عنهما لم يحرم ; لقوله تعالى : { حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } [ البقرة : 233 ] . وليس بعد التمام والكمال شيء . واعتبر أبو حنيفة بعد الحولين ستة أشهر . ومالك الشهر ونحوه . وقال زفر : ما دام يجتزئ باللبن ولم يفطم فهو رضاع وإن أتى عليه ثلاث سنين . وقال الأوزاعي : إذا فطم لسنة واستمر فطامه فليس بعده رضاع . وانفرد الليث بن سعد من بين العلماء إلى أن رضاع الكبير يوجب التحريم ; وهو قول عائشة رضي الله عنها ; وروي عن أبي موسى الأشعري , وروي عنه ما يدل على رجوعه عن ذلك , وهو ما رواه أبو حصين عن أبي عطية قال : قدم رجل بامرأته من المدينة فوضعت وتورم ثديها , فجعل يمصه ويمجه فدخل في بطنه جرعة منه ; فسأل أبا موسى فقال : بانت منك , وائت ابن مسعود فأخبره , ففعل ; فأقبل بالأعرابي إلى أبي موسى الأشعري وقال : أرضيعا ترى هذا الأشمط ! إنما يحرم من الرضاع ما ينبت اللحم والعظم . فقال الأشعري : لا تسألوني عن شيء وهذا الحبر بين أظهركم . فقوله : { لا تسألوني { يدل على أنه رجع عن ذلك . واحتجت عائشة بقصة سالم مولى أبي حذيفة وأنه كان رجلا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسهلة بنت سهيل : ( أرضعيه )  خرجه الموطأ وغيره . وشذت طائفة فاعتبرت عشر رضعات ; تمسكا بأنه كان فيما أنزل : عشر رضعات . وكأنهم لم يبلغهم الناسخ . وقال داود : لا يحرم إلا بثلاث رضعات ; واحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تحرم الإملاجة والإملاجتان )  . خرجه مسلم . وهو مروي عن عائشة وابن الزبير , وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد , وهو تمسك بدليل الخطاب , وهو مختلف فيه . وذهب من عدا هؤلاء من أئمة الفتوى إلى أن الرضعة الواحدة تحرم إذا تحققت كما ذكرنا ; متمسكين بأقل ما ينطلق عليه اسم الرضاع . وعضد هذا بما وجد من العمل عليه بالمدينة وبالقياس على الصهر ; بعلة أنه معنى طارئ يقتضي تأبيد التحريم فلا يشترط فيه العدد كالصهر . وقال الليث بن سعد : وأجمع المسلمون على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر الصائم . قال أبو عمر . لم يقف الليث على الخلاف في ذلك . قلت : وأنص ما في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تحرم المصة ولا المصتان )  أخرجه مسلم في صحيحه . وهو يفسر معنى قوله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم { أي أرضعنكم ثلاث رضعات فأكثر ; غير أنه يمكن أن يحمل على ما إذا لم يتحقق وصوله إلى جوف الرضيع ; لقوله : { عشر رضعات معلومات . وخمس رضعات معلومات } . فوصفها بالمعلومات إنما هو تحرز مما يتوهم أو يشك في وصوله إلى الجوف . ويفيد دليل خطابه أن الرضعات إذا كانت غير معلومات لم تحرم . والله أعلم . وذكر الطحاوي أن حديث الإملاجة والإملاجتين لا يثبت ; لأنه مرة يرويه ابن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم , ومرة يرويه عن عائشة , ومرة يرويه عن أبيه ; ومثل هذا الاضطراب يسقطه . وروي عن عائشة أنه لا يحرم إلا سبع رضعات . وروي عنها أنها أمرت أختها { أم كلثوم { أن ترضع سالم بن عبد الله عشر رضعات . وروي عن حفصة مثله , وروي عنها ثلاث , وروي عنها خمس ; كما قال الشافعي رضي الله عنه , وحكي عن إسحاق . قوله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم { استدل به من نفى لبن الفحل , وهو سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن , وقالوا : لبن الفحل لا يحرم شيئا من قبل الرجل . وقال الجمهور : قوله تعالى : " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم { يدل على أن الفحل أب ; لأن اللبن منسوب إليه فإنه در بسبب ولده . وهذا ضعيف ; فإن الولد خلق من ماء الرجل والمرأة جميعا , واللبن من المرأة ولم يخرج من الرجل , وما كان من الرجل إلا وطء هو سبب لنزول الماء منه , وإذا فصل الولد خلق الله اللبن من غير أن يكون مضافا إلى الرجل بوجه ما ; ولذلك لم يكن للرجل حق في اللبن , وإنما اللبن لها , فلا يمكن أخذ ذلك من القياس على الماء . وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب )  يقتضي التحريم من الرضاع , ولا يظهر وجه نسبة الرضاع إلى الرجل مثل ظهور نسبة الماء إليه والرضاع منها . نعم , الأصل فيه حديث الزهري وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها : أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها , وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب . قالت : فأبيت أن آذن له ; فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته فقال : ( ليلج عليك فإنه عمك تربت يمينك )  . وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة رضي الله عنها ; وهذا أيضا خبر واحد . ويحتمل أن يكون { أفلح { مع أبي بكر رضيعي لبان فلذلك قال : ( ليلج عليك فإنه عمك )  . وبالجملة فالقول فيه مشكل والعلم عند الله , ولكن العمل عليه , والاحتياط في التحريم أولى , مع أن قوله تعالى : " وأحل لكم ما وراء ذلكم { يقوي قول المخالف . وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وهي الأخت لأب وأم , وهي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك ; سواء أرضعتها معك أو ولدت قبلك أو بعدك . والأخت من الأب دون الأم , وهي التي أرضعتها زوجة أبيك . والأخت من الأم دون الأب , وهي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر . وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ثم ذكر التحريم بالمصاهرة فقال تعالى : { وأمهات نسائكم { والصهر أربع : أم المرأة وابنتها وزوجة الأب وزوجة الابن . فأم المرأة تحرم بمجرد العقد الصحيح على ابنتها على ما تقدم ومعنى قول : { وأمهات نسائكم { أي اللاتي دخلتم بهن .{ وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } . وزعموا أن شرط الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعا ; رواه خلاس عن علي بن أبي طالب . وروي عن ابن عباس وجابر وزيد بن ثابت , وهو قول ابن الزبير ومجاهد . قال مجاهد : الدخول مراد في النازلتين ; وقول الجمهور مخالف لهذا وعليه الحكم والفتيا , وقد شدد أهل العراق فيه حتى قالوا : لو وطئها بزنى أو قبلها أو لمسها بشهوة حرمت عليه ابنتها . وعندنا وعند الشافعي إنما تحرم بالنكاح الصحيح ; والحرام لا يحرم الحلال على ما يأتي . وحديث خلاس عن علي لا تقوم به حجة , ولا تصح روايته عند أهل العلم بالحديث , والصحيح عنه مثل قول الجماعة . قال ابن جريج : قلت لعطاء : الرجل ينكح المرأة ثم لا يراها ولا يجامعها حتى يطلقها أوتحل له أمها ؟ قال : لا , هي مرسلة دخل بها أو لم يدخل . فقلت له : أكان ابن عباس يقرأ : { وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن { ؟ قال : لا لا . وروى سعيد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : { وأمهات نسائكم { قال : هي مبهمة لا تحل بالعقد على الابنة ; وكذلك روى مالك في موطئه عن زيد بن ثابت , وفيه : { فقال زيد لا , الأم مبهمة ليس فيها شرط وإنما الشرط في الربائب } . قال ابن المنذر : وهذا هو الصحيح ; لدخول جميع أمهات النساء في قوله تعالى : { وأمهات نسائكم } . ويؤيد هذا القول من جهة الإعراب أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحدا ; فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات , على أن تكون } الظريفات { نعتا لنسائك ونساء زيد ; فكذلك الآية لا يجوز أن يكون { اللاتي { من نعتهما جميعا ; لأن الخبرين مختلفان , ولكنه يجوز على معنى أعني . وأنشد الخليل وسيبويه : ش إن بها أكتل أو رزاما و خويربين ينقفان الهاما ش خويربين يعني لصين , بمعنى أعني . وينقفان : يكسران ; نقفت رأسه كسرته . وقد جاء صريحا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج البنت )  أخرجه في الصحيحين وإذا تقرر هذا وثبت فاعلم أن التحريم ليس صفة للأعيان , والأعيان ليست موردا للتحليل والتحريم ولا مصدرا , وإنما يتعلق التكليف بالأمر والنهي بأفعال المكلفين من حركة وسكون ; لكن الأعيان لما كانت موردا للأفعال أضيف الأمر والنهي والحكم إليها وعلق بها مجازا على معنى الكناية بالمحل عن الفعل الذي يحل به . وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ هذا مستقل بنفسه . ولا يرجع قوله : { من نسائكم اللاتي دخلتم بهن { إلى الفريق الأول , بل هو راجع إلى الربائب , إذ هو أقرب مذكور كما تقدم . والربيبة : بنت امرأة الرجل من غيره ; سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبة , فعيلة بمعنى مفعولة . واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم , وإن لم تكن الربيبة في حجره . وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر فقالوا : لا تحرم عليه الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج بأمها ; فلو كانت في بلد آخر وفارق الأم بعد الدخول فله أن يتزوج بها ; واحتجوا بالآية فقالوا : حرم الله تعالى الربيبة بشرطين : أحدهما : أن تكون في حجر المتزوج بأمها . والثاني : الدخول بالأم ; فإذا عدم أحد الشرطين لم يوجد التحريم . واحتجوا بقوله عليه السلام : ( لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة )  فشرط الحجر . ورووا عن علي بن أبي طالب إجازة ذلك . قال ابن المنذر والطحاوي : أما الحديث عن علي فلا يثبت ; لأن راويه إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس عن علي , وإبراهيم هذا لا يعرف , وأكثر أهل العلم قد تلقوه بالدفع والخلاف . قال أبو عبيد : ويدفعه قوله : ( فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن )  فعم . ولم يقل : اللائي في حجري , ولكنه سوى بينهن في التحريم . قال الطحاوي : وإضافتهن إلى الحجور إنما ذلك على الأغلب مما يكون عليه الربائب ; لا أنهن لا يحرمن إذا لم يكن كذلك . فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ يعني بالأمهات . فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ يعني في نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن عنكم . وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حل له نكاح ابنتها . واختلفوا في معنى الدخول بالأمهات الذي يقع به تحريم الربائب ; فروي عن ابن عباس أنه قال : الدخول الجماع ; وهو قول طاوس وعمرو بن دينار وغيرهما . واتفق مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث على أنه إذا مسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها وحرمت على الأب والابن , وهو أحد قولي الشافعي . واختلفوا في النظر ; فقال مالك : إذا نظر إلى شعرها أو صدرها أو شيء من محاسنها للذة حرمت عليه أمها وابنتها . وقال الكوفيون : إذا نظر إلى فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة . وقال الثوري : يحرم إذا نظر إلى فرجها متعمدا أو لمسها ; ولم يذكر الشهوة . وقال ابن أبي ليلى : لا تحرم بالنظر حتى يلمس ; وهو قول الشافعي . والدليل على أن بالنظر يقع التحريم أن فيه نوع استمتاع فجرى مجرى النكاح ; إذ الأحكام تتعلق بالمعاني لا بالألفاظ . وقد يحتمل أن يقال : إنه نوع من الاجتماع بالاستمتاع ; فإن النظر اجتماع ولقاء , وفيه بين المحبين استمتاع ; وقد بالغ في ذلك الشعراء فقالوا : أليس الليل يجمع أم عمرو وإيانا فذاك بنا تدان نعم , وترى الهلال كما أراه ويعلوها النهار كما علاني فكيف بالنظر والمجالسة والمحادثة واللذة . وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الحلائل جمع حليلة , وهي الزوجة . سميت حليلة لأنها تحل مع الزوج حيث حل ; . فهي فعيلة بمعنى فاعلة . وذهب الزجاج وقوم إلى أنها من لفظة الحلال ; فهي حليلة بمعنى محللة . وقيل : لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه . أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء , وما عقد عليه الأبناء على الآباء , كان مع العقد وطء أو لم يكن ; لقوله تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء { وقوله تعالى : { وحلائل أبتائكم الذين من أصلابكم } ; فإن نكح أحدهما نكاحا فاسدا حرم على الآخر العقد عليها كما يحرم بالصحيح ; لأن النكاح الفاسد لا يخلو : إما أن يكون متفقا على فساده أو مختلفا فيه . فإن كان متفقا على فساده لم يوجب حكما وكان وجوده كعدمه . وإن كان مختلفا فيه فيتعلق به من الحرمة ما يتعلق بالصحيح ; لاحتمال أن يكون نكاحا فيدخل تحت مطلق اللفظ . والفروج إذا تعارض فيها التحريم والتحليل غلب التحريم . والله أعلم . قال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من علماء الأمصار على أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه وعلى أجداده وولد ولده . وأجمع العلماء وهي المسألة : على أن عقد الشراء على الجارية لا يحرمها على أبيه وابنه ; فإذا اشترى الرجل جارية فلمس أو قبل حرمت على أبيه وابنه , لا أعلمهم يختلفون فيه ; فوجب تحريم ذلك تسليما لهم . ولما اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم . قال ابن المنذر : ولا يصح عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلناه . وقال يعقوب ومحمد : إذا نظر رجل في فرج امرأة من شهوة حرمت على أبيه وابنه , وتحرم عليه أمها وابنتها . وقال مالك : إذا وطئ الأمة أو قعد منها مقعدا لذلك وإن لم يفض إليها , أو قبلها أو باشرها أو غمزها تلذذا فلا تحل لابنه . وقال الشافعي : إنما تحرم باللمس ولا تحرم بالنظر دون اللمس ; وهو قول الأوزاعي : واختلفوا في الوطء بالزنى هل يحرم أم لا ; فقال أكثر أهل العلم : لو أصاب رجل امرأة بزنى لم يحرم عليه نكاحها بذلك ; وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنى بأمها أو بابنتها , وحسبه أن يقام عليه الحد , ثم يدخل بامرأته . ومن زنى بامرأة ثم أراد نكاح أمها أو ابنتها لم تحرما عليه بذلك . وقالت طائفة : تحرم عليه . روي هذا القول عن عمران بن حصين ; وبه قال الشعبي وعطاء والحسن وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي , وروي عن مالك ; وأن الزنى يحرم الأم والابنة وأنه بمنزلة الحلال , وهو قول أهل العراق . والصحيح من قول مالك وأهل الحجاز : أن الزنى لا حكم له ; لأن الله سبحانه وتعالى قال : { وأمهات نسائكم { وليست التي زنى بها من أمهات نسائه , ولا ابنتها من ربائبه . وهو قول الشافعي وأبي ثور . لأنه لما ارتفع الصداق في الزنى ووجوب العدة والميراث ولحوق الولد ووجوب الحد ارتفع أن يحكم له بحكم النكاح الجائز . وروى الدارقطني من حديث الزهري عن عروة عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها فقال : ( لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح )  . ومن الحجة للقول الآخر إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج وقوله : ( يا غلام من أبوك )  قال : فلان الراعي . فهذا يدل على أن الزنى يحرم كما يحرم الوطء الحلال ; فلا تحل أم المزني بها ولا بناتها لآباء الزاني ولا لأولاده ; وهي رواية ابن القاسم في المدونة . ويستدل به أيضا على أن المخلوقة من ماء الزنى لا تحل للزاني بأمها , وهو المشهور . قال عليه السلام : ( لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها )  ولم يفصل بين الحلال والحرام . وقال عليه السلام : ( لا ينظر الله إلى من كشف قناع امرأة وابنتها )  . قال ابن خويز منداد : ولهذا قلنا إن القبلة وسائر وجوه الاستمتاع ينشر الحرمة . وقال عبد الملك الماجشون : إنها تحل ; وهو الصحيح لقوله تعالى : { وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا } [ الفرقان : 54 ] يعني بالنكاح الصحيح , على ما يأتي في { الفرقان { بيانه . ووجه التمسك من الحديث على تلك المسألتين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكى عن جريج أنه نسب ابن الزنى للزاني , وصدق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق الصبي بالشهادة له بذلك ; وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج في معرض المدح وإظهار كرامته ; فكانت تلك النسبة صحيحة بتصديق الله تعالى وبإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ; فثبتت البنوة وأحكامها . فإن قيل : فيلزم على هذا أن تجري أحكام البنوة والأبوة من التوارث والولايات وغير ذلك , وقد اتفق المسلمون على أنه لا توارث بينهما فلم تصح تلك النسبة ؟ فالجواب : إن ذلك موجب ما ذكرناه . وما انعقد عليه الإجماع من الأحكام استثنيناه , وبقي الباقي على أصل ذلك الدليل , والله أعلم . واختلف العلماء أيضا من هذا الباب في مسألة اللائط ; فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم : لا يحرم النكاح باللواط . وقال الثوري : إذا لعب بالصبي حرمت عليه أمه ; وهو قول أحمد بن حنبل . قال : إذا تلوط بابن امرأته أو أبيها أو أخيها حرمت عليه امرأته . وقال الأوزاعي : إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن يتزوجها ; لأنها بنت من قد دخل به . وهو قول أحمد بن حنبل . الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ تخصيص ليخرج عنه كل من كانت العرب تتبناه ممن ليس للصلب . ولما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة زيد بن حارثة قال المشركون : تزوج امرأة ابنه ! وكان عليه السلام تبناه ; على ما يأتي بيانه في { الأحزاب } . وحرمت حليلة الابن من الرضاع وإن لم يكن للصلب - بالإجماع المستند إلى قوله عليه السلام : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب )  . وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ موضع { أن { رفع على العطف على { حرمت عليكم أمهاتكم } . والأختان لفظ يعم الجميع بنكاح وبملك يمين . وأجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد واحد من النكاح لهذه الآية , وقوله عليه السلام : ( لا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن )  . واختلفوا في الأختين بملك اليمين ; فذهب كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما بالملك في الوطء , وإن كان يجوز الجمع بينهما في الملك بإجماع ; وكذلك المرأة وابنتها صفقة واحدة . واختلفوا في عقد النكاح على أخت الجارية التي وطئها ; فقال الأوزاعي : إذا وطئ جارية له بملك اليمين لم يجز له أن يتزوج أختها . وقال الشافعي : ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت . قال أبو عمر : من جعل عقد النكاح كالشراء أجازه , ومن جعله كالوطء لم يجزه . وقد أجمعوا على أنه لا يجوز العقد على أخت الزوجة ; لقول الله تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين { يعني الزوجتين بعقد النكاح . فقف على ما اجتمعوا عليه وما اختلفوا فيه يتبين لك الصواب إن شاء الله . والله أعلم . شذ أهل الظاهر فقالوا : يجوز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء ; كما يجوز الجمع بينهما في الملك . واحتجوا بما روي عن عثمان في الأختين من ملك اليمين : { حرمتهما آية وأحلتهما آية } . ذكره عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب أن عثمان بن عفان سئل عن الأختين مما ملكت اليمين فقال : لا آمرك ولا أنهاك أحلتهما آية وحرمتهما آية . فخرج السائل فلقي رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال معمر : أحسبه قال علي - قال : وما سألت عنه عثمان ؟ فأخبره بما سأله وبما أفتاه ; فقال له : لكني أنهاك , ولو كان لي عليك سبيل ثم فعلت لجعلتك نكالا . وذكر الطحاوي والدارقطني عن علي وابن عباس مثل قول عثمان . والآية التي أحلتهما قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } . ولم يلتفت أحد من أئمة الفتوى إلى هذا القول ; لأنهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه , ولا يجوز عليهم تحريف التأويل . وممن قال ذلك من الصحابة : عمر وعلي وابن مسعود وعثمان وابن عباس وعمار وابن عمر وعائشة وابن الزبير ; وهؤلاء أهل العلم بكتاب الله , فمن خالفهم فهو متعسف في التأويل . وذكر ابن المنذر أن إسحاق بن راهويه حرم الجمع بينهما بالوطء , وأن جمهور أهل العلم كرهوا ذلك , وجعل مالكا فيمن كرهه . ولا خلاف في جواز جمعهما في الملك , وكذلك الأم وابنتها . قال ابن عطية : ويجيء من قول إسحاق أن يرجم الجامع بينهما بالوطء , وتستقرأ الكراهية من قول مالك : إنه إذا وطئ واحدة ثم وطئ الأخرى وقف عنهما حتى يحرم إحداهما ; فلم يلزمه حدا . قال أبو عمر : ( أما قول علي لجعلته نكالا ) ولم يقل لحددته حد الزاني ; فلأن من تأول آية أو سنة ولم يطأ عند نفسه حراما فليس بزان بإجماع وإن كان مخطئا , إلا أن يدعي من ذلك ما لا يعذر بجهله . وقول بعض السلف في الجمع بين الأختين بملك اليمين : ( أحلتهما آية وحرمتهما آية )  معلوم محفوظ ; فكيف يحد حد الزاني من فعل ما فيه مثل هذا من الشبهة القوية ؟ وبالله التوفيق . واختلف العلماء إذا كان يطأ واحدة ثم أراد أن يطأ الأخرى ; فقال علي وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق : لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق , أو بأن يزوجها . قال ابن المنذر : وفيه قول ثان لقتادة , وهو أنه إذا كان يطأ واحدة وأراد وطء الأخرى فإنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وألا يقربها , ثم يمسك عنهما حتى يستبرئ الأولى المحرمة , ثم يغشى الثانية . وفيه قول ثالث : وهو إذا كان عنده أختان فلا يقرب واحدة منهما . هكذا قال الحكم وحماد ; وروي معنى ذلك عن النخعي . ومذهب مالك : إذا كان أختان عند رجل بملك فله أن يطأ أيتهما شاء , والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته . فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك : إما بتزويج أو بيع أو عتق إلى أجل أو كتابة أو إخدام طويل . فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما , ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى ; ولم يوكل ذلك إلى أمانته ; لأنه متهم فيمن قد وطئ ; ولم يكن قبل متهما إذ كان لم يطأ إلا الواحدة . ومذهب الكوفيين في هذا الباب : الثوري وأبي حنيفة وأصحابه أنه إن وطئ إحدى أمتيه لم يطأ الأخرى ; فإن باع الأولى أو زوجها ثم رجعت إليه أمسك عن الأخرى ; وله أن يطأها ما دامت أختها في العدة من طلاق أو وفاة . فأما بعد انقضاء العدة فلا , حتى يملك فرج التي يطأ غيره ; وروي معنى ذلك عن علي رضي الله عنه . قالوا : لأن الملك الذي منع وطء الجارية في الابتداء موجود , فلا فرق بين عودتها إليه وبين بقائها في ملكه . وقول مالك حسن ; لأنه تحريم صحيح في الحال ولا يلزم مراعاة المال ; وحسبه إذا حرم فرجها عليه ببيع أو بتزويج أنها حرمت عليه في الحال . ولم يختلفوا في العتق ; لأنه لا يتصرف فيه بحال ; وأما المكاتبة فقد تعجز فترجع إلى ملكه . فإن كان عند رجل أمة يطؤها ثم تزوج أختها ففيها في المذهب ثلاثة أقوال في النكاح . الثالث : في المدونة أنه يوقف عنهما إذا وقع عقد النكاح حتى يحرم إحداهما مع كراهية لهذا النكاح ; إذ هو عقد في موضع لا يجوز فيه الوطء . وفي هذا ما يدل على أن ملك اليمين لا يمنع النكاح ; كما تقدم عن الشافعي . وفي الباب بعينه قول آخر : أن النكاح لا ينعقد ; وهو معنى قول الأوزاعي . وقال أشهب في كتاب الاستبراء : عقد النكاح في الواحدة تحريم لفرج المملوكة . وأجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها أو أربعا سواها حتى تنقضي عدة المطلقة . واختلفوا إذا طلقها طلاقا لا يملك رجعتها ; فقالت طائفة : ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلق ; وروي عن علي وزيد بن ثابت , وهو مذهب مجاهد وعطاء بن أبي رباح والنخعي , وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأي . وقالت طائفة : له أن ينكح أختها وأربعا سواها ; وروي عن عطاء , وهي أثبت الروايتين عنه , وروي عن زيد بن ثابت أيضا ; وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وعروة بن الزبير وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد . قال ابن المنذر : ولا أحسبه إلا قول مالك وبه نقول . إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا { إلا ما قد سلف } يحتمل أن يكون معناه معنى قوله : { إلا ما قد سلف { في قوله : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } . ويحتمل معنى زائدا وهو جواز ما سلف , وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحا , وإذا جرى في الإسلام خير بين الأختين ; على ما قاله مالك والشافعي , من غير إجراء عقود الكفار على موجب الإسلام ومقتضى الشرع ; وسواء عقد عليهما عقدا واحدا جمع به بينهما أو جمع بينهما في عقدين . وأبو حنيفة يبطل نكاحهما إن جمع في عقد واحد . وروى هشام بن عبد الله عن محمد بن الحسن أنه قال : كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات كلها التي ذكرت في هذه الآية إلا اثنتين ; إحداهما نكاح امرأة الأب , والثانية , الجمع بين الأختين ; ألا ترى أنه قال : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } .{ وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف { ولم يذكر في سائر المحرمات { إلا ما قد سلف } . والله أعلم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۖ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ ۚ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ۚ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ۚ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا
    +/- -/+  
الأية
24
 
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ قوله تعالى : { والمحصنات { عطف على المحرمات والمذكورات قبل . والتحصن : التمنع ; ومنه الحصن لأنه يمتنع فيه ; ومنه قوله تعالى : { وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم } [ الأنبياء : 80 ] أي لتمنعكم ; ومنه الحصان للفرس ( بكسر الحاء )  لأنه يمنع صاحبه من الهلاك . والحصان ( بفتح الحاء )  : المرأة العفيفة لمنعها نفسها من الهلاك . وحصنت المرأة تحصن فهي حصان ; مثل جبنت فهي جبان . وقال حسان في عائشة رضي الله عنها : حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل والمصدر الحصانة ( بفتح الحاء )  والحصن كالعلم . فالمراد بالمحصنات هاهنا ذوات الأزواج ; يقال : امرأة محصنة أي متزوجة , ومحصنة أي حرة ; ومنه } والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } [ المائدة : 5 ] . ومحصنة أي عفيفة ; قال الله تعالى : { محصنات غير مسافحات } [ النساء : 25 ] وقال : " محصنين غير مسافحين } . ومحصنة ومحصنة وحصان أي عفيفة , أي ممتنعة من الفسق , والحرية تمنع الحرة مما يتعاطاه العبيد . قال الله تعالى : { والذين يرمون المحصنات " [ النور : 4 ] أي الحرائر , وكان عرف الإماء في الجاهلية الزنى ; ألا ترى إلى قول هند بنت عتبة للنبي صلى الله عليه وسلم حين بايعته : { وهل تزني الحرة { ؟ والزوج أيضا يمنع زوجه من أن تزوج غيره ; فبناء ( ح ص ن )  معناه المنع كما بينا . ويستعمل الإحصان في الإسلام ; لأنه حافظ ومانع , ولم يرد في الكتاب وورد في السنة ; ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان قيد لفتك )  . ومنه قول الهذلي : فليس كعهد الدار يا أم مالك ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل وقال الشاعر : قالت هلم إلى الحديث فقلت لا يأبى عليك الله والإسلام ومنه قول سحيم : كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا إذا ثبت هذا فقد اختلف العلماء في تأويل هذه الآية ; فقال ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري : المراد بالمحصنات هنا المسبيات ذوات الأزواج خاصة , أي هن محرمات إلا ما ملكت اليمين بالسبي من أرض الحرب , فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه وإن كان لها زوج . وهو قول الشافعي في أن السباء يقطع العصمة ; وقاله ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك , وقال به أشهب . يدل عليه ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشا إلى أوطاس فلقوا العدو فقاتلوهم وظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا ; فكان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين , فأنزل الله عز وجل في ذلك { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } . أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن . وهذا نص صحيح صريح في أن الآية نزلت بسبب تحرج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن وطء المسبيات ذوات الأزواج ; فأنزل الله تعالى في جوابهم { إلا ما ملكت أيمانكم } . وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور , وهو الصحيح إن شاء الله تعالى . واختلفوا في استبرائها بماذا يكون ; فقال الحسن : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبرئون المسبية بحيضة ; وقد روي ذلك من حديث أبي سعيد الخدري في سبايا أوطاس ( لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض )  . ولم يجعل لفراش الزوج السابق أثرا حتى يقال إن المسبية مملوكة ولكنها كانت زوجة زال نكاحها فتعتد عدة الإماء , على ما نقل عن الحسن بن صالح قال : عليها العدة حيضتان إذا كان لها زوج في دار الحرب . وكافة العلماء رأوا استبراءها واستبراء التي لا زوج لها واحدا في أن الجميع بحيضة واحدة . والمشهور من مذهب مالك أنه لا فرق بين أن يسبى الزوجان مجتمعين أو متفرقين . وروى عنه ابن بكير أنهما إن سبيا جميعا واستبقي الرجل أقرا على نكاحهما ; فرأى في هذه الرواية أن استبقاءه إبقاء لما يملكه ; لأنه قد صار له عهد وزوجته من جملة ما يملكه , فلا يحال بينه وبينها ; وهو قول أبي حنيفة والثوري , وبه قال ابن القاسم ورواه عن مالك . والصحيح الأول ; لما ذكرناه ; ولأن الله تعالى قال : ( إلا ما ملكت أيمانكم )  فأحال على ملك اليمين وجعله هو المؤثر فيتعلق الحكم به من حيث العموم والتعليل جميعا , إلا ما خصه الدليل . وفي الآية قول ثان قاله عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيب والحسن بن أبي الحسن وأبي بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس في رواية عكرمة : أن المراد بالآية ذوات الأزواج , أي فهن حرام إلا أن يشتري الرجل الأمة ذات الزوج فإن بيعها طلاقها والصدقة بها طلاقها وأن تورث طلاقها وتطليق الزوج طلاقها . قال ابن مسعود : فإذا بيعت الأمة ولها زوج فالمشتري أحق ببضعها وكذلك المسبية ; كل ذلك موجب للفرقة بينها وبين زوجها . قالوا : وإذا كان كذلك فلا بد أن يكون بيع الأمة طلاقا لها ; لأن الفرج محرم على اثنين في حال واحدة بإجماع من المسلمين . قلت : وهذا يرده حديث بريرة ; لأن عائشة رضي الله عنها اشترت بريرة وأعتقتها ثم خيرها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت ذات زوج ; وفي إجماعهم على أن بريرة قد خيرت تحت زوجها مغيث بعد أن اشترتها عائشة فأعتقتها لدليل على أن بيع الأمة ليس طلاقها ; وعلى ذلك جماعة فقهاء الأمصار من أهل الرأي والحديث , وألا طلاق لها إلا الطلاق . وقد احتج بعضهم بعموم قوله : { إلا ما ملكت أيمانكم { وقياسا على المسبيات . وما ذكرناه من حديث بريرة يخصه ويرده , وأن ذلك إنما هو خاص بالمسبيات على حديث أبي سعيد , وهو الصواب والحق إن شاء الله تعالى . وفي الآية قول ثالث : روى الثوري عن مجاهد عن إبراهيم قال ابن مسعود في قوله تعالى : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم { قال : ذوات الأزواج من المسلمين والمشركين . وقال علي بن أبي طالب : ذوات الأزواج من المشركين . وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب { والمحصنات من النساء { هن ذوات الأزواج ; ويرجع ذلك إلى أن الله حرم الزنى . وقالت طائفة : المحصنات في هذه الآية يراد به العفائف , أي كل النساء حرام . وألبسهن اسم الإحصان من كان منهن ذات زوج أو غير ذات زوج ; إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك . إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ قالوا : معناه بنكاح أو شراء . هذا قول أبي العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء , ورواه عبيدة عن عمر ; فأدخلوا النكاح تحت ملك اليمين , ويكون معنى الآية عندهم في قوله تعالى : { إلا ما ملكت أيمانكم { يعني تملكون عصمتهن بالنكاح وتملكون الرقبة بالشراء , فكأنهن كلهن ملك يمين وما عدا ذلك فزنى , وهذا قول حسن . وقد قال ابن عباس : { المحصنات } العفائف من المسلمين ومن أهل الكتاب . قال ابن عطية : وبهذا التأويل يرجع معنى الآية إلى تحريم الزنى ; وأسند الطبري أن رجلا قال لسعيد بن جبير : أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية فلم يقل فيها شيئا ؟ فقال سعيد : كان ابن عباس لا يعلمها . وأسند أيضا عن مجاهد أنه قال : لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل : قوله { والمحصنات { إلى قوله { حكيما } . قال ابن عطية : ولا أدري كيف نسب هذا القول إلى ابن عباس ولا كيف انتهى مجاهد إلى هذا القول ؟ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ نصب على المصدر المؤكد , أي حرمت هذه النساء كتابا من الله عليكم . ومعنى { حرمت عليكم } كتب الله عليكم . وقال الزجاج والكوفيون : هو نصب على الإغراء , أي الزموا كتاب الله , أو عليكم كتاب الله . وفيه نظر على ما ذكره أبو علي ; فإن الإغراء لا يجوز فيه تقديم المنصوب على حرف الإغراء , فلا يقال : زيدا عليك , أو زيدا دونك ; بل يقال : عليك زيدا ودونك عمرا , وهذا الذي قاله صحيح على أنه يكون منصوبا ب { عليكم { إشارة إلى ما ثبت في القرآن من قوله تعالى : { مثنى وثلاث ورباع } [ النساء : 3 ] وفي هذا بعد ; والأظهر أن قوله : { كتاب الله عليكم { إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله . وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { وأحل لكم { ردا على { حرمت عليكم } . الباقون بالفتح ردا على قوله تعالى : { كتاب الله عليكم } . وهذا يقتضي ألا يحرم من النساء إلا من ذكر , وليس كذلك ; فإن الله تعالى قد حرم على لسان نبيه من لم يذكر في الآية فيضم إليها , قال الله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [ الحشر : 7 ] . روى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها )  . وقال ابن شهاب : فنرى خالة أبيها وعمة أبيها بتلك المنزلة , وقد قيل : إن تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها متلقى من الآية نفسها ; لأن الله تعالى حرم الجمع بين الأختين , والجمع بين المرأة وعمتها في معنى الجمع بين الأختين ; أو لأن الخالة في معنى الوالدة والعمة في معنى الوالد . والصحيح الأول ; لأن الكتاب والسنة كالشيء الواحد ; فكأنه قال : أحللت لكم ما وراء ما ذكرنا في الكتاب , وما وراء ما أكملت به البيان على لسان محمد عليه السلام . وقول ابن شهاب : { فنرى خالة أبيها وعمة أبيها بتلك المنزلة { إنما صار إلى ذلك لأنه حمل الخالة والعمة على العموم وتم له ذلك ; لأن العمة اسم لكل أنثى شاركت أباك في أصليه أو في أحدهما والخالة كذلك كما بيناه . وفي مصنف أبي داود وغيره عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تنكح المرأة على عمتها ولا العمة على بنت أخيها ولا المرأة على خالتها ولا الخالة على بنت أختها ولا تنكح الكبرى على الصغرى ولا الصغرى على الكبرى )  . وروى أبو داود أيضا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كره أن يجمع بين العمة والخالة وبين العمتين والخالتين . الرواية { لا يجمع { برفع العين على الخبر على المشروعية فيتضمن النهي عن ذلك , وهذا الحديث مجمع على العمل به في تحريم الجمع بين من ذكر فيه بالنكاح . وأجاز الخوارج الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وخالتها , ولا يعتد بخلافهم لأنهم مرقوا من الدين وخرجوا منه , ولأنهم مخالفون للسنة الثابتة . وقوله : ( لا يجمع بين العمتين والخالتين )  فقد أشكل على بعض أهل العلم وتحير في معناه حتى حمله على ما يبعد أو لا يجوز ; فقال : معنى بين العمتين على المجاز , أي بين العمة وبنت أخيها ; فقيل لهما : عمتان , كما قيل : سنة العمرين أبي بكر وعمر ; قال : وبين الخالتين مثله . قال النحاس : وهذا من التعسف الذي لا يكاد يسمع بمثله , وفيه أيضا مع التعسف أنه يكون كلاما مكررا لغير فائدة ; لأنه إذا كان المعنى نهى أن يجمع بين العمة وبنت أخيها وبين العمتين يعني به العمة وبنت أخيها صار الكلام مكررا لغير فائدة ; وأيضا فلو كان كما قال لوجب أن يكون وبين الخالة , وليس كذلك الحديث ; لأن الحديث ( نهى أن يجمع بين العمة والخالة )  . فالواجب على لفظ الحديث ألا يجمع بين امرأتين إحداهما عمة الأخرى والأخرى خالة الأخرى . قال النحاس : وهذا يخرج على معنى صحيح , يكون رجل وابنه تزوجا امرأة وابنتها ; تزوج الرجل البنت وتزوج الابن الأم فولد لكل واحد منهما ابنة من هاتين الزوجتين ; فابنة الأب عمة ابنة الابن , وابنة الابن خالة ابنة الأب . وأما الجمع بين الخالتين فهذا يوجب أن يكونا امرأتين كل واحدة منهما خالة الأخرى ; وذلك أن يكون رجل تزوج ابنة رجل وتزوج الآخر ابنته , فولد لكل واحد منهما ابنة , فابنة كل واحد منهما خالة الأخرى . وأما الجمع بين العمتين فيوجب ألا يجمع بين امرأتين كل واحدة منهما عمة الأخرى ; وذلك أن يتزوج رجل أم رجل ويتزوج الآخر أم الآخر , فيولد لكل واحد منهما ابنة فابنة كل واحد منهما عمة الأخرى ; فهذا ما حرم الله على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مما ليس في القرآن . وإذا تقرر هذا فقد عقد العلماء فيمن يحرم الجمع بينهن عقدا حسنا ; فروى معتمر بن سليمان عن فضيل بن ميسرة عن أبي جرير عن الشعبي قال : كل امرأتين إذا جعلت موضع إحداهما ذكرا لم يجز له أن يتزوج الأخرى فالجمع بينهما باطل . فقلت له : عمن هذا ؟ قال : عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال سفيان الثوري : تفسيره عندنا أن يكون من النسب , ولا يكون بمنزلة امرأة وابنة زوجها يجمع بينهما إن شاء . قال أبو عمر : وهذا على مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي وسائر فقهاء الأمصار من أهل الحديث وغيرهم فيما علمت لا يختلفون في هذا الأصل . وقد كره قوم من السلف أن يجمع الرجل بين ابنة رجل وامرأته من أجل أن أحدهما لو كان ذكرا لم يحل له نكاح الأخرى . والذي عليه العلماء أنه لا بأس بذلك , وأن المراعى النسب دون غيره من المصاهرة ; ثم ورد في بعض الأخبار التنبيه على العلة في منع الجمع بين من ذكر , وذلك ما يفضي إليه الجمع من قطع الأرحام القريبة مما يقع بين الضرائر من الشنآن والشرور بسبب الغيرة ; فروى ابن عباس قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج الرجل المرأة على العمة أو على الخالة , وقال : ( إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم )  ذكره أبو محمد الأصيلي في فوائده وابن عبد البر وغيرهما . ومن مراسيل أبي داود عن حسين بن طلحة قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على أخواتها مخافة القطيعة ; وقد طرد بعض السلف هذه العلة فمنع الجمع بين المرأة وقريبتها , وسواء كانت بنت عم أو بنت خال أو بنت خالة ; روي ذلك عن إسحاق بن طلحة وعكرمة وقتادة وعطاء في رواية ابن أبي نجيح , وروى عنه ابن جريج أنه لا بأس بذلك وهو الصحيح . وقد نكح حسن بن حسين بن علي في ليلة واحدة ابنة محمد بن علي وابنة عمر بن علي فجمع بين ابنتي عم ; ذكره عبد الرزاق . زاد ابن عيينة : فأصبح نساؤهم لا يدرين إلى أيتهما يذهبن ; وقد كره مالك هذا , وليس بحرام عنده . وفي سماع ابن القاسم : سئل مالك عن ابنتي العم أيجمع بينهما ؟ فقال : ما أعلمه حراما . قيل له : أفتكرهه ؟ قال : إن ناسا ليتقونه ; قال ابن القاسم : وهو حلال لا بأس به . قال ابن المنذر : لا أعلم أحدا أبطل هذا النكاح . وهما داخلتان في جملة ما أبيح بالنكاح غير خارجتين منه بكتاب ولا سنة ولا إجماع , وكذلك الجمع بين ابنتي عمة وابنتي خالة . وقال السدي في قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } : يعني النكاح فيما دون الفرج . وقيل : المعنى وأحل لكم ما وراء ذوات المحارم من أقربائكم . قتادة : يعني بذلك ملك اليمين خاصة . أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ { أن تبغتوا بأموالكم { لفظ يجمع التزوج والسراء . و { أن { في موضع نصب بدل من { ما } , وعلى قراءة حمزة في موضع رفع ; ويحتمل أن يكون المعنى لأن , أو بأن ; فتحذف اللام أو الباء فيكون في موضع نصب . و { محصنين { نصب على الحال , ومعناه متعففين عن الزنى .{ غير مسافحين { أي غير زانين . والسفاح الزنى , وهو مأخوذ من سفح الماء , أي صبه وسيلانه ; ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع الدفاف في عرس : ( هذا النكاح لا السفاح ولا نكاح السر )  . وقد قيل : إن قوله { محصنين غير مسافحين { يحتمل وجهين : أحدهما : ما ذكرناه وهو الإحصان بعقد النكاح , تقديره اطلبوا منافع البضع بأموالكم على وجه النكاح لا على وجه السفاح ; فيكون للآية على هذا الوجه عموم . ويحتمل أن يقال : { محصنين { أي الإحصان صفة لهن , ومعناه لتزوجوهن على شرط الإحصان فيهن ; والوجه الأول أولى ; لأنه متى أمكن جري الآية على عمومها والتعلق بمقتضاها فهو أولى ; ولأن مقتضى الوجه الثاني أن المسافحات لا يحل التزوج بهن , وذلك خلاف الإجماع . قوله تعالى : { بأموالكم { أباح الله تعالى الفروج بالأموال ولم يحصل , فوجب إذا حصل بغير المال ألا تقع الإباحة به ; لأنها على غير الشرط المأذون فيه , كما لو عقد على خمر أو خنزير أو ما لا يصح تملكه . ويرد على أحمد قوله في أن العتق يكون صداقا ; لأنه ليس فيه تسليم مال وإنما فيه إسقاط الملك من غير أن استحقت به تسليم مال إليها ; فإن الذي كان يملكه المولى من عنده لم ينتقل إليها وإنما سقط . فإذا لم يسلم الزوج إليها شيئا ولم تستحق عليه شيئا , وإنما أتلف به ملكه , لم يكن مهرا . وهذا بين مع قوله تعالى : { وآتوا النساء } [ النساء : 4 ] وذلك أمر يقتضي الإيجاب , وإعطاء العتق لا يصح . وقوله تعالى : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه } [ النساء : 4 ] وذلك محال في العتق , فلم يبق أن يكون الصداق إلا مالا لقوله تعالى : { بأموالكم } [ النساء : 24 ] اختلف من قال بذلك في قدر ذلك ; فتعلق الشافعي بعموم قوله تعالى : { بأموالكم { في جواز الصداق بقليل وكثير , وهو الصحيح ; ويعضده قوله عليه السلام في حديث الموهوبة ( ولو خاتما من حديد )  . وقوله عليه السلام : ( أنكحوا الأيامى )  ; ثلاثا . قيل : ما العلائق بينهم يا رسول الله ؟ قال : ( ما تراضى عليه الأهلون ولو قضيبا من أراك )  . وقال أبو سعيد الخدري : سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صداق النساء فقال : ( هو ما اصطلح عليه أهلوهم )  . وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لو أن رجلا أعطى امرأة ملء يديه طعاما كانت به حلالا )  . أخرجهما الدارقطني في سننه . قال الشافعي : كل ما جاز أن يكون ثمنا لشيء , أو جاز أن يكون أجرة جاز أن يكون صداقا , وهذا قول جمهور أهل العلم . وجماعة أهل الحديث من أهل المدينة وغيرها , كلهم أجازوا الصداق بقليل المال وكثيره , وهو قول عبد الله بن وهب صاحب مالك , واختاره ابن المنذر وغيره . قال سعيد بن المسيب : لو أصدقها سوطا حلت به , وأنكح ابنته من عبد الله بن وداعة بدرهمين . وقال ربيعة : يجوز النكاح بدرهم . وقال بعض أصحابنا في تعليل له : وكان أشبه الأشياء بذلك قطع من ربع دينار أو ثلاثة دراهم كيلا . قال بعض أصحابنا في تعليل له : وكان أشبه الأشياء بذلك قطع اليد , لأن البضع عضو واليد عضو يستباح بمقدر من المال , وذلك ربع دينار أو ثلاثة دراهم كيلا ; فرد مالك البضع إليه قياسا على اليد . قال أبو عمر : قد تقدمه إلى هذا أبو حنيفة , فقاس الصداق على قطع اليد , واليد عنده لا تقطع إلا في دينار ذهبا أو عشرة دراهم كيلا , ولا صداق عنده أقل من ذلك , وعلى ذلك جماعة أصحابه وأهل مذهبه , وهو قول أكثر أهل بلده في قطع اليد لا في أقل الصداق . وقد قال الدراوردي لمالك إذ قال لا صداق أقل من ربع دينار : تعرقت فيها يا أبا عبد الله أي سلكت فيها سبيل أهل العراق . وقد احتج أبو حنيفة بما رواه جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا صداق دون عشرة دراهم )  أخرجه الدارقطني . وفي سنده مبشر بن عبيد متروك . وروي عن داود الأودي عن الشعبي عن علي عليه السلام : لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم . قال أحمد بن حنبل : لقن غياث بن إبراهيم داود الأودي عن الشعبي عن علي : لا مهر أقل من عشرة دراهم . فصار حديثا . وقال النخعي : أقله أربعون درهما . سعيد بن جبير : خمسون درهما . ابن شبرمة : خمسة دراهم . ورواه الدارقطني عن ابن عباس عن علي رضي الله عنه : لا مهر أقل من خمسة دراهم . فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً الاستمتاع التلذذ والأجور المهور ; وسمي المهر أجرا لأنه أجر الاستمتاع , وهذا نص على أن المهر يسمى أجرا , وذلك دليل على أنه في مقابلة البضع ; لأن ما يقابل المنفعة يسمى أجرا . وقد اختلف العلماء في المعقود عليه في النكاح ما هو : بدن المرأة أو منفعة البضع أو الحل ; ثلاثة أقوال , والظاهر المجموع ; فإن العقد يقتضي كل ذلك . والله أعلم . واختلف العلماء في معنى الآية ; فقال الحسن ومجاهد وغيرهما : المعنى فما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح { فآتوهن أجورهن { أي مهورهن , فإذا جامعها مرة واحدة فقد وجب المهر كاملا إن كان مسمى , أو مهر مثلها إن لم يسم . فإن كان النكاح فاسدا فقد اختلفت الرواية عن مالك في النكاح الفاسد , هل تستحق به مهر المثل , أو المسمى إذا كان مهرا صحيحا ؟ فقال مرة المهر المسمى , وهو ظاهر مذهبه ; وذلك أن ما تراضوا عليه يقين , ومهر المثل اجتهاد فيجب أن يرجع إلى ما تيقناه ; لأن الأموال لا تستحق بالشك . ووجه قوله : { مهر المثل { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها مهر مثلها بما استحل من فرجها )  . قال ابن خويز منداد : ولا يجوز أن تحمل الآية على جواز المتعة ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة وحرمه ; ولأن الله تعالى قال : " فأنكحوهن بإذن أهلهن { ومعلوم أن النكاح بإذن الأهلين هو النكاح الشرعي بولي وشاهدين , ونكاح المتعة ليس كذلك . وقال الجمهور : المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام . وقرأ ابن عباس وأبي وابن جبير { فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن { ثم نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم . وقال سعيد بن المسيب : نسختها آية الميراث ; إذ كانت المتعة لا ميراث فيها . وقالت عائشة والقاسم بن محمد : تحريمها ونسخها في القرآن ; وذلك في قوله تعالى : { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } [ المؤمنون : 5 - 6 ] . وليست المتعة نكاحا ولا ملك يمين . وروى الدارقطني عن علي بن أبي طالب قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة , قال : وإنما كانت لمن لم يجد , فلما نزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت . وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : نسخ صوم رمضان كل صوم , ونسخت الزكاة كل صدقة , ونسخ الطلاق والعدة والميراث المتعة , ونسخت الأضحية كل ذبح . وعن ابن مسعود قال : المتعة منسوخة نسخها الطلاق والعدة والميراث . وروى عطاء عن ابن عباس قال : ما كانت المتعة إلا رحمة من الله تعالى رحم بها عباده ولولا نهي عمر عنها ما زنى إلا شقي . واختلف العلماء كم مرة أبيحت ونسخت ; ففي صحيح مسلم عن عبد الله قال : كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا نساء ; فقلنا : ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك , ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل . قال أبو حاتم البستي في صحيحه : قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم { ألا نستخصي { دليل على أن المتعة كانت محظورة قبل أن أبيح لهم الاستمتاع , ولو لم تكن محظوره لم يكن لسؤالهم عن هذا معنى , ثم رخص لهم في الغزو أن ينكحوا المرأة بالثوب إلى أجل ثم نهى عنها عام خيبر , ثم أذن فيها عام الفتح , ثم حرمها بعد ثلاث , فهي محرمة إلى يوم القيامة . وقال ابن العربي : وأما متعة النساء فهي من غرائب الشريعة ; لأنها أبيحت في صدر الإسلام ثم حرمت يوم خيبر , ثم أبيحت في غزوة أوطاس , ثم حرمت بعد ذلك واستقر الأمر على التحريم , وليس لها أخت في الشريعة إلا مسألة القبلة , لأن النسخ طرأ عليها مرتين ثم استقرت بعد ذلك . وقال غيره ممن جمع طرق الأحاديث فيها : إنها تقتضي التحليل والتحريم سبع مرات ; فروى ابن أبي عمرة أنها كانت في صدر الإسلام . وروى سلمة بن الأكوع أنها كانت عام أوطاس . ومن رواية علي تحريمها يوم خيبر . ومن رواية الربيع بن سبرة إباحتها يوم الفتح . قلت : وهذه الطرق كلها في صحيح مسلم ; وفي غيره عن علي نهيه عنها في غزوة تبوك ; رواه إسحاق بن راشد عن الزهري عن عبد الله بن محمد بن علي عن أبيه عن علي , ولم يتابع إسحاق بن راشد على هذه الرواية عن ابن شهاب , قاله أبو عمر رحمه الله . وفي مصنف أبي داود من حديث الربيع بن سبرة النهي عنها في حجة الوداع , وذهب أبو داود إلى أن هذا أصح ما روي في ذلك . وقال عمرو عن الحسن : ما حلت المتعة قط إلا ثلاثا في عمرة القضاء ما حلت قبلها ولا بعدها . وروي هذا عن سبرة أيضا ; فهذه سبعة مواطن أحلت فيها المتعة وحرمت . قال أبو جعفر الطحاوي : كل هؤلاء الذين رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم إطلاقها أخبروا أنها كانت في سفر , وأن النهي لحقها في ذلك السفر بعد ذلك , فمنع منها , وليس أحد منهم يخبر أنها كانت في حضر ; وكذلك روي عن ابن مسعود . فأما حديث سبرة الذي فيه إباحة النبي صلى الله عليه وسلم لها في حجة الوداع فخارج عن معانيها كلها ; وقد اعتبرنا هذا الحرف فلم نجده إلا في رواية عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز خاصة , وقد رواه إسماعيل بن عياش عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز فذكر أن ذلك كان في فتح مكة وأنهم شكوا إليه العزبة فرخص لهم فيها , ومحال أن يشكوا إليه العزبة في حجة الوداع ; لأنهم كانوا حجوا بالنساء , وكان تزويج النساء بمكة يمكنهم , ولم يكونوا حينئذ كما كانوا في الغزوات المتقدمة . ويحتمل أنه لما كانت عادة النبي صلى الله عليه وسلم تكرير مثل هذا في مغازيه وفي المواضع الجامعة , ذكر تحريمها في حجة الوداع ; لاجتماع الناس حتى يسمعه من لم يكن سمعه , فأكد ذلك حتى لا تبقى شبهة لأحد يدعي تحليلها ; ولأن أهل مكة كانوا يستعملونها كثيرا . روى الليث بن سعد عن بكير بن الأشج عن عمار مولى الشريد قال : سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح ؟ قال : لا سفاح ولا نكاح . قلت : فما هي ؟ قال : المتعة كما قال الله تعالى . قلت : هل عليها عدة ؟ قال : نعم حيضة . قلت : يتوارثان , قال : لا . قال أبو عمر : لم يختلف العلماء من السلف والخلف أن المتعة نكاح إلى أجل لا ميراث فيه , والفرقة تقع عند انقضاء الأجل من غير طلاق . وقال ابن عطية : { وكانت المتعة أن يتزوج الرجل المرأة بشاهدين وإذن الولي إلى أجل مسمى ; وعلى أن لا ميراث بينهما , ويعطيها ما اتفقا عليه ; فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل ويستبرئ رحمها : لأن الولد لا حق فيه بلا شك , فإن لم تحمل حلت لغيره . وفي كتاب النحاس : في هذا خطأ وأن الولد لا يلحق في نكاح المتعة " . قلت : هذا هو المفهوم من عبارة النحاس ; فإنه قال : وإنما المتعة أن يقول لها : أتزوجك يوما - أو ما أشبه ذلك - على أنه لا عدة عليك ولا ميراث بيننا ولا طلاق ولا شاهد يشهد على ذلك ; وهذا هو الزنى بعينه ولم يبح قط في الإسلام ; ولذلك قال عمر : لا أوتى برجل تزوج متعة إلا غيبته تحت الحجارة . وقد اختلف علماؤنا إذا دخل في نكاح المتعة هل يحد ولا يلحق به الولد أو يدفع الحد للشبهة ويلحق به الولد على قولين ; ولكن يعذر ويعاقب . وإذا لحق اليوم الولد في نكاح المتعة في قول بعض العلماء مع القول بتحريمه , فكيف لا يلحق في ذلك الوقت الذي أبيح , فدل على أن نكاح المتعة كان على حكم النكاح الصحيح , ويفارقه في الأجل والميراث . وحكى المهدوي عن ابن عباس أن نكاح المتعة كان بلا ولي ولا شهود . وفيما حكاه ضعف ; لما ذكرنا . قال ابن العربي : وقد كان ابن عباس يقول بجوازها , ثم ثبت رجوعه عنها , فانعقد الإجماع على تحريمها ; فإذا فعلها أحد رجم في مشهور المذهب . وفي رواية أخرى عن مالك : لا يرجم ; لأن نكاح المتعة ليس بحرام , ولكن لأصل آخر لعلمائنا غريب انفردوا به دون سائر العلماء ; وهو أن ما حرم بالسنة هل هو مثل ما حرم بالقرآن أم لا ؟ فمن رواية بعض المدنيين عن مالك أنهما ليسا بسواء ; وهذا ضعيف . وقال أبو بكر الطرطوسي : ولم يرخص في نكاح المتعة إلا عمران بن حصين وابن عباس وبعض الصحابة وطائفة من أهل البيت . وفي قول ابن عباس يقول الشاعر : أقول للركب إذ طال الثواء بنا يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس في بضة رخصة الأطراف ناعمة تكون مثواك حتى مرجع الناس وسائر العلماء والفقهاء من الصحابة والتابعين والسلف الصالحين على أن هذه الآية منسوخة , وأن المتعة حرام . وقال أبو عمر : أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن كلهم يرون المتعة حلالا على مذهب ابن عباس وحرمها سائر الناس . وقال معمر : قال الزهري : ازداد الناس لها مقتا حتى قال الشاعر : قال المحدث لما طال مجلسه يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس كما تقدم بيانه . قوله تعالى : { أجورهن { يعم المال وغيره , فيجوز أن يكون الصداق منافع أعيان . وقد اختلف في هذا العلماء ; فمنعه مالك والمزني والليث وأحمد وأبو حنيفة وأصحابه ; إلا أن أبا حنيفة قال : إذا تزوج على ذلك فالنكاح جائز وهو في حكم من لم يسم لها , ولها مهر مثلها إن دخل بها , وإن لم يدخل بها فلها المتعة . وكرهه ابن القاسم في كتاب محمد وأجازه أصبغ . قال ابن شاس : فإن وقع مضى في قول أكثر الأصحاب . وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم . وقال الشافعي : النكاح ثابت وعليه أن يعلمها ما شرط لها . فإن طلقها قبل الدخول ففيها للشافعي قولان : أحدهما أن لها نصف أجر تعليم تلك السورة , والآخر أن لها نصف مهر مثلها . وقال إسحاق : النكاح جائز . قال أبو الحسن اللخمي : والقول بجواز جميع ذلك أحسن . والإجارة والحج كغيرهما من الأموال التي تتملك وتباع وتشترى . وإنما كره ذلك مالك لأنه يستحب أن يكون الصداق معجلا , والإجارة والحج في معنى المؤجل . احتج أهل القول الأول بأن الله تعالى قال : { بأموالكم } [ النساء : 10 ] وتحقيق المال ما تتعلق به الأطماع , ويعد للانتفاع , ومنفعة الرقبة في الإجارة ومنفعة التعليم للعلم كله ليس بمال . قال الطحاوي : والأصل المجتمع عليه أن رجلا لو استأجر رجلا على أن يعلمه سورة من القرآن سماها , بدرهم لم يجز ; لأن الإجارات لا تجوز إلا لأحد معنيين ; إما على عمل بعينه كخياطة ثوب وما أشبهه , وإما على وقت معلوم ; وكان إذا استأجره على تعليم سورة فتلك إجارة لا على وقت معلوم ولا على عمل معلوم , وإنما استأجره على أن يعلم , وقد يفهم بقليل التعليم وكثيره في قليل الأوقات وكثيرها . وكذلك لو باعه داره على أن يعلمه سورة من القرآن لم يجز للمعاني التي ذكرناها في الإجارات . وإذا كان التعليم لا يملك به المنافع ولا أعيان الأموال ثبت بالنظر أنه لا تملك به الأبضاع . والله الموفق . احتج من أجاز ذلك بحديث سهل بن سعد في حديث الموهوبة , وفيه فقال : ( اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن )  . في رواية قال : ( انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن )  . قالوا : فقي هذا دليل على انعقاد النكاح وتأخر المهر الذي هو التعليم , وهذا على الظاهر من قوله : ( بما معك من القرآن )  فإن الباء للعوض ; كما تقول : خذ هذا بهذا , أي عوضا منه . وقوله في الرواية الأخرى : ( فعلمها )  نص في الأمر بالتعليم , والمساق يشهد بأن ذلك لأجل النكاح , ولا يلتفت لقول من قال إن ذلك كان إكراما للرجل بما حفظه من القرآن , أي لما حفظه , فتكون الباء بمعنى اللام ; فإن الحديث الثاني يصرح بخلافه في قوله : ( فعلمها من القرآن )  . ولا حجة فيما روي عن أبي طلحة أنه خطب أم سليم فقالت : إن أسلم تزوجته . فأسلم فتزوجها ; فلا يعلم مهر كان أكرم من مهرها , كان مهرها الإسلام فإن ذلك خاص به . وأيضا فإنه لا يصل إليها منه شيء بخلاف التعليم وغيره من المنافع . وقد زوج شعيب عليه السلام ابنته من موسى عليه السلام على أن يرعى له غنما في صداقها ; على ما يأتي بيانه في سورة { القصص } . وقد روي من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه : ( يا فلان هل تزوجت )  ؟ قال : لا , وليس معي ما أتزوج به . قال : أليس معك { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] ؟ قال : بلى ! قال : ( ثلث القرآن , أليس معك آية الكرسي )  ؟ قال : بلى ! قال : ( ربع القرآن , أليس معك { إذا جاء نصر الله والفتح } [ الفتح : 1 ] ) ؟ قال : بلى ! قال : ( ربع القرآن أليس معك { إذا زلزلت } [ الزلزلة : 1 ] ) ؟ قال : بلى ! قال : ( ربع القرآن . تزوج تزوج )  . قلت : وقد أخرج الدارقطني حديث سهل من حديث ابن مسعود , وفيه زيادة تبين , ما احتج به مالك وغيره , وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ينكح هذه )  ؟ فقام ذلك الرجل فقال : أنا يا رسول الله ; فقال : ( ألك مال )  ؟ قال : لا , يا رسول الله ; قال : ( فهل تقرأ من القرآن شيئا )  ؟ . قال : نعم , سورة البقرة , وسورة المفصل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قد أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها وإذا رزقك الله عوضتها )  . فتزوجها الرجل على ذلك . وهذا نص - لو صح - في أن التعليم لا يكون صداقا . قال الدارقطني : تفرد به عتبة بن السكن وهو متروك الحديث . و { فريضة { نصب على المصدر في موضع الحال , أي مفروضة . وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ أي من زيادة ونقصان في المهر ; فإن ذلك سائغ عند التراضي بعد استقرار الفريضة . والمراد إبراء المرأة عن المهر , أو توفية الرجل كل المهر إن طلق قبل الدخول . وقال القائلون بأن الآية في المتعة : هذا إشارة إلى ما تراضيا عليه من زيادة في مدة المتعة في أول الإسلام ; فإنه كان يتزوج الرجل المرأة شهرا على دينار مثلا , فإذا انقضى الشهر فربما كان يقول : زيديني في الأجل أزدك في المهر . فبين أن ذلك كان جائزا عند التراضي . إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا قال الزجاج : { عليما { أي بالأشياء قبل خلقها { حكيما { فيما يقدره ويمضيه منها . وقال بعضهم : إن الله سبحانه لم يزل ولا يزال , والخبر منه بالماضي كالخبر منه بالاستقبال . ومذهب سيبويه أنهم رأوا حكمة وعلما فقيل لهم : إن الله عز وجل كان كذلك لم يزل على ما رأيتم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ ۚ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ۚ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ۚ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ۚ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ۗ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
    +/- -/+  
الأية
25
 
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ نبه تعالى على تخفيف في النكاح وهو نكاح الأمة لمن لم يجد الطول . واختلف العلماء في معنى الطول على ثلاثة أقوال : الأول : السعة والغنى ; قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي وابن زيد ومالك في المدونة . يقال : طال يطول طولا في الإفضال والقدرة . وفلان ذو طول أي ذو قدرة في ماله ( بفتح الطاء )  . وطولا ( بضم الطاء )  في ضد القصر . والمراد ههنا القدرة على المهر في قول أكثر أهل العلم , وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور . قال أحمد بن المعذل : قال عبد الملك : الطول كل ما يقدر به على النكاح من نقد أو عرض أو دين على ملي . قال : وكل ما يمكن بيعه وإجارته فهو طول . قال : وليست الزوجة ولا الزوجتان ولا الثلاثة طولا . وقال : وقد سمعت ذلك من مالك رضي الله عنه . قال عبد الملك : لأن الزوجة لا ينكح بها ولا يصل بها إلى غيرها إذ ليست بمال . وقد سئل مالك عن رجل يتزوج أمة وهو ممن يجد الطول ; فقال : أرى أن يفرق بينهما . قيل له : إنه يخاف العنت . قال : السوط يضرب به . ثم خففه بعد ذلك . القول الثاني : الطول الحرة . وقد اختلف قول مالك في الحرة هل هي طول أم لا ; فقال في المدونة : ليست الحرة بطول تمنع من نكاح الأمة ; إذا لم يجد سعة لأخرى وخاف العنت . وقال في كتاب محمد ما يقتضي أن الحرة بمثابة الطول . قال اللخمي : وهو ظاهر القرآن . وروي نحو هذا عن ابن حبيب , وقاله أبو حنيفة . فيقتضي هذا أن من عنده حرة فلا يجوز له نكاح الأمة وإن عدم السعة وخاف العنت , لأنه طالب شهوة وعنده امرأة , وقال به الطبري واحتج له . قال أبو يوسف : الطول هو وجود الحرة تحته ; فإذا كانت تحته حرة فهو ذو طول , فلا يجوز له نكاح الأمة . القول الثالث : الطول الجلد والصبر لمن أحب أمة وهويها حتى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج غيرها , فإن له أن يتزوج الأمة إذا لم يملك هواها وخاف أن يبغي بها وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة ; هذا قول قتادة والنخعي وعطاء وسفيان الثوري . فيكون قوله تعالى : { لمن خشي العنت { على هذا التأويل في صفة عدم الجلد . وعلى التأويل الأول يكون تزويج الأمة معلقا بشرطين : عدم السعة في المال , وخوف العنت ; فلا يصح إلا باجتماعهما . وهذا هو نص مذهب مالك في المدونة من رواية ابن نافع وابن القاسم وابن وهب وابن زياد . قال مطرف وابن الماجشون : لا يحل للرجل أن ينكح أمة , ولا يقران إلا أن يجتمع الشرطان كما قال الله تعالى . وقاله أصبغ . وروي هذا القول عن جابر بن عبد الله وابن عباس وعطاء وطاوس والزهري ومكحول , وبه قال الشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق , واختاره ابن المنذر وغيره . فإن وجد المهر وعدم النفقة فقال مالك في كتاب محمد : لا يجوز له أن يتزوج أمة . وقال أصبغ : ذلك جائز ; إذ نفقة الأمة على أهلها إذا لم يضمها إليه . وفي الآية قول رابع : قال مجاهد : مما وسع الله على هذه الأمة نكاح الأمة والنصرانية , وإن كان موسرا . وقال بذلك أبو حنيفة أيضا , ولم يشترط خوف العنت ; إذا لم تكن تحته حرة . قالوا : لأن كل مال يمكن أن يتزوج به الأمة يمكن أن يتزوج به الحرة ; فالآية على هذا أصل في جواز نكاح الأمة مطلقا . قال مجاهد : وبه يأخذ سفيان , وذلك أني سألته عن نكاح الأمة فحدثني عن ابن أبي ليلى عن المنهال عن عباد بن عبد الله عن علي رضي الله عنه قال : إذا نكحت الحرة على الأمة كان للحرة يومان وللأمة يوم . قال : ولم ير علي به بأسا . وحجة هذا القول عموم قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } [ النساء : 24 ] . وقوله تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولا { إلى قوله : { ذلك لمن خشي العنت منكم } [ النساء : 25 ] ; لقوله عز وجل : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } [ النساء : 3 ] . وقد اتفق الجميع على أن للحر أن يتزوج أربعا وإن خاف ألا يعدل . قالوا : وكذلك له تزوج الأمة وإن كان واجدا للطول غير خائف للعنت . وقد روي عن مالك في الذي يجد طولا لحرة أنه يتزوج أمة مع قدرته على طول الحرة ; وذلك ضعيف من قوله . وقد قال مرة أخرى : ما هو بالحرام البين , وأجوزه . والصحيح أنه لا يجوز للحر المسلم أن ينكح أمة غير مسلمة بحال , ولا له أن يتزوج بالأمة المسلمة إلا بالشرطين المنصوص عليهما كما بينا . والعنت الزنى ; فإن عدم الطول ولم يخش العنت لم يجز له نكاح الأمة , وكذلك إن وجد الطول وخشي العنت . فإن قدر على طول حرة كتابية وهي المسألة : الثانية: فهل يتزوج الأمة ; اختلف علماؤنا في ذلك , فقيل : يتزوج الأمة فإن الأمة المسلمة لا تلحق بالكافرة , فأمة مؤمنة خير من حرة مشركة . واختاره ابن العربي . وقيل : يتزوج الكتابية ; لأن الأمة وإن كانت تفضلها بالإيمان فالكافرة تفضلها بالحرية وهي زوجة . وأيضا فإن ولدها يكون حرا لا يسترق , وولد الأمة يكون رقيقا ; وهذا هو الذي يتمشى على أصل المذهب . واختلف العلماء في الرجل يتزوج الحرة على الأمة ولم تعلم بها ; فقالت طائفة : النكاح ثابت . كذلك قال سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي , وروي عن علي . وقيل : للحرة الخيار إذا علمت . ثم في أي شيء يكون لها الخيار ; فقال الزهري وسعيد بن المسيب ومالك وأحمد وإسحاق في أن تقيم معه أو تفارقه . وقال عبد الملك : في أن تقر نكاح الأمة أو تفسخه . وقال النخعي : إذا تزوج الحرة على الأمة فارق الأمة إلا أن يكون له منها ولد ; فإن كان لم يفرق بينهما . وقال مسروق : يفسخ نكاح الأمة ; لأنه أمر أبيح للضرورة كالميتة , فإذا ارتفعت الضرورة ارتفعت الإباحة . فإن كانت تحته أمتان علمت الحرة بواحدة منهما ولم تعلم بالأخرى فإنه يكون لها الخيار . ألا ترى لو أن حرة تزوج عليها أمة فرضيت , ثم تزوج عليها أمة فرضيت , ثم تزوج عليها أخرى فأنكرت كان ذلك لها ; فكذلك هذه إذا لم تعلم بالأمتين وعلمت بواحدة . قال ابن القاسم : قال مالك : وإنما جعلنا الخيار للحرة في هذه المسائل لما قالت العلماء قبلي . يريد سعيد بن المسيب وابن شهاب وغيرهما . قال مالك : ولولا ما قالوه لرأيته حلالا ; لأنه في كتاب الله حلال . فإن لم تكفه الحرة واحتاج إلى أخرى ولم يقدر على صداقها جاز له أن يتزوج الأمة حتى ينتهي إلى أربع بالتزويج بظاهر القرآن . رواه ابن وهب عن مالك . وروى ابن القاسم عنه : يرد نكاحه . قال ابن العربي : والأول أصح في الدليل , وكذلك هو في القرآن ; فإن من رضي بالسبب المحقق رضي بالمسبب المرتب عليه , وألا يكون لها خيار ; لأنها قد علمت أن له نكاح الأربع ; وعلمت أنه إن لم يقدر على نكاح حرة تزوج أمة , وما شرط الله سبحانه عليها كما شرطت على نفسها , ولا يعتبر في شروط الله سبحانه وتعالى علمها . وهذا غاية التحقيق في الباب والإنصاف فيه . الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ يريد الحرائر ; يدل عليه التقسيم بينهن وبين الإماء في قوله : { من فتياتكم المؤمنات } . وقالت فرقة : معناه العفائف . وهو ضعيف ; لأن الإماء يقعن تحته فأجازوا نكاح إماء أهل الكتاب , وحرموا البغايا من المؤمنات والكتابيات . وهو قول ابن ميسرة والسدي . وقد اختلف العلماء فيما يجوز للحر الذي لا يجد الطول ويخشى العنت من نكاح الإماء ; فقال مالك وأبو حنيفة وابن شهاب الزهري والحارث العكلي : له أن يتزوج أربعا . وقال حماد بن أبي سليمان : ليس له أن ينكح من الإماء أكثر من اثنتين . وقال الشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق : ليس له أن ينكح من الإماء إلا واحدة . وهو قول ابن عباس ومسروق وجماعة ; واحتجوا بقوله تعالى : { ذلك لمن خشي العنت منكم { وهذا المعنى يزول بنكاح واحدة . فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أي فليتزوج بأمة الغير . ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز له أن يتزوج أمة نفسه ; لتعارض الحقوق واختلافها . مِنْ فَتَيَاتِكُمُ أي المملوكات , وهي جمع فتاة . والعرب تقول للمملوك : فتى , وللمملوكة فتاة . وفي الحديث الصحيح : ( لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولكن ليقل فتاي وفتاتي )  وسيأتي . ولفظ الفتى والفتاة يطلق أيضا على الأحرار في ابتداء الشباب , فأما في المماليك فيطلق في الشباب وفي الكبر . الْمُؤْمِنَاتِ بين بهذا أنه لا يجوز التزوج بالأمة الكتابية , فهذه الصفة مشترطة عند مالك وأصحابه , والشافعي وأصحابه , والثوري والأوزاعي والحسن البصري والزهري ومكحول ومجاهد . وقالت طائفة من أهل العلم منهم أصحاب الرأي : نكاح الأمة الكتابية جائز . قال أبو عمر : ولا أعلم لهم سلفا في قولهم , إلا أبا ميسرة عمرو بن شرحبيل فإنه قال : إماء أهل الكتاب بمنزلة الحرائر منهن . قالوا : وقوله } المؤمنات { على جهة الوصف الفاضل وليس بشرط ألا يجوز غيرها ; وهذا بمنزلة قوله تعالى : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة { فإن خاف ألا يعدل فتزوج أكثر من واحدة جاز , ولكن الأفضل ألا يتزوج ; فكذلك هنا الأفضل ألا يتزوج إلا مؤمنة , ولو تزوج غير المؤمنة جاز . واحتجوا بالقياس على الحرائر , وذلك أنه لما لم يمنع قوله : " المؤمنات { في الحرائر من نكاح الكتابيات فكذلك لا يمنع قوله : { المؤمنات { في الإماء من نكاح إماء الكتابيات . وقال أشهب في المدونة : جائز للعبد المسلم أن يتزوج أمة كتابية . فالمنع عنده أن يفضل الزوج في الحرية والدين معا . ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز لمسلم نكاح مجوسية ولا وثنية , وإذا كان حراما بإجماع نكاحهما فكذلك وطؤهما بملك اليمين قياسا ونظرا . وقد روي عن طاوس ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار أنهم قالوا : لا بأس بنكاح الأمة المجوسية بملك اليمين . وهو قول شاذ مهجور لم يلتفت إليه أحد من فقهاء الأمصار . وقالوا : لا يحل أن يطأها حتى تسلم . وقد تقدم القول في هذه المسألة في { البقرة { مستوفى . والحمد لله . وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ المعنى أن الله عليم ببواطن الأمور ولكم ظواهرها , وكلكم بنو آدم وأكرمكم عند الله أتقاكم , فلا تستنكفوا من التزوج بالإماء عند الضرورة , وإن كانت حديثة عهد بسباء , أو كانت خرساء وما أشبه ذلك . ففي اللفظ تنبيه على أنه ربما كان إيمان أمة أفضل من إيمان بعض الحرائر . بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ابتداء وخبر ; كقولك زيد في الدار . والمعنى أنتم بنو آدم . وقيل : أنتم مؤمنون . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ; المعنى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضكم من بعض : هذا فتاة هذا , وهذا فتاة هذا . فبعضكم على هذا التقدير مرفوع بفعله وهو فلينكح . والمقصود بهذا الكلام توطئة نفوس العرب التي كانت تستهجن ولد الأمة وتعيره وتسميه الهجين , فلما جاء الشرع بجواز نكاحها علموا أن ذلك التهجين لا معنى له , وإنما انحطت الأمة فلم يجز للحر التزوج بها إلا عند الضرورة ; لأنه تسبب إلى إرقاق الولد , وأن الأمة لا تفرغ للزوج على الدوام , لأنها مشغولة بخدمة المولى . فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ أي بولاية أربابهن المالكين وإذنهم . وكذلك العبد لا ينكح إلا بإذن سيده ; لأن العبد مملوك لا أمر له , وبدنه كله مستغرق , لكن الفرق بينهما أن العبد إذا تزوج بغير إذن سيده فإن أجازه السيد جاز ; هذا مذهب مالك وأصحاب الرأي , وهو قول الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب وشريح والشعبي . والأمة إذا تزوجت بغير إذن أهلها فسخ ولم يجز بإجازة السيد ; لأن نقصان الأنوثة في الأمة يمنع من انعقاد النكاح ألبتة . وقالت طائفة : إذا نكح العبد بغير إذن سيده فسخ نكاحه ; هذا قول الشافعي والأوزاعي وداود بن علي , قالوا : لا تجوز إجازة المولى إن لم يحضره ; لأن العقد الفاسد لا تصح إجازته , فإن أراد النكاح استقبله على سنته . وقد أجمع علماء المسلمين على أنه لا يجوز نكاح العبد بغير إذن سيده . وقد كان ابن عمر يعد العبد بذلك زانيا ويحده ; وهو قول أبي ثور . وذكر عبد الرزاق عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر , وعن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه أخذ عبدا له نكح بغير إذنه فضربه الحد وفرق بينهما وأبطل صداقها . قال : وأخبرنا ابن جريج عن موسى بن عقبة أنه أخبره عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرى نكاح العبد بغير إذن وليه زنى , ويرى عليه الحد , ويعاقب الذين أنكحوهما . قال : وأخبرنا ابن جريج عن عبد الله بن محمد بن عقيل قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيما عبد نكح بغير إذن سيده فهو عاهر )  . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : هو نكاح حرام ; فإن نكح بإذن سيده فالطلاق بيد من يستحل الفرج . قال أبو عمر : على هذا مذهب جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق , ولم يختلف عن ابن عباس أن الطلاق بيد السيد ; وتابعه على ذلك جابر بن زيد وفرقة . وهو عند العلماء شذوذ لا يعرج عليه , وأظن ابن عباس تأول في ذلك قول الله تعالى : { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء } [ النحل : 75 ] . وأجمع أهل العلم على أن نكاح العبد جائز بإذن مولاه ; فإن نكح نكاحا فاسدا فقال الشافعي : إن لم يكن دخل فلا شيء لها , وإن كان دخل فعليه المهر إذا عتق ; هذا هو الصحيح من مذهبه , وهو قول أبي يوسف ومحمد لا مهر عليه حتى يعتق . وقال أبو حنيفة : إن دخل عليها فلها المهر . وقال مالك والشافعي : إذا كان عبد بين رجلين فأذن له أحدهما في النكاح فنكح فالنكاح باطل , فأما الأمة إذا آذنت أهلها في النكاح فأذنوا جاز , وإن لم تباشر العقد لكن تولي من يعقده عليها . وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ دليل على وجوب المهر في النكاح , وأنه للأمة . بِالْمَعْرُوفِ معناه بالشرع والسنة , وهذا يقتضي أنهن أحق بمهورهن من السادة , وهو مذهب مالك . قال في كتاب الرهون : ليس للسيد أن يأخذ مهر أمته ويدعها بلا جهاز . وقال الشافعي : الصداق للسيد ; لأنه عوض فلا يكون للأمة . أصله إجازة المنفعة في الرقبة , وإنما ذكرت لأن المهر وجب بسببها . وذكر القاضي إسماعيل في أحكامه : زعم بعض العراقيين إذا زوج أمته من عبده فلا مهر . وهذا خلاف الكتاب والسنة وأطنب فيه . مُحْصَنَاتٍ أي عفائف . وقرأ الكسائي { محصنات { بكسر الصاد في جميع القرآن , إلا في قوله تعالى : { والمحصنات من النساء } [ النساء : 24 ] . وقرأ الباقون بالنصب في جميع القرآن . غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ أي غير زوان , أي معلنات بالزنى ; لأن أهل الجاهلية كان فيهم الزواني في العلانية , ولهن رايات منصوبات كراية البيطار . وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ أصدقاء على الفاحشة , واحدهم خدن وخدين , وهو الذي يخادنك , ورجل خدنة , إذا اتخذ أخذانا أي أصحابا , عن أبي زيد . وقيل : المسافحة المجاهرة بالزنى , أي التي تكري نفسها لذلك . وذات الخدن هي التي تزني سرا . وقيل : المسافحة المبذولة , وذات الخدن التي تزني بواحد . وكانت العرب تعيب الإعلان بالزنى , ولا تعيب اتخاذ الأخدان , ثم رفع الإسلام جميع ذلك , وفي ذلك نزل قوله تعالى : { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } [ الأنعام : 151 ] ; عن ابن عباس وغيره . فَإِذَا أُحْصِنَّ قراءة عاصم وحمزة والكسائي بفتح الهمزة . الباقون بضمها . فبالفتح معناه أسلمن , وبالضم زوجن . فإذا زنت الأمة المسلمة جلدت نصف جلد الحرة ; وإسلامها هو إحصانها في قول الجمهور , ابن مسعود والشعبي والزهري وغيرهم . وعليه فلا تحد كافرة إذا زنت , وهو قول الشافعي فيما ذكر ابن المنذر . وقال آخرون : إحصانها التزوج بحر . فإذا زنت الأمة المسلمة التي لم تتزوج فلا حد عليها , قال سعيد بن جبير والحسن وقتادة , وروي عن ابن عباس وأبي الدرداء , وبه قال أبو عبيد . قال : وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن حد الأمة فقال : إن الأمة ألقت فروة رأسها من وراء الدار . قال الأصمعي : الفروة جلدة الرأس . قال أبو عبيدة : وهو لم يرد الفروة بعينها , وكيف تلقي جلدة رأسها من وراء الدار , ولكن هذا مثل ! إنما أراد بالفروة القناع , يقول ليس عليها قناع ولا حجاب , وأنها تخرج إلى كل موضع يرسلها أهلها إليه , لا تقدر على الامتناع من ذلك ; فتصير حيث لا تقدر على الامتناع من الفجور , مثل رعاية الغنم وأداء الضريبة ونحو ذلك ; فكأنه رأى أن لا حد عليها إذا فجرت ; لهذا المعنى . وقالت فرقة : إحصانها التزوج , إلا أن الحد واجب على الأمة المسلمة غير المتزوجة بالسنة , كما في صحيح البخاري ومسلم أنه قيل : يا رسول الله , الأمة إذا زنت ولم تحصن ؟ فأوجب عليها الحد . قال الزهري : فالمتزوجة محدوده بالقرآن , والمسلمة غير المتزوجة محدودة بالحديث . قال القاضي إسماعيل في قول من قال { إذا أحصن { أسلمن : بعد ; لأن ذكر الإيمان قد تقدم لهن في قوله تعالى : { من فتياتكم المؤمنات } . وأما من قال : { إذا أحصن { تزوجن , وأنه لا حد على الأمة حتى تتزوج ; فإنهم ذهبوا إلى ظاهر القرآن وأحسبهم لم يعلموا هذا الحديث . والأمر عندنا أن الأمة إذا زنت وقد أحصنت مجلودة بكتاب الله , وإذا زنت ولم تحصن مجلودة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ولا رجم عليها ; لأن الرجم لا يتنصف . قال أبو عمر : ظاهر قول الله عز وجل يقتضي ألا حد على أمة وإن كانت مسلمة إلا بعد التزويج , ثم جاءت السنة بجلدها وإن لم تحصن , فكان ذلك زيادة بيان . قلت : ظهر المؤمن حمى لا يستباح إلا بيقين , ولا يقين مع الاختلاف , لولا ما جاء في صحيح السنة من الجلد في ذلك . والله أعلم . وقال أبو ثور فيما ذكر ابن المنذر : وإن كانوا اختلفوا في رجمهما فإنهما يرجمان إذا كانا محصنين , وإن كان إجماع فالإجماع أولى . واختلف العلماء فيمن يقيم الحد عليهما ; فقال ابن شهاب : مضت السنة أن يحد العبد والأمة أهلوهم في الزنى , إلا أن يرفع أمرهم إلى السلطان فليس لأحد أن يفتات عليه ; وهو مقتضى قوله عليه السلام : ( إذا زنت أمة أحدكم فليحدها الحد )  . وقال علي رضي الله عنه في خطبته : يا أيها الناس , أقيموا على أرقائكم الحد , من أحصن منهم ومن لم يحصن , فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها , فإذا هي حديث عهد بنفاس , فخشيت إن أنا جلدتها أقتلها , فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( أحسنت )  . أخرجه مسلم موقوفا عن علي . وأسنده النسائي وقال فيه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن منهم ومن لم يحصن )  وهذا نص في إقامة السادة الحدود على المماليك من أحصن منهم ومن لم يحصن . قال مالك رضي الله عنه : يحد المولى عبده في الزنى وشرب الخمر والقذف إذا شهد عنده الشهود بذلك , ولا يقطعه في السرقة , وإنما يقطعه الإمام ; وهو قول الليث . وروي عن جماعة من الصحابة أنهم أقاموا الحدود على عبيدهم , منهم ابن عمر وأنس , ولا مخالف لهم من الصحابة . وروي عن ابن أبي ليلى أنه قال : أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم إذا زنت , في مجالسهم . وقال أبو حنيفة : يقيم الحدود على العبيد والإماء السلطان دون المولى في الزنى وسائر الحدود ; وهو قول الحسن بن حي . وقال الشافعي : يحده المولى في كل حد ويقطعه ; واحتج بالأحاديث التي ذكرنا . وقال الثوري والأوزاعي : يحده في الزنى ; وهو مقتضى الأحاديث , والله أعلم . وقد مضى القول في تغريب العبيد في هذه السورة . فإن زنت الأمة ثم عتقت قبل أن يحدها سيدها لم يكن له سبيل إلى حدها , والسلطان يجلدها إذا ثبت ذلك عنده ; فإن زنت ثم تزوجت لم يكن لسيدها أن يجلدها أيضا لحق الزوج ; إذ قد يضره ذلك . وهذا مذهب مالك إذا لم يكن الزوج ملكا للسيد , فلو كان , جاز للسيد ذلك لأن حقهما حقه . فإن أقر العبد بالزنى وأنكره المولى فإن الحد يجب على العبد لإقراره , ولا التفات لما أنكره المولى , وهذا مجمع عليه بين العلماء . وكذلك المدبر وأم الولد والمكاتب والمعتق بعضه . وأجمعوا أيضا على أن الأمة إذا زنت ثم أعتقت حدت حد الإماء ; وإذا زنت وهي لا تعلم بالعتق ثم علمت وقد حدت أقيم عليها تمام حد الحرة ; ذكره ابن المنذر . واختلفوا في عفو السيد عن عبده وأمته إذا زنيا ; فكان الحسن البصري يقول : له أن يعفو . وقال غير الحسن : لا يسعه إلا إقامة الحد , كما لا يسع السلطان أن يعفو عن حد إذا علمه , لم يسع السيد كذلك أن يعفو عن أمته إذا وجب عليها الحد ; وهذا على مذهب أبي ثور . قال ابن المنذر : وبه نقول . فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ أي الجلد ويعني بالمحصنات هاهنا الأبكار الحرائر ; لأن الثيب عليها الرجم والرجم لا يتبعض , وإنما قيل للبكر محصنة وإن لم تكن متزوجة ; لأن الإحصان يكون بها ; كما يقال : أضحية قبل أن يضحى بها ; وكما يقال للبقرة : مثيرة قبل أن تثير . وقيل : { المحصنات { المتزوجات ; لأن عليها الضرب والرجم في الحديث , والرجم لا يتبعض فصار عليهن نصف الضرب . والفائدة في نقصان حدهن أنهن أضعف من الحرائر . ويقال : إنهن لا يصلن إلى مرادهن كما تصل الحرائر . وقيل : لأن العقوبة تجب على قدر النعمة ; ألا ترى أن الله تعالى قال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم : { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين } [ الأحزاب : 30 ] فلما كانت نعمتهن أكثر جعل عقوبتهن أشد , وكذلك الإماء لما كانت نعمتهن أقل فعقوبتهن أقل . وذكر في الآية حد الإماء خاصة , ولم يذكر حد العبيد ; ولكن حد العبيد والإماء سواء ; خمسون جلدة في الزنى , وفي القذف وشرب الخمر أربعون ; لأن حد الأمة إنما نقص لنقصان الرق فدخل الذكور من العبيد في ذلك بعلة المملوكية , كما دخل الإماء تحت قوله عليه السلام : ( من أعتق شركا له في عبد )  . وهذا الذي يسميه العلماء القياس في معنى الأصل ; ومنه قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات } [ النور : 6 ] الآية . فدخل في ذلك المحصنين قطعا ; على ما يأتي بيانه في سورة { النور { إن شاء الله تعالى . وأجمع العلماء على أن بيع الأمة الزانية ليس بيعها بواجب لازم على ربها , وإن اختاروا له ذلك ; لقوله عليه السلام : ( إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر )  . أخرجه مسلم عن أبي هريرة . وقال أهل الظاهر بوجوب بيعها في الرابعة . منهم داود وغيره ; لقوله ( فليبعها )  وقوله : ( ثم بيعوها ولو بضفير )  . قال ابن شهاب : فلا أدري بعد الثالثة أو الرابعة ; والضفير الحبل . فإذا باعها بزناها ; لأنه عيب فلا يحل أن يكتم . فإن قيل : إذا كان مقصود الحديث إبعاد الزانية ووجب على بائعها التعريف بزناها فلا ينبغي لأحد أن يشتريها ; لأنها مما قد أمرنا بإبعادها . فالجواب أنها مال ولا تضاع ; للنهي عن إضاعة المال , ولا تسيب ; لأن ذلك إغراء لها بالزنى وتمكين منه , ولا تحبس دائما , فإن فيه تعطيل منفعتها على سيدها فلم يبق إلا بيعها . ولعل السيد الثاني يعفها بالوطء أو يبالغ في التحرز فيمنعها من ذلك . وعلى الجملة فعند تبدل الملاك تختلف عليها الأحوال . والله أعلم . ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي الصبر على العزبة خير من نكاح الأمة , لأنه يفضي إلى إرقاق الولد , والغض من النفس والصبر على مكارم الأخلاق أولى من البذالة . وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه . يعني يصير ولده رقيقا ; فالصبر عن ذلك أفضل لكيلا يرق الولد . وقال سعيد بن جبير : ما نكاح الأمة من الزنى إلا قريب , قال الله تعالى : { وأن تصبروا خير لكم } , أي عن نكاح الإماء . وفي سنن ابن ماجه عن الضحاك بن مزاحم قال : سمعت أنس بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر )  . ورواه أبو إسحاق الثعلبي من حديث يونس بن مرداس , وكان خادما لأنس , وزاد : فقال أبو هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت - أو قال - فساد البيت )  .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ۗ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
    +/- -/+  
الأية
26
 
قُلِ اللهُمَّ قال علي رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لما أراد الله تعالى أن ينزل فاتحة الكتاب وآية الكرسي وشهد الله وقل اللهم مالك الملك إلى قوله بغير حساب تعلقن بالعرش وليس بينهن وبين الله حجاب وقلن يا رب تهبط بنا دار الذنوب وإلى من يعصيك فقال الله تعالى وعزتي وجلالي لا يقرأكن عقب كل صلاة مكتوبة إلا أسكنته حظيرة القدس على ما كان منه , وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة , وإلا قضيت له في كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة , وإلا أعذته من كل عدو ونصرته عليه ولا يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت )  . وقال معاذ بن جبل : احتبست عن النبي صلى الله عليه وسلم يوما فلم أصل معه الجمعة فقال : ( يا معاذ ما منعك من صلاة الجمعة )  ؟ قلت : يا رسول الله , كان ليوحنا بن باريا اليهودي علي أوقية من تبر وكان على بابي يرصدني فأشفقت أن يحبسني دونك . قال : ( أتحب يا معاذ أن يقضي الله دينك )  ؟ قلت نعم . قال : ( قل كل يوم قل اللهم مالك الملك - إلى قوله - بغير حساب رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء اقض عني ديني فلو كان عليك ملء الأرض ذهبا لأداه الله عنك )  . خرجه أبو نعيم الحافظ , أيضا عن عطاء الخراساني أن معاذ بن جبل قال : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات من القرآن - أو كلمات - ما في الأرض مسلم يدعو بهن وهو مكروب أو غارم أو ذو دين إلا قضى الله عنه وفرج همه , احتبست عن النبي صلى الله عليه وسلم ; فذكره . غريب من حديث عطاء أرسله عن معاذ . وقال ابن عباس وأنس بن مالك : لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ووعد أمته ملك فارس والروم قال المنافقون واليهود : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم هم أعز وأمنع من ذلك , ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم ; فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقيل : نزلت دامغة لباطل نصارى أهل نجران في قولهم : إن عيسى هو الله ; وذلك أن هذه الأوصاف تبين لكل صحيح الفطرة أن عيسى ليس في شيء منها . قال ابن إسحاق : أعلم الله عز وجل في هذه الآية بعنادهم وكفرهم , وأن عيسى صلى الله عليه وسلم وإن كان الله تعالى أعطاه آيات تدل على نبوته من إحياء الموتى وغير ذلك فإن الله عز وجل هو المنفرد بهذه الأشياء ; من قوله : { تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء } . وقوله : { تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب } [ آل عمران : 27 ] فلو كان عيسى إلها كان هذا إلها ; فكان في ذلك اعتبار وآية بينة .{ قل اللهم { اختلف النحويون في تركيب لفظة { اللهم { بعد إجماعهم أنها مضمومة الهاء مشددة الميم المفتوحة , وأنها منادى ; وقد جاءت مخففة الميم في قول الأعشى : كدعوة من أبي رباح يسمعها اللهم الكبار قال الخليل وسيبويه وجميع البصريين : إن أصل اللهم يا الله , فلما استعملت الكلمة دون حرف النداء الذي هو { يا { جعلوا بدله هذه الميم المشددة , فجاءوا بحرفين وهما الميمان عوضا من حرفين وهما الياء والألف , والضمة في الهاء هي ضمة الاسم المنادى المفرد . وذهب الفراء والكوفيون إلى أن الأصل في اللهم يا الله أمنا بخير ; فحذف وخلط الكلمتين , وإن الضمة التي في الهاء هي الضمة التي كانت في أمنا لما حذفت الهمزة انتقلت الحركة . قال النحاس : هذا عند البصريين من الخطإ العظيم , والقول في هذا ما قال الخليل وسيبويه . قال الزجاج : محال أن يترك الضم الذي هو دليل على النداء المفرد , وأن يجعل في اسم الله ضمة أم , هذا إلحاد في اسم الله تعالى . قال ابن عطية : وهذا غلو من الزجاج , وزعم أنه ما سمع قط يا الله أم , ولا تقول العرب يا اللهم . وقال الكوفيون : إنه قد يدخل حرف النداء على { اللهم { وأنشدوا على ذلك قول الراجز : غفرت أو عذبت يا اللهما آخر : وما عليك أن تقولي كلما سبحت أو هللت يا اللهما اردد علينا شيخنا مسلما فإننا من خيره لن نعدما آخر : إني إذا ما حدث ألما أقول يا اللهم يا اللهما قالوا : فلو كان الميم عوضا من حرف النداء لما اجتمعا . قال الزجاج : وهذا شاذ ولا يعرف قائله , ولا يترك له ما كان في كتاب الله وفي جميع ديوان العرب ; وقد ورد مثله في قوله : هما نفثا في في من فمويهما ما على النابح العاوي أشد رجام قال الكوفيون : وإنما تزاد الميم مخففة في فم وابنم , وأما ميم مشددة فلا تزاد . وقال بعض النحويين : ما قاله الكوفيون خطأ ; لأنه لو كان كما قالوا كان يجب أن يقال : { اللهم { ويقتصر عليه لأنه معه دعاء . وأيضا فقد تقول : أنت اللهم الرزاق . فلو كان كما ادعوا لكنت قد فصلت بجملتين بين الابتداء والخبر . قال النضر بن شميل : من قال اللهم فقد دعا الله تعالى بجميع أسمائه كلها وقال الحسن : اللهم تجمع الدعاء . مَالِكَ الْمُلْكِ قال قتادة : بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله عز وجل أن يعطي أمته ملك فارس فأنزل الله هذه الآية . وقال مقاتل : سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له ملك فارس والروم في أمته ; فعلمه الله تعالى بأن يدعو بهذا الدعاء . وقد تقدم معناه . و { مالك { منصوب عند سيبويه على أنه نداء ثان ; ومثله قوله تعالى : { قل اللهم فاطر السموات والأرض } [ الزمر : 46 ] ولا يجوز عنده أن يوصف اللهم لأنه قد ضمت إليه الميم . وخالفه محمد بن يزيد وإبراهيم بن السري الزجاج فقالا : { مالك { في الإعراب صفة لاسم الله تعالى , وكذلك { فاطر السموات والأرض } . قال أبو علي ; هو مذهب أبي العباس المبرد ; وما قاله سيبويه أصوب وأبين ; وذلك أنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد { اللهم { لأنه اسم مفرد ضم إليه صوت , والأصوات لا توصف ; نحو غاق وما أشبهه . وكان حكم الاسم المفرد ألا يوصف وإن كانوا قد وصفوه في مواضع . فلما ضم هنا ما لا يوصف إلى ما كان قياسه ألا يوصف صار بمنزلة صوت ضم إلى صوت ; نحو حيهل فلم يوصف . و { الملك { هنا النبوة ; عن مجاهد . وقيل , الغلبة . وقيل : المال والعبيد . الزجاج : المعنى مالك العباد وما ملكوا . وقيل : المعنى مالك الدنيا والآخرة . تُؤْتِي الْمُلْكَ أي الإيمان والإسلام .{ من تشاء { أي من تشاء أن تؤتيه إياه , وكذلك ما بعده , ولا بد فيه من تقدير الحذف , أي وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه منه , ثم حذف هذا , وأنشد سيبويه : ألا هل لهذا الدهر من متعلل على الناس مهما شاء بالناس يفعل قال الزجاج : مهما شاء أن يفعل بالناس يفعل . مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ أي من تشاء أن تؤتيه إياه , وكذلك ما بعده , ولا بد فيه من تقدير الحذف , أي وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه منه , ثم حذف هذا , وأنشد سيبويه : ألا هل لهذا الدهر من متعلل على الناس مهما شاء بالناس يفعل قال الزجاج : مهما شاء أن يفعل بالناس يفعل . وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ يقال : عز إذا علا وقهر وغلب ; ومنه , { وعزني في الخطاب } [ ص : 23 ] . وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ذل يذل إذا غلب وعلا وقهر . قال طرفة : بطيء عن الجلى سريع إلى الخنا ذليل بأجماع الرجال ملهد بِيَدِكَ الْخَيْرُ أي بيدك الخير والشر فحذف ; كما قال : { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] . وقيل : خص الخير لأنه موضع دعاء ورغبة في فضله . قال النقاش : بيدك الخير , أي النصر والغنيمة . وقال أهل الإشارات . كان أبو جهل يملك المال الكثير , ووقع في الرس يوم بدر , والفقراء صهيب وبلال وخباب لم يكن لهم مال , وكان ملكهم الإيمان , { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء { تقيم الرسول يتيم أبي طالب على رأس الرس حتى ينادي أبدانا قد انقلبت إلى القليب : يا عتبة , يا شيبة تعز من تشاء وتذل من تشاء . أي صهيب , أي بلال , لا تعتقدوا أنا منعناكم من الدنيا ببغضكم . بيدك الخير ما منعكم من عجز إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إنعام الحق عام يتولى من يشاء .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا
    +/- -/+  
الأية
27
 
قوله تعالى : { والله يريد أن يتوب عليكم { ابتداء وخبر . و { أن { في موضع نصب ب } يريد { وكذلك { يريد الله أن يخفف عنكم } ; ف { أن يخفف { في موضع نصب ب { يريد } والمعنى : يريد توبتكم , أي يقبلها فيتجاوز عن ذنوبكم ويريد التخفيف عنكم . قيل : هذا في جميع أحكام الشرع , وهو الصحيح . وقيل : المراد بالتخفيف نكاح الأمة , أي لما علمنا ضعفكم عن الصبر عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء ; قاله مجاهد وابن زيد وطاوس . قال طاوس : ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء . واختلف في تعيين المتبعين للشهوات ; فقال مجاهد : هم الزناة . السدي : هم اليهود والنصارى . وقالت فرقة : هم اليهود خاصة ; لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب . وقال ابن زيد : ذلك على العموم , وهو الأصح . والميل : العدول عن طريق الاستواء ; فمن كان عليها أحب أن يكون أمثاله عليها حتى لا تلحقه معرة .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا
    +/- -/+  
الأية
28
 
قوله تعالى : { وخلق الإنسان ضعيفا { نصب على الحال ; والمعنى أن هواه يستميله وشهوته وغضبه يستخفانه , وهذا أشد الضعف فاحتاج إلى التخفيف . وقال طاوس : ذلك في أمر النساء خاصة . وروي عن ابن عباس أنه قرأ { وخلق الإنسان ضعيفا { أي وخلق الله الإنسان ضعيفا , أي لا يصبر عن النساء . قال ابن المسيب : لقد أتى علي ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشو بالأخرى وصاحبي أعمى أصم - يعني ذكره - وإني أخاف من فتنة النساء . ونحوه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه , قال عبادة : ألا تروني لا أقوم إلا رفدا ولا آكل إلا ما لوق لي - قال يحيى : يعني لين وسخن - وقد مات صاحبي منذ زمان - قال يحيى : يعني ذكره - وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي , وأن لي ما تطلع عليه الشمس مخافة أن يأتيني الشيطان فيحركه علي , إنه لا سمع له ولا بصر .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا
    +/- -/+  
الأية
29
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ قوله تعالى : { بالباطل { أي بغير حق . ووجوه ذلك تكثر على ما بيناه ; وقد قدمنا معناه في البقرة . ومن أكل المال بالباطل بيع العربان ; وهو أن يأخذ منك السلعة أو يكتري منك الدابة ويعطيك درهما فما فوقه , على أنه إن اشتراها أو ركب الدابة فهو من ثمن السلعة أو كراء الدابة ; وإن ترك ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطاك فهو لك . فهذا لا يصلح ولا يجوز عند جماعة فقهاء الأمصار من الحجازيين والعراقيين , لأنه من باب بيع القمار والغرر والمخاطرة , وأكل المال بالباطل بغير عوض ولا هبة , وذلك باطل بإجماع . وبيع العربان مفسوخ إذا وقع على هذا الوجه قبل القبض وبعده , وترد السلعة إن كانت قائمة , فإن فاتت رد قيمتها يوم قبضها . وقد روي عن قوم منهم ابن سيرين ومجاهد ونافع بن عبد الحارث وزيد بن أسلم أنهم أجازوا بيع العربان على ما وصفنا . وكان زيد بن أسلم يقول : أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر : هذا لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه يصح , وإنما ذكره عبد الرزاق عن الأسلمي عن زيد بن أسلم مرسلا ; وهذا ومثله ليس حجة . ويحتمل أن يكون بيع العربان الجائز على ما تأوله مالك والفقهاء معه ; وذلك أن يعربنه ثم يحسب عربانه من الثمن إذا اختار تمام البيع . وهذا لا خلاف في جوازه عن مالك وغيره ; وفي موطأ مالك عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( نهى عن بيع العربان )  . قال أبو عمر : قد تكلم الناس في الثقة عنده في هذا الموضع , وأشبه ما قيل فيه : أنه أخذه عن ابن لهيعة أو عن ابن وهب عن ابن لهيعة ; لأن ابن لهيعة سمعه من عمرو بن شعيب ورواه عنه . حدث به عن ابن لهيعة ابن وهب وغيره , وابن لهيعة أحد العلماء إلا أنه يقال : إنه احترقت كتبه فكان إذا حدث بعد ذلك من حفظه غلط . وما رواه عنه ابن المبارك وابن وهب فهو عند بعضهم صحيح . ومنهم من يضعف حديثه كله ., وكان عنده علم واسع وكان كثير الحديث , إلا أن حاله عندهم كما وصفنا . بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ هذا استثناء منقطع , أي ولكن تجارة عن تراض . والتجارة هي البيع والشراء ; وهذا مثل قوله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا " [ البقرة : 275 ] على ما تقدم . وقرئ { تجارة } , بالرفع أي إلا أن تقع تجارة ; وعليه أنشد سيبويه : فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي إذا كان يوم ذو كواكب أشهب وتسمى هذه كان التامة ; لأنها تمت بفاعلها ولم تحتج إلى مفعول . وقرئ { تجارة { بالنصب ; فتكون كان ناقصة ; لأنها لا تتم بالاسم دون الخبر , فاسمها مضمر فيها , وإن شئت قدرته , أي إلا أن تكون الأموال أموال تجارة ; فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه , وقد تقدم هذا ; ومنه قوله تعالى : { وإن كان ذو عسرة } [ البقرة : 280 ] . قوله تعالى : { تجارة { التجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ; ومنه الأجر الذي يعطيه البارئ سبحانه العبد عوضا عن الأعمال الصالحة التي هي بعض من فعله ; قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } [ الصف : 10 ] . وقال تعالى : { يرجون تجارة لن تبور } [ فاطر : 29 ] . وقال تعالى : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } [ التوبة : 111 ] الآية . فسمى ذلك كله بيعا وشراء على وجه المجاز , تشبيها بعقود الأشربة والبياعات التي تحصل بها الأغراض , وهي نوعان : تقلب في الحضر من غير نقلة ولا سفر , وهذا تربص واحتكار قد رغب عنه أولو الأقدار , وزهد فيه ذوو الأخطار . والثاني تقلب المال بالأسفار ونقله إلى الأمصار , فهذا أليق بأهل المروءة , وأعم جدوى ومنفعة , غير أنه أكثر خطرا وأعظم غررا . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن المسافر وماله لعلى قلت إلا ما وقى الله )  . يعني على خطر . وقيل : في التوراة يا ابن آدم , أحدث سفرا أحدث لك رزقا . الطبري : وهذه الآية أدل دليل على فساد قول . اعلم أن كل معاوضة تجارة على أي وجه كان العوض إلا أن قوله { بالباطل { أخرج منها كل عوض لا يجوز شرعا من ربا أو جهالة أو تقدير عوض فاسد كالخمر والخنزير وغير ذلك . وخرج منها أيضا كل عقد جائز لا عوض فيه ; كالقرض والصدقة والهبة لا للثواب . وجازت عقود التبرعات بأدلة أخرى مذكورة في مواضعها . فهذان طرفان متفق عليهما . وخرج منها أيضا دعاء أخيك إياك إلى طعامه . روى أبو داود عن ابن عباس في قوله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم { فكان الرجل يحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية ; فنسخ ذلك بالآية الأخرى التي في { النور } ; فقال : { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم } [ النور : 61 ] إلى قوله { أشتاتا } ; فكان الرجل الغني يدعو الرجل من أهله إلى طعامه فيقول : إني لأجنح أن آكل منه - والتجنح الحرج ويقول : المسكين أحق به مني . فأحل في ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه , وأحل طعام أهل الكتاب . لو اشتريت من السوق شيئا ; فقال لك صاحبه قبل الشراء : ذقه وأنت في حل ; فلا تأكل منه ; لأن إذنه بالأكل لأجل الشراء ; فربما لا يقع بينكما شراء فيكون ذلك شبهة , ولكن لو وصف لك صفة فاشتريته فلم تجده على تلك الصفة فأنت بالخيار . والجمهور على جواز الغبن في التجارة ; مثل أن يبيع رجل ياقوتة به بدرهم وهي تساوي مائة فذلك جائز , وأن المالك الصحيح الملك جائز له أن يبيع ماله الكثير بالتافه اليسير , وهذا ما لا اختلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك , كما تجوز الهبة لو وهب . واختلفوا فيه إذا لم يعرف قدر ذلك ; فقال قوم : عرف قدر ذلك أو لم يعرف فهو جائز إذا كان رشيدا حرا بالغا . وقالت فرقة : الغبن إذا تجاوز الثلث مردود , وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات , وأما المتفاحش الفادح فلا ; وقاله ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله . والأول أصح ; لقوله عليه السلام في حديث الأمة الزانية . ( فليبعها ولو بضفير )  وقوله عليه السلام لعمر : ( لا تبتعه يعني الفرس - ولو أعطاكه بدرهم واحد )  وقوله عليه السلام : ( دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض )  وقوله عليه السلام : ( لا يبع حاضر لباد )  وليس فيها تفصيل بين القليل والكثير من ثلث ولا غيره . تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ أي عن رضا , إلا أنها جاءت من المفاعلة إذ التجارة من اثنين . واختلف العلماء في التراضي ; فقالت طائفة : تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع , أو بأن يقول أحدهما لصاحبه : اختر ; فيقول : قد اخترت , وذلك بعد العقدة أيضا فينجزم أيضا وإن لم يتفرقا ; قاله جماعة من الصحابة والتابعين , وبه قال الشافعي والثوري والأوزاعي والليث وابن عيينة وإسحاق وغيرهم . قال الأوزاعي : هما بالخيار ما لم يتفرقا ; إلا بيوعا ثلاثة : بيع السلطان المغانم , والشركة في الميراث , والشركة في التجارة ; فإذا صافقه في هذه الثلاثة فقد وجب البيع وليسا فيه بالخيار . وقال : وحد التفرقة أن يتوارى كل واحد منهما عن صاحبه ; وهو قول أهل الشام . وقال الليث : التفرق أن يقوم أحدهما . وكان أحمد بن حنبل يقول : هما بالخيار أبدا ما لم يتفرقا بأبدانهما , وسواء قالا : اخترنا أو لم يقولاه حتى يفترقا بأبدانهما من مكانهما ; وقاله الشافعي أيضا . وهو الصحيح في هذا الباب للأحاديث الواردة في ذلك . وهو مروي عن ابن عمر وأبي برزة وجماعة من العلماء . وقال مالك وأبو حنيفة : تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة فينجزم العقد بذلك ويرتفع الخيار . قال محمد بن الحسن : معنى قوله في الحديث ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا )  أن البائع إذا قال : قد بعتك , فله أن يرجع ما لم يقل المشتري قد قبلت . وهو قول أبي حنيفة , ونص مذهب مالك أيضا , حكاه ابن خويز منداد . وقيل : ليس له أن يرجع . وقد مضى في { البقرة } . واحتج الأولون بما ثبت من حديث سمرة بن جندب وأبي برزة وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وحكيم بن حزام وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه أختر )  . رواه أيوب عن نافع عن ابن عمر ; فقوله عليه السلام في هذه الرواية : ( أو يقول أحدهما لصاحبه اختر )  هو معنى الرواية الأخرى ( إلا بيع الخيار )  وقوله : ( إلا أن يكون بيعهما عن خيار )  ونحوه . أي يقول أحدهما بعد تمام البيع لصاحبه : اختر إنفاذ البيع أو فسخه ; فإن اختار إمضاء البيع تم البيع بينهم وإن لم يتفرقا . وكان ابن عمر وهو راوي الحديث إذا بايع أحدا وأحب أن ينفذ البيع مشى قليلا ثم رجع . وفي الأصول : إن من روى حديثا فهو أعلم بتأويله , لا سيما الصحابة إذ هم أعلم بالمقال وأقعد بالحال . وروى أبو داود والدارقطني عن أبي الوضيء قال : كنا في سفر في عسكر فأتى رجل معه فرس فقال له رجل منا : أتبيع هذا الفرس بهذا الغلام ؟ قال : نعم ; فباعه ثم بات معنا , فلما أصبح قام إلى فرسه , فقال له صاحبنا : ما لك والفرس ! أليس قد بعتنيها ؟ فقال : ما لي في هذا البيع من حاجة . فقال : ما لك ذلك , لقد بعتني . فقال لهما القوم : هذا أبو برزة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتياه ; فقال لهما : أترضيان بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالا : نعم . فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا )  وإني لا أراكما افترقتما . فهذان صحابيان قد علما مخرج الحديث وعملا بمقتضاه , بل هذا كان عمل الصحابة . قال سالم : قال ابن عمر : كنا إذا تبايعنا كان كل واحد منا بالخيار ما لم يتفرق المتبايعان . قال : فتبايعت أنا وعثمان فبعته مالي بالوادي بمال له بخيبر ; قال : فلما بعته طفقت أنكص القهقرى , خشية أن يرادني عثمان البيع قبل أن أفارقه . أخرجه الدارقطني ثم قال : إن أهل اللغة فرقوا بين فرقت مخففا وفرقت مثقلا ; فجعلوه بالتخفيف في الكلام وبالتثقيل في الأبدان . قال أحمد بن يحيى ثعلب : أخبرني ابن الأعرابي عن المفضل قال : يقال فرقت بين الكلامين مخففا فافترقا وفرقت بين اثنين مشددا فتفرقا ; فجعل الافتراق في القول , والتفرق في الأبدان . احتجت المالكية بما تقدم بيانه في آية الدين , وبقوله تعالى : { أوفوا بالعقود } [ المائدة : 1 ] وهذان قد تعاقدا . وفي هذا الحديث إبطال الوفاء بالعقود . قالوا : وقد يكون التفرق بالقول كعقد النكاح ووقوع الطلاق الذي قد سماه الله فراقا ; قال الله تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته } [ النساء : 130 ] وقال تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا } [ آل عمران : 105 ] وقال عليه السلام : ( تفترق أمتي )  ولم يقل بأبدانها . وقد روى الدارقطني وغيره عن عمرو بن شعيب قال : سمعت شعيبا يقول : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( أيما رجل ابتاع من رجل بيعة فإن كل واحد منهما بالخيار حتى يتفرقا من مكانهما إلا أن تكون صفقة خيار فلا يحل لأحدهما أن يفارق صاحبه مخافة أن يقيله )  . قالوا : فهذا يدل على أنه قد تم البيع بينهما قبل الافتراق ; لأن الإقالة لا تصح إلا فيما قد تم من البيوع . قالوا : ومعنى قوله ( المتبايعان بالخيار )  أي المتساومان بالخيار ما لم يعقدا فإذا عقدا بطل الخيار فيه . والجواب : أما ما اعتلوا به من الافتراق بالكلام فإنما المراد بذلك الأديان كما بيناه في { آل عمران } , وإن كان صحيحا في بعض المواضع فهو في هذا الموضع غير صحيح . وبيانه أن يقال : خبرونا عن الكلام الذي وقع به الاجتماع وتم به البيع , أهو الكلام الذي أريد به الافتراق أم غيره ؟ فإن قالوا : هو غيره فقد أحالوا وجاءوا بما لا يعقل ; لأنه ليس ثم كلام غير ذلك . وإن قالوا : هو ذلك الكلام بعينه قيل لهم : كيف يجوز أن يكون الكلام الذي به اجتمعا وتم به بيعهما , به افترقا , هذا عين المحال والفاسد من القول . وأما قوله : ( ولا يحل له أن يفارق صاحبه مخافة أن يقيله )  فمعناه - إن صح - على الندب ; بدليل قوله عليه السلام . ( من أقال مسلما أقاله الله عثرته )  وبإجماع المسلمين على أن ذلك يحل لفاعله على خلاف ظاهر الحديث , ولإجماعهم أنه جائز له أن يفارقه لينفذ بيعه ولا يقيله إلا أن يشاء . وفيما أجمعوا عليه من ذلك رد لرواية من روى ( لا يحل )  فإن لم يكن وجه هذا الخبر الندب , وإلا فهو باطل بالإجماع . وأما تأويل { المتبايعان } بالمتساومين فعدول عن ظاهر اللفظ , وإنما معناه المتبايعان بعد عقدهما مخيران ما داما في مجلسهما , إلا بيعا يقول أحدهما لصاحبه فيه : اختر فيختار ; فإن الخيار ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا ; فإن فرض خيار فالمعنى : إلا بيع الخيار فإنه يبقى الخيار بعد التفرد بالأبدان . وتتميم هذا الباب في كتب الخلاف . وفي قول عمرو بن شعيب { سمعت أبي يقول { دليل على صحة حديثه ; فإن الدارقطني قال حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا محمد بن علي الوراق قال : قلت لأحمد بن حنبل : شعيب سمع من أبيه شيئا ؟ قال : يقول حدثني أبي . قال : فقلت : فأبوه سمع من عبد الله بن عمرو ؟ قال : نعم , أراه قد سمع منه . قال الدارقطني سمعت أبا بكر النيسابوري يقول : هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص , وقد صح سماع عمرو بن شعيب من أبيه شعيب وسماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو . روى الدارقطني عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبي والصديقين والشهداء يوم القيامة )  . ويكره للتاجر أن يحلف لأجل ترويج السلعة وتزيينها , أو يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في عرض سلعته ; وهو أن يقول : صلى الله على محمد ! ما أجود هذا . ويستحب للتاجر ألا تشغله تجارته عن أداء الفرائض ; فإذا جاء وقت الصلاة ينبغي أن يترك تجارته حتى يكون من أهل هذه الآية : { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } [ النور : 37 ] وسيأتي . وفي هذه الآية مع الأحاديث التي ذكرناها ما يرد قول من ينكر طلب الأقوات بالتجارات والصناعات من المتصوفة الجهلة ; لأن الله تعالى حرم أكلها بالباطل وأحلها بالتجارة , وهذا بين . مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ فيه مسألة واحدة - قرأ الحسن } تقتلوا { على التكثير . وأجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضا . ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل في الحرص على الدنيا وطلب المال بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف . ويحتمل أن يقال : " ولا تقتلوا أنفسكم { في حال ضجر أو غضب ; فهذا كله يتناوله النهي . وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد حين أجنب في غزوة ذات السلاسل خوفا على نفسه منه ; فقرر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه وضحك عنده ولم يقل شيئا . خرجه أبو داود وغيره , وسيأتي .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا
    +/- -/+  
الأية
30
 
{ ذلك { إشارة إلى القتل ; لأنه أقرب مذكور ; قاله عطاء . وقيل : هو عائد إلى أكل المال بالباطل وقتل النفس ; لأن النهي عنهما جاء متسقا مسرودا , ثم ورد الوعيد حسب النهي . وقيل : هو عام على كل ما نهى عنه من القضايا , من أول السورة إلى قوله تعالى : { ومن يفعل ذلك } . وقال الطبري : { ذلك { عائد على ما نهى عنه من آخر وعيد , وذلك قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } [ النساء : 19 ] لأن كل ما نهي عنه من أول السورة قرن به وعيد , إلا من قول : { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم { فإنه لا وعيد بعده إلا قوله : { ومن يفعل ذلك عدوانا } [ النساء 10 ] . والعدوان تجاوز الحد . والظلم وضع الشيء في غير موضعه , وقد تقدم . وقيد الوعيد بذكر العدوان والظلم ليخرج منه فعل السهو والغلط , وذكر العدوان والظلم مع تقارب معانيهما لاختلاف ألفاظهما , وحسن ذلك في الكلام كما قال : وألفى قولها كذبا ومينا وحسن العطف لاختلاف اللفظين ; يقال : بعدا وسحقا ; ومنه قول يعقوب : { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } [ يوسف : 86 ] . فحسن ذلك لاختلاف اللفظ . و { نصليه { معناه نمسه حرها . وقد بينا معنى الجمع بين هذه الآي وحديث أبي سعيد الخدري في العصاة وأهل الكبائر لمن أنفذ عليه الوعيد ; فلا معنى لإعادة ذلك . وقرأ الأعمش والنخعي { نصليه { بفتح النون , على أنه منقول من صلى نارا , أي أصليته ; وفي الخبر { شاة مصلية } . ومن ضم النون منقول بالهمزة , مثل طعمت وأطعمت .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا
    +/- -/+  
الأية
31
 
الحب : المحبة , وكذلك الحب بالكسر . والحب أيضا الحبيب ; مثل الخدن والخدين ; يقال أحبه فهو محب , وحبه يحبه ( بالكسر )  فهو محبوب . قال الجوهري : وهذا شاذ ; لأنه لا يأتي في المضاعف يفعل بالكسر . قال أبو الفتح : والأصل فيه حبب كظرف , فأسكنت الباء وأدغمت في الثانية . قال ابن الدهان سعيد : في حب لغتان : حب وأحب , وأصل { حب { في هذا البناء حبب كظرف ; يدل على ذلك قولهم : حببت , وأكثر ما ورد فعيل من فعل . قال أبو الفتح : والدلالة على أحب قوله تعالى : { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] بضم الياء . و { اتبعوني يحببكم الله } [ آل عمران : 31 ] و { حب { يرد على فعل لقولهم حبيب . وعلى فعل كقولهم محبوب : ولم يرد اسم الفاعل من حب المتعدي , فلا يقال : أنا حاب . ولم يرد اسم المفعول من أفعل إلا قليلا ; كقوله : مني بمنزلة المحب المكرم وحكى أبو زيد : حببته أحبه . وأنشد : فوالله لولا تمره ما حببته ولا كان أدنى من عويف وهاشم وأنشد : لعمرك إنني وطلاب مصر لكالمزداد مما حب بعدا وحكى الأصمعي فتح حرف المضارعة مع الياء وحدها . والحب الخابية , فارسي معرب , والجمع حباب وحببة ; حكاه الجوهري . والآية نزلت في وفد نجران إذ زعموا أن ما ادعوه في عيسى حب لله عز وجل ; قاله محمد بن جعفر بن الزبير . وقال الحسن وابن جريج : نزلت في قوم من أهل الكتاب قالوا : نحن الذين نحب ربنا . وروي أن المسلمين قالوا : يا رسول الله , والله إنا لنحب ربنا ; فأنزل الله عز وجل : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني } . قال ابن عرفة : المحبة عند العرب إرادة الشيء على قصد له . وقال الأزهري : محبة العبد لله ورسوله طاعته لهما واتباعه أمرهما ; قال الله تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني } . ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران ; قال الله تعالى : { إن الله لا يحب الكافرين } [ آل عمران : 32 ] أي لا يغفر لهم . وقال سهل بن عبد الله : علامة حب الله حب القرآن , وعلامة حب القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم , وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة ; وعلامة حب الله وحب القرآن وحب النبي وحب السنة حب الآخرة , وعلامة حب الآخرة أن يحب نفسه , وعلامة حب نفسه أن يبغض الدنيا , وعلامة بغض الدنيا ألا يأخذ منها إلا الزاد والبلغة . وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله { قال : ( على البر والتقوى والتواضع وذلة النفس )  خرجه أبو عبد الله الترمذي . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من أراد أن يحبه الله فعليه بصدق الحديث وأداء الأمانة وألا يؤذي جاره )  . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء - قال - ثم يوضع له القبول في الأرض , وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه قال فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه - قال - فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض )  . وسيأتي لهذا مزيد بيان في آخر سورة } مريم { إن شاء الله تعالى . وقرأ أبو رجاء العطاردي ( فاتبعوني )  بفتح الباء , " ويغفر لكم { عطف على { يحببكم } . وروى محبوب عن أبي عمرو بن العلاء أنه أدغم الراء من { يغفر { في اللام من { لكم } . قال النحاس : لا يجيز الخليل وسيبويه إدغام الراء في اللام , وأبو عمرو أجل من أن يغلط في مثل هذا , ولعله كان يخفي الحركة كما يفعل في أشياء كثيرة .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا
    +/- -/+  
الأية
32
 
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ روى الترمذي عن أم سلمة أنها قالت : يغزو الرجال ولا يغزو النساء وإنما لنا نصف الميراث ; فأنزل الله تعالى : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } . قال مجاهد : وأنزل فيها { إن المسلمين والمسلمات } [ الأحزاب : 35 ] , وكانت أم سلمة أول ظعينة قدمت المدينة مهاجرة . قال أبو عيسى : هذا حديث مرسل , ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد , مرسل أن أم سلمة قالت كذا . وقال قتادة : كان الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان ; فلما ورثوا وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين تمنى النساء أن لو جعل أنصباؤهن كأنصباء الرجال . وقال الرجال : إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث ; فنزلت , { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } . قوله تعالى : { ولا تتمنوا { التمني نوع من الإرادة يتعلق بالمستقبل , كالتلهف نوع منها يتعلق بالماضي ; فنهى الله سبحانه المؤمنين عن التمني ; لأن فيه تعلق البال ونسيان الأجل . وقد اختلف العلماء هل يدخل في هذا النهي الغبطة , وهي أن يتمنى الرجل أن يكون له حال صاحبه وإن لم يتمن زوال حاله . والجمهور على إجازة ذلك : مالك وغيره ; وهي المراد عند بعضهم في قوله عليه السلام ( لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار )  . فمعنى قوله : { لا حسد { أي لا غبطة أعظم وأفضل من الغبطة في هذين الأمرين . وقد نبه البخاري على هذا المعنى حيث بوب على هذا الحديث ( باب الاغتباط في العلم والحكمة )  قال المهلب : بين الله تعالى في هذه الآية ما لا يجوز تمنيه , وذلك ما كان من عرض الدنيا وأشباهها . قال ابن عطية : وأما التمني في الأعمال الصالحة فذلك هو الحسن , وأما إذا تمنى المرء على الله من غير أن يقرن أمنيته بشيء مما قدمنا ذكره فذلك جائز ; وذلك موجود في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قول : ( وددت أن أحيا ثم أقتل )  . قلت : هذا الحديث هو الذي صدر به البخاري كتاب التمني في صحيحه , وهو يدل على تمني الخير وأفعال البر والرغبة فيها , وفيه فضل الشهادة على سائر أعمال البر ; لأنه عليه السلام تمناها دون غيرها , وذلك لرفيع منزلتها وكرامة أهلها , فرزقه الله إياها ; لقوله : ( ما زالت أكلة خيبر تعاودني الآن أوان قطعت أبهري )  . وفي الصحيح : ( إن الشهيد يقال له تمن فيقول أتمنى أن أرجع إلى الدنيا حتى أقتل في سبيلك مرة أخرى )  . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمنى إيمان أبي طالب وإيمان أبي لهب وصناديد قريش مع علمه بأنه لا يكون ; وكان يقول : ( واشوقاه إلى إخواني الذين يجيئون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني )  . وهذا كله يدل على أن التمني لا ينهى عنه إذا لم يكن داعية إلى الحسد والتباغض , والتمني المنهي عنه في الآية من هذا القبيل ; فيدخل فيه أن يتمنى الرجل حال الآخر من دين أو دنيا على أن يذهب ما عند الآخر , وسواء تمنيت مع ذلك أن يعود إليك أو لا . وهذا هو الحسد بعينه , وهو الذي ذمه الله تعالى بقوله : { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } [ النساء : 54 ] ويدخل فيه أيضا خطبة الرجل على خطبة أخيه وبيعه على بيعه ; لأنه داعية الحسد والمقت . وقد كره بعض العلماء الغبطة وأنها داخلة في النهي , والصحيح جوازها على ما بينا , وبالله توفيقنا . وقال الضحاك : لا يحل لأحد أن يتمنى مال أحد , ألم تسمع الذين قالوا : { يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون } [ القصص : 79 ] إلى أن قال : { وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس } [ القصص : 82 ] حين خسف به وبداره وبأمواله { لولا أن من الله علينا لخسف بنا } [ القصص : 82 ] وقال الكلبي : لا يتمن الرجل مال أخيه ولا امرأته ولا خادمه ولا دابته ; ولكن ليقل : اللهم ارزقني مثله . وهو كذلك في التوراة , وكذلك قوله في القرآن { واسألوا الله من فضله } . وقال ابن عباس : نهى الله سبحانه أن يتمنى الرجل مال فلان وأهله , وأمر عباده المؤمنين أن يسألوه من فضله . ومن الحجة للجمهور قوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الدنيا لأربعة نفر : رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل به رحمه ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل , ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو صادق النية يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء )  الحديث .. . وقد تقدم . خرجه الترمذي وصححه . وقال الحسن : لا يتمن أحدكم المال وما يدريه لعل هلاكه فيه ; وهذا إنما يصح إذا تمناه للدنيا , وأما إذا تمناه للخير فقد جوزه الشرع , فيتمناه العبد ليصل به إلى الرب , ويفعل الله ما يشاء . لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ { للرجال نصيب مما اكتسبوا { يريد من الثواب والعقاب { وللنساء { كذلك ; قال قتادة . فللمرأة الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها كما للرجال . وقال ابن عباس : المراد بذلك الميراث . والاكتساب على هذا القول بمعنى الإصابة , للذكر مثل حظ الأنثيين ; فنهى الله عز وجل عن التمني على هذا الوجه لما فيه من دواعي الحسد ; ولأن الله تعالى أعلم بمصالحهم منهم ; فوضع القسمة بينهم على التفاوت على ما علم من مصالحهم . وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا { واسألوا الله من فضله { روى الترمذي عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سلوا الله من فضله فإنه يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج )  وخرج أيضا ابن ماجه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من لم يسأل الله يغضب عليه )  . وهذا يدل على أن الأمر بالسؤال لله تعالى واجب ; وقد أخذ بعض العلماء هذا المعنى فنظمه فقال : الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب وقال أحمد بن المعذل أبو الفضل الفقيه المالكي فأحسن : التمس الأرزاق عند الذي ما دونه إن سيل من حاجب من يبغض التارك تسآله جودا ومن يرضى عن الطالب ومن إذا قال جرى قوله بغير توقيع إلى كاتب وقد أشبعنا القول في هذا المعنى في كتاب { قمع الحرص بالزهد والقناعة } . وقال سعيد بن جبير : { واسألوا الله من فضله { العبادة , ليس من أمر الدنيا . وقيل : سلوه التوفيق للعمل بما يرضيه . وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سلوا ربكم حتى الشبع ; فإنه إن لم ييسره الله عز وجل لم يتيسر . وقال سفيان بن عيينة : لم يأمر بالسؤال إلا ليعطي . وقرأ الكسائي وابن كثير : { وسلوا الله من فضله { بغير همز في جميع القرآن . الباقون بالهمز .{ واسألوا الله } . وأصله بالهمز إلا أنه حذفت الهمزة للتخفيف . والله أعلم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ ۚ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ۚ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا
    +/- -/+  
الأية
33
 
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ بين تعالى أن لكل إنسان ورثة وموالي ; فلينتفع كل واحد بما قسم الله له من الميراث , ولا يتمن مال غير . وروى البخاري في كتاب الفرائض من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس : { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم { قال : كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاري المهاجري دون ذوي رحمه ; للأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم , فلما نزلت { ولكل جعلنا موالي { قال : نسختها { والذين عاقدت أيمانكم } . قال أبو الحسن بن بطال : وقع في جميع النسخ { ولكل جعلنا موالي { قال : نسختها { والذين عاقدت أيمانكم } . والصواب أن الآية الناسخة { ولكل جعلنا موالي { والمنسوخة { والذين عاقدت أيمانكم } , وكذا رواه الطبري في روايته . وروي , عن جمهور السلف أن الآية الناسخة لقوله : { والذين عاقدت أيمانكم { قوله تعالى في { الأنفال } : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } [ الأنفال : 75 ] . روي هذا عن ابن عباس وقتادة والحسن البصري ; وهو الذي أثبته أبو عبيد في كتاب { الناسخ والمنسوخ { له . وفيها قول آخر رواه الزهري عن سعيد بن المسيب قال : أمر الله عز وجل الذين تبنوا غير أبنائهم في الجاهلية وورثوا في الإسلام أن يجعلوا لهم نصيبا في الوصية ورد الميراث إلى ذوي الرحم والعصبة . وقالت طائفة : قوله تعالى : { والذين عاقدت أيمانكم { محكم وليس بمنسوخ ; وإنما أمر الله المؤمنين أن يعطوا الحلفاء أنصباءهم من النصرة والنصيحة وما أشبه ذلك ; ذكره الطبري عن ابن عباس .{ والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم { من النصرة والنصيحة والرفادة ويوصي لهم وقد ذهب الميراث ; وهو قول مجاهد والسدي . قلت : واختاره النحاس ; ورواه عن سعيد بن جبير , ولا يصح النسخ ; فإن الجمع ممكن كما بينه ابن عباس فيما ذكره الطبري , ورواه البخاري عنه في كتاب التفسير . وسيأتي ميراث { ذوي الأرحام { في { الأنفال { إن شاء الله تعالى . { كل { في كلام العرب معناها الإحاطة والعموم . فإذا جاءت مفردة فلا بد أن يكون في الكلام حذف عند جميع النحويين ; حتى إن بعضهم أجاز مررت بكل , مثل قبل وبعد . وتقدير الحذف : ولكل أحد جعلنا موالي , يعني ورثة .{ والذين عاقدت أيمانكم } يعني بالحلف ; عن قتادة . وذلك أن الرجل كان يعاقد الرجل فيقول : دمي دمك , وهدمي هدمك , وثأري ثأرك , وحربي حربك , وسلمي سلمك , وترثني وأرثك , وتطلب بي وأطلب بك , وتعقل عني وأعقل عنك ; فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف ثم نسخ . قوله تعالى : " موالي { أعلم أن المولى لفظ مشترك يطلق على وجوه ; فيسمى المعتق مولى والمعتق مولى . ويقال : المولى الأسفل والأعلى أيضا . ويسمى الناصر المولى ; ومنه قوله تعالى : " وأن الكافرين لا مولى لهم } [ محمد : 11 ] . ويسمى ابن العم مولى والجار مولى . فأما قوله تعالى : { ولكل جعلنا موالي { يريد عصبة ; لقوله عليه السلام : ( ما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر )  . ومن العصبات المولى الأعلى لا الأسفل , على قول أكثر العلماء ; لأن المفهوم في حق المعتق أنه المنعم على المعتق , كالموجد له ; فاستحق ميراثه لهذا المعنى . وحكى الطحاوي عن الحسن بن زياد أن المولى الأسفل يرث من الأعلى ; واحتج فيه بما روي أن رجلا أعتق عبدا له فمات المعتق ولم يترك إلا المعتق فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام المعتق . قال الطحاوي : ولا معارض لهذا الحديث , فوجب القول به ; ولأنه إذا أمكن إثبات الميراث للمعتق على تقدير أنه كان كالموجد له , فهو شبيه بالأب ; والمولى الأسفل شبيه بالابن ; وذلك يقتضي التسوية بينهما في الميراث , والأصل أن الاتصال يعم . وفي الخبر ( مولى القوم منهم )  . والذين خالفوا هذا وهم الجمهور قالوا : الميراث . يستدعي القرابة ولا قرابة , غير أنا أثبتنا للمعتق الميراث بحكم الإنعام على المعتق ; فيقتضي مقابلة الإنعام بالمجازاة , وذلك لا ينعكس في المولى الأسفل . وأما الابن فهو أولى الناس بأن يكون خليفة أبيه وقائما مقامه , وليس المعتق صالحا لأن يقوم مقام معتقه , وإنما المعتق قد أنعم عليه فقابله الشرع بأن جعله أحق بمولاه المعتق , ولا يوجد هذا في المولى الأسفل ; فظهر الفرق بينهما والله أعلم . وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ روى علي بن كبشة عن حمزة { عقدت { بتشديد القاف على التكثير . والمشهور عن حمزة { عقدت أيمانكم { مخففة القاف , وهي قراءة عاصم والكسائي , وهي قراءة بعيدة ; لأن المعاقدة لا تكون إلا من اثنين فصاعدا , فبابها فاعل . قال أبو جعفر النحاس : وقراءة حمزة تجوز على غموض في العربية , يكون التقدير فيها والذين عقدتهم أيمانكم الحلف , وتعدى إلى مفعولين ; وتقديره : عقدت لهم أيمانكم الحلف , ثم حذفت اللام مثل قوله تعالى : { وإذا كالوهم " [ المطففين : 3 ] أي كالوا لهم . وحذف المفعول الثاني , كما يقال : كلتك أي كلت لك برا . وحذف المفعول الأول لأنه متصل في الصلة . فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا أي قد شهد معاقدتكم إياهم , وهو عز وجل يحب الوفاء .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا
    +/- -/+  
الأية
34
 
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ابتداء وخبر , أي يقومون بالنفقة عليهن والذب عنهن ; وأيضا فإن فيهم الحكام والأمراء ومن يغزو , وليس ذلك في النساء . يقال : قوام وقيم . والآية نزلت في سعد بن الربيع نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن خارجة بن أبي زهير فلطمها ; فقال أبوها : يا رسول الله , أفرشته كريمتي فلطمها ! فقال عليه السلام : ( لتقتص من زوجها )  . فانصرفت مع أبيها لتقتص منه , فقال عليه السلام : ( ارجعوا هذا جبريل أتاني )  فأنزل الله هذه الآية ; فقال عليه السلام : ( أردنا أمرا وأراد الله غيره )  . وفي رواية أخرى : ( أردت شيئا وما أراد الله خير )  . ونقض الحكم الأول . وقد قيل : إن في هذا الحكم المردود نزل { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } [ طه : 114 ] . ذكر إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا حجاج بن المنهال وعارم بن الفضل - واللفظ لحجاج - قال حدثنا جرير بن حازم قال : سمعت الحسن يقول : إن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن زوجي لطم وجهي . فقال : ( بينكما القصاص )  , فأنزل الله تعالى : { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } . وأمسك النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل : { الرجال قوامون على النساء } . وقال أبو روق : نزلت في جميلة بنت أبي وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس . وقال الكلبي : نزلت في عميرة بنت محمد بن مسلمة وفي زوجها سعد بن الربيع . وقيل : سببها قول أم سلمة المتقدم . ووجه النظم أنهن تكلمن في تفضيل الرجال على النساء في الإرث , فنزلت { ولا تتمنوا { الآية . ثم بين تعالى أن تفضيلهم عليهن في الإرث لما على الرجال من المهر والإنفاق ; ثم فائدة تفضيلهم عائدة إليهن . ويقال : إن الرجال لهم فضيلة في زيادة العقل والتدبير ; فجعل لهم حق القيام عليهن لذلك . وقيل : للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء ; لأن طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة , فيكون فيه قوة وشدة , وطبع النساء غلب عليه الرطوبة والبرودة , فيكون فيه معنى اللين والضعف ; فجعل لهم حق القيام عليهن بذلك , وبقوله تعالى : { وبما أنفقوا من أموالهم } . ودلت هذه الآية على تأديب الرجال نساءهم , فإذا حفظن حقوق الرجال فلا ينبغي أن يسيء الرجل عشرتها . و { قوام { فعال للمبالغة ; من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد . فقيام الرجال على النساء هو على هذا الحد ; وهو أن يقوم بتدبيرها وتأديبها وإمساكها في بيتها ومنعها من البروز , وأن عليها طاعته وقبول أمره ما لم تكن معصية ; وتعليل ذلك بالفضيلة والنفقة والعقل والقوة في أمر الجهاد والميراث والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وقد راعى بعضهم في التفضيل اللحية - وليس بشيء ; فإن اللحية قد تكون وليس معها شيء مما ذكرنا . وقد مضى الرد على هذا في { البقرة } . وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواما عليها , وإذا لم يكن قواما عليها كان لها فسخ العقد ; لزوال المقصود الذي شرع لأجله النكاح . وفيه دلالة واضحة من هذا الوجه على ثبوت فسخ النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة ; وهو مذهب مالك والشافعي . وقال أبو حنيفة : لا يفسخ ; لقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } [ البقرة : 280 ] وقد تقدم القول في هذا في هذه السورة . فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ هذا كله خبر , ومقصوده الأمر بطاعة الزوج والقيام بحقه في ماله وفي نفسها في حال غيبة الزوج . وفي مسند أبي داود الطيالسي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك )  قال : وتلا هذه الآية { الرجال قوامون على النساء { إلى آخر الآية . وقال صلى الله عليه وسلم لعمر : ( ألا أخبرك بخير ما يكنزه المرء المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته { أخرجه أبو داود . وفي مصحف ابن مسعود } فالصوالح قوانت حوافظ } . وهذا بناء يختص بالمؤنث . قال ابن جني : والتكسير أشبه لفظا بالمعنى ; إذ هو يعطي الكثرة وهي المقصود هاهنا . و { ما { في قوله : { بما حفظ الله { مصدرية , أي بحفظ الله لهن . ويصح أن تكون بمعنى الذي , ويكون العائد في { حفظ } ضمير نصب . وفي قراءة أبي جعفر { بما حفظ الله { بالنصب . قال النحاس : الرفع أبين ; أي حافظات لمغيب أزواجهن بحفظ الله ومعونته وتسديده . وقيل : بما حفظهن الله في مهورهن وعشرتهن . وقيل : بما استحفظهن الله إياه من أداء الأمانات إلى أزواجهن . ومعنى قراءة النصب : بحفظهن الله ; أي بحفظهن أمره أو دينه . وقيل في التقدير : بما حفظن الله , ثم وحد الفعل ; كما قيل : فإن الحوادث أودى بها وقيل : المعنى بحفظ الله ; مثل حفظت الله . وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ اللاتي جمع التي وقد تقدم . قال ابن عباس : تخافون بمعنى تعلمون وتتيقنون . وقيل هو على بابه . والنشوز العصيان ; مأخوذ من النشز , وهو ما ارتفع من الأرض . يقال : نشز الرجل ينشز وينشز إذا كان قاعدا فنهض قائما ; ومنه قوله عز وجل : { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } [ المجادلة : 11 ] أي ارتفعوا وانهضوا إلى حرب أو أمر من أمور الله تعالى . فالمعنى : أي تخافون عصيانهن وتعاليهن عما أوجب الله عليهن من طاعة الأزواج . وقال أبو منصور اللغوي : النشوز كراهية كل واحد من الزوجين صاحبه ; يقال : نشزت تنشز فهي ناشز بغير هاء . ونشصت تنشص , وهي السيئة للعشرة . وقال ابن فارس : ونشزت المرأة استصعبت على بعلها , ونشز بعلها عليها إذا ضربها وجفاها . قال ابن دريد : نشزت المرأة ونشست ونشصت بمعنى واحد . فَعِظُوهُنَّ أي بكتاب الله ; أي ذكروهن ما أوجب الله عليهن من حسن الصحبة وجميل العشرة للزوج , والاعتراف بالدرجة التي له عليها , ويقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها )  . وقال : ( لا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب )  . وقال : ( أيما امرأة باتت هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح )  في رواية ( حتى تراجع وتضع يدها في يده )  . وما كان مثل هذا . وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وقرأ ابن مسعود والنخعي وغيرهما { في المضجع { على الإفراد ; كأنه اسم جنس يؤدي عن الجمع . والهجر في المضاجع هو أن يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها ; عن ابن عباس وغيره . وقال مجاهد : جنبوا مضاجعهن ; فيتقدر على هذا الكلام حذف , ويعضده { اهجروهن { من الهجران , وهو البعد ; يقال : هجره أي تباعد ونأى عنه . ولا يمكن بعدها إلا بترك مضاجعتها . وقال معناه إبراهيم النخعي والشعبي وقتادة والحسن البصري , ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك , واختاره ابن العربي وقال : حملوا الأمر على الأكثر الموفي . ويكون هذا القول كما تقول : اهجره في الله . وهذا أصل مالك . قلت : هذا قول حسن ; فإن الزوج إذا أعرض عن فراشها فإن كانت محبة للزوج فذلك يشق عليها فترجع للصلاح , وإن كانت مبغضة فيظهر النشوز منها ; فيتبين أن النشوز من قبلها . وقيل : { اهجروهن } من الهجر وهو القبيح من الكلام , أي غلظوا عليهن في القول وضاجعوهن للجماع وغيره ; قال معناه سفيان , وروي عن ابن عباس . وقيل : أي شدوهن وثاقا في بيوتهن ; من قولهم : هجر البعير أي ربطه بالهجار , وهو حبل يشد به البعير , وهو اختيار الطبري وقدح في سائر الأقوال . وفي كلامه في هذا الموضع نظر . وقد رد عليه القاضي أبو بكر بن العربي في أحكامه فقال : يا لها من هفوة من عالم بالقرآن والسنة ! والذي حمله على هذا التأويل حديث غريب رواه ابن وهب عن مالك أن أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام كانت تخرج حتى عوتب في ذلك . قال : وعتب عليها وعلى ضرتها , فعقد شعر واحدة بالأخرى ثم ضربهما ضربا شديدا , وكانت الضرة أحسن اتقاء , وكانت أسماء لا تتقي فكان الضرب بها أكثر ; فشكت إلى أبيها أبي بكر رضي الله عنه فقال لها : أي بنية اصبري فإن الزبير رجل صالح , ولعله أن يكون زوجك في الجنة ; ولقد بلغني أن الرجل إذا ابتكر بامرأة تزوجها في الجنة . فرأى الربط والعقد مع احتمال اللفظ مع فعل الزبير فأقدم على هذا التفسير . وهذا الهجر غايته عند العلماء شهر ; كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين أسر إلى حفصة فأفشته إلى عائشة , وتظاهرتا عليه . ولا يبلغ به الأربعة الأشهر التي ضرب الله أجلا عذرا للمولى . وَاضْرِبُوهُنَّ أمر الله أن يبدأ النساء بالموعظة أولا ثم بالهجران , فإن لم ينجعا فالضرب ; فإنه هو الذي يصلحها له ويحملها على توفية حقه . والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح , وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين جارحة كاللكزة ونحوها ; فإن المقصود منه الصلاح لا غير . فلا جرم إذا أدى إلى الهلاك وجب الضمان , وكذلك القول في ضرب المؤدب غلامه لتعليم القرآن والأدب . وفي صحيح مسلم : ( اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح )  الحديث . أخرجه من حديث جابر الطويل في الحج , أي لا يدخلن منازلكم أحدا ممن تكرهونه من الأقارب والنساء الأجانب . وعلى هذا يحمل ما رواه الترمذي وصححه عن عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ فقال : ( ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ألا إن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن )  . وقال : هذا حديث حسن صحيح . فقوله : { بفاحشة مبينة } [ النساء : 19 ] يريد لا يدخلن من يكرهه أزواجهن ولا يغضبنهم . وليس المراد بذلك الزنى ; فإن ذلك محرم ويلزم عليه الحد . وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( اضربوا النساء إذا عصينكم في معروف ضربا غير مبرح )  . قال عطاء : قلت لابن عباس ما الضرب غير المبرح ؟ قال بالسواك ونحوه . وروي أن عمر رضي الله عنه ضرب امرأته فعذل في ذلك فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا يسأل الرجل فيم ضرب أهله )  . وإذا ثبت هذا فاعلم . أن الله عز وجل لم يأمر في شيء من كتابه بالضرب صراحا7 إلا هنا وفي الحدود العظام ; فساوى معصيتهن بأزواجهن بمعصية الكبائر , وولى الأزواج ذلك دون الأئمة , وجعله لهم دون القضاة بغير شهود ولا بينات ائتمانا من الله تعالى للأزواج على النساء . قال المهلب : إنما جوز ضرب النساء من أجل امتناعهن على أزواجهن في المباضعة . واختلف في وجوب ضربها في الخدمة , والقياس يوجب أنه إذا جاز ضربها في المباضعة جاز ضربها في الخدمة الواجبة للزوج عليها بالمعروف . وقال ابن خويز منداد . والنشوز يسقط النفقة وجميع الحقوق الزوجية , ويجوز معه أن يضربها الزوج ضرب الأدب غير المبرح , والوعظ والهجر حتى ترجع عن نشوزها , فإذا رجعت عادت حقوقها ; وكذلك كل ما اقتضى الأدب فجائز للزوج تأديبها . ويختلف الحال في أدب الرفيعة والدنيئة ; فأدب الرفيعة العذل , وأدب الدنيئة السوط . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( رحم الله امرأ علق سوطه وأدب أهله )  . وقال : ( إن أبا جهم لا يضع عصاه عن عاتقه )  . وقال بشار : الحر يلحى والعصا للعبد يلحى أي يلام ; وقال ابن دريد : واللوم للحر مقيم رادع والعبد لا يردعه إلا العصا قال ابن المنذر : اتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا جميعا بالغين إلا الناشز منهن الممتنعة . وقال أبو عمر : من نشزت عنه امرأته بعد دخوله سقطت عنه نفقتها إلا أن تكون حاملا . وخالف ابن القاسم جماعة الفقهاء في نفقة الناشز فأوجبها . وإذا عادت الناشز إلى زوجها وجب في المستقبل نفقتها . ولا تسقط نفقة المرأة عن زوجها لشيء غير النشوز ; لا من مرض ولا حيض ولا نفاس ولا صوم ولا حج ولا مغيب زوجها ولا حبسه عنها في حق أو جور غير ما ذكرنا . والله أعلم . فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ أي تركوا النشوز . فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي لا تجنوا عليهن بقول أو فعل . وهذا نهي عن ظلمهن بعد تقرير الفضل عليهن والتمكين من أدبهن . وقيل : المعنى لا تكلفوهن الحب لكم فإنه ليس إليهن . إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب ; أي إن كنتم تقدرون عليهن فتذكروا قدرة الله ; فيده بالقدرة فوق كل يد . فلا يستعلي أحد على امرأته فالله بالمرصاد فلذلك حسن الاتصاف , هنا بالعلو والكبر .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا
    +/- -/+  
الأية
35
 
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا فيه خمس مسائل : الأولى : { وإن خفتم شقاق بينهما { قد تقدم معنى الشقاق في { البقرة } . فكأن كل واحد من الزوجين يأخذ شقا غير شق صاحبه , أي ناحية غير ناحية صاحبه . والمراد إن خفتم شقاقا بينهما ; فأضيف المصدر إلى الظرف كقولك : يعجبني سير الليلة المقمرة , وصوم يوم عرفة . وفي التنزيل : { بل مكر الليل والنهار } [ سبأ : 33 ] . وقيل : إن { بين { أجري مجرى الأسماء وأزيل عنه الظرفية ; إذ هو بمعنى حالهما وعشرتهما , أي وإن خفتم تباعد عشرتهما وصحبتهما } فابعثوا } . و { ختم { على الخلاف المتقدم . قال سعيد بن جبير : الحكم أن يعظها أولا , فإن قبلت وإلا هجرها , فإن هي قبلت وإلا ضربها , فإن هي قبلت وإلا بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها , فينظران ممن الضرر , وعند ذلك يكون الخلع . وقد قيل : له أن يضرب قبل الوعظ . والأول أصح لترتيب ذلك في الآية . الثانية : والجمهور من العلماء على أن المخاطب بقوله : { وإن خفتم { الحكام والأمراء . وأن قول : { إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما { يعني الحكمين ; في قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما . أي إن يرد الحكمان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين . وقيل : المراد الزوجان ; أي إن يرد الزوجان إصلاحا وصدقا فيما أخبرا به الحكمين { يوفق الله بينهما } . وقيل : الخطاب للأولياء . يقول : { إن خفتم { أي علمتم خلافا بين الزوجين { فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها { والحكمان لا يكونان إلا من أهل الرجل والمرأة ; إذ هما أقعد بأحوال الزوجين , ويكونان من أهل العدالة وحسن النظر والبصر بالفقه . فإن لم يوجد من أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما عدلين عالمين ; وذلك إذا أشكل أمرهما ولم يدر ممن الإساءة منهما . فأما إن عرف الظالم فإنه يؤخذ منه الحق لصاحبه ويجبر على إزالة الضرر . ويقال : إن الحكم من أهل الزوج يخلو به ويقول له : أخبرني بما في نفسك أتهواها أم لا حتى أعلم مرادك ؟ فإن قال : لا حاجة لي فيها خذ لي منها ما استطعت وفرق بيني وبينها , فيعرف أن من قبله النشوز . وإن قال : إني أهواها فأرضها من مالي بما شئت ولا تفرق بيني وبينها , فيعلم أنه ليس بناشز . ويخلو الحكم من جهتها بالمرأة ويقول لها : أتهوين زوجك أم لا ; فإن قالت : فرق بيني وبينه وأعطه من مالي ما أراد ; فيعلم أن النشوز من قبلها . وإن قالت : لا تفرق بيننا ولكن حثه على أن يزيد في نفقتي ويحسن إلي , علم أن النشوز ليس من قبلها . فإذا ظهر لهما الذي كان النشوز من قبله يقبلان عليه بالعظة والزجر والنهي ; فذلك قوله تعالى : { فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } . الثالثة : قال العلماء : قسمت هذه الآية النساء تقسيما عقليا ; لأنهن إما طائعة وإما ناشز ; والنشوز إما أن يرجع إلى الطواعية أو لا . فإن كان الأول تركا ; لما رواه النسائي أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فكان إذا دخل عليها تقول : يا بني هاشم , والله لا يحبكم قلبي أبدا ! أين الذين أعناقهم كأباريق الفضة ! ترد أنوفهم قبل شفاههم , أين عتبة بن ربيعة , أين شيبة بن ربيعة ; فيسكت عنها , حتى دخل عليها يوما وهو برم فقالت له : أين عتبة بن ربيعة ؟ فقال : على يسارك في النار إذا دخلت ; فنشرت عليها ثيابها , فجاءت عثمان فذكرت له ذلك ; فأرسل ابن عباس ومعاوية , فقال ابن عباس : لأفرقن بينهما ; وقال معاوية : ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف . فأتياهما فوجداهما قد سدا عليهما أبوابهما وأصلحا أمرهما . فإن وجداهما قد اختلفا ولم يصطلحا وتفاقم أمرهما سعيا في الألفة جهدهما , وذكرا بالله وبالصحبة . فإن أنابا ورجعا تركاهما , وإن كانا غير ذلك ورأيا الفرقة فرقا بينهما . وتفريقهما جائز على الزوجين ; وسواء وافق حكم قاضي البلد أو خالفه , وكلهما الزوجان بذلك أو لم يوكلاهما . والفراق في ذلك طلاق بائن . وقال قوم : ليس لهما الطلاق ما لم يوكلهما الزوج في ذلك , وليعرفا الإمام ; وهذا بناء على أنهما رسولان شاهدان . ثم الإمام يفرق إن أراد ويأمر الحكم بالتفريق . وهذا أحد قولي الشافعي ; وبه قال الكوفيون , وهو قول عطاء وابن زيد والحسن , وبه قال أبو ثور . والصحيح الأول , لأن للحكمين التطليق دون توكيل ; وهو قول مالك والأوزاعي وإسحاق وروي عن عثمان وعلي وابن عباس , وعن الشعبي والنخعي , وهو قول الشافعي ; لأن الله تعالى قال : { فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها { وهذا نص من الله سبحانه بأنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان . وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى , وللحكم اسم في الشريعة ومعنى ; فإذا بين الله كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذ - فكيف لعالم - أن يركب معنى أحدهما على الآخر ! . وقد روى الدارقطني من حديث محمد بن سيرين عن عبيدة في هذه الآية { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها { قال : جاء رجل وامرأة إلى علي مع كل واحد منهما فئام من الناس فأمرهم فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها , وقال للحكمين : هل تدريان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما . فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي . وقال الزوج : أما الفرقة فلا . فقال علي : كذبت , والله لا تبرح حتى تقر بمثل الذي أقرت به . وهذا إسناد صحيح ثابت روي عن علي من وجوه ثابتة عن ابن سيرين عن عبيدة ; قاله أبو عمر . فلو كانا وكيلين أو شاهدين لم يقل لهما : أتدريان ما عليكما ؟ إنما كان يقول : أتدريان بما وكلتما ؟ وهذا بين . احتج أبو حنيفة بقول علي رضي الله عنه للزوج : لا تبرح حتى ترضى بما رضيت به . فدل على أن مذهبه أنهما لا يفرقان إلا برضا الزوج , وبأن الأصل المجتمع عليه أن الطلاق بيد الزوج أو بيد من جعل ذلك إليه . وجعله مالك ومن تابعه من باب طلاق السلطان على المولى والعنين . الرابعة : فإن اختلف الحكمان لم ينفذ قولهما ولم يلزم من ذلك شيء إلا ما اجتمعا عليه . وكذلك كل حكمين حكما في أمر ; فإن حكم أحدهما بالفرقة ولم يحكم بها الآخر , أو حكم أحدهما بمال وأبى الآخر فليسا بشيء حتى يتفقا . وقال مالك في الحكمين يطلقان ثلاثا قال : تلزم واحدة وليس لهما الفراق بأكثر من واحدة بائنة ; وهو قول ابن القاسم . وقال ابن القاسم أيضا : تلزمه الثلاث إن اجتمعا عليها ; وقاله المغيرة وأشهب وابن الماجشون وأصبغ . وقال ابن المواز : إن حكم أحدهما بواحدة والآخر بثلاث فهي واحدة . وحكى ابن حبيب عن أصبغ أن ذلك ليس بشيء . الخامسة : ويجزئ إرسال الواحد ; لأن الله سبحانه حكم في الزنى بأربعة شهود , ثم قد أرسل . النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة الزانية أنيسا وحده وقال له : ( إن اعترفت فارجمها )  وكذلك قال عبد الملك في المدونة . قلت : وإذا جاز إرسال الواحد فلو حكم الزوجان واحدا لأجزأ , وهو بالجواز أولى إذا رضيا بذلك , وإنما خاطب الله بالإرسال الحكام دون الزوجين . فإن أرسل الزوجان حكمين وحكما نفذ حكمهما ; لأن التحكيم عندنا جائز , وينفذ فعل الحكم في كل مسألة . هذا إذا كان كل واحد منهما عدلا , ولو كان غير عدل قال عبد الملك : حكمه منقوض ; لأنهما تخاطرا بما لا ينبغي من الغرر . قال ابن العربي : والصحيح نفوذه ; لأنه إن كان توكيلا ففعل الوكيل نافذ , وإن كان تحكيما فقد قدماه على أنفسهما وليس الغرر بمؤثر فيه كما لم يؤثر في باب التوكيل , وباب القضاء مبني على الغرر كله , وليس يلزم فيه معرفة المحكوم عليه بما يئول إليه الحكم . قال ابن العربي : مسألة الحكمين نص الله عليها وحكم بها عند ظهور الشقاق بين الزوجين , واختلاف ما بينهما . وهي مسألة عظيمة اجتمعت الأمة على أصلها في البعث , وإن اختلفوا في تفاصيل ما ترتب عليه . وعجبا لأهل بلدنا حيث غفلوا عن موجب الكتاب والسنة في ذلك وقالوا : يجعلان على يدي أمين ; وفي هذا من معاندة النص ما لا يخفى عليكم , فلا بكتاب الله ائتمروا ولا بالأقيسة اجتزءوا . وقد ندبت إلى ذلك فما أجابني إلى بعث الحكمين عند الشقاق إلا قاض واحد , ولا بالقضاء باليمين مع الشاهد إلا آخر , فلما ملكني الله الأمر أجريت السنة كما ينبغي . ولا تعجب لأهل بلدنا لما غمرهم من الجهالة , ولكن اعجب لأبي حنيفة ليس للحكمين عنده خبر , بل اعجب مرتين للشافعي فإنه قال : الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالاهما . قال : وذلك أني وجدت الله عز وجل أذن في نشوز الزوج بأن يصطلحا وأذن في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة . وحظر أن يأخذ الزوج مما أعطى شيئا إذا أراد استبدال زوج مكان زوج ; فلما أمر فيمن خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دل على أن حكمهما غير حكم الأزواج , فإذا كان كذلك بعث حكما من أهله وحكما من أهلها , ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين وتوكيلهما بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك . وذلك يدل على أن الحكمين وكيلان للزوجين . قال ابن العربي : هذا منتهى كلام الشافعي , وأصحابه يفرحون به وليس فيه ما يلتفت إليه ولا يشبه نصابه في العلم , وقد تولى الرد عليه القاضي أبو إسحاق ولم ينصفه في الأكثر . أما قوله : { الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين { فليس بصحيح بل هو نصه , وهي من أبين آيات القرآن وأوضحها جلاء ; فإن الله تعالى قال : { الرجال قوامون على النساء } [ النساء : 34 ] - ومن خاف من امرأته نشوزا وعظها , فإن أنابت وإلا هجرها في المضجع , فإن ارعوت وإلا ضربها , فإن استمرت في غلوائها مشى الحكمان إليهما . وهذا إن لم يكن نصا فليس في القرآن بيان . ودعه لا يكون نصا , يكون ظاهرا ; فأما أن يقول الشافعي : يشبه الظاهر فلا ندري ما الذي أشبه الظاهر ؟ . ثم قال : { وأذن في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة , بل يجب أن يكون كذلك وهو نصه } . ثم قال : { فلما أمر بالحكمين علمنا أن حكمهما غير حكم الأزواج , ويجب أن يكون غيره بأن ينفذ عليهما من غير اختيارهما فتتحقق الغيرية . فأما إذا أنفذا عليهما ما وكلاهما به فلم يحكما بخلاف أمرهما فلم تتحقق الغيرية } . وأما قوله { برضى الزوجين وتوكيلهما { فخطأ صراح ; فإن الله سبحانه خاطب غير الزوجين إذا خاف الشقاق بين الزوجين بإرسال الحكمين , وإذا كان المخاطب غيرهما كيف يكون ذلك بتوكيلهما , ولا يصح لهما حكم إلا بما اجتمعا عليه . هذا وجه الإنصاف والتحقيق في الرد عليه . وفي هذه الآية دليل على إثبات التحكيم , وليس كما تقول الخوارج إنه ليس التحكيم لأحد سوى الله تعالى . وهذه كلمة حق ولكن يريدون بها الباطل .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا
    +/- -/+  
الأية
36
 
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاأجمع العلماء على أن هذه الآية من المحكم المتفق عليه , ليس منها شيء منسوخ . وكذلك هي في جميع الكتب . ولو لم يكن كذلك لعرف ذلك من جهة العقل , وإن لم ينزل به الكتاب . وقد مضى معنى العبودية وهي التذلل والافتقار , لمن له الحكم والاختيار ; فأمر الله تعالى عباده بالتذلل له والإخلاص فيه , فالآية أصل في خلوص الأعمال لله تعالى وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره ; قال الله تعالى } فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } [ الكهف : 110 ] حتى لقد قال بعض علمائنا : إنه من تطهر تبردا أو صام محما لمعدته ونوى مع ذلك التقرب لم يجزه ; لأنه مزج في نية التقرب نية دنياوية وليس لله إلا العمل الخالص ; كما قال تعالى : { ألا لله الدين الخالص } [ الزمر : 3 ] . وقال تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } [ البينة : 5 ] . وكذلك إذا أحس الرجل بداخل في الركوع وهو إمام لم ينتظره ; لأنه يخرج ركوعه بانتظاره عن كونه خالصا لله تعالى . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قال الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه )  . وروى الدارقطني عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يجاء يوم القيامة بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى فيقول الله تعالى للملائكة ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة وعزتك ما رأينا إلا خيرا فيقول الله عز وجل - وهو أعلم - إن هذا كان لغيري ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما كان ابتغي به وجهي )  . وروي أيضا عن الضحاك بن قيس الفهري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله لا يقبل إلا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنها للرحم وليس لله منها شيء ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله تعالى منها شيء )  . مسألة : إذا ثبت هذا فاعلم أن علماءنا رضي الله عنهم قالوا : الشرك على ثلاث مراتب وكله محرم . وأصله اعتقاد شريك لله في ألوهيته , وهو الشرك الأعظم وهو شرك الجاهلية , وهو المراد بقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } . [ النساء : 48 ] . ويليه في الرتبة اعتقاد شريك لله تعالى في الفعل , وهو قول من قال : إن موجودا ما غير الله تعالى يستقل بإحداث فعل وإيجاده وإن لم يعتقد كونه إلها كالقدرية مجوس هذه الأمة , وقد تبرأ منهم ابن عمر كما في حديث جبريل عليه السلام . ويلي هذه الرتبة الإشراك في العبادة وهو الرياء ; وهو أن يفعل شيئا من العبادات التي أمر الله بفعلها له لغيره . وهذا هو الذي سيقت الآيات والأحاديث لبيان تحريمه , وهو مبطل للأعمال وهو خفي لا يعرفه كل جاهل غبي . ورضي الله عن المحاسبي فقد أوضحه في كتابه { الرعاية { وبين إفساده للأعمال . وفي سنن ابن ماجه عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري وكان من الصحابة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله عز وجل أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك )  . وفيه عن أبي سعيد الخدري قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيخ الدجال فقال : ( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيخ الدجال ؟ )  قال : فقلنا بلى يا رسول الله ; فقال : ( الشرك الخفي أن يقوم الرجل يصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل )  . وفيه عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن أخوف ما أتخوف على أمتي الإشراك بالله أما إني لست أقول يعبدون شمسا ولا قمرا ولا وثنا ولكن أعمالا لغير الله وشهوة خفية )  خرجه الترمذي الحكيم . وسيأتي في آخر الكهف , وفيه بيان الشهوة الخفية . وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهوة الخفية فقال : ( هو الرجل يتعلم العلم يحب أن يجلس إليه )  . قال سهل بن عبد الله التستري رضي الله عنه : الرياء على ثلاثة وجوه ; أحدها : أن يعقد في أصل فعله لغير الله ويريد به أن يعرف أنه لله , فهذا صنف من النفاق وتشكك في الإيمان . والآخر : يدخل في الشيء لله فإذا اطلع عليه غير الله نشط , فهذا إذا تاب يزيد أن يعيد جميع ما عمل . والثالث : دخل في العمل بالإخلاص وخرج به لله فعرف بذلك ومدح عليه وسكن إلى مدحهم ; فهذا الرياء الذي نهى الله عنه . قال سهل : قال لقمان لابنه : الرياء أن تطلب ثواب عملك في دار الدنيا , وإنما عمل القوم للآخرة . قيل له : فما دواء الرياء ؟ قال كتمان العمل , قيل له : فكيف يكتم العمل ؟ قال : ما كلفت إظهاره من العمل فلا تدخل فيه إلا بالإخلاص , وما لم تكلف إظهاره أحب ألا يطلع عليه إلا الله . قال : وكل عمل اطلع عليه الخلق فلا تعده من العمل . وقال أيوب السختياني : ما هو بعاقل من أحب أن يعرف مكانه من عمله . قلت : قول سهل { والثالث دخل في العمل بالإخلاص { إلى آخره , إن كان سكونه وسروره إليهم لتحصل منزلته في قلوبهم فيحمدوه ويجلوه ويبروه وينال ما يريده منهم من مال أو غيره فهذا مذموم ; لأن قلبه مغمور فرحا باطلاعهم عليه , وإن كانوا قد اطلعوا عليه بعد الفراغ . فأما من أطلع الله عليه خلقه وهو لا يحب اطلاعهم عليه فيسر بصنع الله وبفضله عليه فسروره بفضل الله طاعة ; كما قال تعالى : { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } [ يونس : 58 ] . وبسط هذا وتتميمه في كتاب { الرعاية للمحاسبي } , فمن أراده فليقف عليه هناك . وقد سئل سهل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم ( أني أسر العمل فيطلع عليه فيعجبني )  قال : يعجبه من جهة الشكر لله الذي أظهره الله عليه أو نحو هذا . فهذه جملة كافية في الرياء وخلوص الأعمال . وقد مضى في { البقرة } . حقيقة الإخلاص . والحمد لله . وبالوالدين إحساناقد تقدم في صدر هذه السورة أن من الإحسان إليهما عتقهما , ويأتي في { سبحان } [ الإسراء : 1 ] حكم برهما معنى مستوفى . وقرأ ابن أبي عبلة { إحسان { بالرفع أي واجب الإحسان إليهما . الباقون بالنصب , على معنى أحسنوا إليهما إحسانا . قال العلماء : فأحق الناس بعد الخالق المنان بالشكر والإحسان والتزام البر والطاعة له والإذعان من قرن الله الإحسان إليه بعبادته وطاعته وشكره بشكره وهما الوالدان ; فقال تعالى : { أن اشكر لي ولوالديك . [ لقمان : 14 ] . وروى شعبة وهشيم الواسطيان عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( رضا الرب في رضا الوالدين وسخطه في سخط الوالدين } . وبذي القربىعطف ذي القربى على الوالدين . والقربى : بمعنى القرابة , وهو مصدر كالرجعى والعقبى ; أي وأمرناهم بالإحسان إلى القرابات بصلة أرحامهم . وسيأتي بيان هذا مفصلا في سورة { القتال { إن شاء الله تعالى . واليتامىاليتامى عطف أيضا , وهو جمع يتيم ; مثل ندمى جمع نديم . واليتم في بني آدم بفقد الأب , وفي البهائم بفقد الأم . وحكى الماوردي أن اليتيم يقال في بني آدم في فقد الأم ; والأول المعروف . وأصله الانفراد ; يقال : صبي يتيم , أي منفرد من أبيه . وبيت يتيم : أي ليس قبله ولا بعده شيء من الشعر . ودرة يتيمة : ليس لها نظير . وقيل : أصله الإبطاء ; فسمي به اليتيم ; لأن البر يبطئ عنه . ويقال : يتم ييتم يتما ; مثل عظم يعظم . ويتم ييتم يتما ويتما ; مثل سمع يسمع , ذكر الوجهين الفراء . وقد أيتمه الله . ويدل هذا على الرأفة باليتيم والحض على كفالته وحفظ ماله ; على ما يأتي بيانه في { النساء } . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة )  . وأشار مالك بالسبابة والوسطى ; رواه أبو هريرة أخرجه مسلم . وخرج الإمام الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد من حديث الحسن بن دينار أبي سعيد البصري وهو الحسن بن واصل قال حدثنا الأسود بن عبد الرحمن عن هصان عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما قعد يتيم مع قوم على قصعتهم فيقرب قصعتهم الشيطان )  . وخرج أيضا من حديث حسين بن قيس وهو أبو علي الرحبي عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ضم يتيما من بين ملمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله عز وجل غفرت له ذنوبه ألبتة إلا أن يعمل عملا لا يغفر ومن أذهب الله كريمتيه فصبر واحتسب غفرت له ذنوبه - قالوا : وما كريمتاه ؟ قال : - عيناه ومن كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فأنفق عليهن وأحسن إليهن حتى يبن أو يمتن غفرت له ذنوبه ألبتة إلا أن يعمل عملا لا يغفر )  فناداه رجل من الأعراب ممن هاجر فقال : يا رسول الله أو اثنتين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أو اثنتين )  . فكان ابن عباس إذا حدث بهذا الحديث قال : هذا والله من غرائب الحديث وغرره . والمساكين{ المساكين { عطف أيضا أي وأمرناهم بالإحسان إلى المساكين , وهم الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم . وهذا يتضمن الحض على الصدقة والمؤاساة وتفقد أحوال المساكين والضعفاء . روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله - وأحسبه قال - وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر )  . قال ابن المنذر : وكان طاوس يرى السعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله . والجار ذي القربى والجار الجنبأما الجار فقد أمر الله تعالى بحفظه والقيام بحقه والوصاة برعي ذمته في كتابه وعلى لسان نبيه . ألا تراه سبحانه أكد ذكره بعد الوالدين والأقربين فقال تعالى : " والجار ذي القربى { أي القريب . { والجار الجنب { أي الغريب ; قاله ابن عباس , وكذلك هو في اللغة . ومنه فلان أجنبي , وكذلك الجنابة البعد . وأنشد أهل اللغة : فلا تحرمني نائلا عن جنابة فإني امرؤ وسط القباب غريب وقال الأعشى : أتيت حريثا زائرا عن جنابة فكان حريث عن عطائي جامدا وقرأ الأعمش والمفضل { والجار الجنب } بفتح الجيم وسكون النون وهما لغتان ; يقال : جنب وجنب وأجنب وأجنبي إذا لم يكن بينهما قرابة , وجمعه أجانب . وقيل : على تقدير حذف المضاف , أي والجار ذي الجنب أي ذي الناحية . وقال نوف الشامي : { الجار ذي القربى { المسلم { والجار الجنب } اليهودي والنصراني . قلت : وعلى هذا فالوصاة بالجار مأمور بها مندوب إليها مسلما كان أو كافرا , وهو الصحيح . والإحسان قد يكون بمعنى المواساة , وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه . روى البخاري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه )  . وروي عن أبي شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن )  قيل : يا رسول الله ومن ؟ قال : ( الذي لا يأمن جاره بوائقه )  وهذا عام في كل جار . وقد أكد عليه السلام ترك إذايته بقسمه ثلاث مرات , وأنه لا يؤمن الكامل من آذى جاره . فينبغي للمؤمن أن يحذر أذى جاره , وينتهي عما نهى الله ورسوله عنه , ويرغب فيما رضياه وحضا العباد عليه . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق وجار له حقان وجار له حق واحد فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم القريب له حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام والجار الذي له حقان فهو الجار المسلم فله حق الإسلام وحق الجوار والجار الذي له حق واحد هو الكافر له حق الجوار )  . روى البخاري عن عائشة قالت : قلت يا رسول الله , إن لي جارين فإلى أيهما أهدي , قال : ( إلى أقربهما منك بابا )  . فذهب جماعة من العلماء إلى أن هذا الحديث يفسر المراد من قوله تعالى : { والجار ذي القربى { وأنه القريب المسكن منك . { والجار الجنب { هو البعيد المسكن منك . واحتجوا بهذا على إيجاب الشفعة للجار , وعضدوه وبقوله عليه السلام : ( الجار أحق بصقبه )  . ولا حجة في ذلك , فإن عائشة رضي الله عنها إنما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عمن تبدأ به من جيرانها في الهدية فأخبرها أن من قرب بابه فإنه أولى بها من غيره . قال ابن المنذر : فدل هذا الحديث على أن الجار يقع على غير اللصيق . وقد خرج أبو حنيفة عن ظاهر هذا الحديث فقال : إن الجار اللصيق إذا ترك الشفعة وطلبها الذي يليه وليس له جدار إلى الدار ولا طريق لا شفعة فيه له . وعوام العلماء يقولون : إن أوصى الرجل لجيرانه أعطي اللصيق وغيره ; إلا أبا حنيفة فإنه فارق عوام العلماء وقال : لا يعطى إلا اللصيق وحده . واختلف الناس في حد الجيرة ; فكان الأوزاعي يقول : أربعون دارا من كل ناحية ; وقاله ابن شهاب . وروي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني نزلت محلة قوم وإن أقربهم إلي جوارا أشدهم لي أذى ; فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا يصيحون على أبواب المساجد : ألا إن أربعين دارا جار ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه . وقال علي بن أبي طالب : من سمع النداء فهو جار . وقالت فرقة : من سمع إقامة الصلاة فهو جار ذلك المسجد . وقالت فرقة : من ساكن رجلا في محلة أو مدينة فهو جار . قال الله تعالى : { لئن لم ينته المنافقون } [ الأحزاب : 60 ] إلى قوله : { ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا { فجعل تعالى اجتماعهم في المدينة جوارا . والجيرة مراتب بعضها ألصق من بعض , أدناها الزوجة ; كما قال : أيا جارتا بيني فإنك طالقهومن إكرام الجار ما رواه مسلم عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك )  . فحض عليه السلام على مكارم الأخلاق ; لما رتب عليها من المحبة وحسن العشرة ودفع الحاجة والمفسدة ; فإن الجار قد يتأذى بقتار قدر جاره , وربما تكون له ذرية فتهيج من ضعفائهم الشهوة , ويعظم على القائم عليهم الألم والكلفة , لا سيما إن كان القائم ضعيفا أو أرملة فتعظم المشقة ويشتد منهم الألم والحسرة . وهذه كانت عقوبة يعقوب في فراق يوسف عليهما السلام فيما قيل . وكل هذا يندفع بتشريكهم في شيء من الطبيخ يدفع إليهم , ولهذا المعنى حض عليه السلام الجار القريب بالهدية ; لأنه ينظر إلى ما يدخل دار جاره وما يخرج منها , فإذا رأى ذلك أحب أن يشارك فيه ; وأيضا فإنه أسرع إجابة لجاره عندما ينوبه من حاجة في أوقات الغفلة والغرة ; فلذلك بدأ به على من بعد بابه وإن كانت داره أقرب . والله أعلم . قال العلماء : لما قال عليه السلام { فأكثر ماءها } نبه بذلك على تيسير الأمر على البخيل تنبيها لطيفا , وجعل الزيادة فيما ليس له ثمن وهو الماء ; ولذلك لم يقل : إذا طبخت مرقة فأكثر لحمها ; إذ لا يسهل ذلك على كل أحد . ولقد أحسن القائل : قدري وقدر الجار واحدة وإليه قبلي ترفع القدر ولا يهدي النزر اليسير المحتقر ; لقوله عليه السلام : ( ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف )  أي بشيء يهدى عرفا ; فإن القليل وإن كان مما يهدى فقد لا يقع ذلك الموقع , فلو لم يتيسر إلا القليل فليهده ولا يحتقر , وعلى المهدى إليه قبوله ; لقوله عليه السلام : ( يا نساء المؤمنات لا تحتقرن إحداكن لجارتها ولو كراع شاة محرقا )  أخرجه مالك في موطئه . وكذا قيدناه ( يا نساء المؤمنات )  بالرفع على غير الإضافة , والتقدير : يا أيها النساء المؤمنات ; كما تقول يا رجال الكرام ; فالمنادى محذوف وهو يا أيها , والنساء في التقدير النعت لأيها , والمؤمنات نعت للنساء . قد قيل : فيه : يا نساء المؤمنات بالإضافة , والأول أكثر . من إكرام الجار ألا يمنع من غرز خشبة له إرفاقا به ; قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره )  . ثم يقول أبو هريرة : ما لي أراكم عنها معرضين , والله لأرمين بها بين أكنافكم . روي { خشبه وخشبة { على الجمع والإفراد . وروي { أكتافهم { بالتاء و { أكنافهم { بالنون . ومعنى { لأرمين بها { أي بالكلمة والقصة . وهل يقضى بهذا على الوجوب أو الندب ؟ فيه خلاف بين العلماء . فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أن معناه الندب إلى بر الجار والتجاوز له والإحسان إليه , وليس ذلك على الوجوب ; بدليل قوله عليه السلام : ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه ) . قالوا : ومعنى قوله ( لا يمنع أحدكم جاره )  هو مثل معنى قوله عليه السلام : ( إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها )  . وهذا معناه عند الجميع الندب , على ما يراه الرجل من الصلاح والخير في ذلك . وقال الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود بن علي وجماعة أهل الحديث : إلى أن ذلك على الوجوب . قالوا : ولولا أن أبا هريرة فهم فيما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم معنى الوجوب ما كان ليوجب عليهم غير واجب . وهو مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ; فإنه قضى على محمد بن مسلمة للضحاك بن خليفة في الخليج أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة , فقال محمد بن مسلمة : لا والله . فقال عمر : والله ليمرن به ولو على بطنك . فأمره عمر أن يمر به ففعل الضحاك ; رواه مالك في الموطأ . وزعم الشافعي في كتاب { الرد { أن مالكا لم يرو عن أحد من الصحابة خلاف عمر في هذا الباب ; وأنكر على مالك أنه رواه وأدخله في كتابه ولم يأخذ به ورده برأيه . قال أبو عمر : ليس كما زعم الشافعي ; لأن محمد بن مسلمة كان رأيه في ذلك خلاف رأي عمر , ورأي الأنصار أيضا كان خلافا لرأي عمر , وعبد الرحمن بن عوف في قصة الربيع وتحويله - والربيع الساقية - وإذا اختلفت الصحابة وجب الرجوع إلى النظر , والنظر , يدل على أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم بعضهم على بعض حرام إلا ما تطيب به النفس خاصة ; فهذا هو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم . ويدل على الخلاف في ذلك قول أبي هريرة : ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمينكم بها ; هذا أو نحوه . أجاب الأولون فقالوا : القضاء بالمرفق خارج بالسنة عن معنى قوله عليه السلام : ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه )  لأن هذا معناه التمليك والاستهلاك وليس المرفق من ذلك ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بينهما في الحكم . فغير واجب أن يجمع بين ما فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم . وحكى مالك أنه كان بالمدينة قاض يقضي به يسمى أبو المطلب . واحتجوا من الأثر بحديث الأعمش عن أنس قال : استشهد منا غلام يوم أحد فجعلت أمه تمسح التراب عن وجهه وتقول : أبشر هنيئا لك الجنة ; فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم ( وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره )  . والأعمش لا يصح له سماع من أنس , والله أعلم . قاله أبو عمر . ورد حديث جمع النبي صلى الله عليه وسلم فيه مرافق الجار , وهو حديث معاذ بن جبل قال : قلنا يا رسول الله , ما حق الجار ؟ قال : ( إن استقرضك أقرضته وإن استعانك أعنته وإن احتاج أعطيته وإن مرض عدته وإن مات تبعت جنازته وإن أصابه خير سرك وهنيته وإن أصابته مصيبة ساءتك وعزيته ولا تؤذه بنار قدرك إلا أن تعرف له منها ولا تستطل عليه بالبناء لتشرف عليه وتسد عليه الريح إلا بإذنه وإن اشتريت فاكهة فأهد له منها وإلا فأدخلها سرا لا يخرج ولدك بشيء منه يغيظون به ولده وهل تفقهون ما أقول لكم لن يؤدي حق الجار إلا القليل ممن رحم الله )  أو كلمة نحوها . هذا حديث جامع وهو حديث حسن , في إسناده أبو الفضل عثمان بن مطر الشيباني غير مرضي . قال العلماء : الأحاديث في إكرام الجار جاءت مطلقة غير مقيدة حتى الكافر كما بينا . وفي الخبر قالوا : يا رسول الله أنطعمهم من لحوم النسك ؟ قال : ( لا تطعموا المشركين من نسك المسلمين )  . ونهيه صلى الله عليه وسلم عن إطعام المشركين من نسك المسلمين يحتمل النسك الواجب في الذمة الذي لا يجوز للناسك أن يأكل منه ولا أن يطعمه الأغنياء ; فأما غير الواجب الذي يجزيه إطعام الأغنياء فجائز أن يطعمه أهل الذمة . قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة عند تفريق لحم الأضحية : ( ابدئي بجارنا اليهودي )  . وروي أن شاة ذبحت في أهل عبد الله بن عمرو فلما جاء قال : أهديتم لجارنا اليهودي ؟ - ثلاث مرات - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه )  . وقرأ عاصم فيما ذكر المفضل عنه { والجار الجنب { بفتح الجيم وسكون النون . قال المهدوي : هو على تقدير حذف المضاف ; أي والجار ذي الجنب أي ذي الناحية . وأنشد الأخفش : الناس جنب والأمير جنب والجنب الناحية , أي المتنحي عن القرابة . والله أعلم . والصاحب بالجنبأي الرفيق في السفر . وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه وهما على راحلتين فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم غيضة , فقطع قضيبين أحدهما معوج , فخرج وأعطى لصاحبه القويم ; فقال : كنت يا رسول الله أحق بهذا ! فقال : ( كلا يا فلان إن كل صاحب يصحب آخر فإنه مسئول عن صحابته ولو ساعة من نهار )  . وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن : للسفر مروءة وللحضر مروءة ; فأما المروءة في السفر فبذل الزاد , وقلة الخلاف على الأصحاب , وكثرة المزاح في غير مساخط الله . وأما المروءة في الحضر فالإدمان إلى المساجد , وتلاوة القرآن وكثرة الإخوان في الله عز وجل . ولبعض بني أسد - وقيل إنها لحاتم الطائي : إذا ما رفيقي لم يكن خلف ناقتي له مركب فضلا فلا حملت رجلي ولم يك من زادي له شطر مزودي فلا كنت ذا زاد ولا كنت ذا فضل شريكان فيما نحن فيه وقد أرى علي له فضلا بما نال من فضلي وقال علي وابن مسعود وابن أبي ليلى : { الصاحب بالجنب { الزوجة . ابن جريج : هو الذي يصحبك ويلزمك رجاء نفعك . والأول أصح ; وهو قول ابن عباس وابن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك . وقد تتناول الآية الجميع بالعموم . والله أعلم . وابن السبيلقال مجاهد : هو الذي يجتاز بك مارا . والسبيل الطريق ; فنسب المسافر إليه لمروره عليه ولزومه إياه . ومن الإحسان إليه إعطاؤه وإرفاقه وهدايته ورشده . وما ملكت أيمانكمأمر الله تعالى بالإحسان إلى المماليك , وبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ; فروى مسلم وغيره عن المعرور بن سويد قال : مررنا بأبي ذر بالربذة وعليه برد وعلى غلامه مثله , فقلنا : يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة ; فقال : إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام , وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه , فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية )  قلت : يا رسول الله , من سب الرجال سبوا أباه وأمه . قال : ( يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم )  . وروي عن أبي هريرة أنه ركب بغلة ذات يوم فأردف غلامه خلفه , فقال له قائل : لو أنزلته يسعى خلف دابتك ; فقال أبو هريرة : لأن يسعى معي ضغثان من نار يحرقان مني ما أحرقا أحب إلي من أن يسعى غلامي خلفي . وخرج أبو داود عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من لايمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون ومن لا يلايمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله )  . لايمكم وافقكم . والملايمة الموافقة . وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق )  وقال عليه السلام : ( لا يقل أحدكم عبدي وأمتي بل ليقل فتاي وفتاتي )  وسيأتي بيانه في سورة يوسف عليه السلام . فندب صلى الله عليه وسلم السادة إلى مكارم الأخلاق وحضهم عليها وأرشدهم إلى الإحسان وإلى سلوك طريق التواضع حتى لا يروا لأنفسهم مزية على عبيدهم , إذ الكل عبيد الله والمال مال الله , لكن سخر بعضهم لبعض , وملك بعضهم بعضا إتماما للنعمة وتنفيذا للحكمة ; فإن أطعموهم أقل مما يأكلون , وألبسوهم أقل مما يلبسون صفة ومقدارا جاز إذا قام بواجبه عليه . ولا خلاف في ذلك والله أعلم . وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو إذ جاءه قهرمان له فدخل فقال : أعطيت الرقيق قوتهم ؟ قال لا . قال : فانطلق فأعطهم , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم )  . ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من ضرب عبده حدا لم يأته أو لطمه فكفارته أن يعتقه )  . ومعناه أن يضربه قدر الحد ولم يكن عليه حد . وجاء عن نفر من الصحابة أنهم اقتصوا للخادم من الولد في الضرب وأعتقوا الخادم لما لم يرد القصاص وقال عليه السلام : ( من قذف مملوكه بالزنى أقام عليه الحد يوم القيامة ثمانين )  . وقال عليه السلام : ( لا يدخل الجنة سيئ الملكة )  . وقال عليه السلام : ( سوء الخلق شؤم وحسن الملكة نماء وصلة الرحم تزيد في العمر والصدقة تدفع ميتة السوء )  . واختلف العلماء من هذا الباب أيهما أفضل الحر أو العبد ; فروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( للعبد المملوك المصلح أجران )  والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك . وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين )  . فاستدل بهذا وما كان مثله من فضل العبد ; لأنه مخاطب من جهتين : مطالب بعبادة الله , مطالب بخدمة سيده . وإلى هذا ذهب أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري وأبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد العامري البغدادي الحافظ . استدل من فضل الحر بأن قال : الاستقلال بأمور الدين والدنيا وإنما يحصل بالأحرار والعبد كالمفقود لعدم استقلال , وكالآلة المصرفة بالقهر , وكالبهيمة المسخرة بالجبر ; ولذلك سلب مناصب الشهادات ومعظم الولايات , ونقصت حدوده عن حدود الأحرار إشعارا بخسة المقدار , والحر وإن طولب من جهة واحدة فوظائفه فيها أكثر , وعناؤه أعظم فثوابه أكثر . وقد أشار إلى هذا أبو هريرة بقوله : لولا الجهاد والحج ; أي لولا النقص الذي يلحق العبد لفوت هذه الأمور . والله أعلم . روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه , وما زال يوصيني بالنساء حتى ظننت أنه سيحرم طلاقهن , وما زال يوصيني بالمماليك حتى ظننت أنه سيجعل لهم مدة إذا انتهوا إليها عتقوا , وما زال يوصيني بالسواك حتى خشيت أن يحفي فمي - وروي حتى كاد - وما زال يوصيني بقيام الليل حتى ظننت أن خيار أمتي لا ينامون ليلا )  . ذكره أبو الليث السمرقندي في تفسيره . إن الله لا يحبأي لا يرضى . من كان مختالا فخورافنفى سبحانه محبته ورضاه عمن هذه صفته ; أي لا يظهر عليه آثار نعمه في الآخرة . وفي هذا ضرب من التوعد . والمختال ذو الخيلاء أي الكبر . والفخور : الذي يعدد مناقبه كبرا . والفخر : البذخ والتطاول . وخص هاتين الصفتين بالذكر هنا لأنهما تحملان صاحبيهما على الأنفة من القريب الفقير والجار الفقير وغيرهم ممن ذكر في الآية فيضيع أمر الله بالإحسان إليهم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ۗ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا
    +/- -/+  
الأية
37
 
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : { الذين يبخلون } { الذين { في موضع نصب على البدل من { من { في قوله : { من كان { ولا يكون صفة ; لأن { من { و } ما { لا يوصفان ولا يوصف بهما . ويجوز أن يكون في موضع رفع بدلا من المضمر الذي في فخور . ويجوز أن يكون في موضع رفع فيعطف عليه . ويجوز أن يكون ابتداء والخبر محذوف , أي الذين يبخلون , لهم كذا , أو يكون الخبر { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } [ النساء : 40 ] . ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أعني , فتكون الآية في المؤمنين ; فتجيء الآية على هذا التأويل أن الباخلين منفية عنهم محبة الله , فأحسنوا أيها المؤمنون إلى من سمي فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الإحسان . الثانية : قوله تعالى : { يبخلون ويأمرون الناس بالبخل { البخل المذموم في الشرع هو الامتناع من أداء ما أوجب الله تعالى عليه . وهو مثل قوله تعالى : { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله } [ آل عمران : 180 ] الآية . وقد مضى في { آل عمران { القول في البخل وحقيقته , والفرق بينه وبين الشح مستوفى . والمراد بهذه الآية في قول ابن عباس وغيره اليهود ; فإنهم جمعوا بين الاختيال والفخر والبخل بالمال وكتمان ما أنزل الله من التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : المراد المنافقون الذي كان إنفاقهم وإيمانهم تقية , والمعنى إن الله لا يحب كل مختال فخور , ولا الذين يبخلون ; على ما ذكرنا من إعرابه . وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا فصل تعالى توعد المؤمنين الباخلين من توعد الكافرين بأن جعل الأول عدم المحبة والثاني عذابا مهينا .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ۗ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا
    +/- -/+  
الأية
38
 
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ { والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس { الآية . عطف تعالى على { الذين يبخلون } : { الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس } . وقيل : هو عطف على الكافرين , فيكون في موضع خفض . ومن رأى زيادة الواو أجاز أن يكون الثاني عنده خبرا للأول . قال الجمهور نزلت في المنافقين : لقوله تعالى : { رئاء الناس } والرئاء من النفاق . مجاهد : في اليهود . وضعفه الطبري ; لأنه تعالى نفى عن هذه الصنفة الإيمان بالله واليوم الآخر , واليهود ليس كذلك . قال ابن عطية : وقول مجاهد متجه على المبالغة والإلزام ; إذ إيمانهم باليوم الآخر كالإيمان من حيث لا ينفعهم . وقيل : نزلت في مطعمي يوم بدر , وهم رؤساء مكة , أنفقوا على الناس ليخرجوا إلى بدر . قال ابن العربي : ونفقة الرئاء تدخل في الأحكام من حيث إنها لا تجزئ . قلت : ويدل على ذلك من الكتاب قول تعالى : { قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم } [ التوبة : 53 ] وسيأتي . وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا في الكلام إضمار تقديره { ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر { فقرينهم الشيطان { ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا } . والقرين : المقارن , أي الصاحب والخليل وهو فعيل من الإقران ; قال عدي بن زيد : عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي والمعنى : من قبل من الشيطان في الدنيا فقد قارنه . ويجوز أن يكون المعنى من قرن به الشيطان في النار { فساء قرينا { أي فبئس الشيطان قرينا , وهو نصب على التمييز .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ ۚ وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا
    +/- -/+  
الأية
39
 
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ { ما { في موضع رفع بالابتداء و { ذا { خبره , وذا بمعنى الذي . ويجوز أن يكون ما وذا اسما واحدا . فعلى الأول تقديره وما الذي عليهم , وعلى الثاني تقديره وأي شيء عليهم { لو آمنوا بالله واليوم الآخر } , أي صدقوا بواجب الوجود , وبما جاء به الرسول من تفاصيل الآخرة , { وأنفقوا مما رزقهم الله } . وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا أي بالأشياء قبل خلقها .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا
    +/- -/+  
الأية
40
 
إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أي لا يبخسهم ولا ينقصهم من ثواب عملهم وزن ذرة بل يجازيهم بها ويثيبهم عليها . والمراد من الكلام أن الله تعالى لا يظلم قليلا ولا كثيرا ; كما قال تعالى : { إن الله لا يظلم الناس شيئا } [ يونس : 44 ] . والذرة : النملة الحمراء ; عن ابن عباس وغيره , وهي أصغر النمل . وعنه أيضا رأس النملة . وقال يزيد بن هارون : زعموا أن الذرة ليس لها وزن . ويحكى أن رجلا وضع خبزا حتى علاه الذر مقدار ما يستره ثم وزنه فلم يزد على وزن الخبز شيئا . قلت : والقرآن والسنة يدلان على أن للذرة وزنا ; كما أن للدينار ونصفه وزنا . والله أعلم . وقيل : الذرة الخردلة ; كما قال تعالى : { فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها } [ الأنبياء : 47 ] . وقيل غير هذا , وهي في الجملة عبارة عن أقل الأشياء وأصغرها . وفي صحيح مسلم عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها )  . وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا أي يكثر ثوابها . وقرأ أهل الحجاز { حسنة { بالرفع , والعامة بالنصب ; فعلى الأول { تك { بمعنى تحدث , فهي تامة . وعلى الثاني هي الناقصة , أي إن تك فعلته حسنة . وقرأ الحسن { نضاعفها { بنون العظمة . والباقون بالياء , وهي أصح ; لقوله { ويؤت } . وقرأ أبو رجاء { يضعفها } , والباقون { يضاعفها { وهما لغتان معناهما التكثير . وقال أبو عبيدة : { يضاعفها { معناه يجعله أضعافا كثيرة , { ويضعفها { بالتشديد يجعلها ضعفين .{ من لدنه { من عنده . وفيه أربع لغات : لدن ولدن ولد ولدى ; فإذا أضافوه إلى أنفسهم شددوا النون , ودخلت عليه { من { حيث كانت { من { الداخلة لابتداء الغاية و { لدن { كذلك , فلما تشاكلا حسن دخول { من { عليها ; ولذلك قال سيبويه في لدن : إنه الموضع الذي هو أول الغاية .{ أجرا عظيما { يعني الجنة . وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري الطويل - حديث الشفاعة - وفيه : ( حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول جل وعز ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا )  . وكان أبو سعيد الخدري يقول : إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما { وذكر الحديث . وروي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يؤتى بالعبد يوم القيامة فيوقف وينادي مناد على رءوس الخلائق هذا فلان بن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه ثم يقول آت هؤلاء حقوقهم فيقول يا رب من أين لي وقد ذهبت الدنيا عني فيقول الله تعالى للملائكة انظروا إلى أعماله الصالحة فأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة من حسنة قالت الملائكة يا رب - وهو أعلم بذلك منهم - قد أعطى لكل ذي حق حقه وبقي مثقال ذرة من حسنة فيقول الله تعالى للملائكة ضعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة ومصداقه { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها } - وإن كان عبدا شقيا قالت الملائكة إلهنا فنيت حسناته وبقيت سيئاته وبقي طالبون كثير فيقول تعالى خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكا إلى النار )  . فالآية على هذا التأويل في الخصوم , وأنه تعالى لا يظلم مثقال ذرة للخصم على الخصم يأخذ له منه , ولا يظلم مثقال ذرة تبقى له بل يثيبه عليها ويضعفها له ; فذلك قوله تعالى : { وإن تك حسنة يضاعفها } . وروى أبو هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الله سبحانه يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة )  وتلا { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما } . قال عبيدة : قال أبو هريرة : وإذا قال الله { أجرا عظيما { فمن الذي يقدر قدره ! وقد تقدم عن ابن عباس وابن مسعود : أن هذه الآية إحدى الآيات التي هي خير مما طلعت عليه الشمس .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا
    +/- -/+  
الأية
41
 
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا { جعل { هنا بمعنى صير لتعديه إلى مفعولين . و { لي { في موضع المفعول الثاني . ولما بشر بالولد ولم يبعد عنده هذا في قدرة الله تعالى طلب آية - أي علامة - يعرف بها صحة هذا الأمر وكونه من عند الله تعالى ; فعاقبه الله تعالى بأن أصابه السكوت عن كلام الناس لسؤال الآية بعد مشافهة الملائكة إياه ; قال أكثر المفسرين . قالوا : وكذلك إن لم يكن من مرض خرس أو نحوه ففيه على كل حال عقاب ما . قال ابن زيد : إن زكريا عليه السلام لما حملت زوجه منه بيحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا , وهو مع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله تعالى ; فإذا أراد مقاولة أحد لم يطقه . الثانية : { قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا { الرمز في اللغة الإيماء بالشفتين , وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين واليدين ; وأصله الحركة . وقيل : طلب , تلك الآية زيادة طمأنينة . المعنى : تمم النعمة بأن تجعل لي آية , وتكون تلك الآية زيادة نعمة وكرامة ; فقيل له : { آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام { أي تمنع من الكلام ثلاث ليال ; دليل هذا القول قوله تعالى بعد بشرى الملائكة له .{ وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا } [ مريم : 9 ] أي أوجدتك بقدرتي فكذلك أوجد لك الولد . واختار هذا القول النحاس وقال : قول قتادة إن زكريا عوقب بترك الكلام قول مرغوب عنه ; لأن الله عز وجل لم يخبرنا أنه أذنب ولا أنه نهاه عن هذا ; والقول فيه أن المعنى اجعل لي علامة تدل على كون الولد , إذ كان ذلك مغيبا عني . و { رمزا { نصب على الاستثناء المنقطع ; قاله الأخفش . وقال الكسائي : رمز يرمز ويرمز . وقرئ { إلا رمزا { بفتح الميم و { رمزا { بضمها وضم الراء , الواحدة رمزة . الثالثة : في هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام وذلك موجود في كثير من السنة , وآكد الإشارات ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر السوداء حين قال لها : ( أين الله )  ؟ فأشارت برأسها إلى السماء فقال : ( أعتقها فإنها مؤمنة )  . فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة الذي يحرز الدم والمال وتستحق به الجنة وينجى به من النار , وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك ; فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة , وهو قول عامة الفقهاء . وروى ابن القاسم عن مالك أن الأخرس إذا أشار بالطلاق أنه يلزمه . وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق . وقال أبو حنيفة : ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف , وإن شك فيها فهي باطل , وليس ذلك بقياس وإنما هو استحسان . والقياس في هذا كله أنه باطل ; لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته . قال أبو الحسن بن بطال : وإنما حمل أبا حنيفة . على قوله هذا أنه لم يعلم السنن التي جاءت بجواز الإشارات في أحكام مختلفة في الديانة . ولعل البخاري حاول بترجمته { باب الإشارة في الطلاق والأمور { الرد عليه . وقال عطاء : أراد بقوله { ألا تكلم الناس { صوم ثلاثة أيام . وكانوا إذا صاموا لا يتكلمون إلا رمزا . وهذا فيه بعد . والله أعلم . الرابعة : قال بعض من يجيز نسخ القرآن بالسنة : إن زكريا عليه السلام منع الكلام وهو قادر عليه , وإنه منسوخ بقوله عليه السلام : ( لا صمت يوما إلى الليل )  . وأكثر العلماء على أنه ليس بمنسوخ , وأن زكريا إنما منع الكلام بآفة دخلت عليه منعته إياه , وتلك الآفة عدم القدرة على الكلام مع الصحة ; كذلك قال المفسرون . وذهب كثير من العلماء إلى أنه ( لا صمت يوما إلى الليل )  إنما معناه عن ذكر الله , وأما عن الهذر وما لا فائدة فيه , فالصمت عن ذلك حسن . وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ أمره بألا يترك الذكر في نفسه مع اعتقال لسانه ; على القول الأول . وقد مضى في البقرة معنى الذكر . وقال محمد بن كعب القرظي : لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا بقول الله عز وجل : { ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا { ولرخص للرجل يكون في الحرب بقول الله عز وجل : { إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا } [ الأنفال : 45 ] . وذكره الطبري .{ وسبح { أي صل ; سميت الصلاة سبحة لما فيها من تنزيه الله تعالى عن السوء . و { العشي { جمع عشية . وقيل : هو واحد . وذلك من حين تزول الشمس إلى أن تغيب ; عن مجاهد . وفي الموطأ عن القاسم بن محمد قال : ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي .{ والإبكار { من طلوع الفجر إلى وقت الضحى .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا
    +/- -/+  
الأية
42
 
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ ضمت الواو في { عصوا } . لالتقاء الساكنين , ويجوز كسرها . وقرأ نافع وابن عامر { تسوى { بفتح التاء والتشديد في السين . وحمزة والكسائي كذلك إلا أنهما خففا السين . والباقون ضموا التاء وخففوا السين , مبنيا للمفعول والفاعل غير مسمى . والمعنى لو يسوي الله بهم الأرض . أي يجعلهم والأرض سواء . ومعنى آخر : تمنوا لو لم يبعثهم الله وكانت الأرض مستوية عليهم ; لأنهم من التراب نقلوا . وعلى القراءة الأولى والثانية فالأرض فاعلة , والمعنى تمنوا لو انفتحت لهم الأرض فساخوا فيها ; قاله قتادة . وقيل : الباء بمعنى على , أي لو تسوى عليهم أي تنشق فتسوى عليهم ; عن الحسن . فقراءة التشديد على الإدغام , والتخفيف على حذف التاء . وقيل : إنما تمنوا هذا حين رأوا البهائم تصير ترابا وعلموا أنهم مخلدون في النار ; وهذا معنى قوله تعالى : { ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا } [ النبأ : 40 ] . وقيل : إنما تمنوا هذا حين شهدت هذه الأمة للأنبياء على ما تقدم في { البقرة { عند قوله تعالى : " وكذلك جعلناكم أمة وسطا } [ البقرة : 143 ] الآية . فتقول الأمم الخالية : إن فيهم الزناة والسراق فلا تقبل شهادتهم فيزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم , فيقول المشركون : { والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] فيختم على أفواههم وتشهد أرجلهم وأيديهم بما كانوا يكسبون ; فذلك قوله تعالى : { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض { يعني تخسف بهم . والله أعلم . وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا قال الزجاج : قال بعضهم : { ولا يكتمون الله حديثا { مستأنف ; لأن ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه . وقال بعضهم : هو معطوف , والمعنى يود لو أن الأرض سويت بهم وأنهم لم يكتموا الله حديثا ; لأنه ظهر كذبهم . وسئل ابن عباس عن هذه الآية , وعن قوله تعالى : { والله ربنا ما كنا مشركين { فقال : لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا : { والله ربنا ما كنا مشركين { فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم فلا يكتمون الله حديثا . وقال الحسن وقتادة : الآخرة مواطن يكون هذا في بعضها وهذا في بعضها . ومعناه أنهم لما تبين لهم وحوسبوا لم يكتموا . وسيأتي لهذا مزيد بيان في { الأنعام { إن شاء الله تعالى .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا ۚ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ۗ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا
    +/- -/+  
الأية
43
 
يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتمخص الله سبحانه وتعالى بهذا الخطاب المؤمنين ; لأنهم كانوا يقيمون الصلاة وقد أخذوا من الخمر وأتلفت عليهم أذهانهم فخصوا بهذا الخطاب ; إذ كان الكفار لا يفعلونها صحاة ولا سكارى . روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما نزل تحريم الخمر قال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ; فنزلت الآية التي في البقرة { يسألونك عن الخمر والميسر } [ البقرة : 219 ] قال : فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ; فنزلت الآية التي في النساء { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى { فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة ينادي : ألا لا يقربن الصلاة سكران . فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ; فنزلت هذه الآية : { فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] قال عمر : انتهينا . وقال سعيد بن جبير : كان الناس على أمر جاهليتهم حتى يؤمروا أو ينهوا ; فكانوا يشربونها أول الإسلام حتى نزلت : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } [ البقرة : 219 ] . قالوا : نشربها للمنفعة لا للإثم ; فشربها رجل فتقدم يصلي بهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ; فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } . فقالوا : في غير عين الصلاة . فقال عمر : اللهم أنزل علينا في الخمر بيانا شافيا ; فنزلت : { إنما يريد الشيطان } [ المائدة : 91 ] الآية . فقال عمر : انتهينا , انتهينا . ثم طاف منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إن الخمر قد حرمت ; على ما يأتي بيانه في { المائدة { إن شاء الله تعالى : وروى الترمذي عن علي بن أبي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر , فأخذت الخمر منا , وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت : " قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون } [ الكافرون : 1 - 2 ] ونحن نعبد ما تعبدون . قال : فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . ووجه الاتصال والنظم بما قبله أنه قال سبحانه وتعالى : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا } [ النساء : 36 ] . ثم ذكر بعد الإيمان الصلاة التي هي رأس العبادات ; ولذلك يقتل تاركها ولا يسقط فرضها , وانجر الكلام إلى ذكر شروطها التي لا تصح إلا بها . والجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء على أن المراد بالسكر سكر الخمر ; إلا الضحاك فإنه قال : المراد سكر النوم ; لقوله عليه السلام : ( إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم , فإنه لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه )  . وقال عبيدة السلماني : { وأنتم سكارى { يعني إذا كنت حاقنا ; لقوله عليه السلام : ( لا يصلين أحدكم وهو حاقن )  في رواية ( وهو ضام بين فخذيه )  . قلت : وقول الضحاك وعبيدة صحيح المعنى ; فإن المطلوب من المصلي الإقبال على الله تعالى بقلبه وترك الالتفات إلى غيره , والخلو عن كل ما يشوش عليه من نوم وحقنة وجوع , وكل ما يشغل البال ويغير الحال . قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء )  . فراعى صلى الله عليه وسلم زوال كل مشوش يتعلق به الخاطر , حتى يقبل على عبادة ربه بفراغ قلبه وخالص لبه , فيخشع في صلاته . ويدخل في هذه الآية : { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون } [ المؤمنون : 1 - 2 ] على ما يأتي بيانه . وقال ابن عباس : إن قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى { منسوخ بآية المائدة : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } [ المائدة : 6 ] الآية . فأمروا على هذا القول بألا يصلوا سكارى ; ثم أمروا بأن يصلوا على كل حال ; وهذا قبل التحريم . وقال مجاهد : نسخت بتحريم الخمر . وكذلك قال عكرمة وقتادة , وهو الصحيح في الباب لحديث علي المذكور . وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : أقيمت الصلاة فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقربن الصلاة سكران ; ذكره النحاس . وعلى قول الضحاك وعبيدة الآية محكمة لا نسخ فيها . قوله تعالى : { لا تقربوا { إذا قيل : لا تقرب بفتح الراء كان معناه لا تلبس بالفعل , وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن منه . والخطاب لجماعة الأمة الصاحين . وأما السكران إذا عدم الميز لسكره فليس بمخاطب في ذلك الوقت لذهاب عقله ; وإنما هو مخاطب بامتثال ما يجب عليه , وبتكفير ما ضيع في وقت سكره من الأحكام التي تقرر تكليفه إياها قبل السكر . قوله تعالى : { الصلاة } اختلف العلماء في المراد بالصلاة هنا ; فقالت طائفة : هي العبادة المعروفة نفسها ; وهو قول أبي حنيفة ; ولذلك قال { حتى تعلموا ما تقولون } . وقالت طائفة : المراد مواضع الصلاة ; وهو قول الشافعي , فحذف المضاف . وقد قال تعالى { لهدمت صوامع وبيع وصلوات } [ الحج : 40 ] فسمى مواضع الصلاة صلاة . ويدل على هذا التأويل قوله تعالى : { ولا جنبا إلا عابري سبيل { وهذا يقتضي جواز العبور للجنب في المسجد لا الصلاة فيه . وقال أبو حنيفة : المراد بقوله تعالى : { ولا جنبا إلا عابري سبيل { المسافر إذا لم يجد الماء فإنه يتيمم ويصلي ; وسيأتي بيانه . وقالت طائفة : المراد الموضع والصلاة معا ; لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ولا يصلون إلا مجتمعين , فكانا متلازمين . قوله تعالى : { وأنتم سكارى { ابتداء وخبر , جملة في موضع الحال من { تقربوا } . و { سكارى { جمع سكران ; مثل كسلان وكسالى . وقرأ النخعي { سكرى } بفتح السين على مثال فعلى , وهو تكسير سكران ; وإنما كسر على سكرى لأن السكر آفة تلحق العقل فجرى مجرى صرعى وبابه . وقرأ الأعمش { سكرى { كحبلى فهو صفة مفردة ; وجاز الإخبار بالصفة المفردة عن الجماعة على ما يستعملونه من الإخبار عن الجماعة بالواحد . والسكر : نقيض الصحو ; يقال : سكر يسكر سكرا , من باب حمد يحمد . وسكرت عينه تسكر أي تحيرت ; ومنه قوله تعالى : { إنما سكرت أبصارنا } [ الحجر : 15 ] . وسكرت الشق سددته . فالسكران قد انقطع عما كان عليه من العقل . وفي هذه الآية دليل بل نص على أن الشرب كان مباحا في أول الإسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى السكر . وقال قوم : السكر محرم في العقل وما أبيح في شيء من الأديان ; وحملوا السكر في هذه الآية على النوم . وقال القفال : يحتمل أنه كان أبيح لهم من الشراب ما يحرك الطبع إلى السخاء والشجاعة والحمية . قلت : وهذا المعنى موجود في أشعارهم ; وقد قال حسان : ونشربها فتتركنا ملوكا وقد أشبعنا هذا المعنى في { البقرة } . قال القفال : فأما ما يزيل العقل حتى يصير صاحبه في حد الجنون والإغماء فما أبيح قصده , بل لو اتفق من غير قصد فيكون مرفوعا عن صاحبه . قلت : هذا صحيح , وسيأتي بيانه في { المائدة { إن شاء الله تعالى في قصة حمزة . وكان المسلمون لما نزلت هذه الآية يجتنبون الشرب أوقات الصلوات , فإذا صلوا العشاء شربوها ; فلم يزالوا على ذلك حتى نزل تحريمها في { المائدة { في قوله تعالى : { فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] . . سكارى حتى تعلموا ماأي حتى تعلموه متيقنين فيه من غير غلط . والسكران لا يعلم ما يقول ; ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : إن السكران لا يلزمه طلاقه . وروي عن ابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة , وهو قول الليث بن سعد وإسحاق وأبي ثور والمزني ; واختاره الطحاوي وقال : أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز , والسكران معتوه كالموسوس معتوه بالوسواس . ولا يختلفون أن من شرب البنج فذهب عقله أن طلاقه غير جائز ; فكذلك من سكر من الشراب . وأجازت طائفة طلاقه ; وروي عن عمر بن الخطاب ومعاوية وجماعة من التابعين , وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي , واختلف فيه قول الشافعي . وألزمه مالك الطلاق والقود في الجراح والقتل , ولم يلزمه النكاح والبيع . وقال أبو حنيفة : أفعال السكران وعقوده كلها ثابتة كأفعال الصاحي , إلا الردة فإنه إذا ارتد فإنه لا تبين منه امرأته إلا استحسانا . وقال أبو يوسف : يكون مرتدا في حال سكره ; وهو قول الشافعي إلا أنه لا يقتله في حال سكره ولا يستتيبه . وقال الإمام أبو عبد الله المازري : وقد رويت عندنا رواية شاذة أنه لا يلزم طلاق السكران . وقال محمد بن عبد الحكم : لا يلزمه طلاق ولا عتاق . قال ابن شاس : ونزل الشيخ أبو الوليد الخلاف على المخلط الذي معه بقية من عقله إلا أنه لا يملك الاختلاط من نفسه فيخطئ ويصيب . قال : فأما السكران الذي لا يعرف الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة , فلا اختلاف في أنه كالمجنون في جميع أفعاله وأحواله فيما بينه وبين الناس , وفيما بينه وبين الله تعالى أيضا ; إلا فيما ذهب وقته من الصلوات , فقيل : إنها لا تسقط عنه بخلاف المجنون ; من أجل أنه بإدخاله السكر على نفسه كالمتعمد لتركها حتى خرج وقتها . وقال سفيان الثوري : حد السكر اختلال العقل ; فإذا استقرئ فخلط في قراءته وتكلم بما لا يعرف جلد . وقال أحمد : إذا تغير عقله عن حال الصحة فهو سكران ; وحكي عن مالك نحوه . قال ابن المنذر : إذا خلط في قراءته فهو سكران ; استدلالا بقول الله تعالى : { حتى تعلموا ما تقولون } . فإذا كان بحيث لا يعلم ما يقول تجنب المسجد مخافة التلويث ; ولا تصح صلاته وإن صلى قضى . وإن كان بحيث يعلم ما يقول فأتى بالصلاة فحكمه حكم الصاحي . تقولون ولاعطف على موضع الجملة المنصوبة في قوله : { حتى تعلموا { أي لا تصلوا وقد أجنبتم . ويقال : تجنبتم وأجنبتم وجنبتم بمعنى . ولفظ الجنب لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع ; لأنه على وزن المصدر كالبعد والقرب . وربما خففوه فقالوا : جنب ; وقد قرأه كذلك قوم . وقال الفراء : يقال جنب الرجل وأجنب من الجنابة . وقيل : يجمع الجنب في لغة على أجناب ; مثل عنق وأعناق , وطنب وأطناب . ومن قال للواحد جانب قال في الجمع : جناب ; كقولك : راكب وركاب . والأصل البعد ; كأن الجنب بعد بخروج الماء الدافق عن حال الصلاة ; قال : فلا تحرمني نائلا عن جنابة فإني امرؤ وسط القباب غريب ورجل جنب : غريب . والجنابة مخالطة الرجل المرأة . والجمهور من الأمة على أن الجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان . وروي عن بعض الصحابة ألا غسل إلا من إنزال ; لقوله عليه السلام : ( إنما الماء من الماء )  أخرجه مسلم . وفي البخاري عن أبي بن كعب أنه قال : يا رسول الله , إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل ؟ قال : ( يغسل ما مس المرأة منه ثم يتوضأ ويصلي )  . قال أبو عبد الله : الغسل أحوط ; وذلك الآخر إنما بيناه لاختلافهم . وأخرجه مسلم في صحيحه بمعناه , وقال في آخره : قال أبو العلاء بن الشخير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسخ حديثه بعضه بعضا كما ينسخ القرآن بعضه بعضا . قال أبو إسحاق : هذا منسوخ . وقال الترمذي : كان هذا الحكم في أول الإسلام ثم نسخ . قلت : على هذا جماعة العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار , وأن الغسل يجب بنفس التقاء الختانين . وقد كان فيه خلاف بين الصحابة ثم رجعوا فيه إلى رواية عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان منه وجب الغسل )  . أخرجه مسلم . وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا قعد بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل )  . زاد مسلم ( وإن لم ينزل )  . وقال ابن القصار : وأجمع التابعون ومن بعدهم بعد خلاف من قبلهم على الأخذ بحديث ( إذا التقى الختانان )  وإذا صح الإجماع بعد الخلاف كان مسقطا للخلاف . قال القاضي عياض : لا نعلم أحدا قال به بعد خلاف الصحابة إلا ما حكي عن الأعمش ثم بعده داود الأصبهاني . وقد روي أن عمر رضي الله عنه حمل الناس على ترك الأخذ بحديث ( الماء من الماء )  لما اختلفوا . وتأوله ابن عباس على الاحتلام ; أي إنما يجب الاغتسال بالماء من إنزال الماء في الاحتلام . ومتى لم يكن إنزال وإن رأى أنه يجامع فلا غسل . وهذا ما لا خلاف فيه بين كافة العلماء . جنبا إلا عابرييقال : عبرت الطريق أي قطعته من جانب إلى جانب . وعبرت النهر عبورا , وهذا عبر النهر أي شطه , ويقال : عبر بالضم . والمعبر ما يعبر عليه من سفينة أو قنطرة . وهذا عابر السبيل أي مار الطريق . وناقة عبر أسفار : لا تزال يسافر عليها ويقطع بها الفلاة والهاجرة لسرعة مشيها . قال الشاعر : عيرانة سرح اليدين شملة عبر الهواجر كالهزف الخاضب وعبر القوم ماتوا . وأنشد : قضاء الله يغلب كل شيء ويلعب بالجزوع وبالصبور فإن نعبر فإن لنا لمات وإن نغبر فنحن على نذور يقول : إن متنا فلنا أقران , وإن بقينا فلا بد لنا من الموت ; حتى كأن علينا في إتيانه نذورا . واختلف العلماء في قوله : { إلا عابري سبيل { فقال علي رضي الله عنه وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم : عابر السبيل المسافر . ولا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال , إلا المسافر فإنه يتيمم ; وهذا قول أبي حنيفة ; لأن الغالب في الماء لا يعدم في الحضر ; فالحاضر يغتسل لوجود الماء , والمسافر يتيمم إذا لم يجده . قال ابن المنذر : وقال أصحاب الرأي في الجنب المسافر يمر على مسجد فيه عين ماء يتيمم الصعيد ويدخل المسجد ويستقي منها ثم يخرج الماء من المسجد . ورخصت طائفة في دخول الجنب المسجد . واحتج بعضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن ليس بنجس )  . قال ابن المنذر : وبه نقول . وقال ابن عباس أيضا وابن مسعود وعكرمة والنخعي : عابر السبيل الخاطر المجتاز ; وهو قول عمرو بن دينار ومالك والشافعي . وقالت طائفة : لا يمر الجنب في المسجد إلا ألا يجد بدا فيتيمم ويمر فيه ; هكذا قال الثوري وإسحاق بن راهويه . وقال أحمد وإسحاق في الجنب : إذا توضأ لا بأس أن يجلس في المسجد حكاه ابن المنذر . وروى بعضهم في سبب الآية أن قوما من الأنصار كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد , فإذا أصاب أحدهم الجنابة اضطر إلى المرور في المسجد . قلت : وهذا صحيح ; يعضده ما رواه أبو داود عن جسرة بنت دجاجة قالت : سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد ; فقال : ( وجهوا هذه البيوت عن المسجد )  . ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة فخرج إليهم فقال : ( وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب )  . وفي صحيح مسلم : ( لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر )  . فأمر صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب لما كان يؤدي ذلك إلى اتخاذ المسجد طريقا والعبور فيه . واستثنى خوخة أبي بكر إكراما له وخصوصية ; لأنهما كانا لا يفترقان غالبا . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه . ورواه عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما ينبغي لمسلم ولا يصلح أن يجنب في المسجد إلا أنا وعلي )  . قال علماؤنا : وهذا يجوز أن يكون ذلك ; لأن بيت علي كان في المسجد , كما كان بيت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد , وإن كان البيتان لم يكونا في المسجد ولكن كانا متصلين بالمسجد وأبوابهما كانت في المسجد فجعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد فقال : ( ما ينبغي لمسلم )  الحديث . والذي يدل على أن بيت علي كان في المسجد ما رواه ابن شهاب عن سالم بن عبد الله قال : سأل رجل أبي عن علي وعثمان رضي الله عنهما أيهما كان خيرا ؟ فقال له عبد الله بن عمر : هذا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ! وأشار إلى بيت علي إلى جنبه , لم يكن في المسجد غيرهما ; وذكر الحديث . فلم يكونا يجنبان في المسجد وإنما كانا يجنبان في بيوتهما , وبيوتهما من المسجد إذ كان أبوابهما فيه ; فكانا يستطرقانه في حال الجنابة إذا خرجا من بيوتهما . ويجوز أن يكون ذلك تخصيصا لهما ; وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم خص بأشياء , فيكون هذا مما خص به , ثم خص النبي صلى الله عليه وسلم عليا عليه السلام فرخص له في ما لم يرخص فيه لغيره . وإن كانت أبواب بيوتهم في المسجد , فإنه كان في المسجد أبواب بيوت غير بيتيهما ; حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسدها إلا باب علي . وروى عمرو بن ميمون عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سدوا الأبواب إلا باب علي )  فخصه عليه السلام بأن ترك بابه في المسجد , وكان يجنب في بيته وبيته في المسجد . وأما قوله : ( لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر )  فإن ذلك كانت - والله أعلم - أبوابا تطلع إلى المسجد خوخات , وأبواب البيوت خارجة من المسجد ; فأمر عليه السلام بسد تلك الخوخات وترك خوخة أبي بكر إكراما له . والخوخات كالكوى والمشاكي , وباب علي كان باب البيت الذي كان يدخل منه ويخرج . وقد فسر ابن عمر ذلك بقوله : ولم يكن في المسجد غيرهما . فإن قيل : فقد ثبت عن عطاء بن يسار أنه قال : كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضئون ويأتون المسجد فيتحدثون فيه . وهذا يدل على أن اللبث في المسجد للجنب جائز إذا توضأ ; وهو مذهب أحمد وإسحاق كما ذكرنا . فالجواب أن الوضوء لا يرفع حدث الجنابة , وكل موضع وضع للعبادة وأكرم عن النجاسة الظاهرة ينبغي ألا يدخله من لا يرضى لتلك العبادة , ولا يصح له أن يتلبس بها . والغالب من أحوالهم المنقولة أنهم كانوا يغتسلون في بيوتهم . فإن قيل : يبطل بالمحدث . قلنا : ذلك يكثر وقوعه فيشق الوضوء منه ; وفي قوله تعالى : { ولا جنبا إلا عابري سبيل { ما يغني ويكفي . وإذا كان لا يجوز له اللبث في المسجد فأحرى ألا يجوز له مس المصحف ولا القراءة فيه ; إذ هو أعظم حرمة . وسيأتي بيانه في { الواقعة { إن شاء الله تعالى . ويمنع الجنب عند علمائنا من قراءة القرآن غالبا إلا الآيات اليسيرة للتعوذ . وقد روى موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يقرأ الجنب والحائض شيئا من القرآن )  أخرجه ابن ماجه . وأخرج الدارقطني من حديث سفيان عن مسعر , وشعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلا أن يكون جنبا . قال سفيان : قال لي شعبة : ما أحدث بحديث أحسن منه . وأخرجه ابن ماجه قال : حدثنا محمد بن بشار , حدثنا محمد بن جعفر , حدثنا شعبة , عن عمرو بن مرة ; فذكره بمعناه , وهذا إسناد صحيح . وعن ابن عباس , عن عبد الله بن رواحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب ; أخرجه الدارقطني . وروى عن عكرمة قال : كان ابن رواحة مضطجعا إلى جنب امرأته فقام إلى جارية له في ناحية الحجرة فوقع عليها ; وفزعت امرأته فلم تجده في مضجعه , فقامت فخرجت فرأته على جاريته , فرجعت إلى البيت فأخذت الشفرة ثم خرجت , وفرغ فقام فلقيها تحمل الشفرة فقال مهيم ؟ قالت : مهيم ! لو أدركتك حيث رأيتك لوجأت بين كتفيك بهذه الشفرة . قال : وأين رأيتني ؟ قالت : رأيتك على الجارية ; فقال : ما رأيتني ; وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب . قالت : فاقرأ , وكانت لا تقرأ القرآن , فقال : أتانا رسول الله يتلو كتابه كما لاح مشهور من الفجر ساطع أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع فقالت : آمنت بالله وكذبت البصر . ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ; فضحك حتى بدت نواجذه صلى الله عليه وسلم . سبيل حتىنهى الله سبحانه وتعالى عن الصلاة إلا بعد الاغتسال ; والاغتسال معنى معقول , ولفظه عند العرب معلوم , يعبر به عن إمرار اليد مع الماء على المغسول ; ولذلك فرقت العرب بين قولهم : غسلت الثوب , وبين قولهم : أفضت عليه الماء وغمسته في الماء . إذا تقرر هذا فاعلم أن العلماء اختلفوا في الجنب يصب على جسده الماء أو ينغمس فيه ولا يتدلك ; فالمشهور من مذهب مالك أنه لا يجزئه حتى يتدلك ; لأن الله سبحانه وتعالى أمر الجنب بالاغتسال , كما أمر المتوضئ بغسل وجهه ويديه ; ولم يكن للمتوضئ بد من إمرار يديه مع الماء على وجهه ويديه , فكذلك جميع جسد الجنب ورأسه في حكم وجه المتوضئ ويديه . وهذا قول المزني واختياره . قال أبو الفرج عمرو بن محمد المالكي : وهذا هو المعقول من لفظ الغسل ; لأن الاغتسال في اللغة هو الافتعال , ومن لم يمر فلم يفعل غير صب الماء لا يسميه أهل اللسان غاسلا , بل يسمونه صابا للماء ومنغمسا فيه . قال : وعلى نحو هذا جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة )  قال : وإنقاؤه - والله أعلم - لا يكون إلا بتتبعه ; على حد ما ذكرنا . قلت : لا حجة فيما استدل به من الحديث لوجهين : أحدهما : أنه قد خولف في تأويله ; قال سفيان بن عيينة : المراد بقوله عليه السلام ( وأنقوا البشرة )  أراد غسل الفرج وتنظيفه , وأنه كنى بالبشرة عن الفرج . قال ابن وهب : ما رأيت أحدا أعلم بتفسير الأحاديث من ابن عيينة . الثاني : أن الحديث أخرجه أبو داود في سننه وقال فيه : وهذا الحديث ضعيف ; كذا في رواية ابن داسة . وفي رواية اللؤلؤي عنه : الحارث بن وجيه ضعيف , حديثه منكر ; فسقط الاستدلال بالحديث , وبقي المعول على اللسان كما بينا . ويعضده ما ثبت في صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصبي فبال عليه , فدعا بماء فأتبعه بوله ولم يغسله ; روته عائشة , ونحوه عن أم قيس بنت محصن ; أخرجهما مسلم . وقال الجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء : يجزئ الجنب صب الماء والانغماس فيه إذا أسبغ وعم وإن لم يتدلك ; على مقتضى حديث ميمونة وعائشة في غسل النبي صلى الله عليه وسلم . رواهما الأئمة , وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفيض الماء على جسده ; وبه قال محمد بن عبد الحكم , وإليه رجع أبو الفرج ورواه عن مالك ; قال : وإنما أمر بإمرار اليدين في الغسل لأنه لا يكاد من لم يمر يديه عليه يسلم من تنكب الماء عن بعض ما يجب عليه من جسده . وقال ابن العربي : وأعجب لأبي الفرج الذي روى وحكى عن صاحب المذهب أن الغسل دون ذلك يجزئ ! وما قاله قط مالك نصا ولا تخريجا , وإنما هي من أوهامه . قلت : قد روي هذا عن مالك نصا ; قال مروان بن محمد الظاهري وهو ثقة من ثقات الشاميين : سألت مالك بن أنس عن رجل انغمس في ماء وهو جنب ولم يتوضأ , قال : مضت صلاته . قال أبو عمر : فهذه الرواية فيها لم يتدلك ولا توضأ , وقد أجزأه عند مالك . والمشهور من مذهبه أنه لا يجزئه حتى يتدلك ; قياسا على غسل الوجه واليدين . وحجة الجماعة أن كل من صب عليه الماء فقد اغتسل . والعرب تقول : غسلتني السماء . وقد حكت عائشة وميمونة صفة غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكرا تدلكا , ولو كان واجبا ما تركه ; لأنه المبين عن الله مراده , ولو فعله لنقل عنه ; كما نقل تخليل أصول شعره بالماء وغرفه على رأسه , وغير ذلك من صفة غسله ووضوئه عليه السلام . قال أبو عمر : وغير نكير أن يكون الغسل في لسان العرب مرة بالعرك ومرة بالصب والإفاضة ; وإذا كان هذا فلا يمتنع أن يكون الله جل وعز تعبد عباده في الوضوء بإمرار أيديهم على وجوههم مع الماء ويكون ذلك غسلا , وأن يفيضوا الماء على أنفسهم في غسل الجنابة والحيض , ويكون ذلك غسلا موافقا للسنة غير خارج من اللغة , ويكون كل واحد من الأمرين أصلا في نفسه , لا يجب أن يرد أحدهما إلى صاحبه ; لأن الأصول لا يرد بعضها إلى بعض قياسا - وهذا ما لا خلاف فيه بين علماء الأمة . وإنما ترد الفروع قياسا على الأصول . وبالله التوفيق . حديث ميمونة وعائشة يرد ما رواه شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه كان إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه سبعا وفرجه سبعا . وقد روي عن ابن عمر قال : كانت الصلاة خمسين , والغسل من الجنابة سبع مرار , وغسل البول من الثوب سبع مرار ; فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا , والغسل من الجنابة مرة , والغسل من البول مرة . قال ابن عبد البر : وإسناد هذا الحديث عن ابن عمر فيه ضعف ولين , وإن كان أبو داود قد خرجه والذي قبله عن شعبة مولى ابن عباس , وشعبة هذا ليس بالقوي , ويردهما حديث عائشة وميمونة . ومن لم يستطع إمرار يده على جسده فقد قال سحنون : يجعل من يلي ذلك منه , أو يعالجه بخرقة . وفي الواضحة : يمر يديه على ما يدركه من جسده , ثم يفيض الماء حتى يعم ما لم تبلغه يداه . واختلف قول مالك في تخليل الجنب لحيته ; فروى ابن القاسم عنه أنه قال : ليس عليه ذلك . وروى أشهب عنه أن عليه ذلك . قال ابن عبد الحكم : ذلك هو أحب إلينا ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل شعره في غسل الجنابة , وذلك عام وإن كان الأظهر فيه شعر رأسه ; وعلى هذين القولين العلماء . ومن جهة المعنى أن استيعاب جميع الجسد في الغسل واجب , والبشرة التي تحت اللحية من جملته ; فوجب إيصال الماء إليها ومباشرتها باليد . وإنما انتقل الفرض إلى الشعر في الطهارة الصغرى لأنها مبنية على التخفيف , ونيابة الأبدال فيها من غير ضرورة ; ولذلك جاز فيها المسح على الخفين ولم يجز في الغسل . قلت : ويعضد هذا قوله صلى الله عليه وسلم : ( تحت كل شعرة جنابة )  . وقد بالغ قوم فأوجبوا المضمضة والاستنشاق ; لقوله تعالى : { حتى تغتسلوا { منهم أبو حنيفة ; ولأنهما من جملة الوجه وحكمهما حكم ظاهر الوجه كالخد والجبين , فمن تركهما وصلى أعاد كمن ترك لمعة , ومن تركهما في وضوئه فلا إعادة عليه . وقال مالك : ليستا بفرض لا في الجنابة ولا في الوضوء ; لأنهما باطنان فلا يجب كداخل الجسد . وبذلك قال محمد بن جرير الطبري والليث بن سعد والأوزاعي وجماعة من التابعين . وقال ابن أبي ليلى وحماد بن أبي سليمان : هما فرض في الوضوء والغسل جميعا ; وهو قول إسحاق وأحمد بن حنبل وبعض أصحاب داود . وروي عن الزهري وعطاء مثل هذا القول . وروي عن أحمد أيضا أن المضمضة سنة والاستنشاق فرض ; وقال به بعض أصحاب داود . وحجة من لم يوجبهما أن الله سبحانه لم يذكرهما في كتابه , ولا أوجبهما رسوله ولا اتفق الجميع عليه ; والفرائض لا تثبت إلا بهذه الوجوه . احتج من أوجبهما بالآية , وقوله تعالى : { فاغسلوا وجوهكم { فما وجب في الواحد من الغسل وجب في الآخر , والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه أنه ترك المضمضة والاستنشاق في وضوئه ولا في غسله من الجنابة ; وهو المبين عن الله مراده قولا وعملا . احتج من فرق بينهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل المضمضة ولم يأمر بها , وأفعاله مندوب إليها ليست بواجبة إلا بدليل , وفعل الاستنشاق وأمر به ; وأمره على الوجوب أبدا . قال علماؤنا : ولا بد في غسل الجنابة من النية ; لقوله تعالى : { حتى تغتسلوا } وذلك يقتضي النية ; وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحق وأبو ثور , وكذلك الوضوء والتيمم . وعضدوا هذا بقوله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين " [ البينة : 5 ] والإخلاص النية في التقرب إلى الله تعالى , والقصد له بأداء ما افترض على عباده المؤمنين , وقال عليه السلام : ( إنما الأعمال بالنيات )  وهذا عمل . وقال الأوزاعي والحسن : يجزئ الوضوء والتيمم بغير نية . وقال أبو حنيفة وأصحابه : كل طهارة بالماء فإنها تجزئ بغير نية , ولا يجزئ التيمم إلا بنية ; قياسا على إزالة النجاسة بالإجماع من الأبدان والثياب بغير نية . ورواه الوليد بن مسلم عن مالك . وأما قدر الماء الذي يغتسل به ; فروى مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجنابة . { الفرق { تحرك راؤه وتسكن . قال ابن وهب : { الفرق { مكيال من الخشب , كان ابن شهاب يقول : إنه يسع خمسة أقساط بأقساط بني أمية . وقد فسر محمد بن عيسى الأعشى { الفرق { فقال : ثلاثة آصع , قال : وهي خمسة أقساط , قال : وفي الخمسة أقساط اثنا عشر مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم . وفي صحيح مسلم قال سفيان : " الفرق { ثلاثة آصع . وعن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد . وفي رواية : يغتسل بخمسة مكاكيك ويتوضأ بمكوك . وهذه الأحاديث تدل على استحباب تقليل الماء من غير كيل ولا وزن , يأخذ منه الإنسان بقدر ما يكفي ولا يكثر منه , فإن الإكثار منه سرف والسرف مذموم . ومذهب الإباضية الإكثار من الماء , وذلك من الشيطان . تغتسلوا وإن كنتمهذه آية التيمم , نزلت في عبد الرحمن بن عوف أصابته جنابة وهو جريح ; فرخص له في أن يتيمم , ثم صارت الآية عامة في جميع الناس . وقيل : نزلت بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة { المريسيع { حين انقطع العقد لعائشة . أخرج الحديث مالك من رواية عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة . وترجم البخاري هذه الآية في كتاب التفسير : حدثنا محمد قال : أخبرنا عبدة , عن هشام بن عروة , عن أبيه , عن عائشة رضي الله عنها قالت : هلكت قلادة لأسماء فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبها رجالا , فحضرت الصلاة وليسوا على وضوء ولم يجدوا ماء فصلوا وهم على غير وضوء ; فأنزل الله تعالى آية التيمم . قلت : وهذه الرواية ليس فيها ذكر للموضع , وفيها أن القلادة كانت لأسماء ; خلاف حديث مالك . وذكر النسائي من رواية علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة لها وهي في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانسلت منها وكان ذلك المكان يقال له الصلصل ; وذكر الحديث . ففي هذه الرواية عن هشام أن القلادة كانت لأسماء , وأن عائشة استعارتها من أسماء . وهذا بيان لحديث مالك إذا قال : انقطع عقد لعائشة , ولحديث البخاري إذ قال : هلكت قلادة لأسماء . وفيه أن المكان يقال له الصلصل . وأخرجه الترمذي حدثنا الحميدي , حدثنا سفيان , حدثنا هشام بن عروة عن أبيه , عن عائشة أنها سقطت قلادتها ليلة الأبواء , فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين في طلبها , وذكر الحديث . ففي هذه الرواية عن هشام أيضا إضافة القلادة إليها , لكن إضافة مستعير بدليل حديث النسائي . وقال في المكان : { الأبواء { كما قال مالك , إلا أنه من غير شك . وفي حديث مالك قال : وبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته . وجاء في البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجده . وهذا كله صحيح المعنى , وليس اختلاف النقلة في العقد والقلادة ولا في الموضع ما يقدح في الحديث ولا يوهن شيئا منه ; لأن المعنى المراد من الحديث والمقصود به إليه هو نزول التيمم , وقد ثبتت الروايات في أمر القلادة . وأما قوله في حديث الترمذي : فأرسل رجلين قيل : أحدهما أسيد بن حضير . ولعلهما المراد بالرجال في حديث البخاري فعبر عنهما بلفظ الجمع , إذ أقل الجمع اثنان , أو أردف في أثرهما غيرهما فصح إطلاق اللفظ والله أعلم . فبعثوا في طلبها فطلبوا فلم يجدوا شيئا في وجهتهم , فلما رجعوا أثاروا البعير فوجدوه تحته . وقد روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم جراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية . وهذا أيضا ليس بخلاف لما ذكرنا ; فإنهم ربما أصابتهم الجراحة في غزوتهم تلك التي قفلوا منها إذ كان فيها قتال فشكوا , وضاع العقد ونزلت الآية . وقد قيل : إن ضياع العقد كان في غزاة بني المصطلق . وهذا أيضا ليس بخلاف لقول من قال في غزاة المريسيع , إذ هي غزاة واحدة ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة من الهجرة , على ما قال خليفة بن خياط وأبو عمر بن عبد البر , واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري . وقيل : بل نميلة بن عبد الله الليثي . وأغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون , وهم على ماء يقال له المريسيع من ناحية قديد مما يلي الساحل فقتل من قتل وسبى من سبى من النساء والذرية وكان شعارهم يومئذ : أمت أمت . وقد قيل : إن بني المصطلق جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوه , فلما بلغه ذلك خرج إليهم فلقيهم على ماء . فهذا ما جاء في بدء التيمم والسبب فيه . وقد قيل : إن آية المائدة آية التيمم , على ما يأتي بيانه هناك . قال أبو عمر : فأنزل الله تعالى آية التيمم , وهي آية الوضوء المذكورة في سورة } المائدة } , أو الآية التي في سورة { النساء } . ليس التيمم مذكورا في غير هاتين الآيتين وهما مدنيتان . قوله تعالى : { مرضى { المرض عبارة عن خروج البدن عن حد الاعتدال والاعتياد , إلى الاعوجاج والشذوذ . وهو على ضربين : كثير ويسير ; فإذا كان كثيرا بحيث يخاف الموت لبرد الماء , أو للعلة التي به , أو يخاف فوت بعض الأعضاء , فهذا يتيمم بإجماع ; إلا ما روي عن الحسن وعطاء أنه يتطهر وإن مات . وهذا مردود بقوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78 ] وقوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] . وروى الدارقطني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عز وجل : { وإن كنتم مرضى أو على سفر { قال : إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله أو القروح أو الجدري فيجنب فخاف أن يموت إن اغتسل , تيمم . وعن سعد بن جبير أيضا عن ابن عباس قال : رخص للمريض في التيمم بالصعيد . وتيمم عمرو بن العاص لما خاف أن يهلك من شدة البرد ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بغسل ولا إعادة . فإن كان يسيرا إلا أنه يخاف معه حدوث علة أو زيادتها أو بطء برء فهؤلاء يتيممون بإجماع من المذهب . قال ابن عطية : فيما حفظت . قلت : قد ذكر الباجي فيه خلافا ; قال القاضي أبو الحسن : مثل أن يخاف الصحيح نزلة أو حمى , وكذلك إن كان المريض يخاف زيادة مرض ; وبنحو ذلك قال أبو حنيفة . وقال الشافعي : لا يجوز له التيمم مع وجود الماء إلا أن يخاف التلف ; ورواه القاضي أبو الحسن عن مالك . قال ابن العربي : { قال الشافعي لا يباح التيمم للمريض إلا إذا خاف التلف ; لأن زيادة المرض غير متحققة ; لأنها قد تكون وقد لا تكون , ولا يجوز ترك الفرض المتيقن للخوف المشكوك . قلنا : قد ناقضت ; فإنك قلت إذا خاف التلف من البرد تيمم ; فكما يبيح التيمم خوف التلف كذلك , يبيحه خوف المرض ; لأن المرض محذور كما أن التلف محذور . قال : وعجبا للشافعي يقول : لو زاد الماء على قدر قيمته حبة لم يلزمه شراؤه صيانة للمال ويلزمه التيمم , وهو يخاف على بدنه المرض ! وليس لهم عليه كلام يساوي سماعه } . قلت : الصحيح من قول الشافعي فيما قال القشيري أبو نصر عبد الرحيم في تفسيره : والمرض الذي يباح له التيمم هو الذي يخاف فيه فوت الروح أو فوات بعض الأعضاء لو استعمل الماء . فإن خاف طول المرض فالقول الصحيح للشافعي : جواز التيمم . روى أبو داود والدارقطني , عن يحيى بن أيوب , عن يزيد بن أبي حبيب , عن عمران بن أبي أنس , عن عبد الرحمن بن جبير , عن عمرو بن العاص قال : احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ; فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح ; فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا عمرو : ( صليت بأصحابك وأنت جنب )  ؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت : إني سمعت الله عز وجل يقول : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } [ النساء : 29 ] فضحك نبي الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا . فدل هذا الحديث على إباحة التيمم مع الخوف لا مع اليقين , وفيه إطلاق اسم الجنب على المتيمم وجواز صلاة المتيمم بالمتوضئين ; وهذا أحد القولين عندنا ; وهو الصحيح وهو الذي أقرأه مالك في موطئه وقرئ عليه إلى أن مات . والقول الثاني : أنه لا يصلي ; لأنه أنقص فضيلة من المتوضئ , وحكم الإمام أن يكون أعلى رتبة ; وقد روى الدارقطني من حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤم المتيمم المتوضئين )  إسناده ضعيف . وروى أبو داود والدارقطني عن جابر قال : خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم , فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ; فاغتسل فمات , فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال : ( قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب - شك موسى - على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده )  . قال الدارقطني : { قال أبو بكر هذه سنة تفرد بها أهل مكة وحملها أهل الجزيرة , ولم يروه عن عطاء عن جابر غير الزبير بن خريق , وليس بالقوي , وخالفه الأوزاعي فرواه عن عطاء عن ابن عباس وهو الصواب . واختلف عن الأوزاعي فقيل عنه عن عطاء , وقيل عنه : بلغني عن عطاء , وأرسل الأوزاعي آخره عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب . وقال ابن أبي حاتم : سألت أبي وأبا زرعة عنه فقالا : رواه ابن أبي العشرين , عن الأوزاعي , عن إسماعيل بن مسلم , عن عطاء , عن ابن عباس , وأسند الحديث } . وقال داود : كل من انطلق عليه اسم المريض فجائز له التيمم ; لقوله تعالى : { وإن كنتم مرضى } . قال ابن عطية : وهذا قول خلف , وإنما هو عند علماء الأمة لمن خاف من استعمال الماء أو تأذيه به كالمجدور والمحصوب , والعلل المخوف عليها من الماء ; كما تقدم عن ابن عباس . مرضى أو علىيجوز التيمم بسبب السفر طال أو قصر عند عدم الماء , ولا يشترط أن يكون مما تقصر فيه الصلاة ; هذا مذهب مالك وجمهور العلماء . وقال قوم : لا يتيمم إلا في سفر تقصر فيه الصلاة . واشترط آخرون أن يكون سفر طاعة . وهذا كله ضعيف . والله أعلم . أجمع العلماء على جواز التيمم في السفر حسبما ذكرنا , واختلفوا فيه في الحضر ; فذهب مالك وأصحابه إلى أن التيمم في الحضر والسفر جائز ; وهو قول أبي حنيفة ومحمد . وقال الشافعي : لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف ; وهو قول الطبري . وقال الشافعي أيضا والليث والطبري : إذا عدم الماء في الحضر مع خوف الوقت الصحيح والسقيم تيمم وصلى ثم أعاد . وقال أبو يوسف وزفر : لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض ولا لخوف الوقت وقال الحسن وعطاء : لا يتيمم المريض إذا وجد الماء , ولا غير المريض . وسبب الخلاف اختلافهم في مفهوم الآية ; فقال مالك ومن تابعه : ذكر الله تعالى المرضى والمسافرين في شرط التيمم خرج على الأغلب فيمن لا يجد الماء , والحاضرون الأغلب عليهم وجوده فلذلك لم ينص عليهم . فكل من لم يجد الماء أو منعه منه مانع أو خاف فوات وقت الصلاة , تيمم المسافر بالنص , والحاضر بالمعنى . وكذلك المريض بالنص والصحيح بالمعنى . وأما من منعه في الحضر فقال : إن الله تعالى جعل التيمم رخصة للمريض والمسافر ; كالفطر وقصر الصلاة , ولم يبح التيمم إلا بشرطين , وهما المرض والسفر ; فلا دخول للحاضر الصحيح في ذلك لخروجه من شرط الله تعالى . وأما قول الحسن وعطاء الذي منعه جملة مع وجود الماء فقال : إنما شرطه الله تعالى مع عدم الماء , لقوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا { فلم يبح التيمم لأحد إلا عند فقد الماء . وقال أبو عمر : ولولا قول الجمهور وما روي من الأثر لكان قول الحسن وعطاء صحيحا ; والله أعلم . وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم التيمم لعمرو بن العاص وهو مسافر إذ خاف الهلاك إن اغتسل بالماء , فالمريض أحرى بذلك . قلت : ومن الدليل على جواز التيمم في الحضر إذا خاف فوات الصلاة إن ذهب إلى الماء الكتاب والسنة :أما الكتاب فقوله سبحانه : { أو جاء أحد منكم من الغائط { يعني المقيم إذا عدم الماء تيمم . نص عليه القشيري عبد الرحيم قال : ثم يقطع النظر في وجوب القضاء ; لأن عدم الماء في الحضر عذر نادر وفي القضاء قولان :قلت : وهكذا نص أصحابنا فيمن تيمم في الحضر , فهل يعيد إذا وجد الماء أم لا ; المشهور من مذهب مالك أنه لا يعيد وهو الصحيح . وقال ابن حبيب ومحمد بن عبد الحكم . يعيد أبدا ; ورواه ابن المنذر عن مالك . وقال الوليد عنه : يغتسل وإن طلعت الشمس . وأما السنة فما رواه البخاري عن أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري قال : أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو } بئر جمل { فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه , ثم رد عليه السلام . وأخرجه مسلم وليس فيه لفظ { بئر } . وأخرجه الدارقطني من حديث ابن عمر وفيه { ثم رد على الرجل السلام وقال : ( إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر } . سفر أو جاء أحد منكم منالغائط أصله ما انخفض من الأرض , والجمع الغيطان أو الأغواط ; وبه سمي غوطة دمشق . وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء حاجتها تسترا عن أعين الناس , ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطا للمقارنة . وغاط في الأرض يغوط إذا غاب . وقرأ الزهري : " من الغيط { فيحتمل أن يكون أصله الغيط فخفف , كهين وميت وشبهه . ويحتمل أن يكون من الغوط ; بدلالة قولهم تغوط إذا أتى الغائط , فقلبت واو الغوط ياء ; كما قالوا في لا حول لا حيل . و { أو { بمعنى الواو , أي إن كنتم مرضى أو على سفر وجاء أحد منكم من الغائط فتيمموا فالسبب الموجب للتيمم على هذا هو الحدث لا المرض والسفر ; فدل على جواز التيمم في الحضر كما بيناه . والصحيح في { أو { أنها على بابها عند أهل النظر . فلأو معناها , وللواو معناها . وهذا عندهم على الحذف , والمعنى وإن كنتم مرضى مرضا لا تقدرون فيه على مس الماء أو على سفر ولم تجدوا ماء واحتجتم إلى الماء . والله أعلم . لفظ { الغائط { يجمع بالمعنى جميع الأحداث الناقضة للطهارة الصغرى . وقد اختلف الناس في حصرها , وأنبل ما قيل في ذلك أنها ثلاثة أنواع , لا خلاف فيها في مذهبنا : زوال العقل , خارج معتاد , ملامسة . وعلى مذهب أبي حنيفة ما خرج من الجسد من النجاسات , ولا يراعى المخرج ولا يعد اللمس . وعلى مذهب الشافعي ومحمد بن عبد الحكم ما خرج من السبيلين , ولا يراعى الاعتياد , ويعد اللمس . وإذا تقرر هذا فاعلم أن المسلمين أجمعوا على أن من زال عقله بإغماء أو جنون أو سكر فعليه الوضوء , واختلفوا في النوم هل هو حدث كسائر الأحداث ؟ أو ليس بحدث أو مظنة حدث ; ثلاثة أقوال : طرفان وواسطة . الطرف الأول : ذهب المزني أبو إبراهيم إسماعيل إلى أنه حدث , وأن الوضوء يجب بقليله وكثيره كسائر الأحداث ; وهو مقتضى قول مالك في الموطأ لقوله : ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من ذكر أو دبر أو نوم . ومقتضى حديث صفوان بن عسال أخرجه النسائي والدارقطني والترمذي وصححه . رووه جميعا من حديث عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش فقال : أتيت صفوان بن عسال المرادي فقلت : جئتك أسألك عن المسح على الخفين ; قال : نعم كنت في الجيش الذي بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثا إذا سافرنا , ويوما وليلة إذا أقمنا , ولا نخلعهما من بول ولا غائط ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة . ففي هذا الحديث وقول مالك التسوية بين الغائط والبول والنوم . قالوا : والقياس أنه لما كان كثيره وما غلب على العقل منه حدثا وجب أن يكون قليله كذلك . وقد روي عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وكاء السه العينان فمن نام فليتوضأ )  وهذا عام . أخرجه أبو داود , وأخرجه الدارقطني من حديث معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم . وأما الطرف الآخر فروي عن أبي موسى الأشعري ما يدل على أن النوم عنده ليس بحدث على أي حال كان , حتى يحدث النائم حدثا غير النوم ; لأنه كان يوكل من يحرسه إذا نام . فإن لم يخرج منه حدث قام من نومه وصلى ; وروي عن عبيدة وسعيد بن المسيب والأوزاعي في رواية محمود بن خالد . والجمهور على خلاف هذين الطرفين . فأما جملة مذهب مالك فإن كل نائم استثقل نوما , وطال نومه على أي حال كان , فقد وجب عليه الوضوء ; وهو قول الزهري وربيعة والأوزاعي في رواية الوليد بن مسلم . قال أحمد بن حنبل : فإن كان النوم خفيفا لا يخامر القلب ولا يغمره لم يضر . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا وضوء إلا على من نام مضطجعا أو متوركا . وقال الشافعي : من نام جالسا فلا وضوء عليه ; ورواه ابن وهب عن مالك . والصحيح من هذه الأقوال مشهور مذهب مالك ; لحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل عنها ليلة يعني العشاء فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا ثم رقدنا ثم استيقظنا ثم خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : ( ليس أحد من أهل الأرض ينتظر الصلاة غيركم )  رواه الأئمة واللفظ للبخاري ; وهو أصح ما في هذا الباب من جهة الإسناد والعمل . وأما ما قاله مالك في موطئه وصفوان بن عسال في حديثه فمعناه : ونوم ثقيل غالب على النفس ; بدليل هذا الحديث وما كان في معناه . وأيضا فقد روى حديث صفوان وكيع عن مسعر عن عاصم بن أبي النجود فقال : ( أو ريح )  بدل ( أو نوم )  , فقال الدارقطني : لم يقل في هذا الحديث ( أو ريح )  غير وكيع عن مسعر . قلت : وكيع ثقة إمام أخرج له البخاري ومسلم وغيرهما من الأئمة ; فسقط الاستدلال بحديث صفوان لمن تمسك به في أن النوم حدث . وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة فضعيف ; رواه الدارقطني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام وهو ساجد حتى غط أو نفخ ثم قام فصلى , فقلت : يا رسول الله إنك قد نمت ! فقال : ( إن الوضوء لا يجب إلا على من نام مضطجعا فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله )  . تفرد به أبو خالد عن قتادة ولا يصح ; قال الدارقطني . وأخرجه أبو داود وقال : قوله : ( الوضوء على من نام مضطجعا )  هو حديث منكر لم يروه إلا أبو خالد يزيد الدالاني عن قتادة , وروى أوله جماعة عن ابن عباس لم يذكروا شيئا من هذا . وقال أبو عمر بن عبد البر : هذا حديث منكر لم يروه أحد من أصحاب قتادة الثقات , وإنما انفرد به أبو خالد الدالاني , وأنكروه وليس بحجة فيما نقل . وأما قول الشافعي : عل .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ
    +/- -/+  
الأية
44
 
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب { إلى قوله تعالى : { فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه { الآية . نزلت في يهود المدينة وما والاها . قال ابن إسحاق : وكان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء يهود , إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه وقال : أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك ; ثم طعن في الإسلام وعابه فأنزل الله عز وجل { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب { إلى قوله { قليلا } . ومعنى { يشترون { يستبدلون فهو في موضع نصب على الحال , وفي الكلام حذف تقديره يشترون الضلالة بالهدى ; كما قال تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] قاله القتبي وغيره . وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ عطف عليه , والمعنى تضلوا طريق الحق . وقرأ الحسن : { تضلوا { بفتح الضاد أي عن السبيل .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللهِ نَصِيرًا
    +/- -/+  
الأية
45
 
وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ يريد منكم ; فلا تستصحبوهم فإنهم أعداؤكم . ويجوز أن يكون { أعلم { بمعنى عليم ; كقوله تعالى : { وهو أهون عليه } [ الروم : 27 ] أي هين . وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا الباء زائدة ; زيدت لأن المعنى اكتفوا بالله فهو يكفيكم أعداءكم . و { وليا { و } نصيرا { نصب على البيان , وإن شئت على الحال .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَٰكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا
    +/- -/+  
الأية
46
 
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ عطف على { وجيها { قاله الأخفش أيضا . فِي الْمَهْدِ مضجع الصبي في رضاعه . ومهدت الأمر هيأته ووطأته . وفي التنزيل { فلأنفسهم يمهدون } [ الروم : 44 ] . وامتهد الشيء ارتفع كما يمتهد سنام البعير . وَكَهْلًا الكهل بين حال الغلومة وحال الشيخوخة . وامرأة كهلة . واكتهلت الروضة إذا عمها النور . يقول : يكلم الناس في المهد آية , ويكلمهم كهلا بالوحي والرسالة . وقال أبو العباس : كلمهم في المهد حين برأ أمه فقال : { إني عبد الله } [ مريم : 30 ] الآية . وأما كلامه وهو كهل فإذا أنزله الله تعالى من السماء أنزله على صورة ابن ثلاث وثلاثين سنة وهو الكهل فيقول لهم : { إني عبد الله { كما قال في المهد . فهاتان آيتان وحجتان . قال المهدوي : وفائدة الآية أنه أعلمهم أن عيسى عليه السلام يكلمهم في المهد ويعيش إلى أن يكلمهم كهلا , إذ كانت العادة أن من تكلم في المهد لم يعش . قال الزجاج : { وكهلا { بمعنى ويكلم الناس كهلا . وقال الفراء والأخفش : هو معطوف على { وجيها } . وقيل : المعنى ويكلم الناس صغيرا وكهلا . وروى ابن جريج عن مجاهد قال : الكهل الحليم . قال النحاس : هذا لا يعرف في اللغة , وإنما الكهل عند أهل اللغة من ناهز الأربعين . وقال بعضهم : يقال له حدث إلى ست عشرة سنة . ثم شاب إلى اثنتين وثلاثين . ثم يكتهل في ثلاث وثلاثين ; قاله الأخفش . وَمِنَ الصَّالِحِينَ عطف على { وجيها { أي وهو من العباد الصالحين . ذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس عن حصين عن هلال بن يساف . قال : لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى وصاحب يوسف وصاحب جريج , كذا قال : { وصاحب يوسف } . وهو في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم وصاحب جريج وصاحب الجبار وبينا صبي يرضع من أمه )  وذكر الحديث , بطوله . وقد جاء من حديث صهيب في قصة الأخدود ( أن امرأة جيء بها لتلقى في النار على إيمانها ومعها صبي )  . في غير كتاب مسلم ( يرضع فتقاعست أن تقع فيها فقال الغلام يا أمه اصبري فإنك على الحق )  . وقال الضحاك : تكلم في المهد ستة : شاهد يوسف وصبي ماشطة امرأة فرعون وعيسى ويحيى وصاحب جريج وصاحب الجبار . ولم يذكر الأخدود , فأسقط صاحب الأخدود وبه يكون المتكلمون سبعة . ولا معارضة بين هذا وبين قوله عليه السلام : ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة )  بالحصر فإنه أخبر بما كان في علمه مما أوحي إليه في تلك الحال , ثم بعد هذا أعلمه الله تعالى بما شاء من ذلك فأخبر به . قلت : أما صاحب يوسف فيأتي الكلام فيه , وأما صاحب جريج وصاحب الجبار وصاحب الأخدود ففي صحيح مسلم . وستأتي قصة الأخدود في سورة } البروج { إن شاء الله تعالى . وأما صبي ماشطة امرأة فرعون , فذكر البيهقي عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لما أسري بي سرت في رائحة طيبة فقلت ما هذه الرائحة قالوا ماشطة ابنة فرعون وأولادها سقط مشطها من يديها فقالت : بسم الله فقالت ابنة فرعون : أبي ؟ قالت : ربي وربك ورب أبيك . قالت : أولك رب غير أبي ؟ قالت : نعم ربي وربك ورب أبيك الله - قال - فدعاها فرعون فقال : ألك رب غيري ؟ قالت : نعم ربي وربك الله - قال - فأمر بنقرة من نحاس فأحميت ثم أمر بها لتلقى فيها قالت : إن لي إليك حاجة قال : ما هي ؟ قالت : تجمع عظامي وعظام ولدي في موضع واحد قال : ذاك لك لما لك علينا من الحق . فأمر بهم فألقوا واحدا بعد واحد حتى بلغ رضيعا فيهم فقال قعي يا أمه ولا تقاعسي فإنا على الحق - قال - وتكلم أربعة وهم صغار : هذا وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى ابن مريم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا
    +/- -/+  
الأية
47
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا قال ابن إسحاق : كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود منهم عبد الله بن صوريا الأعور وكعب بن أسد فقال لهم : ( يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق )  قالوا : ما نعرف ذلك يا محمد . وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر ; فأنزل الله عز وجل فيهم { يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها { إلى آخر الآية . نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا نصب على الحال . مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى الطمس استئصال أثر الشيء ; ومنه قوله تعالى : { فإذا النجوم طمست } [ المرسلات : 8 ] . ونطمس ونطمس بكسر الميم وضمها في المستقبل لغتان . ويقال في الكلام : طسم يطسم ويطسم بمعنى طمس ; يقال : طمس الأثر وطسم أي امحى , كله لغات ; ومنه قوله تعالى : " ربنا اطمس على أموالهم } [ يونس : 88 ] أي أهلكها ; عن ابن عرفة . ويقال : طمسته فطمس لازم ومتعد . وطمس الله بصره , وهو مطموس البصر إذا ذهب أثر العين ; ومنه قوله تعالى : { ولو نشاء لطمسنا على أعينهم } [ يس : 66 ] يقول أعميناهم . واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية ; هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين . أو ذلك عبارة عن الضلال في قلوبهم وسلبهم التوفيق ؟ قولان . روي عن أبي بن كعب أنه قال : { من قبل أن نطمس { من قبل أن نضلكم إضلالا لا تهتدون بعده . يذهب إلى أنه تمثيل وأنهم إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبة . وقال قتادة : معناه من قبل أن نجعل الوجوه أقفاء . أي يذهب بالأنف والشفاه والأعين والحواجب ; هذا معناه عند أهل اللغة . وروي عن ابن عباس وعطية العوفي : أن الطمس أن تزال العينان خاصة وترد في القفا ; فيكون ذلك ردا على الدبر ويمشي القهقرى . وقال مالك رحمه الله : كان أول إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا { فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه وقال : والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي . وكذلك فعل عبد الله بن سلام , لما نزلت هذه الآية وسمعها أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال : يا رسول الله , ما كنت أدرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي في قفاي . فإن قيل : كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم ; فقيل : إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين . وقال المبرد : الوعيد باق منتظر . وقال : لا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة . أَدْبَارِهَا أَوْ أي أصحاب الوجوه نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ أي نمسخهم قردة وخنازير ; عن الحسن وقتادة . وقيل : هو خروج من الخطاب إلى الغيبة السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ أي كائنا موجودا . ويراد بالأمر المأمور فهو مصدر وقع موقع المفعول ; فالمعنى أنه متى أراده أوجده . وقيل : معناه أن كل أمر أخبر بكونه فهو كائن على ما أخبر به .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا
    +/- -/+  
الأية
48
 
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا : { إن الله يغفر الذنوب جميعا } [ الزمر : 53 ] فقال له رجل : يا رسول الله والشرك ! فنزل { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } . وهذا من المحكم المتفق عليه الذي لا اختلاف فيه بين الأمة ." ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء { من المتشابه الذي قد تكلم العلماء فيه . فقال محمد بن جرير الطبري : قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه ذنبه , وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله تعالى . وقال بعضهم : قد بين الله تعالى ذلك بقوله : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } [ النساء : 31 ] فاعلم أنه يشاء أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر ولا يغفرها لمن أتى الكبائر . وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة للتي في آخر { الفرقان } . قال زيد بن ثابت : نزلت سورة { النساء { بعد { الفرقان { بستة أشهر , والصحيح أن لا نسخ ; لأن النسخ في الأخبار يستحيل . وسيأتي بيان الجمع بين الآي في هذه السورة وفي { الفرقان { إن شاء الله تعالى . وفي الترمذي عن علي بن أبي طالب قال : ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء { قال : هذا حديث حسن غريب .48 .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ۚ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا
    +/- -/+  
الأية
49
 
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } هذا اللفظ عام في ظاهره ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود . واختلفوا في المعنى الذي زكوا به أنفسهم ; فقال قتادة والحسن : ذلك قولهم : { نحن أبناء الله وأحباؤه } , وقولهم : { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى { وقال الضحاك والسدي : قولهم لا ذنوب لنا وما فعلناه نهارا غفر لنا ليلا وما فعلناه ليلا غفر لنا نهارا , ونحن كالأطفال في عدم الذنوب . وقال مجاهد وأبو مالك وعكرمة : تقديمهم الصغار للصلاة ; لأنهم لا ذنوب عليهم . وهذا يبعد من مقصد الآية . وقال ابن عباس : ذلك قولهم آباؤنا الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا . وقال عبد الله بن مسعود : ذلك ثناء بعضهم على بعض . وهذا أحسن ما قيل ; فإنه الظاهر من معنى الآية , والتزكية : التطهير والتبرية من الذنوب . الثانية : هذه الآية وقوله تعالى : { فلا تزكوا أنفسكم } [ النجم : 32 ] يقتضي الغض من المزكي لنفسه بلسانه , والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل فلا عبرة بتزكية الإنسان نفسه , وإنما العبرة بتزكية الله له . وفي صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : سميت ابنتي برة ; فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم , وسميت برة ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم )  فقالوا : بم نسميها ؟ فقال : ( سموها زينب )  . فقد دل الكتاب والسنة على المنع من تزكية الإنسان نفسه , ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه الديار المصرية من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية ; كزكي الدين ومحيي الدين وما أشبه ذلك , لكن لما كثرت قبائح المسمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها فصارت لا تفيد شيئا . الثالثة : فأما تزكية الغير ومدحه له ; ففي البخاري من حديث أبي بكرة أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ويحك قطعت عنق صاحبك - يقوله مرارا - إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله ولا يزكي على الله أحدا )  فنهى صلى الله عليه وسلم أن يفرط في مدح الرجل بما ليس فيه فيدخله في ذلك الإعجاب والكبر , ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة فيحمله ذلك على تضييع العمل وترك الازدياد من الفضل ; ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ( ويحك قطعت عنق صاحبك )  . وفي الحديث الآخر ( قطعتم ظهر الرجل )  حين وصفوه بما ليس فيه . وعلى هذا تأول العلماء قوله صلى الله عليه وسلم : ( احثوا التراب في وجوه المداحين )  إن المراد به المداحون في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم , حتى يجعلوا ذلك بضاعة يستأكلون به الممدوح ويفتنونه ; فأما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود ليكون منه ترغيبا له في أمثاله وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه فليس بمداح , وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه . وهذا راجع إلى النيات { والله يعلم المفسد من المصلح } . وقد مدح صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجوه المداحين التراب , ولا أمر بذلك . كقول أبي طالب : وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل وكمدح العباس وحسان له في شعرهما , ومدحه كعب بن زهير , ومدح هو أيضا أصحابه فقال : ( إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع )  . وأما قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث : ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم وقولوا : عبد الله ورسوله )  فمعناه لا تصفوني بما ليس في من الصفات تلتمسون بذلك مدحي , كما وصفت النصارى عيسى بما لم يكن فيه , فنسبوه إلى أنه ابن الله فكفروا بذلك وضلوا . وهذا يقتضي أن من رفع امرأ فوق حده وتجاوز مقداره بما ليس فيه فمعتد آثم ; لأن ذلك لو جاز في أحد لكان أولى الخلق بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا الضمير في { يظلمون } عائد على المذكورين ممن زكى نفسه وممن يزكيه الله عز وجل . وغير هذين الصنفين علم أن الله تعالى لا يظلمه من غير هذه الآية . والفتيل الخيط الذي في شق نواة التمرة ; قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد . وقيل : القشرة التي حول النواة بينها وبين البسرة . وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك والسدي : هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما ; فهو فعيل بمعنى مفعول . وهذا كله يرجع إلى كناية عن تحقير الشيء وتصغيره , وأن الله لا يظلمه شيئا . ومثل هذا في التحقير قوله تعالى : { ولا يظلمون نقيرا } [ النساء : 124 ] وهو النكتة التي في ظهر النواة , ومنه تنبت النخلة , وسيأتي . قال الشاعر يذم بعض الملوك : تجمع الجيش ذا الألوف وتغزو ثم لا ترزأ العدو فتيلا .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ۖ وَكَفَىٰ بِهِ إِثْمًا مُبِينًا
    +/- -/+  
الأية
50
 
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ثم عجب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال : { انظر كيف يفترون على الله الكذب { في قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه . وقيل : تزكيتهم لأنفسهم ; عن ابن جريج . وروي أنهم قالوا : ليس لنا ذنوب إلا كذنوب أبنائنا يوم تولد . والافتراء الاختلاق ; ومنه افترى فلان على فلان أي رماه بما ليس فيه . وفريت الشيء قطعته . وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا نصب على البيان . والمعنى تعظيم الذنب وذمه . العرب تستعمل مثل ذلك في المدح والذم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا
    +/- -/+  
الأية
51
 
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يعني اليهود يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ اختلف أهل التأويل في تأويل الجبت والطاغوت ; فقال ابن عباس وابن جبير وأبو العالية : الجبت الساحر بلسان الحبشة , والطاغوت الكاهن . وقال الفاروق عمر رضي الله عنه : الجبت السحر والطاغوت الشيطان . ابن مسعود : الجبت والطاغوت هاهنا كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب . عكرمة : الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف ; دليله قول تعالى : { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } [ النساء : 60 ] . قتادة : الجبت الشيطان والطاغوت الكاهن . وروى ابن وهب عن مالك بن أنس : الطاغوت ما عبد من دون الله . قال : وسمعت من يقول إن الجبت الشيطان ; ذكره النحاس . وقيل : هما كل معبود من دون الله , أو مطاع في معصية الله ; وهذا حسن . وأصل الجبت الجبس وهو الذي لا خير فيه , فأبدلت التاء من السين ; قاله قطرب . وقيل : الجبت إبليس والطاغوت أولياؤه . وقول مالك في هذا الباب حسن ; يدل عليه قوله تعالى : { أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [ النحل : 36 ] وقال تعالى : { والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها } [ الزمر : 17 ] . وروى قطن بن المخارق عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الطرق والطيرة والعيافة من الجبت )  . الطرق الزجر , والعيافة الخط ; خرجه أبو داود في سننه . وقيل : الجبت كل ما حرم الله , الطاغوت كل ما يطغي الإنسان . والله أعلم . وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أي يقول اليهود لكفار قريش أنتم أهدى سبيلا من الذين آمنوا بمحمد . وذلك أن كعب بن الأشرف خرج في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم , فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه , ونزلت اليهود في دور قريش فتعاقدوا وتعاهدوا ليجتمعن على قتال محمد ; فقال أبو سفيان : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم , ونحن أميون لا نعلم , فأينا أهدى سبيلا وأقرب إلى الحق . نحن أم محمد ؟ فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ ۖ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا
    +/- -/+  
الأية
52
 
بين أن السبب في نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترائهم ; وهذا هو الجزاء على الذنب بأعظم منه . وأصل اللعن في كلام العرب الطرد والإبعاد . ويقال للذئب : لعين . وللرجل الطريد : لعين ; وقال الشماخ : ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين ووجه الكلام : مقام الذئب اللعين كالرجل ; فالمعنى أبعدهم الله من رحمته . وقيل : من توفيقه وهدايته . وقيل : من كل خير ; .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا
    +/- -/+  
الأية
53
 
{ أم لهم نصيب من الملك { أي ألهم ؟ والميم صلة .{ نصيب { حظ { من الملك { وهذا على وجه الإنكار ; يعني ليس لهم من الملك شيء , ولو كان لهم منه شيء لم يعطوا أحدا منه شيئا لبخلهم وحسدهم . وقيل : المعنى بل ألهم نصيب ; فتكون أم منقطعة ومعناها الإضراب عن الأول والاستئناف للثاني . وقيل : هي عاطفة على محذوف ; لأنهم أنفوا من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم . والتقدير : أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته أم لهم نصيب من الملك ؟ .{ فإذا لا يؤتون الناس نقيرا { أي يمنعون الحقوق . خبر الله عز وجل عنهم بما يعلمه منهم . والنقير : النكتة في ظهر النواة , عن ابن عباس وقتادة وغيرهما . وعن ابن عباس أيضا : النقير : ما نقر الرجل بأصبعه كما ينقر الأرض . وقال أبو العالية : سألت ابن عباس عن النقير فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم رفعهما وقال : هذا النقير . والنقير : أصل خشبة ينقر وينبذ فيه ; وفيه جاء النهي ثم نسخ . وفلان كريم النقير أي الأصل . و { إذا { هنا ملغاه غير عاملة لدخول فاء العطف عليها , ولو نصب لجاز . قال سيبويه : { إذا { في عوامل الأفعال بمنزلة { أظن { في عوامل الأسماء , أي تلغى إذا لم يكن الكلام معتمدا عليها , فإن كانت في أول الكلام وكان الذي بعدها مستقبلا نصبت ; كقولك : أنا أزورك فيقول مجيبا لك : إذا أكرمك . قال عبد الله بن عنمة الضبي : ش اردد حمارك لا يرتع بروضتنا و إذن يرد وقيد العير مكروب ش نصب لأن الذي قبل { إذن { تام فوقعت ابتداء كلام . فإن وقعت متوسطة بين شيئين كقولك . زيد إذا يزورك ألغيت ; فإن دخل عليها فاء العطف أو واو العطف فيجور فيها الإعمال والإلغاء ; أما الأعمال فلأن ما بعد الواو يستأنف على طريق عطف الجملة على الجملة , فيجوز في غير القرآن فإذا لا يؤتوا . وفي التنزيل { وإذا لا يلبثون } [ الإسراء : 76 ] وفي مصحف أبي { وإذا لا يلبثوا } . وأما الإلغاء فلأن ما بعد الواو لا يكون إلا بعد كلام يعطف عليه , والناصب للفعل عند سيبويه { إذا { لمضارعتها { أن } , وعند الخليل أن مضمرة بعد إذا . وزعم الفراء أن إذا تكتب بالألف وأنها منونة . قال النحاس : وسمعت علي بن سليمان يقول : سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول : أشتهي أن أكوي يد من يكتب إذا بالألف ; إنها مثل لن وإن , ولا يدخل التنوين في الحروف .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا
    +/- -/+  
الأية
54
 
أَمْ يَحْسُدُونَ يعني اليهود . النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ { الناس { يعني النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ; عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما . حسدوه على النبوة وأصحابه على الإيمان به . وقال قتادة : { الناس { العرب , حسدتهم اليهود على النبوة . الضحاك : حسدت اليهود قريشا ; لأن النبوة فيهم . والحسد مذموم وصاحبه مغموم وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ; رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال الحسن : ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد ; نفس دائم , وحزن لازم , وعبرة لا تنفد . وقال عبد الله بن مسعود : لا تعادوا نعم الله . قيل له : ومن يعادي نعم الله ؟ قال : الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله , يقول الله تعالى في بعض الكتب : الحسود عدو نعمتي متسخط لقضائي غير راض بقسمتي . ولمنصور الفقيه : ألا قل لمن ظل لي حاسدا أتدري على من أسأت الأدب أسأت على الله في حكمه إذا أنت لم ترض لي ما وهب ويقال : الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء , وأول ذنب عصي به في الأرض ; فأما في السماء فحسد إبليس لآدم , وأما في الأرض فحسد قابيل لهابيل . ولأبي العتاهية في الناس : فيا رب إن الناس لا ينصفونني فكيف ولو أنصفتهم ظلموني وإن كان لي شيء تصدوا لأخذه وإن شئت أبغي شيئهم منعوني وإن نالهم بذلي فلا شكر عندهم وإن أنا لم أبذل لهم شتموني وإن طرقتني نكبة فكهوا بها وإن صحبتني نعمة حسدوني سأمنع قلبي أن يحن إليهمو وأحجب عنهم ناظري وجفوني وقيل : إذا سرك أن تسلم من الحاسد فغم عليه أمرك . ولرجل من قريش : حسدوا النعمة لما ظهرت فرموها بأباطيل الكلم وإذا ما الله أسدى نعمة لم يضرها قول أعداء النعم ولقد أحسن من قال : اصبر على حسد الحسو د فإن صبرك قاتله فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله وقال بعض أهل التفسير في قول الله تعالى : { ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين } [ فصلت : 29 ] . إنه إنما أراد بالذي من الجن إبليس والذي من الإنس قابيل ; وذلك أن إبليس كان أول من سن الكفر , وقابيل كان أول من سن القتل , وإنما كان أصل ذلك كله الحسد . وقال الشاعر : إن الغراب وكان يمشي مشية فيما مضى من سالف الأحوال حسد القطاة فرام يمشي مشيها فأصابه ضرب من التعقال فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ثم أخبر تعالى أنه آتى آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتاهم ملكا عظيما . قال همام بن الحارث : أيدوا بالملائكة . وقيل : يعني ملك سليمان ; عن ابن عباس . وعنه أيضا : المعنى أم يحسدون محمدا على ما أحل الله له من النساء فيكون الملك العظيم على هذا أنه أحل لداود تسعا وتسعين امرأة ولسليمان أكثر من ذلك . واختار الطبري أن يكون المراد ما أوتيه سليمان من الملك وتحليل النساء . والمراد تكذيب اليهود والرد عليهم في قولهم : لو كان نبيا ما رغب في كثرة النساء ولشغلته النبوة عن ذلك ; فأخبر الله تعالى بما كان لداود وسليمان يوبخهم , فأقرت اليهود أنه اجتمع عند سليمان ألف امرأة , فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألف امرأة )  ؟ ! قالوا : نعم ثلاثمائة مهرية , وسبعمائة سرية , وعند داود مائة امرأة . فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألف عند رجل ومائة عند رجل أكثر أو تسع نسوة )  ؟ فسكتوا . وكان له يومئذ تسع نسوة . يقال : إن سليمان عليه السلام كان أكثر الأنبياء نساء . والفائدة في كثرة تزوجه أنه كان له قوة أربعين نبيا , وكل من كان أقوى فهو أكثر نكاحا . ويقال : إنه أراد بالنكاح كثرة العشيرة ; لأن لكل امرأة قبيلتين قبيلة من جهة الأب وقبيلة من جهة الأم ; فكلما تزوج امرأة صرف وجوه القبيلتين إلى نفسه فتكون عونا له على أعدائه . ويقال : إن كل من كان أتقى فشهوته أشد ; لأن الذي لا يكون تقيا فإنما يتفرج بالنظر والمس , ألا ترى ما روي في الخبر : ( العينان تزنيان واليدان تزنيان )  . فإذا كان في النظر والمس نوع من قضاء الشهوة قل الجماع , والمتقي لا ينظر ولا يمس فتكون الشهوة مجتمعة في نفسه فيكون أكثر جماعا . وقال أبو بكر الوراق : كل شهوة تقسي القلب إلا الجماع فإنه يصفي القلب ; ولهذا كان الأنبياء يفعلون ذلك .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ ۚ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا
    +/- -/+  
الأية
55
 
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ يعني بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه تقدم ذكره وهو المحسود . وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا { ومنهم من صد عنه { أعرض فلم يؤمن به . وقيل : الضمير في { به { راجع إلى إبراهيم . والمعنى : فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من صد عنه . وقيل : يرجع إلى الكتاب . والله أعلم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا
    +/- -/+  
 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ۖ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا
    +/- -/+  
الأية
57
 
يعني كثيفا لا شمس فيه . الحسن : وصف بأنه ظليل ; لأنه لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحر والسموم ونحو ذلك . وقال الضحاك : يعني ظلال الأشجار وظلال قصورها الكلبي : { ظلا ظليلا { يعني دائما .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ۗ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا
    +/- -/+  
الأية
58
 
إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا هذه الآية من أمهات الأحكام تضمنت جميع الدين والشرع . وقد اختلف من المخاطب بها ; فقال علي بن أبي طالب وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب وابن زيد : هذا خطاب لولاة المسلمين خاصة , فهي للنبي صلى الله عليه وسلم وأمرائه , ثم تتناول من بعدهم . وقال ابن جريج وغيره : ذلك خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة في أمر مفتاح الكعبة حين أخذه من عثمان بن أبي طلحة الحجبي العبدري من بني عبد الدار ومن ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وكانا كافرين وقت فتح مكة , فطلبه العباس بن عبد المطلب لتنضاف له السدانة إلى السقاية ; فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فكسر ما كان فيها من الأوثان , وأخرج مقام إبراهيم ونزل عليه جبريل بهذه الآية . قال عمر بن الخطاب : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية , وما كنت سمعتها قبل منه , فدعا عثمان وشيبة فقال : ( خذاها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم )  . وحكى مكي : أن شيبة أراد ألا يدفع المفتاح , ثم دفعه , وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : خذه بأمانة الله . وقال ابن عباس : الآية في الولاة خاصة في أن يعظوا النساء في النشوز ونحوه ويردوهن إلى الأزواج . والأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات والعدل في الحكومات . وهذا اختيار الطبري . وتتناول من دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك , كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه ; والصلاة والزكاة وسائر العبادات أمانة الله تعالى . وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها )  أو قال : ( كل شيء إلا الأمانة - والأمانة في الصلاة والأمانة في الصوم والأمانة في الحديث وأشد ذلك الودائع )  . ذكره أبو نعيم الحافظ في الحلية . وممن قال إن الآية عامة في الجميع البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب قالوا : الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع , وقال ابن عباس : لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة . قلت : وهذا إجماع . وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار منهم والفجار ; قاله ابن المنذر . والأمانة مصدر بمعنى المفعول فلذلك جمع . ووجه النظم بما تقدم أنه تعالى أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد صلى الله عليه وسلم , وقولهم : إن المشركين أهدى سبيلا , فكان ذلك خيانة منهم فانجر الكلام إلى ذكر جميع الأمانات ; فالآية شاملة بنظمها لكل أمانة وهي أعداد كثيرة كما ذكرنا . وأمهاتها في الأحكام : الوديعة واللقطة والرهن والعارية . وروى أبي بن كعب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك )  . أخرجه الدارقطني . ورواه أنس وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم في { البقرة { معناه . وروى أبو أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع : ( العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم )  . صحيح أخرجه الترمذي وغيره . وزاد الدارقطني : فقال رجل : فعهد الله ؟ قال : ( عهد الله أحق ما أدي )  . وقال بمقتضى هذه الآية والحديث في رد الوديعة وأنها مضمونة على كل حال كانت مما يغاب عليها أو لا يغاب تعدى فيها أو لم يتعد - عطاء والشافعي وأحمد وأشهب . وروي أن ابن عباس وأبا هريرة رضي الله عنهما ضمنا الوديعة . وروى ابن القاسم عن مالك أن من استعار حيوانا أو غيره مما لا يغاب عليه فتلف عنده فهو مصدق في تلفه ولا يضمنه إلا بالتعدي . وهذا قول الحسن البصري والنخعي , وهو قول الكوفيين والأوزاعي قالوا : ومعنى قول عليه السلام : ( العارية مؤداة )  هو كمعنى قوله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } . فإذا تلفت الأمانة لم يلزم المؤتمن غرمها لأنه مصدق فكذلك العارية إذا تلفت من غير تعد ; لأنه لم يأخذها على الضمان , فإذا تلفت بتعديه عليها لزمه قيمتها لجنايته عليها . وروي عن علي وعمر وابن مسعود أنه لا ضمان في العارية . وروى الدارقطني عن عمرو بن شعيب , عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا ضمان على مؤتمن )  . واحتج الشافعي فيما استدل به بقول صفوان للنبي صلى الله عليه وسلم لما استعار منه الأدراع : أعارية مضمونة أو عارية مؤداة ؟ فقال : ( بل عارية مؤداة )  . وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ قال الضحاك : بالبينة على المدعي واليمين على من أنكر . وهذا خطاب للولاة والأمراء والحكام , ويدخل في ذلك بالمعنى جميع الخلق كما ذكرنا في أداء الأمانات . قال صلى الله عليه وسلم : ( إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا )  . وقال : ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته والرجل راع على أهله وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسئولة عنه والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته )  . فجعل في هذه الأحاديث الصحيحة كل هؤلاء رعاة : وحكاما على مراتبهم , وكذلك العالم الحاكم ; لأنه إذا أفتى حكم وقضى وفصل بين الحلال والحرام , والفرض والندب , والصحة والفساد , فجميع ذلك أمانة تؤدى وحكم يقضى . إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ القراء في قول { فنعما هي { فقرأ أبو عمرو ونافع في رواية ورش وعاصم في رواية حفص وابن كثير { فنعما هي { بكسر النون والعين . وقرأ أبو عمرو أيضا ونافع في غير رواية ورش وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل { فنعما { بكسر النون وسكون العين . وقرأ الأعمش وابن عامر وحمزة والكسائي { فنعما { بفتح النون وكسر العين , وكلهم سكن الميم . ويجوز في غير القرآن فنعم ما هي . قال النحاس : ولكنه في السواد متصل فلزم الإدغام . وحكى النحويون في { نعم { أربع لغات : نعم الرجل زيد , هذا الأصل . ونعم الرجل , بكسر النون لكسر العين . ونعم الرجل , بفتح النون وسكون العين , والأصل نعم حذفت الكسرة لأنها ثقيلة . ونعم الرجل , وهذا أفضل اللغات , والأصل فيها نعم . وهي تقع في كل مدح , فخففت وقلبت كسرة العين على النون وأسكنت العين , فمن قرأ { فنعما هي { فله تقديران : أحدهما أن يكون جاء به على لغة من يقول نعم . والتقدير الآخر أن يكون على , اللغة الجيدة , فيكون الأصل نعم , ثم كسرت العين لالتقاء الساكنين . قال النحاس : فأما الذي حكي عن أبي عمرو ونافع من إسكان العين فمحال . حكي عن محمد بن يزيد أنه قال : أما إسكان العين والميم مشددة فلا يقدر أحد أن ينطق به , وإنما يروم الجمع بين ساكنين ويحرك ولا يأبه . وقال أبو علي : من قرأ بسكون العين لم يستقم قوله ; لأنه جمع بين ساكنين الأول منهما ليس بحرف مد ولين وإنما يجوز ذلك عند النحويين إذا كان الأول حرف مد , إذ المد يصير عوضا من الحركة , وهذا نحو دابة وضوال ونحوه . ولعل أبا عمرو أخفى الحركة واختلسها كأخذه بالإخفاء في { بارئكم - و - يأمركم { فظن السامع الإخفاء إسكانا للطف ذلك في السمع وخفائه . قال أبو علي : وأما من قرأ { نعما { بفتح النون وكسر العين فإنما جاء بالكلمة على أصلها ومنه قول الشاعر : ما أقلت قدماي إنهم نعم الساعون في الأمر المبر إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا وصف الله تعالى نفسه بأنه سميع بصير يسمع ويرى ; كما قال تعالى : { إنني معكما أسمع وأرى } [ طه : 46 ] فهذا طريق السمع . والعقل يدل على ذلك ; فإن انتفاء السمع والبصر يدل على نقيضيهما من العمى والصمم , إذ المحل القابل للضدين لا يخلو من أحدهما , وهو تعالى مقدس عن النقائص ويستحيل صدور الأفعال الكاملة من المتصف , بالنقائص ; كخلق السمع والبصر ممن ليس له سمع ولا بصر . وأجمعت الأمة على تنزيهه تعالى عن النقائص وهو أيضا دليل سمعي يكتفى به مع نص القرآن في مناظرة من تجمعهم كلمة الإسلام . جل الرب تبارك وتعالى عما يتوهمه المتوهمون ويختلقه المفترون الكاذبون { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } [ الصافات : 180 ] .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا
    +/- -/+  
الأية
59
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة وبدأ بهم فأمرهم بأداء الأمانات وأن يحكموا بين الناس بالعدل , تقدم في هذه الآية إلى الرعية فأمر بطاعته جل وعز أولا , وهي امتثال أوامره واجتناب نواهيه , ثم بطاعة رسوله ثانيا فيما أمر به ونهى عنه , ثم بطاعة الأمراء ثالثا ; على قول الجمهور وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم . قال سهل بن عبد الله التستري : أطيعوا السلطان في سبعة : ضرب الدراهم والدنانير , والمكاييل والأوزان , والأحكام والحج والجمعة والعيدين والجهاد . قال سهل : وإذا نهى السلطان العالم أن يفتي فليس له أن يفتي , فإن أفتى فهو عاص وإن كان أميرا جائرا . وقال ابن خويز منداد : وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان له فيه طاعة , ولا تجب فيما كان لله فيه معصية ; ولذلك قلنا : إن ولاة زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم , ويجب الغزو معهم متى غزوا , والحكم من قولهم , وتولية الإمامة والحسبة ; وإقامة ذلك على وجه الشريعة . وإن صلوا بنا وكانوا فسقة من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم , وإن كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهم إلا أن يخافوا فيصلى معهم تقية وتعاد الصلاة . قلت : روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : حق على الإمام أن يحكم بالعدل , ويؤدي الأمانة ; فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه ; لأن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل , ثم أمر بطاعته . وقال جابر بن عبد الله ومجاهد : { أولو الأمر { أهل القرآن والعلم ; وهو اختيار مالك رحمه الله , ونحوه قول الضحاك قال : يعني الفقهاء والعلماء في الدين . وحكي عن مجاهد أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة . وحكى عن عكرمة أنها إشارة إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما خاصة . وروى سفيان بن عيينة عن الحكم بن أبان أنه سأل عكرمة عن أمهات الأولاد فقال : هن حرائر . فقلت بأي شيء ؟ قال بالقرآن . قلت : بأي شيء في القرآن ؟ قال : قال الله تعالى : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم { وكان عمر من أولي الأمر ; قال : عتقت ولو بسقط . وسيأتي هذا المعنى مبينا في سورة { الحشر { عند قوله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [ الحشر : 7 ] . وقال ابن كيسان : هم أولو العقل , الرأي الذين يدبرون أمر الناس . قلت : وأصح هذه الأقوال الأول والثاني ; أما الأول فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم . وروى الصحيحان عن ابن عباس قال : نزل { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم { في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية . قال أبو عمر : وكان في عبد الله بن حذافة دعابة معروفة ; ومن دعابته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره على سرية فأمرهم أن يجمعوا حطبا ويوقدوا نارا ; فلما أوقدوها أمرهم بالتقحم فيها , فقال لهم : ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعتي ؟ ! وقال : ( من أطاع أميري فقد أطاعني )  . فقالوا : ما آمنا بالله واتبعنا رسوله إلا لننجو من النار ! فصوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلهم وقال : ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق قال الله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] ) . وهو حديث صحيح الإسناد مشهور . وروى محمد بن عمرو بن علقمة عن عمر بن الحكم بن ثوبان أن أبا سعيد الخدري قال : كان عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي من أصحاب بدر وكانت فيه دعابة . وذكر الزبير قال : حدثني عبد الجبار بن سعيد عن عبد الله بن وهب عن الليث بن سعد قال : بلغني أنه حل حزام راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره , حتى كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع . قال ابن وهب : فقلت لليث ليضحكه ؟ قال : نعم كانت فيه دعابة . قال ميمون بن مهران ومقاتل والكلبي : { أولوا الأمر { أصحاب السرايا . وأما القول الثاني فيدل على صحته قوله تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } . فأمر تعالى برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم , وليس لغير العلماء معرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة ; ويدل هذا على صحة كون سؤال العلماء واجبا , وامتثال فتواهم لازما . قال سهل بن عبد الله رحمه الله : لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء ; فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم , وإذا استخفوا بهذين أفسد دنياهم وأخراهم . وأما القول الثالث فخاص , وأخص منه القول الرابع . وأما الخامس فيأباه ظاهر اللفظ وإن كان المعنى صحيحا , فإن العقل لكل فضيلة أس , ولكل أدب ينبوع , وهو الذي جعله الله للدين أصلا وللدنيا عمادا , فأوجب الله التكليف بكماله , وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه ; والعاقل أقرب إلى ربه تعالى من جميع المجتهدين بغير عقل وروى هذا المعنى عن ابن عباس . وزعم قوم أن المراد بأولي الأمر علي والأئمة المعصومون . ولو كان كذلك ما كان لقوله : { فردوه إلى الله والرسول { معنى , بل كان يقول فردوه إلى الإمام وأولي الأمر , فإن قوله عند هؤلاء هو المحكم على الكتاب والسنة . وهذا قول مهجور مخالف لما عليه الجمهور . وحقيقة الطاعة امتثال الأمر , كما أن المعصية ضدها وهي مخالفة الأمر . والطاعة مأخوذة من أطاع إذا انقاد , والمعصية مأخوذة من عصى إذا اشتد . و { أولو } واحدهم { ذو { على غير قياس كالنساء والإبل والخيل , كل واحد اسم الجمع ولا واحد له من لفظه . وقد قيل في واحد الخيل : خائل وقد تقدم . مِنْكُمْ فَإِنْ أي تجادلتم واختلفتم ; فكأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويذهبها . والنزع الجذب . والمنازعة مجاذبة الحجج ; ومنه الحديث ( وأنا أقول ما لي ينازعني القرآن )  . وقال الأعشى : نازعتهم قضب الريحان متكئا وقهوة مزة راووقها خضل الخضل النبات الناعم والخضيلة الروضة تَنَازَعْتُمْ فِي أي من أمر دينكم . شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ أي ردوا ذلك الحكم إلى كتاب الله أو إلى رسوله بالسؤال في حياته , أو بالنظر في سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ; هذا قول مجاهد والأعمش وقتادة , وهو الصحيح . ومن لم ير هذا اختل إيمانه ; لقوله تعالى : { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } . وقيل : المعنى قولوا الله ورسوله أعلم ; فهذا هو الرد . وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل . والقول الأول أصح ; لقول علي رضي الله عنه : ما عندنا إلا ما في كتاب الله وما في هذه الصحيفة , أو فهم أعطيه رجل مسلم . ولو كان كما قال هذا القائل لبطل الاجتهاد الذي خص به هذه الأمة والاستنباط الذي أعطيها , ولكن تضرب الأمثال ويطلب المثال حتى يخرج الصواب . قال أبو العالية : وذلك قوله تعالى : { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } [ النساء : 83 ] . نعم , ما كان مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه فذلك الذي يقال فيه : الله أعلم . وقد استنبط علي رضي الله عنه مدة أقل الحمل - وهو ستة أشهر - من قوله تعالى : { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } [ الأحقاف : 15 ] وقوله تعالى : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } [ البقرة : 233 ] فإذا فصلنا الحولين من ثلاثين شهرا بقيت ستة أشهر ; ومثله كثير . وفي قوله تعالى : { وإلى الرسول { دليل على أن سنته صلى الله عليه وسلم يعمل بها ويمتثل ما فيها . قال صلى الله عليه وسلم : ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم )  أخرجه مسلم . وروى أبو داود عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه )  . وعن العرباض بن سارية أنه حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس وهو يقول : ( أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر ) . وأخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معدي كرب بمعناه وقال : حديث حسن غريب . والقاطع قوله تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة } [ النور : 63 ] الآية . وسيأتي . الْآخِرِ ذَلِكَ أي ردكم ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة خير من التنازع . خَيْرٌ وَأَحْسَنُ أي مرجعا ; من آل يئول إلى كذا أي صار . وقيل : من ألت الشيء إذا جمعته وأصلحته . فالتأويل جمع معاني ألفاظ أشكلت بلفظ لا إشكال فيه ; يقال : أول الله عليك أمرك أي جمعه . ويجوز أن يكون المعنى وأحسن من تأويلكم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا
    +/- -/+  
الأية
60
 
روى يزيد بن زريع عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال : كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة , فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة . ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم ; لأنه علم أنهم يأخذون الرشوة في أحكامهم ; فلما اجتمعا على أن يحكما كاهنا في جهينة ; فأنزل الله تعالى في ذلك : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك { يعني المنافق ." وما أنزل من قبلك { يعني اليهودي .{ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت { إلى قوله : " ويسلموا تسليما { وقال الضحاك : دعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم , ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف وهو { الطاغوت { ورواه أبو صالح عن ابن عباس قال : كان بين رجل من المنافقين يقال له بشر وبين يهودي خصومة ; فقال اليهودي : انطلق بنا إلى محمد , وقال المنافق : بل إلى كعب بن الأشرف وهو الذي سماه الله { الطاغوت { أي ذو الطغيان فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فلما رأى ذلك المنافق أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي . فلما خرجا قال المنافق : لا أرضى , انطلق بنا إلى أبي بكر ; فحكم لليهودي فلم يرض ذكره الزجاج وقال : انطلق بنا إلى عمر فأقبلا على عمر فقال اليهودي : إنا صرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إلى أبي بكر فلم يرض ; فقال عمر للمنافق : أكذلك هو ؟ قال : نعم . قال : رويدكما حتى أخرج إليكما . فدخل وأخذ السيف ثم ضرب به المنافق حتى برد , وقال : هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله ; وهرب اليهودي , ونزلت الآية , وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أنت الفاروق )  . ونزل جبريل وقال : إن عمر فرق بين الحق والباطل ; فسمي الفاروق . وفي ذلك نزلت الآيات كلها إلى قوله : { ويسلموا تسليما } [ النساء : 65 ] وانتصب : { ضلالا { على المعنى , أي فيضلون ضلالا ; ومثله قوله تعالى : { والله أنبتكم من الأرض نباتا } [ نوح : 17 ] . وقد تقدم هذا المعنى مستوفى .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا
    +/- -/+  
الأية
61
 
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ أي جادلك وخاصمك يا محمد { فيه } , أي في عيسى مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بأنه عبد الله ورسوله . فَقُلْ تَعَالَوْا أي أقبلوا . وضع لمن له جلالة ورفعة ثم صار في الاستعمال لكل داع إلى الإقبال , وسيأتي له مزيد بيان في [ الأنعام ] . نَدْعُ في موضع جزم . أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ دليل على أن أبناء البنات يسمون أبناء ; وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالحسن والحسين وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها وهو يقول لهم : ( إن أنا دعوت فأمنوا )  . وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ أي نتضرع في الدعاء ; عن ابن عباس . أبو عبيدة والكسائي : نلتعن . وأصل الابتهال الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره . قال لبيد : في كهول سادة من قومه نظر الدهر إليهم فابتهل أي اجتهد في إهلاكهم . يقال : بهله الله أي لعنه . والبهل : اللعن . والبهل : الماء القليل . وأبهلته إذا خليته وإرادته . وبهلته أيضا . وحكى أبو عبيدة : بهله الله يبهله بهلة أي لعنه . ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ قال ابن عباس : هم أهل نجران : السيد والعاقب وابن الحارث رؤساؤهم . هذه الآية من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ; لأنه دعاهم إلى المباهلة فأبوا منها ورضوا بالجزية بعد أن أعلمهم كبيرهم العاقب أنهم إن باهلوه اضطرم عليهم الوادي نارا فإن محمدا نبي مرسل , ولقد تعلمون أنه جاءكم بالفصل في أمر عيسى ; فتركوا المباهلة وانصرفوا إلى بلادهم على أن يؤدوا في كل عام ألف حلة في صفر وألف حلة في رجب فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك بدلا من الإسلام . قال كثير من العلماء : إن قوله عليه السلام في الحسن والحسين لما باهل { ندع أبناءنا وأبناءكم { وقوله في الحسن : ( إن ابني هذا سيد )  مخصوص بالحسن والحسين أن يسميا ابني النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهما ; لقوله عليه السلام : ( كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي )  ولهذا قال بعض أصحاب الشافعي فيمن أوصى لولد فلان ولم يكن له ولد لصلبه وله ولد ابن وولد ابنة : إن الوصية لولد الابن دون ولد الابنة ; وهو قول الشافعي . وسيأتي لهذا مزيد بيان في { الأنعام والزخرف { إن شاء الله تعالى .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا
    +/- -/+  
الأية
62
 
أي { فكيف { يكون حالهم , أو { فكيف { يصنعون { إذا أصابتهم مصيبة { أي من ترك الاستعانة بهم , وما يلحقهم من الذل في قوله : { فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا } [ التوبة : 83 ] . وقيل : يريد قتل صاحبهم { بما قدمت أيديهم } وتم الكلام . ثم ابتدأ يخبر عن فعلهم ; وذلك أن عمر لما قتل صاحبهم جاء قومه يطلبون ديته ويحلفون ما نريد بطلب ديته إلا الإحسان وموافقة الحق . وقيل : المعنى ما أردنا بالعدول عنك في المحاكمة إلا التوفيق بين الخصوم , والإحسان بالتقريب في الحكم . ابن كيسان : عدلا وحقا ; نظيرها { وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى } [ التوبة : 107 ] .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا
    +/- -/+  
الأية
63
 
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فقال الله تعالى مكذبا لهم : { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم { قال الزجاج : معناه قد علم الله أنهم منافقون . والفائدة لنا : اعلموا أنهم منافقون . فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ قيل : عن عقابهم . وقيل : عن قبول اعتذارهم وَعِظْهُمْ أي خوفهم . قيل في الملا . وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا أي ازجرهم بأبلغ الزجر في السر والخلاء . الحسن : قل لهم إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلتكم . وقد بلغ القول بلاغة ; ورجل بليغ يبلغ بلسانه كنه ما في قلبه . والعرب تقول : أحمق بلغ وبلغ , أي نهاية في الحماقة . وقيل : معناه يبلغ ما يريد وإن كان أحمق . ويقال : إن قوله تعالى : { فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم { نزل في شأن الذين بنوا مسجد الضرار ; فلما أظهر الله نفاقهم , وأمرهم بهدم المسجد حلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعا عن أنفسهم : ما أردنا ببناء المسجد إلا طاعة الله وموافقة الكتاب .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا
    +/- -/+  
الأية
64
 
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ { من { زائدة للتوكيد . إِلَّا لِيُطَاعَ فيما أمر به ونهى عنه . بِإِذْنِ اللهِ { بعلم الله . وقيل : بتوفيق الله . وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ روى أبو صادق عن علي قال : قدم علينا أعرابي بعدما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام , فرمى بنفسه على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحثا على رأسه من ترابه ; فقال : قلت يا رسول الله فسمعنا قولك , ووعيت عن الله فوعينا عنك , وكان فيما أنزل الله عليك { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم } الآية , وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي . فنودي من القبر إنه قد غفر لك . لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا أي قابلا لتوبتهم , وهما مفعولان لا غير .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
    +/- -/+  
الأية
65
 
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ فيه أربع مسائل : الأولى : قال مجاهد وغيره : المراد بهذه الآية من تقدم ذكره ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت وفيهم نزلت . وقال الطبري : قوله { فلا { رد على ما تقدم ذكره ; تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك , ثم استأنف القسم بقوله : { وربك لا يؤمنون } . وقال غيره : إنما قدم { لا { على القسم اهتماما بالنفي وإظهارا لقوته , ثم كرره بعد القسم تأكيدا للتهمم بالنفي , وكان يصح إسقاط { لا { الثانية ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى , وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي ويذهب معنى الاهتمام . و { شجر { معناه اختلف واختلط ; ومنه الشجر لاختلاف أغصانه . ويقال لعصي الهودج : شجار ; لتداخل بعضها في بعض . قال الشاعر : نفسي فداؤك والرماح شواجر والقوم ضنك للقاء قيام وقال طرفة : وهم الحكام أرباب الهدى وسعاة الناس في الأمر الشجر وقالت طائفة : نزلت في الزبير مع الأنصاري , وكانت الخصومة في سقي بستان ; فقال عليه السلام للزبير : ( اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك )  . فقال الخصم : أراك تحابي ابن عمتك ; فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للزبير : ( اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر )  ونزل : { فلا وربك لا يؤمنون } . الحديث ثابت صحيح رواه البخاري عن علي بن عبد الله عن محمد بن جعفر عن معمر , ورواه مسلم عن قتيبة كلاهما عن الزهري . واختلف أهل هذا القول في الرجل الأنصاري ; فقال بعضهم : هو رجل من الأنصار من أهل بدر . وقال مكي والنحاس : هو حاطب بن أبي بلتعة . وقال الثعلبي والواحدي والمهدوي : هو حاطب . وقيل : ثعلبة بن حاطب . وقيل غيره : والصحيح القول الأول ; لأنه غير معين ولا مسمى ; وكذا في البخاري ومسلم أنه رجل من الأنصار . واختار الطبري أن يكون نزول الآية في المنافق واليهودي . كما قال مجاهد ; ثم تتناول بعمومها قصة الزبير . قال ابن العربي : وهو الصحيح ; فكل من اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم فهو كافر , لكن الأنصاري زل زلة فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأقال عثرته لعلمه بصحة يقينه , وأنها كانت فلتة وليست لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم . وكل من لم يرض بحكم الحاكم وطعن فيه ورده فهي ردة يستتاب . أما إن طعن في الحاكم نفسه لا في الحكم فله تعزيره وله أن يصفح عنه وسيأتي بيان هذا في آخر سورة { الأعراف { إن شاء الله تعالى . الثانية : وإذا كان سبب نزول هذه الآية ما ذكرناه من الحديث ففقهها أنه عليه السلام سلك مع الزبير وخصمه مسلك الصلح فقال : ( اسق يا زبير )  لقربه من الماء ( ثم أرسل الماء إلى جارك )  . أي تساهل في حقك ولا تستوفه وعجل في إرسال الماء إلى جارك . فحضه على المسامحة والتيسير , فلما سمع الأنصاري هذا لم يرض بذلك وغضب ; لأنه كان يريد ألا يمسك الماء أصلا , وعند ذلك نطق بالكلمة الجائرة المهلكة الفاقرة فقال : آن كان ابن عمتك ؟ بمد همزة { أن } المفتوحة على جهة الإنكار ; أي أتحكم له علي لأجل أنه قرابتك ؟ . فعند ذلك تلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم غضبا عليه , وحكم للزبير باستيفاء حقه من غير مسامحة له . وعليه لا يقال : كيف حكم في حال غضبه وقد قال : ( لا يقضي القاضي وهو غضبان )  ؟ فإنا نقول : لأنه معصوم من الخطأ في التبليغ والأحكام , بدليل العقل الدال على صدقه فيما يبلغه عن الله تعالى فليس مثل غيره من الحكام . وفي هذا الحديث إرشاد الحاكم إلى الإصلاح بين الخصوم وإن ظهر الحق . ومنعه مالك , واختلف فيه قول الشافعي . وهذا الحديث حجة واضحة على الجواز ; فإن اصطلحوا وإلا استوفى لذي الحق حقه وثبت الحكم . الثالثة : واختلف أصحاب مالك في صفة إرسال الماء الأعلى إلى الأسفل ; فقال ابن حبيب : يدخل صاحب الأعلى جميع الماء في حائطه ويسقي به , حتى إذا بلغ الماء من قاعة الحائط إلى الكعبين من القائم فيه أغلق مدخل الماء , وصرف ما زاد من الماء على مقدار الكعبين إلى من يليه , فيصنع به مثل ذلك حتى يبلغ السيل إلى أقصى الحوائط . وهكذا فسره لي مطرف وابن الماجشون . وقاله ابن وهب . وقال ابن القاسم : إذا انتهى الماء في الحائط إلى مقدار الكعبين أرسله كله إلى من تحته ولا يحبس منه شيئا في حائطه . قال ابن حبيب : وقول مطرف وابن الماجشون أحب إلي وهم أعلم بذلك ; لأن المدينة دارهما وبها كانت القضية وفيها جرى العمل . الرابعة : روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل مهزور ومذينب : ( يمسك حتى الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل )  . قال أبو عمر : { لا أعلم هذا الحديث يتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه , وأرفع أسانيده ما ذكره محمد بن إسحاق عن أبي مالك بن ثعلبة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه أهل مهزور فقضى أن الماء إذا بلغ الكعبين لم يحبس الأعلى . وذكر عبد الرزاق عن أبي حازم القرطبي عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور أن يحبس على كل حائط حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل . وغيره من السيول كذلك . وسئل أبو بكر البزار عن حديث هذا الباب فقال : لست أحفظ فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا يثبت . قال أبو عمر : في هذا المعنى - وإن لم يكن بهذا اللفظ حديث ثابت مجتمع على صحته . رواه ابن وهب عن الليث بن سعد ويونس بن يزيد جميعا عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة كانا يسقيان بها كلاهما النخل ; فقال الأنصاري : سرح الماء ; فأبى عليه , فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم } وذكر الحديث . قال أبو عمر : وقوله في الحديث : ( يرسل )  وفي الحديث الآخر ( إذا بلغ الماء الكعبين لم يحبس الأعلى )  يشهد لقول ابن القاسم . ومن جهة النظر أن الأعلى لو لم يرسل إلا ما زاد على الكعبين لا يقطع ذلك الماء في أقل مدة , ولم ينته حيث ينتهي إذا أرسل الجميع , وفي إرسال الجميع بعد أخذ الأعلى منه ما بلغ الكعبين أعم فائدة وأكثر نفعا فيما قد جعل الناس فيه شركاء ; فقول ابن القاسم أولى على كل حال . هذا إذا لم يكن أصله ملكا للأسفل مختصا به , فإن ما استحق بعمل أو بملك صحيح أو استحقاق قديم وثبوت ملك فكل على حقه على حسب ما كان من ذلك بيده وعلى أصل مسألته . وبالله التوفيق . ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ أي ضيقا وشكا ; ومنه قيل للشجر الملتف : حرج وحرجة , وجمعها حراج . وقال الضحاك : أي إثما بإنكارهم ما قضيت . وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا أي ينقادوا لأمرك في القضاء . وقال الزجاج : { تسليما { مصدر مؤكد ; فإذا قلت : ضربت ضربا فكأنك قلت لا أشك فيه ; وكذلك { ويسلموا تسليما { أي ويسلموا لحكمك تسليما لا يدخلون على أنفسهم شكا .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ۖ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا
    +/- -/+  
الأية
66
 
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ يعني في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ; لأنهم كانوا يعلمونه فيما يجدون من نعته في كتابهم فحاجوا فيه بالباطل . عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا يعني دعواهم في إبراهيم أنه كان يهوديا أو نصرانيا . والأصل في { ها أنتم { أأنتم فأبدل من الهمزة الأولى هاء لأنها أختها ; عن أبي عمرو بن العلاء والأخفش . قال النحاس : وهذا قول حسن . وقرأ قنبل عن ابن كثير { هأنتم { مثل هعنتم . والأحسن منه أن يكون الهاء بدلا من همزة فيكون أصله أأنتم . ويجوز أن تكون ها للتنبيه دخلت على { أنتم { وحذفت الألف لكثرة الاستعمال . وفي { هؤلاء { لغتان المد والقصر ومن العرب من يقصرها . وأنشد أبو حاتم : لعمرك إنا والأحاليف هاؤلا لفي محنة أظفارها لم تقلم وهؤلاء هاهنا في موضع النداء يعني يا هؤلاء . ويجوز هؤلاء خبر أنتم , على أن يكون أولاء بمعنى الذين وما بعده صلة له . ويجوز أن يكون خبر { أنتم } حاججتم . وقد تقدم هذا في { البقرة { والحمد لله . في الآية دليل على المنع من الجدال لمن لا علم له , والحظر على من لا تحقيق عنده فقال عز وجل : { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } . وقد ورد الأمر بالجدال لمن علم وأيقن فقال تعالى : { وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل : 125 ] . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاه رجل أنكر ولده فقال : يا رسول الله , إن امرأتي ولدت غلاما أسود . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هل لك من إبل )  ؟ قال نعم . قال : ( ما ألوانها )  ؟ قال : حمر : ( هل فيها من أورق )  ؟ قال نعم . قال : ( فمن أين ذلك )  ؟ قال : لعل عرقا نزعه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وهذا الغلام لعل عرقا نزعه )  . وهذا حقيقة الجدال ونهاية في تبيين الاستدلال من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا
    +/- -/+  
الأية
67
 
أي ثوابا في الآخرة . وقيل : اللام لام الجواب , و { إذا { دالة على الجزاء , والمعنى لو فعلوا ما يوعظون به لآتيناهم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا
    +/- -/+  
الأية
68
 
أصل الصراط في كلام العرب الطريق ; قال عامر بن الطفيل : شحنا أرضهم بالخيل حتى تركناهم أذل من الصراط وقال جرير : أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم وقال آخر : فصد عن نهج الصراط الواضح حكى النقاش : الصراط الطريق بلغة الروم ; فقال ابن عطية : وهذا ضعيف جدا . وقرئ : السراط ( بالسين )  من الاستراط بمعنى الابتلاع ; كأن الطريق يسترط من يسلكه . وقرئ بين الزاي والصاد . وقرئ بزاي خالصة والسين الأصل . وحكى سلمة عن الفراء قال : الزراط بإخلاص الزاي لغة لعذرة وكلب وبني القين , قال : وهؤلاء يقولون [ في أصدق ] : أزدق . وقد قالوا الأزد والأسد ولسق به ولصق به . و } الصراط { نصب على المفعول الثاني ; لأن الفعل من الهداية يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف جر ; قال الله تعالى : { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } .[ الصافات : 23 ] . وبغير حرف كما في هذه الآية .{ المستقيم { صفة ل { الصراط { وهو الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ; ومنه قوله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] وأصله مستقوم , نقلت الحركة إلى القاف وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا
    +/- -/+  
الأية
69
 
وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ لما ذكر تعالى الأمر الذي لو فعله المنافقون حين وعظوا به وأنابوا إليه لأنعم عليهم , ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله . وهذه الآية تفسير قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم } [ الفاتحة : 6 - 7 ] وهي المراد في قوله عليه السلام عند موته ( اللهم الرفيق الأعلى )  . وفي البخاري عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة )  كان في شكواه الذي مرض فيه أخذته بحة شديدة فسمعته يقول : ( مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) فعلمت أنه خير . وقالت طائفة : إنما نزلت هذه الآية لما قال عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري - الذي أري الأذان - : يا رسول الله , إذا مت ومتنا كنت في عليين لا نراك ولا نجتمع بك ; وذكر حزنه على ذلك فنزلت هذه الآية . وذكر مكي عن عبد الله هذا وأنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال : اللهم أعمني حتى لا أرى شيئا بعده ; فعمي مكانه . وحكاه القشيري فقال : اللهم أعمني فلا أرى شيئا بعد حبيبي حتى ألقى حبيبي ; فعمي مكانه . وحكى الثعلبي : أنها نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكان شديد الحب له قليل الصبر عنه , فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه , يعرف في وجهه الحزن ; فقال له : ( يا ثوبان ما غير لونك )  فقال : يا رسول الله ما بي ضر ولا وجع , غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك , ثم ذكرت الآخرة وأخاف ألا أراك هناك ; لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك , وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبدا ; فأنزل الله تعالى هذه الآية . ذكره الواحدي عن الكلبي . وأسند عن مسروق قال : قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا , فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا ; فأنزل الله تعالى : { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين } . وفي طاعة الله طاعة رسوله ولكنه ذكره تشريفا لقدره وتنويها باسمه صلى الله عليه وسلم وعلى آله . فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ أي هم معهم في دار واحدة ونعيم واحد يستمتعون برؤيتهم والحضور معهم , لا أنهم يساوونهم في الدرجة ; فإنهم يتفاوتون لكنهم يتزاورون للاتباع في الدنيا والاقتداء . وكل من فيها قد رزق الرضا بحاله , وقد ذهب عنه اعتقاد أنه مفضول . قال الله تعالى : { ونزعنا ما في صدورهم من غل } [ الأعراف : 43 ] . والصديق فعيل , المبالغ في الصدق أو في التصديق , والصديق هو الذي يحقق بفعله ما يقول بلسانه . وقيل : هم فضلاء أتباع الأنبياء الذين يسبقونهم إلى التصديق كأبي بكر الصديق . وقد تقدم في البقرة اشتقاق الصديق ومعنى الشهيد . والمراد هنا بالشهداء عمر وعثمان وعلي , والصالحين سائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين . وَالشُّهَدَاءِ القتلى في سبيل الله . وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا صالحي أمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلت : واللفظ يعم كل صالح وشهيد , والله أعلم . والرفق لين الجانب . وسمي الصاحب رفيقا لارتفاقك بصحبته ; ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض . ويجوز { وحسن أولئك رفقاء } . قال الأخفش : { رفيقا } منصوب على الحال وهو بمعنى رفقاء ; وقال : انتصب على التمييز فوحد لذلك ; فكأن المعنى وحسن كل واحد منهم رفيقا . كما قال تعالى : { ثم نخرجكم طفلا } [ الحج : 5 ] أي نخرج كل واحد منكم طفلا . وقال تعالى : { ينظرون من طرف خفي } [ الشورى : 45 ] وينظر معنى هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم : ( خير الرفقاء أربعة )  ولم يذكر الله تعالى هنا إلا أربعة فتأمله . في هذه الآية دليل على خلافة أبي بكر رضي الله عنه ; وذلك أن الله تعالى لما ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم وهم النبيون , ثم ثنى بالصديقين ولم يجعل بينهما واسطة . وأجمع المسلمون على تسمية أبي بكر الصديق رضي الله عنه صديقا , كما أجمعوا على تسمية محمد عليه السلام رسولا , وإذا ثبت هذا وصح أنه الصديق وأنه ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز أن يتقدم بعده أحد . والله أعلم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللهِ عَلِيمًا
    +/- -/+  
الأية
70
 
أخبر تعالى أنهم لم ينالوا الدرجة . بطاعتهم بل نالوها بفضل الله تعالى وكرمه . خلافا لما قالت المعتزلة : إنما ينال العبد ذلك بفعله . فلما امتن الله سبحانه على أوليائه بما آتاهم من فضله , وكان لا يجوز لأحد أن يثني على نفسه بما لم يفعله دل ذلك على بطلان قولهم . والله أعلم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا
    +/- -/+  
الأية
71
 
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ اللبس الخلط , وقد تقدم في البقرة . ومعنى هذه الآية والتي قبلها معنى ذلك . بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ ويجوز } تكتموا { على جواب الاستفهام . الْحَقَّ وَأَنْتُمْ جملة في موضع الحال .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا
    +/- -/+  
الأية
72
 
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ يعني المنافقين . والتبطئة والإبطاء التأخر , تقول : ما أبطأك عنا ; فهو لازم . ويجوز بطأت فلانا عن كذا أي أخرته ; فهو متعد . والمعنيان مراد في الآية ; فكانوا يقعدون عن الخروج ويقعدون غيرهم . والمعنى أن من دخلائكم وجنسكم وممن أظهر إيمانه لكم . فالمنافقون في ظاهر الحال من أعداد المسلمين بإجراء أحكام المسلمين عليهم . واللام في قوله { لمن { لام توكيد , والثانية لام قسم , و { من { في موضع نصب , وصلتها { ليبطئن { لأن فيه معنى اليمين , والخبر { منكم } . وقرأ مجاهد والنخعي والكلبي { وإن منكم لمن ليبطئن { بالتخفيف , والمعنى واحد . وقيل : المراد بقوله { وإن منكم لمن ليبطئن { بعض المؤمنين ; لأن الله خاطبهم بقوله : { وإن منكم { وقد فرق الله تعالى بين المؤمنين والمنافقين بقوله { وما هم منكم } [ التوبة : 56 ] وهذا يأباه مساق الكلام وظاهره . وإنما جمع بينهم في الخطاب من جهة الجنس والنسب كما بينا لا من جهه الإيمان . هذا قول الجمهور وهو الصحيح إن شاء الله تعالى , والله أعلم . فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ أي قتل وهزيمة قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا يعني بالقعود , وهذا لا يصدر إلا من منافق ; لا سيما في ذلك الزمان الكريم , بعيد أن يقوله مؤمن . وينظر إلى هذه الآية ما رواه الأئمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إخبارا عن المنافقين ( إن أثقل صلاة عليهم صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا )  الحديث . في رواية ( ولو علم أحدهم أنه يجد عظما سمينا لشهدها )  يعني صلاة العشاء . يقول : لو لاح شيء من الدنيا يأخذونه وكانوا على يقين منه لبادروا إليه .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا
    +/- -/+  
الأية
73
 
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ أي غنيمة وفتح لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ { ليقولن { هذا المنافق قول نادم حاسد { يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما } { كأن لم يكن بينكم وبينه مودة { فالكلام فيه تقديم وتأخير . وقيل : المعنى { ليقولن كأن لم يكن بينكم وبينه مودة { أي كأن لم يعاقدكم على الجهاد . وقيل : هو في موضع نصب على الحال . وقرأ الحسن { ليقولن { بضم اللام على معنى { من } ; لأن معنى قوله { لمن ليبطئن { ليس يعني رجلا بعينه . ومن فتح اللام أعاد فوحد الضمير على لفظ { من } . وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم { كأن لم تكن { بالتاء على لفظ المودة . ومن قرأ بالياء جعل مودة بمعنى الود . يَا لَيْتَنِي كُنْتُ وقول المنافق { يا ليتني كنت معهم { على وجه الحسد أو الأسف على فوت الغنيمة مع الشك في الجزاء من الله . مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا جواب التمني ولذلك نصب . وقرأ الحسن { فأفوز { بالرفع على أنه تمنى الفوز , فكأنه قال : يا ليتني أفوز فوزا عظيما . والنصب على الجواب ; والمعنى إن أكن معهم أفز . والنصب فيه بإضمار { أن } لأنه محمول على تأويل المصدر ; التقدير يا ليتني كان لي حضور ففوز .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۚ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا
    +/- -/+  
الأية
74
 
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : " فليقاتل في سبيل الله { الخطاب للمؤمنين ; أي فليقاتل في سبيل الله الكفار { الذين يشرون { أي يبيعون , أي يبذلون أنفسهم وأموالهم لله عز وجل { بالآخرة { أي بثواب الآخرة . الثانية : قوله تعالى : { ومن يقاتل في سبيل الله { شرط .{ فيقتل أو يغلب { عطف عليه , والمجازاة { فسوف نؤتيه أجرا عظيما } . ومعنى { فيقتل { فيستشهد .{ أو يغلب { يظفر فيغنم . وقرأت طائفة { ومن يقاتل } { فليقاتل { بسكون لام الأمر . وقرأت فرقة { فليقاتل { بكسر لام الأمر . فذكر تعالى غايتي حالة المقاتل واكتفى بالغايتين عما بينهما ; ذكره ابن عطية . الثالثة : ظاهر الآية يقتضي التسوية بين من قتل شهيدا أو انقلب غانما . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة )  وذكر الحديث . وفيه عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم )  . فقوله : ( نائلا ما نال من أجر أو غنيمة )  يقتضي أن لمن يستشهد من المجاهدين أحد الأمرين ; إما الأجر إن لم يغنم , وإما الغنيمة ولا أجر , بخلاف حديث عبد الله بن عمرو , ولما كان هذا قال قوم : حديث عبد الله بن عمرو ليس بشيء ; لأن في إسناده حميد بن هانئ وليس بمشهور , ورجحوا الحديث الأول عليه لشهرته . وقال آخرون : ليس بينهما تعارض ولا اختلاف . و { أو { في حديث أبي هريرة بمعنى الواو , كما يقول الكوفيون وقد دلت عليه رواية أبي داود فإنه قال فيه : ( من أجر وغنيمة )  بالواو الجامعة . وقد رواه بعض رواة مسلم بالواو الجامعة أيضا . وحميد بن هانئ مصري سمع أبا عبد الرحمن الحبلي وعمرو بن مالك , وروى عنه حيوة بن شريح وابن وهب ; فالحديث الأول محمول على مجرد النية والإخلاص في الجهاد ; فذلك الذي ضمن الله له إما الشهادة , وإما رده إلى أهله مأجورا غانما , ويحمل الثاني على ما إذا نوى الجهاد ولكن مع نيل المغنم , فلما انقسمت نيته انحط أجره ; فقد دلت السنة على أن للغانم أجرا كما دل عليه الكتاب فلا تعارض . ثم قيل : إن نقص أجر الغانم على من يغنم إنما هو بما فتح الله عليه من الدنيا فتمتع به وأزال عن نفسه شظف عيشه ; ومن أخفق فلم يصب شيئا بقي على شظف عيشه والصبر على حالته , فبقي أجره موفرا بخلاف الأول . ومثله قوله في الحديث الآخر : ( فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئا - منهم مصعب بن عمير - ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها )  .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا
    +/- -/+  
الأية
75
 
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ حض على الجهاد , وهو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب , ويفتنونهم عن الدين ; فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته وإظهار دينه واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده , وإن كان في ذلك تلف النفوس . وتخليص الأسارى واجب على جماعة المسلمين إما بالقتال وإما بالأموال ; وذلك أوجب لكونها دون النفوس إذ هي أهون منها . قال مالك : واجب على الناس أن يفدوا الأسارى بجميع أموالهم . وهذا لا خلاف فيه ; لقوله عليه السلام ( فكوا العاني )  وقد مضى في { البقرة } . وكذلك قالوا : عليهم أن يواسوهم فإن المواساة دون المفاداة . فإن كان الأسير غنيا فهل يرجع عليه الفادي أم لا ; قولان للعلماء , أصحهما الرجوع . وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ عطف على اسم الله عز وجل , أي وفي سبيل المستضعفين , فإن خلاص المستضعفين من سبيل الله . وهذا اختيار الزجاج وقال الزهري . وقال محمد بن يزيد : أختار أن يكون المعنى وفي المستضعفين فيكون عطفا على السبيل ; أي وفي المستضعفين لاستنقاذهم ; فالسبيلان مختلفان . ويعني بالمستضعفين من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفرة قريش وأذاهم وهم المعنيون بقوله عليه السلام : ( اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعه والمستضعفين من المؤمنين )  . وقال ابن عباس : كنت أنا وأمي من المستضعفين . في البخاري عنه { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان { فقال : كنت أنا وأمي ممن عذر الله , أنا من الولدان وأمي من النساء . الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا القرية هنا مكة بإجماع من المتأولين . ووصفها بالظلم وإن كان الفعل للأهل لعلقة الضمير . وهذا كما تقول : مررت بالرجل الواسعة داره , والكريم أبوه , والحسنة جاريته . وأنما وصف الرجل بها للعلقة اللفظية بينهما وهو الضمير , فلو قلت : مررت بالرجل الكريم عمرو لم تجز المسألة ; لأن الكرم لعمرو فلا يجوز أن يجعل صفة لرجل إلا بعلقة وهي الهاء . ولا تثنى هذه الصفة ولا تجمع , لأنها تقوم مقام الفعل , فالمعنى أي التي ظلم أهلها ولهذا لم يقل الظالمين . وتقول : مررت برجلين كريم أبواهما حسنة جاريتاهما , وبرجال كريم آباؤهم حسنة جواريهم . وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ أي من عندك . وَلِيًّا أي من يستنقذنا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا أي ينصرنا عليهم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا
    +/- -/+  
الأية
76
 
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى { من { رفع بالابتداء وهو شرط . و { أوفى } في موضع جزم . و { اتقى { معطوف عليه , أي واتقى الله ولم يكذب ولم يستحل ما حرم عليه . والهاء في قوله { بعهده { راجعة إلى الله عز وجل . وقد جرى ذكره في قوله } ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون { ويجوز أن تعود على الموفي ومتقي الكفر والخيانة ونقض العهد . والعهد مصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول . فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي يحب أولئك . وقد تقدم معنى حب الله لأوليائه .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا
    +/- -/+  
الأية
77
 
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ روى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا : يا نبي الله , كنا في عز ونحن مشركون , فلما آمنا صرنا أذلة ؟ فقال : ( إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم )  . فلما حول الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا , فنزلت الآية . أخرجه النسائي في سننه , وقاله الكلبي . وقال مجاهد : هم يهود . قال الحسن : هي في المؤمنين ; لقوله : { يخشون الناس { أي مشركي مكة { كخشية الله { فهي على ما طبع عليه البشر من المخافة لا على المخالفة . قال السدي : هم قوم أسلموا قبل فرض القتال فلما فرض كرهوه . وقيل : هو وصف للمنافقين ; والمعنى يخشون القتل من المشركين كما يخشون الموت من الله .{ أو أشد خشية { أي عندهم وفي اعتقادهم . قلت : وهذا أشبه بسياق الآية , لقوله : { وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب { أي هلا , ولا يليها إلا الفعل . ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابي كريم يعلم أن الآجال محدودة والأرزاق مقسومة , بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين , يرون الوصول إلى الدار الآجلة خيرا من المقام في الدار العاجلة , على ما هو معروف من سيرتهم رضي الله عنهم . اللهم إلا أن يكون قائله ممن لم يرسخ في الإيمان قدمه , ولا انشرح بالإسلام جنانه , فإن أهل الإيمان متفاضلون فمنهم الكامل ومنهم الناقص , وهو الذي تنفر نفسه عما يؤمر به فيما تلحقه فيه المشقة وتدركه فيه الشدة . والله أعلم . قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا قوله تعالى : { قل متاع الدنيا قليل { ابتداء وخبر . وكذا } والآخرة خير لمن اتقى { أي المعاصي ; وقد مضى القول في هذا في { البقرة { ومتاع الدنيا منفعتها والاستمتاع بلذاتها وسماه قليلا لأنه لا بقاء له . وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( مثلي ومثل الدنيا كراكب قال قيلولة تحت شجرة ثم راح وتركها )  وقد تقدم هذا المعنى في { البقرة { مستوفى .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ۗ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ۖ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا
    +/- -/+  
الأية
78
 
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ قوله تعالى : { أينما تكونوا يدركم الموت { شرط ومجازاة , و { ما } زائدة وهذا الخطاب عام وإن كان المراد المنافقين أو ضعفة المؤمنين الذين قالوا : " لولا أخرتنا إلى أجل قريب { أي إلى أن نموت بآجالنا , وهو أشبه المنافقين كما ذكرنا , لقولهم لما أصيب أهل أحد , قالوا : { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } [ آل عمران : 156 ] فرد الله عليهم { أينما تكونوا يدركم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة } قال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه . وواحد البروج برج , وهو البناء المرتفع والقصر العظيم . قال طرفة يصف ناقة : كأنها برج رومي تكففها بان بشيد وآجر وأحجار وقرأ طلحة بن سليمان { يدرككم { برفع الكاف على إضمار الفاء , وهو قليل لم يأت إلا في الشعر نحو قوله : من يفعل الحسنات الله يشكرها أراد فالله يشكرها . واختلف العلماء وأهل التأويل في المراد بهذه البروج , فقال الأكثر وهو الأصح . إنه أراد البروج في الحصون التي في الأرض المبنية , لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة , فمثل الله لهم بها . وقال قتادة : في قصور محصنة . وقاله ابن جريج والجمهور , ومنه قول عامر بن الطفيل للنبي صلى الله عليه وسلم : هل لك في حصن حصين ومنعة ؟ وقال مجاهد : البروج القصور . ابن عباس : البروج الحصون والآطام والقلاع . ومعنى { مشيدة { مطولة , قاله الزجاج والقتبي . عكرمة : المزينة بالشيد وهو الجص . قال قتادة : محصنة . والمشيد والمشيد سواء , ومنه { وقصر مشيد } [ الحج : 45 ] والتشديد للتكثير . وقيل المشيد المطول , والمشيد المطلي بالشيد . يقال : شاد البنيان وأشاد بذكره . وقال السدي : المراد بالبروج بروج في السماء الدنيا مبنية . وحكى هذا القول مكي عن مالك وأنه قال ألا ترى إلى قوله تعالى : { والسماء ذات البروج } [ البروج : 1 ] و { جعل في السماء بروجا } [ الفرقان : 61 ] { ولقد جعلنا في السماء بروجا } [ الحجر : 16 ] . وحكاه ابن العربي أيضا عن ابن القاسم عن مالك . وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال : { في بروج مشيدة } معناه في قصور من حديد . قال ابن عطية : وهذا لا يعطيه ظاهر اللفظ . هذه الآية ترد على القدرية في الآجال , لقوله تعالى : { أينما تكونوا يدركم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة { فعرفهم بذلك أن الآجال متى انقضت فلا بد من مفارقة الروح الجسد , كان ذلك بقتل أو موت أو غير ذلك مما أجرى الله العادة بزهوقها به . وقالت المعتزلة : إن المقتول لو لم يقتله القاتل لعاش . وقد تقدم الرد عليهم في { آل عمران { ويأتي فوافقوا بقولهم هذا الكفار والمنافقين . اتخاذ البلاد وبنائها ليمتنع بها في حفظ الأموال والنفوس , وهي سنة الله في عباده . وفي ذلك أدل دليل على رد قول من يقول : التوكل ترك الأسباب , فإن اتخاذ البلاد من أكبر الأسباب وأعظمها وقد أمرنا بها , واتخذها الأنبياء وحفروا حولها الخنادق عدة وزيادة في التمنع . وقد قيل للأحنف : ما حكمة السور ؟ فقال : ليردع السفيه حتى يأتي الحكيم فيحميه . الرابعة : وإذا تنزلنا على قول مالك والسدي في أنها بروج السماء , فبروج الفلك اثنا عشر برجا مشيدة من الرفع , وهي الكواكب العظام . وقيل للكواكب بروج لظهورها , من برج يبرج إذا ظهر وارتفع ; ومنه قوله : { ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } [ الأحزاب : 33 ] وخلقها الله تعالى منازل للشمس والقمر وقدره فيها , ورتب الأزمنة عليها , وجعلها جنوبية وشمالية دليلا على المصالح وعلما على القبلة , وطريقا إلى تحصيل آناء الليل وآناء النهار لمعرفة أوقات التهجد غير ذلك من أحوال المعاش . وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله { أي إن يصب المنافقين خصب قالوا : هذا من عند الله .{ وإن تصبهم سيئة { أي جدب ومحل قالوا : هذا من عندك , أي أصابنا ذلك بشؤمك وشؤم أصحابك . وقيل : الحسنة السلامة والأمن , والسيئة الأمراض والخوف . وقيل : الحسنة الغنى , والسيئة الفقر . وقيل : الحسنة النعمة والفتح والغنيمة يوم بدر , والسيئة البلية والشدة والقتل يوم أحد . وقيل : الحسنة السراء , والسيئة الضراء . هذه أقوال المفسرين وعلماء التأويل - ابن عباس وغيره - في الآية . وأنها نزلت في اليهود والمنافقين , وذلك أنها لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عليهم قالوا : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه . قال ابن عباس : ومعنى { من عندك { أي بسوء تدبيرك . وقيل : { من عندك { بشؤمك , كما ذكرنا , أي بشؤمك الذي لحقنا , قالوه على جهة التطير . قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ أي الشدة والرخاء والظفر والهزيمة من عند الله , أي بقضاء الله وقدره . فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ يعني المنافقين لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا أي ما شأنهم لا يفقهون أن كلا من عند الله .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ۚ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ۚ وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا
    +/- -/+  
الأية
79
 
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ أي ما أصابك يا محمد من خصب ورخاء وصحة وسلامة فبفضل الله عليك وإحسانه إليك , وما أصابك من جدب وشدة فبذنب أتيته عوقبت عليه . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته . أي ما أصابكم يا معشر الناس من خصب واتساع رزق فمن تفضل الله عليكم , وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم ; أي من أجل ذنوبكم وقع ذلك بكم . قاله الحسن والسدي وغيرهما ; كما قال تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } [ الطلاق : 1 ] . وقد قيل : الخطاب للإنسان والمراد به الجنس ; كما قال تعالى : " والعصر إن الإنسان لفي خسر } [ العصر : 1 - 2 ] أي إن الناس لفي خسر , ألا تراه استثنى منهم فقال { إلا الذين آمنوا { ولا يستثنى إلا من جملة أو جماعة . وعلى هذا التأويل يكون قوله { ما أصابك { استئنافا . وقيل : في الكلام حذف تقديره يقولون ; وعليه يكون الكلام متصلا ; والمعنى فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا حتى يقولوا ما أصابك من حسنة فمن الله . وقيل : إن ألف الاستفهام مضمرة ; والمعنى أفمن نفسك ؟ ومثله قوله تعالى : { وتلك نعمة تمنها علي } [ الشعراء : 22 ] والمعنى أوتلك نعمة ؟ وكذا قوله تعالى : { فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي } [ الأنعام : 77 ] أي أهذا ربي ؟ قال أبو خراش الهذلي : رموني وقالوا يا خويلد لم ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم أراد { أهم { فأضمر ألف الاستفهام وهو كثير وسيأتي . قال الأخفش { ما } بمعنى الذي . وقيل : هو شرط . قال النحاس : والصواب قول الأخفش ; لأنه نزل في شيء بعينه من الجدب , وليس هذا من المعاصي في شيء ولو كان منها لكان وما أصبت من سيئة . وروى عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس وأبي وابن مسعود { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك { فهذه قراءة على التفسير , وقد أثبتها بعض أهل الزيغ من القرآن , والحديث بذلك عن ابن مسعود وأبي منقطع ; لأن مجاهدا لم ير عبد الله ولا أبيا . وعلى قول من قال : الحسنة الفتح والغنيمة يوم بدر , والسيئة ما أصابهم يوم أحد ; أنهم عوقبوا عند خلاف الرماة الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحموا ظهره ولا يبرحوا من مكانهم , فرأوا الهزيمة على قريش والمسلمون يغنمون أموالهم فتركوا مصافهم , فنظر خالد بن الوليد ـ وكان مع الكفار يومئذ ـ ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انكشف من الرماة فأخذ سرية من الخيل ودار حتى صار خلف المسلمين وحمل عليهم , ولم يكن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرماة إلا صاحب الراية , حفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف حتى استشهد مكانه ; على ما تقدم في { آل عمران { بيانه . فأنزل الله تعالى نظير هذه الآية وهو قوله تعالى : { أولما أصابتكم مصيبة } [ آل عمران : 165 ] يعني يوم أحد } قد أصبتم مثليها { يعني يوم بدر { قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } . ولا يجوز أن تكون الحسنة هاهنا الطاعة والسيئة المعصية كما قالت القدرية ; إذ لو كان كذلك لكان ما أصبت كما قدمنا , إذ هو بمعنى الفعل عندهم والكسب عندنا , وإنما تكون الحسنة الطاعة والسيئة المعصية في نحو قوله : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها } [ الأنعام : 160 ] وأما في هذه الآية فهي كما تقدم شرحنا له من الخصب والجدب والرخاء والشدة على نحو ما جاء في آية { الأعراف { وهي قوله تعالى : { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون } [ الأعراف : 130 ] .{ بالسنين { بالجدب سنة بعد سنة ; حبس المطر عنهم فنقصت ثمارهم وغلت أسعارهم .{ فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه { أي يتشاءمون بهم ويقولون هذا من أجل اتباعنا لك وطاعتنا إياك ; فرد الله عليهم بقوله : { ألا إنما طائرهم عند الله } [ الأعراف : 131 ] يعني أن طائر البركة وطائر الشؤم من الخير والشر والنفع والضر من الله تعالى لا صنع فيه لمخلوق ; فكذلك قوله تعالى فيما أخبر عنهم أنهم يضيفونه للنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : { وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله { كما قال : { ألا إنما طائرهم عند الله { وكما قال تعالى : { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله } [ آل عمران : 166 ] أي بقضاء الله وقدره وعلمه , وآيات الكتاب يشهد بعضها لبعض . قال علماؤنا : ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يشك في أن كل شيء بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته ; كما قال تعالى : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [ الأنبياء : 35 ] وقال تعالى : { وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال } [ الرعد : 11 ] . مسألة : وقد تجاذب بعض جهال أهل السنة هذه الآية واحتج بها ; كما تجاذبها القدرية واحتجوا بها , ووجه احتجاجهم بها أن القدرية يقولون : إن الحسنة ها هنا الطاعة , والسيئة المعصية ; قالوا : وقد نسب المعصية في قوله تعالى : { وما أصابك من سيئة فمن نفسك { إلى الإنسان دون الله تعالى ; فهذا وجه تعلقهم بها . ووجه تعلق الآخرين منها قوله تعالى : { قل كل من عند الله { قالوا : فقد أضاف الحسنة والسيئة إلى نفسه دون خلقه . وهذه الآية إنما يتعلق بها الجهال من الفريقين جميعا ; لأنهم بنوا ذلك على أن السيئة هي المعصية , وليست كذلك لما بيناه . والله أعلم . والقدرية إن قالوا { ما أصابك من حسنة { أي من طاعة { فمن الله { فليس هذا اعتقادهم ; لأن اعتقادهم الذي بنوا عليه مذهبهم أن الحسنة فعل المحسن والسيئة فعل المسيء . وأيضا فلو كان لهم فيها حجة لكان يقول : ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة ; لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعا , فلا يضاف إليه إلا بفعله لهما لا بفعل غيره . نص على هذه المقالة الإمام أبو الحسن شبيب بن إبراهيم بن محمد بن حيدرة في كتابه المسمى بحز الغلاصم في إفحام المخاصم . وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا مصدر مؤكد , ويجوز أن يكون المعنى ذا رسالة وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا نصب على البيان والباء زائدة , أي كفى الله شهيدا على صدق رسالة نبيه وأنه صادق .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ ۖ وَمَنْ تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا
    +/- -/+  
الأية
80
 
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ أعلم الله تعالى أن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم طاعة له . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من أطاعني فقد أطاع الله ومن يعصني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني )  في رواية . ( ومن أطاع أميري , ومن عصى أميري )  . وَمَنْ تَوَلَّى أي أعرض فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا أي حافظا ورقيبا لأعمالهم , إنما عليك البلاغ . وقال القتبي : محاسبا ; فنسخ الله هذا بآية السيف وأمره بقتال من خالف الله ورسوله .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ۖ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ۖ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلًا
    +/- -/+  
الأية
81
 
وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ قيل : أخذ الله تعالى ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضا ويأمر بعضهم بالإيمان بعضا ; فذلك معنى النصرة بالتصديق . وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة وطاوس والسدي والحسن , وهو ظاهر الآية . قال طاوس : أخذ الله ميثاق الأول من الأنبياء أن يؤمن بما جاء به الآخر . وقرأ ابن مسعود { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } [ آل عمران : 187 ] . قال الكسائي : يجوز أن يكون { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين } بمعنى وإذ أخذ الله ميثاق الذين مع النبيين . وقال البصريون : إذا أخذ الله ميثاق النبيين فقد أخذ ميثاق الذين معهم ; لأنهم قد اتبعوهم وصدقوهم . و { ما { في قوله } لما { بمعنى الذي . قال سيبويه : سألت الخليل بن أحمد عن قوله عز وجل : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة { فقال : لما بمعنى الذي قال النحاس : التقدير على قول الخليل للذي آتيتكموه , ثم حذف الهاء لطول الاسم . و { الذي { رفع بالابتداء وخبره { من كتاب وحكمة } . و { من { لبيان الجنس . وهذا كقول القائل : لزيد أفضل منك ; وهو قول الأخفش أنها لام الابتداء . قال المهدوي : وقوله { ثم جاءكم } وما بعده جملة معطوفة على الصلة , والعائد منها على الموصول محذوف ; والتقدير ثم جاءكم رسول مصدق به . ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ الرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم في قول علي وابن عباس رضي الله عنهما . واللفظ وإن كان نكرة فالإشارة إلى معين ; كقوله تعالى : { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة { إلى قوله : { ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه } [ النحل : 112 - 113 ] فأخذ الله ميثاق النبيين أجمعين أن يؤمنوا بمحمد عليه السلام وينصروه إن أدركوه , وأمرهم أن يأخذوا بذلك الميثاق على أممهم . واللام من قوله { لتؤمنن به { جواب القسم الذي هو أخذ الميثاق , إذ هو بمنزلة الاستحلاف . وهو كما تقول في الكلام : أخذت ميثاقك لتفعلن كذا , كأنك قلت أستحلفك , وفصل بين القسم وجوابه بحرف الجر الذي هو { لما { في قراءة ابن كثير على ما يأتي . ومن فتحها جعلها متلقية للقسم الذي هو أخذ الميثاق . واللام في { لتؤمنن به { جواب قسم محذوف , أي والله لتؤمنن به . وقال المبرد والكسائي والزجاج : { ما { شرط دخلت عليها لام التحقيق كما تدخل على إن , ومعناه لمهما آتيتكم ; فموضع { ما { نصب , وموضع { آتيتكم { جزم , و { ثم جاءكم { معطوف عليه , { لتؤمنن به { اللام في قوله } لتؤمنن به { جواب الجزاء ; كقوله تعالى : { ولئن شئنا لنذهبن } [ الإسراء : 86 ] ونحوه . وقال الكسائي : لتؤمنن به معتمد القسم فهو متصل بالكلام الأول , وجواب الجزاء قوله { فمن تولى بعد ذلك } [ آل عمران : 82 ] . ولا يحتاج على هذا الوجه إلى تقدير عائد . وقرأ أهل الكوفة { لما آتيتكم { بكسر اللام , وهي أيضا بمعنى الذي وهي متعلقة بأخذ , أي أخذ الله ميثاقهم لأجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة ثم إن جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به من بعد الميثاق ; لأن أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف كما تقدم . قال النحاس : ولأبي عبيدة في هذا قول حسن . قال : المعنى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتؤمنن به لما آتيتكم من ذكر التوراة . وقيل : في الكلام حذف , والمعنى إذ أخذ الله ميثاق النبيين لتعلمن الناس لما جاءكم من كتاب وحكمة , ولتأخذن على الناس أن يؤمنوا . ودل على هذا الحذف { وأخذتم على ذلكم إصري } . وقيل : إن اللام في قوله { لما { في قراءة من كسرها بمعنى بعد , يعني بعد ما آتيتكم من كتاب وحكمة ; كما قال النابغة : توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع أي بعد ستة أعوام . وقرأ سعيد بن جبير { لما { بالتشديد , ومعناه حين آتيتكم . واحتمل أن يكون أصلها التخفيف فزيدت { من { على مذهب من يرى زيادتها في الواجب فصارت لمن ما , وقلبت النون ميما للإدغام فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الأولى منهن استخفافا . وقرأ أهل المدينة { آتيناكم { على التعظيم . والباقون { آتيتكم { على لفظ الواحد . ثم كل الأنبياء لم يؤتوا الكتاب وإنما أوتي البعض , ولكن الغلبة للذين أوتوا الكتاب . والمراد أخذ ميثاق جميع الأنبياء فمن لم يؤت الكتاب فهو في حكم من أوتي الكتاب لأنه أوتي الحكم والنبوة . وأيضا من لم يؤت الكتاب أمر بأن يأخذ بكتاب من قبله فدخل تحت صفة من أوتي الكتاب . قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا { أقررتم { من الإقرار , والإصر والأصر لغتان , وهو العهد . والإصر في اللغة الثقل ; فسمي العهد إصرا لأنه منع وتشديد . قَالَ فَاشْهَدُوا قال فاشهدوا { أي اعلموا ; عن ابن عباس . الزجاج : بينوا لأن الشاهد هو الذي يصحح دعوى المدعي . وقيل : المعنى اشهدوا أنتم على أنفسكم وعلى أتباعكم . وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ عليكم وعليهم . وقال سعيد بن المسيب : قال الله عز وجل للملائكة فاشهدوا عليهم , فتكون كناية عن غير مذكور .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا
    +/- -/+  
الأية
82
 
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ثم عاب المنافقين بالإعراض عن التدبر في القرآن والتفكر فيه وفي معانيه . تدبرت الشيء فكرت في عاقبته . وفي الحديث ( لا تدابروا )  أي لا يولي بعضكم بعضا دبره . وأدبر القوم مضى أمرهم إلى آخره . والتدبير أن يدبر الإنسان أمره كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته . ودلت هذه الآية وقوله تعالى : " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } [ محمد : 24 ] على وجوب التدبر في القرآن ليعرف معناه . فكان في هذا رد على فساد قول من قال : لا يؤخذ من تفسيره إلا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم , ومنع أن يتأول على ما يسوغه لسان العرب . وفيه دليل على الأمر بالنظر والاستدلال وإبطال التقليد , وفيه دليل على إثبات القياس . وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا أي تفاوتا وتناقضا ; عن ابن عباس وقتادة وابن زيد . ولا يدخل في هذا اختلاف ألفاظ القراءات وألفاظ الأمثال والدلالات ومقادير السور والآيات . وإنما أراد اختلاف التناقض والتفاوت . وقيل : المعنى لو كان ما تخبرون به من عند غير الله لاختلف . وقيل : إنه ليس من متكلم يتكلم كلاما كثيرا إلا وجد في كلامه اختلاف كثير , إما في الوصف واللفظ ; وإما في جودة المعنى , وإما في التناقض , وإما في الكذب . فأنزل الله عز وجل القرآن وأمرهم بتدبره ; لأنهم لا يجدون فيه اختلافا في وصف ولا ردا له في معنى , ولا تناقضا ولا كذبا فيما يخبرون به من الغيوب وما يسرون .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا
    +/- -/+  
الأية
83
 
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ في { إذا { معنى الشرط ولا يجازى بها وإن زيدت عليها { ما { وهي قليلة الاستعمال . قال سيبويه . والجيد ما قال كعب بن زهير : وإذا ما تشاء تبعث منها مغرب الشمس ناشطا مذعورا يعني أن الجيد لا يجزم بإذا ما كما لم يجزم في هذا البيت , وقد تقدم في أول { البقرة } . والمعنى أنهم إذا سمعوا شيئا من الأمور فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم { أو الخوف { وهو ضد هذا أَذَاعُوا بِهِ أي أفشوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته . فقيل : كان هذا من ضعفة المسلمين ; عن الحسن ; لأنهم كانوا يفشون أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويظنون أنهم لا شيء عليهم في ذلك . وقال الضحاك وابن زيد : هو في المنافقين فنهوا عن ذلك لما يلحقهم من الكذب في الإرجاف . وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ أي لم يحدثوا به ولم يفشوه حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به ويفشيه . أو أولو الأمر وهم أهل العلم والفقه ; عن الحسن وقتادة وغيرهما . السدي وابن زيد : الولاة . وقيل : أمراء السرايا . لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي يستخرجونه , أي لعلموا ما ينبغي أن يفشى منه وما ينبغي أن يكتم . والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء إذا استخرجته . والنبط : الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر أول ما تحفر . وسمي النبط نبطا لأنهم يستخرجون ما في الأرض . والاستنباط في اللغة الاستخراج , وهو يدل على الاجتهاد إذا عدم النص والإجماع كما تقدم . وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ رفع بالابتداء عند سيبويه , ولا يجوز أن يظهر الخبر عنده . والكوفيون يقولون : رفع بلولا . لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا في هذه الآية ثلاثة أقوال ; قال ابن عباس وغيره : المعنى أذاعوا به إلا قليلا منهم لم يذع ولم يفش . وقاله جماعة من النحويين : الكسائي والأخفش وأبو عبيد وأبو حاتم والطبري . وقيل : المعنى لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا منهم ; عن الحسن وغيره , واختاره الزجاج قال : لأن هذا الاستنباط الأكثر يعرفه ; لأنه استعلام خبر . واختار الأول الفراء قال : لأن علم السرايا إذا ظهر علمه المستنبط وغيره , والإذاعة تكون في بعض دون بعض . قال الكلبي عنه : فلذلك استحسنت الاستثناء من الإذاعة . قال النحاس : فهذان قولان على المجاز , يريد أن في الكلام تقديما وتأخيرا . وقول ثالث بغير مجاز : يكون المعنى ولولا فضل الله عليكم ورحمته بأن بعث فيكم رسولا أقام فيكم الحجة لكفرتم وأشركتم إلا قليلا منكم فإنه كان يوحد . وفيه قول رابع - قال الضحاك : المعنى لاتبعتم الشيطان إلا قليلا , أي إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حدثوا أنفسهم بأمر من الشيطان إلا قليلا , يعني الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى . وعلى هذا القول يكون قوله { إلا قليلا { مستثنى من قوله { لاتبعتم الشيطان } . قال المهدوي : وأنكر هذا القول أكثر العلماء , إذ لولا فضل الله ورحمته لاتبع الناس كلهم الشيطان .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا
    +/- -/+  
الأية
84
 
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ هذه الفاء متعلقة بقوله { ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما } [ النساء : 74 ] { فقاتل في سبيل الله { أي من أجل هذا فقاتل . وقيل : هي متعلقة بقوله : { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله . فقاتل } . كأن هذا المعنى : لا تدع جهاد العدو والاستنصار عليهم للمستضعفين من المؤمنين ولو وحدك ; لأنه وعده بالنصر . قال الزجاج : أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد وإن قاتل وحده ; لأنه قد ضمن له النصرة . قال ابن عطية : { هذا ظاهر اللفظ , إلا أنه لم يجئ في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة مدة ما ; فالمعنى والله أعلم أنه خطاب له في اللفظ , وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه ; أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له ; { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك } . ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يجاهد ولو وحده ; ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي )  . وقول أبي بكر وقت الردة : ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي . وقيل : إن هذه الآية نزلت في موسم بدر الصغرى ; فإن أبا سفيان لما انصرف من أحد واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم موسم بدر الصغرى ; فلما جاء الميعاد خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين راكبا فلم يحضر أبو سفيان ولم يتفق قتال . وهذا على معنى ما قاله مجاهد كما تقدم في { آل عمران } . ووجه النظم على هذا والاتصال بما قبل أنه وصف المنافقين بالتخليط وإيقاع الأراجيف , ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وبالجد في القتال في سبيل الله وإن لم يساعده أحد على ذلك . لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ { تكلف { مرفوع لأنه مستقبل , ولم يجزم لأنه ليس علة للأول . وزعم الأخفش أنه يجوز جزمه .{ إلا نفسك } خبر ما لم يسم فاعله ; والمعنى لا تلزم فعل غيرك ولا تؤاخذ به . وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أي حضهم على الجهاد والقتال . يقال : حرضت فلانا على كذا إذا أمرته به . وحارض فلان على الأمر وأكب وواظب بمعنى واحد . عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا إطماع , والإطماع من الله عز وجل واجب . على أن الطمع قد جاء في كلام العرب على الوجوب ; ومنه قوله تعالى : { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } [ الشعراء : 82 ] . وقال ابن مقبل : ظني بهم كعسى وهم بتنوفة يتنازعون جوائز الأمثال إن قال قائل : نحن نرى الكفار في بأس وشدة , وقلتم : إن عسى بمعنى اليقين فأين ذلك الوعد ؟ قيل له : قد وجد هذا الوعد ولا يلزم وجوده على الاستمرار والدوام فمتى وجد ولو لحظة مثلا فقد صدق الوعد ; فكف الله بأس المشركين ببدر الصغرى , وأخلفوا ما كانوا عاهدوه من الحرب والقتال { وكفى الله المؤمنين القتال } [ الأحزاب : 25 ] وبالحديبية أيضا عما راموه من الغدر وانتهاز الفرصة , ففطن بهم المسلمون فخرجوا فأخذوهم أسرة , وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح , وهو المراد بقوله تعالى : { وهو الذي كف أيديهم عنكم } [ الفتح : 24 ] على ما يأتي . وقد ألقى الله في قلوب الأحزاب الرعب وانصرفوا من غير قتل ولا قتال ; كما قال تعالى } وكفى الله المؤمنين القتال } . وخرج اليهود من ديارهم وأموالهم بغير قتال المؤمنين لهم , فهذا كله بأس قد كفه الله عن المؤمنين , مع أنه قد دخل من اليهود والنصارى العدد الكثير والجم الغفير تحت الجزية صاغرين وتركوا المحاربة داخرين , فكف الله بأسهم عن المؤمنين . والحمد لله رب العالمين . وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا أي صولة وأعظم سلطانا وأقدر بأسا على ما يريده . وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أي عقوبة ; عن الحسن وغيره . قال ابن دريد : رماه الله بنكلة , أي رماه بما ينكله . قال : ونكلت بالرجل تنكيلا من النكال . والمنكل الشيء الذي ينكل بالإنسان . قال : وارم على أقفائهم بمنكل .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا ۖ وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا ۗ وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا
    +/- -/+  
الأية
85
 
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : { من يشفع { أصل الشفاعة والشفعة ونحوها من الشفع وهو الزوج في العدد ; ومنه الشفيع ; لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعا . ومنه ناقة شفوع إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة . وناقة شفيع إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها . والشفع ضم واحد إلى واحد . والشفعة ضم ملك الشريك إلى ملكك ; فالشفاعة إذا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك , فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال المنفعة إلى المشفوع له . الثانية : واختلف المتأولون في هذه الآية ; فقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم ; فمن يشفع لينفع فله نصيب , ومن يشفع ليضر فله كفل . وقيل : الشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة , والسيئة في المعاصي . فمن شفع شفاعة حسنة ليصلح بين اثنين استوجب الأجر , ومن سعى بالنميمة والغيبة أثم , وهذا قريب من الأول . وقيل : يعني بالشفاعة الحسنة الدعاء للمسلمين , والسيئة الدعاء عليهم . وفي صحيح الخبر : ( من دعا بظهر الغيب استجيب له وقال الملك آمين ولك بمثل )  . هذا هو النصيب , وكذلك في الشر ; بل يرجع شؤم دعائه عليه . وكانت اليهود تدعو على المسلمين . وقيل : المعنى من يكن شفعا لصاحبه في الجهاد يكن له نصيبه من الأجر , ومن يكن شفعا لآخر في باطل يكن له نصيبه من الوزر . وعن الحسن أيضا : الحسنة ما يجوز في الدين , والسيئة ما لا يجوز فيه . وكأن هذا القول جامع . والكفل الوزر والإثم ; عن الحسن وقتادة . السدي وابن زيد هو النصيب . واشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه لئلا يسقط . يقال : اكتفلت البعير إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه . ويقال له : اكتفل لأنه لم يستعمل الظهر كله بل استعمل نصيبا من الظهر . ويستعمل في النصيب من الخير والشر , وفي كتاب الله تعالى { يؤتكم كفلين من رحمته } [ الحديد : 28 ] . والشافع يؤجر فيما يجوز وإن لم يشفع ; لأنه تعالى قال { من يشفع } ولم يقل يشفع . وفي صحيح مسلم ( اشفعوا تؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما أحب )  . وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا { مقيتا { معناه مقتدرا ; ومنه قول الزبير بن عبد المطلب : وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتا أي قديرا . فالمعنى إن الله تعالى يعطي كل إنسان قوته ; ومنه قوله عليه السلام : ( كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقيت )  . على من رواه هكذا , أي من هو تحت قدرته وفي قبضته من عيال وغيره ; ذكره ابن عطية . يقول منه : قته أقوته قوتا , وأقته أقيته إقاتة فأنا قائت ومقيت . وحكى الكسائي : أقات يقيت . وأما قول الشاعر : .. . إني على الحساب مقيت فقال فيه الطبري : إنه من غير هذا المعنى المتقدم , وإنه بمعنى الموقوف . وقال أبو عبيدة : المقيت الحافظ . وقال الكسائي : المقيت المقتدر . وقال النحاس : وقول أبي عبيدة أولى لأنه مشتق من القوت , والقوت معناه مقدار ما يحفظ الإنسان . وقال الفراء : المقيت الذي يعطي كل رجل قوته . وجاء في الحديث : ( كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ) و { يقيت { ذكره الثعلبي : وحكى ابن فارس في المجمل : المقيت المقتدر , والمقيت الحافظ والشاهد , وما عنده قيت ليلة وقوت ليلة . والله أعلم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ۗ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا
    +/- -/+  
الأية
86
 
كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ قال ابن عباس : إن رجلا من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم ندم ; فأرسل إلى قومه : سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة ؟ فجاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : هل له من توبة ؟ فنزلت { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم { إلى قوله : { غفور رحيم } [ آل عمران : 89 ] . فأرسل إليه فأسلم . أخرجه النسائي . وفي رواية أن رجلا من الأنصار ارتد فلحق بالمشركين , فأنزل الله { كيف يهدي الله قوما كفروا { إلى قوله : { إلا الذين تابوا } [ آل عمران : 89 ] فبعث بها قومه إليه , فلما قرئت عليه قال : والله ما كذبني قومي على رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولا أكذبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله , والله عز وجل أصدق الثلاثة ; فرجع تائبا , فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه . وقال الحسن : نزلت في اليهود لأنهم كانوا يبشرون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويستفتحون على الذين كفروا ; فلما بعث عاندوا وكفروا , فأنزل الله عز وجل : { أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } [ آل عمران : 87 ] . ثم قيل : { كيف { لفظة استفهام ومعناه الجحد , أي لا يهدي الله . ونظيره قوله : { كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله } [ التوبة : 7 ] أي لا يكون لهم عهد ; وقال الشاعر : كيف نومي على الفراش ولما يشمل القوم غارة شعواء أي لا نوم لي . وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يقال : ظاهر الآية أن من كفر بعد إسلامه لا يهديه الله ومن كان ظالما , لا يهديه الله ; وقد رأينا كثيرا من المرتدين قد أسلموا وهداهم الله , وكثيرا من الظالمين تابوا عن الظلم . قيل له : معناه لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم ولا يقبلون على الإسلام ; فأما إذا أسلموا وتابوا فقد وفقهم الله لذلك . والله تعالى أعلم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
اللهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا
    +/- -/+  
الأية
87
 
اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ ابتداء وخبر . واللام في قول } ليجمعنكم { لام القسم ; نزلت في الذين شكوا في البعث فأقسم الله تعالى بنفسه . وكل لام بعدها نون مشددة فهو لام القسم . ومعناه في الموت وتحت الأرض إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وقال بعضهم : { إلى { صلة في الكلام , معناه ليجمعنكم يوم القيامة . وسميت القيامة قيامة لأن الناس يقومون فيه لرب العالمين جل وعز ; قال الله تعالى : { ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم . يوم يقوم الناس لرب العالمين } [ المطففين : 4 - 6 ] . وقيل : سمي يوم القيامة لأن الناس يقومون من قبورهم إليها ; قال الله تعالى : { يوم يخرجون من الأجداث سراعا } [ المعارج : 43 ] وأصل القيامة الواو . وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا نصب على البيان , والمعنى لا أحد أصدق من الله . وقرأ حمزة والكسائي { ومن أزدق { بالزاي . الباقون : بالصاد , وأصله الصاد إلا أن لقرب مخرجها جعل مكانها زاي .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا ۚ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ ۖ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا
    +/- -/+  
الأية
88
 
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا { فئتين { أي فرقتين مختلفتين . روى مسلم عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس ممن كان معه , فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين ; فقال بعضهم : نقتلهم . وقال بعضهم : لا ; فنزلت { فما لكم في المنافقين فئتين } . وأخرجه الترمذي فزاد : وقال : ( إنها طيبة )  وقال : ( إنها تنفي الخبيث كما تنفي النار خبث الحديد )  قال : حديث حسن صحيح . وقال البخاري : ( إنها طيبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة )  . والمعنى بالمنافقين هنا عبد الله بن أبي وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا ; كما تقدم في { آل عمران } . وقال ابن عباس : هم قوم بمكة آمنوا وتركوا الهجرة , قال الضحاك : وقالوا إن ظهر محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد عرفنا , وإن ظهر قومنا فهو أحب إلينا . فصار المسلمون فيهم فئتين قوم يتولونهم وقوم يتبرءون منهم ; فقال الله عز وجل : { فما لكم في المنافقين فئتين } . وذكر أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه أنها نزلت في قوم جاءوا إلى المدينة وأظهروا الإسلام ; فأصابهم وباء المدينة وحماها ; فأركسوا فخرجوا من المدينة , فاستقبلهم نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : ما لكم رجعتم ؟ فقالوا : أصابنا وباء المدينة فاجتويناها ; فقالوا : ما لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة ؟ فقال بعضهم : نافقوا . وقال بعضهم : لم ينافقوا , هم مسلمون ; فأنزل الله عز وجل : { فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا { الآية . حتى جاءوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون , ثم ارتدوا بعد ذلك , فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها , فاختلف فيهم المؤمنون فقائل يقول : هم منافقون , وقائل يقول : هم مؤمنون ; فبين الله تعالى نفاقهم وأنزل هذه الآية وأمر بقتلهم . قلت : وهذان القولان يعضدهما سياق آخر الآية من قوله تعالى : { حتى يهاجروا } [ النساء : 89 ] , والأول أصح نقلا , وهو اختيار البخاري ومسلم والترمذي . و { فئتين { نصب على الحال ; كما يقال : ما لك قائما ؟ عن الأخفش . وقال الكوفيون : هو خبر { ما لكم { كخبر كان وظننت , وأجازوا إدخال الألف واللام فيه وحكى الفراء : { أركسهم , وركسهم { أي ردهم إلى الكفر ونكسهم ; وقاله النضر بن شميل والكسائي : والركس والنكس قلب الشيء على رأسه , أو رد أوله على آخره , والمركوس المنكوس . وفي قراءة عبد الله وأبي رضي الله عنهما } والله ركسهم } . وقال ابن رواحة : أركسوا في فتنة مظلمة كسواد الليل يتلوها فتن أي نكسوا . وارتكس فلان في أمر كان نجا منه . والركوسية قوم بين النصارى والصابئين . والراكس الثور وسط البدر والثيران حواليه حين الدياس . أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ أي ترشدوه إلى الثواب بأن يحكم لهم بحكم المؤمنين . وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أي طريقا إلى الهدى والرشد وطلب الحجة . وفي هذا رد على القدرية وغيرهم القائلين بخلق هداهم وقد تقدم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ۖ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ۖ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا
    +/- -/+  
الأية
89
 
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً أي تمنوا أن تكونوا كهم في الكفر والنفاق شرع سواء ; فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فأمر الله تعالى بالبراءة منهم فقال : { فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا } ; كما قال تعالى : { ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } [ الأنفال : 72 ] والهجرة أنواع : منها الهجرة إلى المدينة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم , وكانت هذه واجبة أول الإسلام حتى قال : ( لا هجرة بعد الفتح )  . وكذلك هجرة المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوات , وهجرة من أسلم في دار الحرب فإنها واجبة . وهجرة المسلم ما حرم الله عليه ; كما قال صلى الله عليه وسلم : ( والمهاجر من هجر ما حرم الله عليه )  . وهاتان الهجرتان ثابتتان الآن . وهجرة أهل المعاصي حتى يرجعوا تأديبا لهم فلا يكلمون ولا يخالطون حتى يتوبوا ; كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع كعب وصاحبيه . فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ يقول : إن أعرضوا عن التوحيد والهجرة فأسروهم واقتلوهم . حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا عام في الأماكن من حل وحرم . والله أعلم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ۚ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا
    +/- -/+  
الأية
90
 
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ استثناء أي يتصلون بهم ويدخلون فيما بينهم من الجوار والحلف ; المعنى : فلا تقتلوا قوما بينهم وبين من بينكم وبينهم عهد فإنهم على عهدهم ثم انتسخت العهود فانتسخ هذا . هذا قول مجاهد وابن زيد وغيرهم , وهو أصح ما قيل في معنى الآية . قال أبو عبيد : يصلون ينتسبون ; ومنه قول الأعشى : إذا اتصلت قالت لبكر بن وائل وبكر سبتها والأنوف رواغم يريد إذا انتسبت . قال المهدوي : وأنكره العلماء ; لأن النسب لا يمنع من قتال الكفار وقتلهم . وقال النحاس : وهذا غلط عظيم ; لأنه يذهب إلى أن الله تعالى حظر أن يقاتل أحد بينه وبين المسلمين نسب , والمشركون قد كان بينهم وبين السابقين الأولين أنساب , وأشد من هذا الجهل بأنه كان ثم نسخ ; لأن أهل التأويل مجمعون على أن الناسخ له } براءة { وإنما نزلت { براءة { بعد الفتح وبعد أن انقطعت الحروب . وقال معناه الطبري . قلت : حمل بعض العلماء معنى ينتسبون على الأمان ; أي إن المنتسب إلى أهل الأمان آمن إذا أمن الكل منهم , لا على معنى النسب الذي هو بمعنى القرابة . واختلف في هؤلاء الذين كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق ; فقيل : بنو مدلج . عن الحسن : كان بينهم وبين قريش عقد , وكان بين قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد . وقال عكرمة : نزلت في هلال بن عويمر وسراقة بن جعشم وخزيمة بن عامر بن عبد مناف كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد . وقيل : خزاعة . وقال الضحاك عن ابن عباس : أنه أراد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن زيد بن مناة , كانوا في الصلح والهدنة . في هذه الآية دليل على إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل الإسلام إذا كان في الموادعة مصلحة للمسلمين , على ما يأتي بيانه في { الأنفال وبراءة { إن شاء الله تعالى . أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ أي ضاقت . وقال لبيد : أسهلت وانتصبت كجذع منيفة جرداء يحصر دونها جرامها أي تضيق صدورهم من طول هذه النخلة ; ومنه الحصر في القول وهو ضيق الكلام على المتكلم . والحصر الكتوم للسر ; قال جرير : ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا حصرا بسرك يا أميم ضنينا ومعنى { حصرت { قد حصرت فأضمرت قد ; قال الفراء : وهو حال من المضمر المرفوع في { جاءوكم { كما تقول : جاء فلان ذهب عقله , أي قد ذهب عقله . وقيل : هو خبر بعد خبر قاله الزجاج . أي جاءوكم ثم أخبر فقال : " حصرت صدورهم { فعلى هذا يكون { حصرت { بدلا من { جاءوكم { كما قيل : { حصرت { في موضع خفض على النعت لقوم . وفي حرف أبي { إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق حصرت صدورهم { ليس فيه { أو جاءوكم } . وقيل : تقديره أو جاءوكم رجالا أو قوما حصرت صدورهم ; فهي صفة موصوف منصوب على الحال . وقرأ الحسن { أو جاءوكم حصرة صدورهم { نص على الحال , ويجوز رفعه على الابتداء والخبر . وحكى { أو جاءوكم حصرات صدورهم } , ويجوز الرفع . وقال محمد بن يزيد : { حصرت صدورهم { هو دعاء عليهم ; كما تقول : لعن الله الكافر ; وقاله المبرد . وضعفه بعض المفسرين وقال : هذا يقتضي ألا يقاتلوا قومهم ; وذلك فاسد ; لأنهم كفار وقومهم كفار . وأجيب بأن معناه صحيح , فيكون عدم القتال في حق المسلمين تعجيزا لهم , وفي حق قومهم تحقيرا لهم . وقيل : { أو { بمعنى الواو ; كأنه يقول : إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق وجاءوكم ضيقة صدورهم عن قتالكم والقتال معكم فكرهوا قتال الفريقين . ويحتمل أن يكونوا معاهدين على ذلك فهو نوع من العهد , أو قالوا نسلم ولا نقاتل ; فيحتمل أن يقبل ذلك منهم في أول الإسلام حتى يفتح الله قلوبهم للتقوى ويشرحها للإسلام . والأول أظهر . والله أعلم .{ أو يقاتلوا } في موضع نصب ; أي عن أن يقاتلوكم . وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا تسليط الله تعالى المشركين على المؤمنين هو بأن يقدرهم على ذلك ويقويهم إما عقوبة ونقمة عند إذاعة المنكر وظهور المعاصي , وإما ابتلاء واختبارا كما قال تعالى : { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم } [ محمد : 31 ] , وإما تمحيصا للذنوب كما قال تعالى : { وليمحص الله الذين آمنوا } [ آل عمران : 141 ] ولله أن يفعل ما يشاء ويسلط من يشاء على من يشاء إذا شاء . ووجه النظم والاتصال بما قبل أي اقتلوا المنافقين الذين اختلفتم فيهم إلا أن يهاجروا , وإلا أن يتصلوا بمن بينكم وبينهم ميثاق فيدخلون فيما دخلوا فيه فلهم حكمهم , وإلا الذين جاءوكم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم فلا تقتلوهم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا ۚ فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ۚ وَأُولَٰئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا
    +/- -/+  
الأية
91
 
الملء ( بالكسر )  مقدار ما يملأ الشيء , والملء ( بالفتح )  مصدر ملأت الشيء ; ويقال : أعطني ملأه وملأيه وثلاثة أملائه . والواو في { لو افتدى به { قيل : هي مقحمة زائدة ; المعنى : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو افتدى به . وقال أهل النظر من النحويين : لا يجوز أن تكون الواو مقحمة لأنها تدل على معنى . ومعنى الآية : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا تبرعا ولو افتدى به . و { ذهبا { نصب على التفسير في قول الفراء . قال المفضل : شرط التفسير أن يكون الكلام تاما وهو مبهم ; كقولك عندي عشرون ; فالعدد معلوم والمعدود مبهم ; فإذا قلت درهما فسرت . وإنما نصب التمييز لأنه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه , وكان النصب أخف الحركات فجعل لكل ما لا عامل فيه . وقال الكسائي : نصب على إضمار من , أي من ذهب ; كقوله : { أو عدل ذلك صياما } [ المائدة : 95 ] أي من صيام . وفي البخاري ومسلم عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك )  . لفظ البخاري . وقال مسلم بدل ( قد كنت ; كذبت , قد سئلت )  .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ۚ فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ۖ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ۖ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ ۗ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
    +/- -/+  
الأية
92
 
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً هذه آية من أمهات الأحكام . والمعنى ما ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ; فقوله : { وما كان { ليس على النفي وإنما هو على التحريم والنهي , كقوله : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله " [ الأحزاب : 53 ] ولو كانت على النفي لما وجد مؤمن قتل مؤمنا قط ; لأن ما نفاه الله فلا يجوز وجوده , كقوله تعالى : { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } [ النمل : 60 ] . فلا يقدر العباد أن ينبتوا شجرها أبدا . وقال قتادة : المعنى ما كان له ذلك في عهد الله . وقيل : ما كان له ذلك فيما سلف , كما ليس له الآن ذلك بوجه , ثم استثنى استثناء منقطعا ليس من الأول وهو الذي يكون فيه { إلا { بمعنى { لكن { والتقدير ما كان له أن يقتله ألبتة لكن إن قتله خطأ فعليه كذا ; هذا قول سيبويه والزجاج رحمهما الله . ومن الاستثناء المنقطع قوله تعالى : { ما لهم به من علم إلا اتباع الظن } [ النساء : 157 ] : وقال النابغة : وقفت فيها أصيلانا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا الأواري لأيا ما أبينها والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد فلما لم تكن } الأواري { من جنس أحد حقيقة لم تدخل في لفظه . ومثله قول الآخر : أمسى سقام خلاء لا أنيس به إلا السباع ومر الريح بالغرف وقال آخر : وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس وقال آخر : وبعض الرجال نخلة لا جنى لها ولا ظل إلا أن تعد من النخل أنشده سيبويه ; ومثله كثير , ومن أبدعه قول جرير : من البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ على الأرض إلا ذيل مرط مرحل كأنه قال : لم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد . ونزلت الآية بسبب قتل عياش بن أبي ربيعة الحارث بن يزيد بن أبي أنيسة العامري لحنة كانت بينهما , فلما هاجر الحارث مسلما لقيه عياش فقتله ولم يشعر بإسلامه , فلما أخبر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله , إنه قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت , ولم أشعر بإسلامه حتى قتلته فنزلت الآية . وقيل : هو استثناء متصل , أي وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ولا يقتص منه إلا أن يكون خطأ ; فلا يقتص منه ; ولكن فيه كذا وكذا . ووجه آخر وهو أن يقدر كان بمعنى استقر ووجد ; كأنه قال : وما وجد وما تقرر وما ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ إذ هو مغلوب فيه أحيانا ; فيجيء الاستثناء على هذين التأويلين غير منقطع . وتتضمن الآية على هذا إعظام العمد وبشاعة شأنه ; كما تقول : ما كان لك يا فلان أن تتكلم بهذا إلا ناسيا ؟ إعظاما للعمد والقصد مع حظر الكلام به ألبتة . وقيل : المعنى ولا خطأ . قال النحاس : ولا يجوز أن تكون { إلا { بمعنى الواو , ولا يعرف ذلك في كلام العرب ولا يصح في المعنى ; لأن الخطأ لا يحظر . ولا يفهم من دليل خطابه جواز قتل الكافر المسلم فإن المسلم محترم الدم , وإنما خص المؤمن بالذكر تأكيدا لحنانه وأخوته وشفقته وعقيدته . وقرأ الأعمش { خطاء { ممدودا في المواضع الثلاثة . ووجوه الخطأ كثيرة لا تحصى يربطها عدم القصد ; مثل أن يرمي صفوف المشركين فيصيب مسلما . أو يسعى بين يديه من يستحق القتل من زان أو محارب أو مرتد فطلبه ليقتله فلقي غيره فظنه هو فقتله فذلك خطأ . أو يرمي إلى غرض فيصيب إنسانا أو ما جرى مجراه ; وهذا مما لا خلاف فيه . والخطأ اسم من أخطأ خطأ وإخطاء إذا لم يصنع عن تعمد ; فالخطأ الاسم يقوم مقام الإخطاء . ويقال لمن أراد شيئا ففعل غيره : أخطأ , ولمن فعل غير الصواب : أخطأ . قال ابن المنذر : قال الله تبارك وتعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ { إلى قوله تعالى : { ودية مسلمة إلى أهله { فحكم الله جل ثناؤه في المؤمن يقتل خطأ بالدية , وثبتت السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وأجمع أهل العلم على القول به . ذهب داود إلى القصاص بين الحر والعبد في النفس , وفي كل ما يستطاع القصاص فيه من الأعضاء ; تمسكا بقوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] إلى قوله تعالى : { والجروح قصاص } [ المائدة : 45 ] , وقوله عليه السلام : ( المسلمون تتكافأ دماؤهم )  فلم يفرق بين حر وعبد ; وهو قول ابن أبي ليلى . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا قصاص بين الأحرار والعبيد إلا في النفس فيقتل الحر بالعبد , كما يقتل العبد بالحر , ولا قصاص بينهما في شيء من الجراح والأعضاء . وأجمع العلماء على أن قوله تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ { أنه لم يدخل فيه العبيد , وإنما أريد به الأحرار دون العبيد ; فكذلك قوله عليه السلام : ( المسلمون تتكافأ دماؤهم )  أريد به الأحرار خاصة . والجمهور على ذلك وإذا لم يكن قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس فالنفس أحرى بذلك ; وقد مضى هذا في { البقرة } . وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي فعليه تحرير رقبة ; هذه الكفارة التي أوجبها الله تعالى في كفارة القتل والظهار أيضا على ما يأتي . واختلف العلماء فيما يجزئ منها , فقال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم : الرقبة المؤمنة هي التي صلت وعقلت الإيمان , لا تجزئ في ذلك الصغيرة , وهو الصحيح في هذا الباب قال عطاء بن أبي رباح : يجزئ الصغير المولود بين مسلمين . وقال جماعة منهم مالك والشافعي : يجزئ كل من حكم له بحكم في الصلاة عليه إن مات ودفنه . وقال مالك : من صلى وصام أحب إلي . ولا يجزئ في قول كافة العلماء أعمى ولا مقعد ولا مقطوع اليدين أو الرجلين ولا أشلهما , ويجزئ عند أكثرهم الأعرج والأعور . قال مالك : إلا أن يكون عرجا شديدا . ولا يجزئ عند مالك والشافعي وأكثر العلماء أقطع إحدى اليدين أو إحدى الرجلين , ويجزئ عند أبي حنيفة وأصحابه . ولا يجزئ عند أكثرهم المجنون المطبق ولا يجزئ عند مالك الذي يجن ويفيق , ويجزئ عند الشافعي . ولا يجزئ عند مالك المعتق إلى سنين , ويجزئ عند الشافعي . ولا يجزئ المدبر عند مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي , ويجزئ في قول الشافعي وأبي ثور , واختاره ابن المنذر . وقال مالك : لا يصح من أعتق بعضه ; لقوله تعالى : { فتحرير رقبة } . ومن أعتق البعض لا يقال حرر رقبة وإنما حرر بعضها . واختلفوا أيضا في معناها فقيل : أوجبت تمحيصا وطهورا لذنب القاتل , وذنبه ترك الاحتياط والتحفظ حتى هلك على يديه امرؤ محقون الدم . وقيل : أوجبت بدلا من تعطيل حق الله تعالى في نفس القتيل , فإنه كان له في نفسه حق وهو التنعم بالحياة والتصرف فيما أحل له تصرف الأحياء . وكان لله سبحانه فيه حق , وهو أنه كان عبدا من عباده يجب له من أمر العبودية صغيرا كان أو كبيرا حرا كان أو عبدا مسلما كان أو ذميا ما يتميز به عن البهائم والدواب , ويرتجى مع ذلك أن يكون من نسله من يعبد الله ويطيعه , فلم يخل قاتله من أن يكون فوت منه الاسم الذي ذكرنا , والمعنى الذي وصفنا , فلذلك ضمن الكفارة . وأي واحد من هذين المعنيين كان , ففيه بيان أن النص وإن وقع على القاتل خطأ فالقاتل عمدا مثله , بل أولى بوجوب الكفارة عليه منه , على ما يأتي بيانه , والله أعلم . وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ فيها سبع مسائل الأولى : الدية ما يعطى عوضا عن دم القتيل إلى وليه .{ مسلمة } مدفوعة مؤداة , ولم يعين الله في كتابه ما يعطى في الدية , وإنما في الآية إيجاب الدية مطلقا , وليس فيها إيجابها على العاقلة أو على القاتل , وإنما أخذ ذلك من السنة , ولا شك أن إيجاب المواساة على العاقلة خلاف قياس الأصول في الغرامات وضمان المتلفات , والذي وجب على العاقلة لم يجب تغليظا , ولا أن وزر القاتل عليهم ولكنه مواساة محضة . واعتقد أبو حنيفة أنها باعتبار النصرة فأوجبها على أهل ديوانه . وثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الدية مائة من الإبل , ووداها صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن سهل المقتول بخيبر لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن , فكان ذلك بيانا على لسان نبيه عليه السلام لمجمل كتابه . وأجمع أهل العلم على أن على أهل الإبل مائة من الإبل واختلفوا فيما يجب على غير أهل الإبل ; فقالت طائفة : على أهل الذهب ألف دينار , وهم أهل الشام ومصر والمغرب ; هذا قول مالك وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه , في القديم . وروي هذا عن عمر وعروة بن الزبير وقتادة . وأما أهل الورق فاثنا عشر ألف درهم , وهم أهل العراق وفارس وخراسان ; هذا مذهب مالك على ما بلغه عن عمر أنه قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم . وقال المزني : قال الشافعي الدية الإبل ; فإن أعوزت فقيمتها بالدراهم والدنانير على ما قومها عمر ألف دينار على أهل الذهب واثنا عشر ألف درهم على أهل الورق . وقال أبو حنيفة أصحابه والثوري : الدية من الورق عشرة آلاف درهم . رواه الشعبي عن عبيدة عن عمر أنه جعل الدية على أهل الذهب ألف دينار , وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم , وعلى أهل البقر مائتي بقرة , وعلى أهل الشاء ألف شاة , وعلى أهل الإبل مائة من الإبل , وعلى أهل الحلل مائتي حلة . قال أبو عمر : في هذا الحديث ما يدل على أن الدنانير والدراهم صنف من أصناف الدية لا على وجه البدل والقيمة ; وهو الظاهر من الحديث عن عثمان وعلي وابن عباس . وخالف أبو حنيفة ما رواه عن عمر في البقر والشاء والحلل . وبه قال عطاء وطاوس وطائفة من التابعين , وهو قول الفقهاء السبعة المدنيين . قال ابن المنذر : وقالت طائفة : دية الحر المسلم مائة من الإبل لا دية غيرها كما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم . هذا قول الشافعي وبه قال طاوس . قال ابن المنذر : دية الحر المسلم مائة من الإبل في كل زمان , كما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم . واختلفت الروايات عن عمر رضي الله عنه في أعداد الدراهم وما منها شيء يصح عنه لأنها مراسيل , وقد عرفتك مذهب الشافعي وبه نقول . الثانية : واختلف الفقهاء في أسنان دية الإبل ; فروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل : ثلاثون بنت مخاض , وثلاثون بنت لبون , وثلاثون حقة , وعشر بني لبون . قال الخطابي : هذا الحديث لا أعرف أحدا قال به من الفقهاء , وإنما قال أكثر العلماء : دية الخطأ أخماس . كذا قال أصحاب الرأي والثوري , وكذلك مالك وابن سيرين وأحمد بن حنبل إلا أنهم اختلفوا في الأصناف ; قال أصحاب الرأي وأحمد : خمس بنو مخاض , وخمس بنات مخاض , وخمس بنات لبون , وخمس حقاق , وخمس جذاع . وروي هذا القول عن ابن مسعود . وقال مالك والشافعي : خمس حقاق , وخمس جذاع , وخمس بنات لبون , وخمس بنات مخاض , وخمس بنو لبون . وحكي هذا القول عن عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري وربيعة والليث بن سعد . قال الخطابي : ولأصحاب الرأي فيه أثر , إلا أن راويه عبد الله بن خشف بن مالك وهو مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث . وعدل الشافعي عن القول به . لما ذكرنا من العلة في راويه , ولأن فيه بني مخاض ولا مدخل لبني مخاض في شيء من أسنان الصدقات . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة القسامة أنه ودى قتيل خيبر مائة من إبل الصدقة وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض . قال أبو عمر : وقد روى زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الدية في الخطأ أخماسا , إلا أن هذا لم يرفعه إلا خشف بن مالك الكوفي الطائي وهو مجهول ; لأنه لم يروه عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل الطائي الجشمي من بني جشم بن معاوية أحد ثقات الكوفيين . قلت : قد ذكر الدارقطني في سننه حديث خشف بن مالك من رواية حجاج بن أرطاة عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن عبد الله بن مسعود قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطأ مائة من الإبل ; منها عشرون حقة , وعشرون جذعة , وعشرون بنات لبون , وعشرون بنات مخاض , وعشرون بني مخاض . قال الدارقطني : { هذا حديث ضعيف غير ثابت عند أهل المعرفة بالحديث من وجوه عدة ; أحدها أنه مخالف لما رواه أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه بالسند الصحيح عنه , الذي لا مطعن فيه ولا تأويل عليه , وأبو عبيدة أعلم بحديث أبيه وبمذهبه وفتياه من خشف بن مالك ونظرائه , وعبد الله بن مسعود أتقى لربه وأشح على دينه من أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقضي بقضاء ويفتي هو بخلافه ; هذا لا يتوهم مثله على عبد الله بن مسعود وهو القائل في مسألة وردت عليه لم يسمع فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ولم يبلغه عنه فيها قول : أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله ورسوله , وإن يكن خطأ فمني ; ثم بلغه بعد ذلك أن فتياه فيها وافق قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثلها , فرآه أصحابه عند ذلك فرح فرحا شديدا لم يروه فرح مثله , لموافقة فتياه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . فمن كانت هذه صفته وهذا حاله فكيف يصح عنه أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ويخالفه . ووجه آخر : وهو أن الخبر المرفوع الذي فيه ذكر بني المخاض لا نعلمه رواه إلا خشف بن مالك عن ابن مسعود وهو رجل مجهول لم يروه عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل الجشمي وأهل العلم بالحديث لا يحتجون بخبر ينفرد بروايته رجل غير معروف , وإنما يثبت العلم عندهم بالخبر إذا كان راويه عدلا مشهورا , أو رجلا قد ارتفع عنه اسم الجهالة , وارتفاع اسم الجهالة عنه أن يروي عنه رجلان فصاعدا ; فإذا كانت هذه صفته ارتفع عنه حينئذ اسم الجهالة , وصار حينئذ معروفا . فأما من لم يرو عنه إلا رجل واحد وانفرد بخبر وجب التوقف عن خبره ذلك حتى يوافقه عليه غيره . والله أعلم . ووجه آخر : وهو أن حديث خشف بن مالك لا نعلم أحدا رواه عن زيد بن جبير عنه إلا الحجاج بن أرطأة , والحجاج رجل مشهور بالتدليس وبأنه يحدث عمن لم يلقه ولم يسمع منه ; وترك الرواية عنه سفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان وعيسى بن يونس بعد أن جالسوه وخبروه , وكفاك بهم علما بالرجل ونبلا . وقال يحيى بن معين : حجاج بن أرطأة لا يحتج بحديثه . وقال عبد الله بن إدريس : سمعت الحجاج يقول لا ينبل الرجل حتى يدع الصلاة في الجماعة . وقال عيسى بن يونس : سمعت الحجاج يقول : أخرج إلى الصلاة يزاحمني الحمالون والبقالون . وقال جرير : سمعت الحجاج يقول : أهلكني حب المال والشرف . وذكر أوجها أخر ; منها أن جماعة من الثقات رووا هذا الحديث عن الحجاج بن أرطأة فاختلفوا عليه فيه . إلى غير ذلك مما يطول ذكره ; وفيما ذكرناه مما ذكروه كفاية ودلالة على ضعف ما ذهب إليه الكوفيون في الدية , وإن كان ابن المنذر مع جلالته قد اختاره على ما يأتي . وروى حماد بن سلمة حدثنا سليمان التيمي عن أبي مجلز عن أبي عبيدة أن ابن مسعود قال : دية الخطأ خمسة أخماس عشرون حقة , وعشرون جذعة وعشرون بنات مخاض , وعشرون بنات لبون وعشرون بني لبون ذكور . قال الدارقطني : هذا إسناد حسن ورواته ثقات , وقد روي عن علقمة عن عبد الله نحو هذا . قلت : وهذا هو مذهب مالك والشافعي أن الدية تكون مخمسة . قال الخطابي : وقد روي عن نفر من العلماء أنهم قالوا دية الخطأ أرباع ; وهم الشعبي والنخعي والحسن البصري , وإليه ذهب إسحاق بن راهويه ; إلا أنهم قالوا : خمس وعشرون جذعة وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون بنات مخاض . وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب . قال أبو عمر : أما قول مالك والشافعي فروي عن سليمان بن يسار وليس فيه عن صحابي شيء ; ولكن عليه عمل أهل المدينة . وكذلك حكى ابن جريج عن ابن شهاب . قلت : قد ذكرنا عن ابن مسعود ما يوافق ما صار إليه مالك والشافعي . قال أبو عمر : وأسنان الإبل في الديات لم تؤخذ قياسا ولا نظرا , وإنما أخذت اتباعا وتسليما , وما أخذ من جهة الأثر فلا مدخل فيه للنظر ; فكل يقول بما قد صح عنده من سلفه ; رضي الله عنهم أجمعين . قلت : وأما ما حكاه الخطابي من أنه لا يعلم من قال بحديث عمرو بن شعيب فقد حكاه ابن المنذر عن طاوس ومجاهد , إلا أن مجاهدا جعل مكان بنت مخاض ثلاثين جذعة . قال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول . يريد قول عبد الله وأصحاب الرأي الذي ضعفه الدارقطني والخطابي , وابن عبد البر قال : لأنه الأقل مما قيل ; وبحديث مرفوع رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم يوافق هذا القول . قلت : وعجبا لابن المنذر ؟ مع نقده واجتهاده كيف قال بحديث لم يوافقه أهل النقد على صحته ! لكن الذهول والنسيان قد يعتري الإنسان , وإنما الكمال لعزة ذي الجلال . الثالثة : ثبتت الأخبار عن النبي المختار محمد صلى الله عليه وسلم أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة , وأجمع أهل العلم على القول به . وفي إجماع أهل العلم أن الدية في الخطأ على العاقلة دليل على أن المراد من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي رمثة حيث دخل عليه ومعه ابنه : ( إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه )  العمد دون الخطأ . وأجمعوا على أن ما زاد على ثلث الدية على العاقلة . واختلفوا في الثلث ; والذي عليه جمهور العلماء أن العاقلة لا تحمل عمدا ولا اعترافا ولا صلحا , ولا تحمل من دية الخطأ إلا ما جاوز الثلث وما دون الثلث في مال الجاني . وقالت طائفة : عقل الخطأ على عاقلة الجاني , قلت الجناية أو كثرت ; لأن من غرم الأكثر غرم الأقل . كما عقل العمد في مال الجاني قل أو كثر ; هذا قول الشافعي . الرابعة : وحكمها أن تكون منجمة على العاقلة , والعاقلة العصبة . وليس ولد المرأة إذا كان من غير عصبتها من العاقلة . ولا الإخوة من الأم بعصبة لإخوتهم من الأب والأم , فلا يعقلون عنهم شيئا . وكذلك الديوان لا يكون عاقلة في قول جمهور أهل الحجاز . وقال الكوفيون : يكون عاقلة إن كان من أهل الديوان ; فتنجم الدية على العاقلة في ثلاثه أعوام على ما قضاه عمر وعلي ; لأن الإبل قد تكون حوامل فتضر به . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيها دفعة واحدة لأغراض ; منها أنه كان يعطيها صلحا وتسديدا . ومنها أنه كان يعجلها تأليفا . فلما تمهد الإسلام قدرتها الصحابة على هذا النظام ; قاله ابن العربي . وقال أبو عمر : أجمع العلماء قديما وحديثا أن الدية على العاقلة لا تكون إلا في ثلاث سنين ولا تكون في أقل منها . وأجمعوا على أنها على البالغين من الرجال . وأجمع أهل السير والعلم أن الدية كانت في الجاهلية تحملها العاقلة فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام , وكانوا يتعاقلون بالنصرة ; ثم جاء الإسلام فجرى الأمر على ذلك حتى جعل الديوان . واتفق الفقهاء على رواية ذلك والقول به . وأجمعوا أنه لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا زمن أبي بكر ديوان , وأن عمر جعل الديوان وجمع بين الناس , وجعل أهل كل ناحية يدا , وجعل عليهم قتال من يليهم من العدو . الخامسة : قلت : ومما ينخرط في سلك هذا الباب ويدخل في نظامه قتل الجنين في بطن أمه ; وهو أن يضرب بطن أمه فتلقيه حيا ثم يموت ; فقال كافة العلماء : فيه الدية كاملة في الخطأ وفي العمد بعد القسامة . وقيل : بغير قسامة . واختلفوا فيما به تعلم حياته بعد اتفاقهم على أنه إذا استهل صارخا أو ارتضع أو تنفس نفسا محققة حي , فيه الدية كاملة ; فإن تحرك فقال الشافعي وأبو حنيفة : الحركة تدل على حياته . وقال مالك : لا , إلا أن يقارنها طول إقامة . والذكر والأنثى عند كافة العلماء في الحكم سواء . فإن ألقته ميتا ففيه غرة : عبد أو وليدة . فإن لم تلقه وماتت وهو في جوفها لم يخرج فلا شيء فيه . وهذا كله إجماع لا خلاف فيه . وروي عن الليث بن سعد وداود أنهما قالا في المرأة إذا ماتت من ضرب بطنها ثم خرج الجنين ميتا بعد موتها : ففيه الغرة , وسواء رمته قبل موتها أو بعد موتها ; المعتبر حياة أمه في وقت ضربها لا غير . وقال سائر الفقهاء : لا شيء فيه إذا خرج ميتا من بطنها بعد موتها . قال الطحاوي محتجا لجماعة الفقهاء بأن قال : قد أجمعوا والليث معهم على أنه لو ضرب بطنها وهي حية فماتت والجنين في بطنها ولم يسقط أنه لا شيء فيه ; فكذلك إذا سقط بعد موتها . السادسة : ولا تكون الغرة إلا بيضاء . قال أبو عمرو بن العلاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( في الجنين غرة عبد أو أمة )  - لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بالغرة معنى لقال : في الجنين عبد أو أمة , ولكنه عنى البياض ; فلا يقبل في الدية إلا غلام أبيض أو جارية بيضاء , لا يقبل فيها أسود ولا سوداء . واختلف العلماء في قيمتها ; فقال مالك : تقوم بخمسين دينارا أو ستمائة درهم ; نصف عشر دية الحر المسلم , وعشر دية أمه الحرة ; وهو قول ابن شهاب وربيعة وسائر أهل المدينة . وقال أصحاب الرأي : قيمتها خمسمائة درهم . وقال الشافعي : سن الغرة سبع سنين أو ثمان سنين ; وليس عليه أن يقبلها معيبة . ومقتضى مذهب مالك أنه مخير بين إعطاء غرة أو عشر دية الأم , من الذهب عشرون دينارا إن كانوا أهل ذهب , ومن الورق - إن كانوا أهل ورق - ستمائة درهم , أو خمس فرائض من الإبل . قال مالك وأصحابه : هي في مال الجاني ; وهو قول الحسن بن حي . وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما , هي على العاقلة . وهو أصح ; لحديث المغيرة بن شعبة أن امرأتين كانتا تحت رجلين من الأنصار - في رواية فتغايرتا - فضربت إحداهما الأخرى بعمود فقتلتها , فاختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجلان فقالا : ندي من لا صاح ولا أكل , ولا شرب ولا استهل . فمثل ذلك يطل ! , فقال : ( أسجع كسجع الأعراب )  ؟ فقضى فيه غرة وجعلها على عاقلة المرأة . وهو حديث ثابت صحيح , نص في موضع الخلاف يوجب الحكم . ولما كانت دية المرأة المضروبة على العاقلة كان الجنين كذلك في القياس والنظر . واحتج علماؤنا بقول الذي قضي عليه : كيف أغرم ؟ قالوا : وهذا يدل على أن الذي قضي عليه معين وهو الجاني . ولو أن دية الجنين قضى بها على العاقلة لقال : فقال الذي قضى عليهم . وفي القياس أن كل جان جنايته عليه , إلا ما قام بخلافه الدليل الذي لا معارض له ; مثل إجماع لا يجوز خلافه , أو نص سنة من جهة نقل الآحاد العدول لا معارض لها , فيجب الحكم بها , وقد قال الله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } [ الأنعام : 164 ] . السابعة : ولا خلاف بين العلماء أن الجنين إذا خرج حيا فيه الكفارة مع الدية . واختلفوا في الكفارة إذا خرج ميتا ; فقال مالك : فيه الغرة والكفارة . وقال أبو حنيفة والشافعي : فيه الغرة ولا كفارة . واختلفوا في ميراث الغرة عن الجنين ; فقال مالك والشافعي وأصحابهما : الغرة في الجنين موروثة عن الجنين على كتاب الله تعالى ; لأنها دية . وقال أبو حنيفة وأصحابه : الغرة للأم وحدها ; لأنها جناية جني عليها بقطع عضو من أعضائها وليست بدية . ومن الدليل على ذلك أنه لم يعتبر فيه الذكر والأنثى كما يلزم في الديات , فدل على أن ذلك كالعضو . وكان ابن هرمز يقول : ديته لأبويه خاصة ; لأبيه ثلثاها ولأمه ثلثها , من كان منهما حيا كان ذلك له , فإن كان أحدهما قد مات كانت للباقي منهما أبا كان أو أما , ولا يرث الإخوة شيئا . إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أصله { أن يتصدقوا { فأدغمت التاء في الصاد . والتصدق الإعطاء ; يعني إلا أن يبرئ الأولياء ورثة المقتول القاتلين مما أوجب لهم من الدية عليهم . فهو استثناء ليس من الأول . وقرأ أبو عبد الرحمن ونبيح { إلا أن تصدقوا { بتخفيف الصاد والتاء . وكذلك قرأ أبو عمرو , إلا أنه شدد الصاد . ويجوز على هذه القراءة حذف التاء الثانية , ولا يجوز حذفها على قراءة الياء . وفي حرف أبي وابن مسعود { إلا أن يتصدقوا { وأما الكفارة التي هي لله تعالى فلا تسقط بإبرائهم ; لأنه أتلف شخصا في عبادة الله سبحانه , فعليه أن يخلص آخر لعبادة ربه وإنما تسقط الدية التي هي حق لهم . وتجب الكفارة في مال الجاني ولا تتحمل . فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ هذه مسألة المؤمن يقتل في بلاد الكفار أو في حروبهم على أنه من الكفار . والمعنى عند ابن عباس وقتادة والسدي وعكرمة ومجاهد والنخعي : فإن كان هذا المقتول رجلا مؤمنا قد أمن وبقي في قومه وهم كفرة { عدو لكم { فلا دية فيه ; وإنما كفارته تحرير الرقبة . وهو المشهور من قول مالك , وبه قال أبو حنيفة . وسقطت الدية لوجهين : أحدهما : أن أولياء القتيل كفار فلا يصح أن تدفع إليهم فيتقووا بها . والثاني : أن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة , فلا دية ; لقوله تعالى : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } [ الأنفال : 72 ] . وقالت طائفة : بل الوجه في سقوط الدية أن الأولياء كفار فقط ; فسواء كان القتل خطأ بين أظهر المسلمين أو بين قومه ولم يهاجر أو هاجر ثم رجع إلى قومه كفارته التحرير ولا دية فيه , إذ لا يصح دفعها إلى الكفار , ولو وجبت الدية لوجبت لبيت المال على بيت المال ; فلا تجب الدية في هذا الموضع وإن جرى القتل في بلاد الإسلام . هذا قول الشافعي وبه قال الأوزاعي والثوري وأبو ثور . وعلى القول الأول إن قتل المؤمن في بلاد المسلمين وقومه حرب ففيه الدية لبيت المال والكفارة . قلت : ومن هذا الباب ما جاء في صحيح مسلم عن أسامة قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلا فقال : لا إله إلا الله ; فطعنته فوقع في نفسي من ذلك , فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أقال لا إله إلا الله وقتلته )  ! قال : قلت يا رسول الله , إنما قالها خوفا من السلاح ; قال : ( أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ؟ )  . فلم يحكم عليه صلى الله عليه وسلم بقصاص ولا دية . وروي عن أسامة أنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي بعد ثلاث مرات , وقال : ( أعتق رقبة )  ولم يحكم بقصاص ولا دية . فقال علماؤنا : أما سقوط القصاص فواضح إذ لم يكن القتل عدوانا ; وأما سقوط الدية فلأوجه ثلاثة : الأول : لأنه كان أذن له في أصل القتال فكان عنه إتلاف نفس محترمة غلطا كالخاتن والطبيب . الثاني : لكونه من العدو ولم يكن له ولي من المسلمين تكون له ديته ; لقوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم { كما ذكرنا . الثالث : أن أسامة اعترف بالقتل ولم تقم بذلك بينة ولا تعقل العاقلة اعترافا , ولعل أسامة لم يكن له مال تكون فيه الدية . والله أعلم . وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ هذا في الذمي والمعاهد يقتل خطأ فتجب الدية والكفارة ; قاله ابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي . واختاره الطبري قال : إلا أن الله سبحانه وتعالى أبهمه ولم يقل وهو مؤمن , كما قال في القتيل من المؤمنين ومن أهل الحرب . وإطلاقه ما قيد قبل يدل على أنه خلافه . وقال الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم أيضا : المعنى وإن كان المقتول خطأ مؤمنا من قوم معاهدين لكم فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم , فكفارته التحرير وأداء الدية . وقرأها الحسن : { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن " . قال الحسن : إذا قتل المسلم الذمي فلا كفارة عليه . قال أبو عمر : وأما الآية فمعناها عند أهل الحجاز مردود على قوله : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } ثم قال تعالى : { وإن كان من قوم { يريد ذلك المؤمن . والله أعلم . قال ابن العربي : والذي عندي أن الجملة محمولة حمل المطلق على المقيد . قلت : وهذا معنى ما قال الحسن وحكاه أبو عمر عن أهل الحجاز . وقوله { فدية مسلمة { على لفظ النكرة ليس يقتضي دية بعينها . وقيل : هذا في مشركي العرب الذين كان بينهم وبين النبي عليه السلام عهد على أن يسلموا أو يؤذنوا بحرب إلى أجل معلوم : فمن قتل منهم وجبت فيه الدية والكفارة ثم نسخ بقوله تعالى : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } [ التوبة : 1 ] . الرابعة عشرة : وأجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل ; قال أبو عمر : إنما صارت ديتها - والله أعلم - على النصف من دية الرجل من أجل أن لها نصف ميراث الرجل , وشهادة امرأتين بشهادة رجل . وهذا إنما هو في دية الخطأ , وأما العمد ففيه القصاص بين الرجال والنساء لقوله عز وجل : { النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] . و { الحر بالحر { كما تقدم في { البقرة } . روى الدارقطني من حديث موسى بن علي بن رباح اللخمي قال : سمعت أبي يقول إن أعمى كان ينشد في الموسم في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقول : يا أيها الناس لقيت منكرا هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا خرا معا كلاهما تكسرا وذلك أن الأعمى كان يقوده بصير فوقعا في بئر , فوقع الأعمى على البصير فمات البصير ; فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى . وقد اختلف العلماء في رجل يسقط على آخر فيموت أحدهما ; فروي عن ابن الزبير : يضمن الأعلى الأسفل , ولا يضمن الأسفل الأعلى . وهذا قول شريح والنخعي وأحمد وإسحاق . وقال مالك في رجلين جر أحدهما صاحبه حتى سقطا وماتا : على عاقلة الذي جبذه الدية . قال أبو عمر : ما أظن في هذا خلافا - والله أعلم - إلا ما قال بعض المتأخرين من أصحابنا وأصحاب الشافعي : يضمن نصف الدية ; لأنه مات من فعله , ومن سقوط الساقط عليه . وقال الحكم وابن شبرمة : إن سقط رجل على رجل من فوق بيت فمات أحدهما , قالا : يضمن الحي منهما . وقال الشافعي في رجلين يصدم أحدهما الآخر فماتا , قال : دية المصدوم على عاقلة الصادم , ودية الصادم هدر . وقال في الفارسين إذا اصطدما فماتا : على كل واحد منهما نصف دية صاحبه ; لأن كل واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل صاحبه ; وقال عثمان البتي وزفر . وقال مالك والأوزاعي والحسن بن حي وأبو حنيفة وأصحابه في الفارسين يصطدمان فيموتان : على كل واحد منهما دية الآخر على عاقلته . قال ابن خويز منداد : وكذلك عندنا السفينتان تصطدمان إذا لم يكن النوتي صرف السفينة ولا الفارس صرف الفرس . وروي عن مالك في السفينتين والفارسين . على كل واحد منهما الضمان لقيمة ما أتلف لصاحبه كاملا . واختلف العلماء من هذا الباب في تفصيل دية أهل الكتاب ; فقال مالك وأصحابه : هي على النصف من دية المسلم , ودية المجوسي ثمانمائة درهم , ودية نسائهم على النصف من ذلك . روي هذا القول عن عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير وعمرو بن شعيب وقال به أحمد بن حنبل . وهذا المعنى قد روى فيه سليمان بن بلال , عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة , عن عمرو بن شعيب , عن أبيه , عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية اليهودي والنصراني على النصف من دية المسلم . وعبد الرحمن هذا قد روى عنه الثوري أيضا . وقال ابن عباس والشعبي والنخعي : المقتول من أهل العهد خطأ لا تبالي مؤمنا كان أو كافرا على عهد قومه فيه الدية كدية المسلم ; وهو قول أبي حنيفة والثوري وعثمان البتي والحسن بن حي ; جعلوا الديات كلها سواء , المسلم واليهودي والنصراني والمجوسي والمعاهد والذمي , وهو قول عطاء والزهري وسعيد بن المسيب . وحجتهم قوله تعالى : { فدية { وذلك يقتضي الدية كاملة كدية المسلم . وعضدوا هذا بما رواه محمد بن إسحاق , عن داود بن الحصين , عن عكرمة , عن ابن عباس في قصة بني قريظة والنضير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ديتهم سواء دية كاملة . قال أبو عمر : هذا حديث فيه لين وليس في مثله حجة . وقال الشافعي : دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم , ودية المجوسي ثمانمائة درهم ; وحجته أن ذلك أقل ما قيل في ذلك , والذمة بريئة إلا بيقين أو حجة . وروي هذا القول عن عمر وعثمان , وبه قال ابن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة وعمرو بن دينار وأبو ثور وإسحاق . فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي الرقبة ولا اتسع ماله لشرائها . فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ أي فعليه صيام شهرين . مُتَتَابِعَيْنِ حتى لو أفطر يوما استأنف ; هذا قول الجمهور . وقال مكي عن الشعبي : إن صيام الشهرين يجزئ عن الدية والعتق لمن لم يجد . قال ابن عطية : وهذا القول وهم ; لأن الدية إنما هي على العاقلة وليست على القاتل . والطبري حكى هذا القول عن مسروق . والحيض لا يمنع التتابع من غير خلاف , وإنها إذا طهرت ولم تؤخر وصلت باقي صيامها بما سلف منه , لا شيء عليها غير ذلك إلا أن تكون طاهرا قبل الفجر فتترك صيام ذلك اليوم عالمة بطهرها , فإن فعلت استأنفت عند جماعة من العلماء ; قاله أبو عمر . واختلفوا في المريض الذي قد صام من شهري التتابع بعضها على قولين ; فقال مالك : وليس لأحد وجب عليه صيام شهرين متتابعين في كتاب الله تعالى أن يفطر إلا من عذر أو مرض أو حيض , وليس له أن يسافر فيفطر . وممن قال يبني في المرض سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن والشعبي وعطاء ومجاهد وقتادة وطاوس . وقال سعيد بن جبير والنخعي والحكم بن عيينة وعطاء الخراساني : يستأنف في المرض ; وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والحسن بن حي ; وأحد قولي الشافعي ; وله قول آخر : أنه يبني كما قال مالك . وقال ابن شبرمة : يقضي ذلك اليوم وحده إن كان عذر غالب , كصوم رمضان . قال أبو عمر : حجة من قال يبني لأنه معذور في قطع التتابع لمرضه ولم يتعمد , وقد تجاوز الله عن غير المتعمد . وحجة من قال يستأنف لأن التتابع فرض لا يسقط لعذر , وإنما يسقط المأثم ; قياسا على الصلاة ; لأنها ركعات متتابعات فإذا قطعها عذرا استأنف ولم يبن . تَوْبَةً مِنَ اللهِ نصب على المصدر , ومعناه رجوعا . وإنما مست حاجة المخطئ إلى التوبة لأنه لم يتحرز وكان من حقه أن يتحفظ . وقيل : أي فليأت بالصيام تخفيفا من الله تعالى عليه بقبول الصوم بدلا عن الرقبة ; ومنه قوله تعالى : { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم } [ البقرة : 187 ] أي خفف , وقوله تعالى : { علم أن لن تحصوه فتاب عليكم } [ المزمل : 20 ] . وَكَانَ اللهُ أي في أزله وأبده . عَلِيمًا بجميع المعلومات حَكِيمًا فيما حكم وأبرم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا
    +/- -/+  
الأية
93
 
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا فيه سبع مسائل : الأولى : قوله تعالى : { ومن يقتل } { من { شرط , وجوابه { فجزاؤه { وسيأتي . واختلف العلماء في صفة المتعمد في القتل ; فقال عطاء والنخعي وغيرهما : هو من قتل بحديدة كالسيف والخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المشحوذ المعد للقطع أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقال الحجارة ونحوها . وقالت فرقة : المتعمد كل من قتل بحديدة كان القتل أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك , وهذا قول الجمهور . الثانية : ذكر الله عز وجل في كتابه العمد والخطأ ولم يذكر شبه العمد وقد اختلف العلماء في القول به , فقال ابن المنذر : أنكر ذلك مالك , وقال : ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ . وذكره الخطابي أيضا عن مالك وزاد : وأما شبه العمد فلا نعرفه . قال أبو عمر : أنكر مالك والليث بن سعد شبه العمد ; فمن قتل عندهما بما لا يقتل مثله غالبا كالعضة واللطمة وضربة السوط والقضيب وشبه ذلك فإنه عمد وفيه القود . قال أبو عمر : وقال بقولهما جماعة من الصحابة والتابعين . وذهب جمهور فقهاء الأمصار إلى أن هذا كله شبه العمد . وقد ذكر عن مالك وقاله ابن وهب وجماعة من الصحابة والتابعين . قال ابن المنذر : وشبه العمد يعمل به عندنا . وممن أثبت شبه العمد الشعبي والحكم وحماد والنخعي وقتادة وسفيان الثوري وأهل العراق والشافعي , وروينا ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما . قلت : وهو الصحيح ; فإن الدماء أحق ما احتيط لها إذ الأصل صيانتها في أهبها , فلا تستباح إلا بأمرين لا إشكال فيه , وهذا فيه إشكال ; لأنه لما كان مترددا بين العمد والخطأ حكم له بشبه العمد ; فالضرب مقصود والقتل غير مقصود , وإنما وقع بغير القصد فيسقط القود وتغلظ الدية . وبمثل هذا جاءت السنة ; روى أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها )  . وروى الدارقطني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( العمد قود اليد والخطأ عقل لا قود فيه ومن قتل في عمية بحجر أو عصا أو سوط فهو دية مغلظة في أسنان الإبل )  . وروي أيضا من حديث سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عقل شبه العمد مغلظ مثل قتل العمد ولا يقتل صاحبه )  . وهذا نص . وقال طاوس في الرجل يصاب في ماء الرميا في القتال بالعصا أو السوط أو الترامي بالحجارة يودى ولا يقتل به من أجل أنه لا يدرى , من قاتله . وقال أحمد بن حنبل : العميا هو الأمر الأعمى للعصبية لا تستبين ما وجهه . وقال إسحاق : هذا في تحارج القوم وقتل بعضهم بعضا . فكأن أصله من التعمية وهو التلبيس ; ذكره الدارقطني . مسألة : واختلف القائلون بشبه العمد في الدية المغلظة , فقال عطاء والشافعي : هي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة . وقد روي هذا القول عن عمر وزيد بن ثابت والمغيرة بن شعبة وأبي موسى الأشعري ; وهو مذهب مالك حيث يقول بشبه العمد , ومشهور مذهبه أنه لم يقل به إلا في مثل قصة المدلجي بابنه حيث ضربه بالسيف . وقيل : هي مربعة ربع بنات لبون , وربع حقاق , وربع جذاع , وربع بنات مخاض . هذا قول النعمان ويعقوب ; وذكره أبو داود عن سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي . وقيل : هي مخمسة : عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة ; هذا قول أبي ثور . وقيل : أربعون جذعة إلى بازل عامها وثلاثون حقة , وثلاثون بنات لبون . وروي عن عثمان بن عفان وبه قال الحسن البصري وطاوس والزهري . وقيل : أربع وثلاثون خلفة إلى بازل عامها , وثلاث وثلاثون حقة , وثلاث وثلاثون جذعة ; وبه قال الشعبي والنخعي , وذكره أبو داود عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي . الثالثة : واختلفوا فيمن تلزمه دية شبه العمد ; فقال الحارث العكلي وابن أبي ليلى وابن شبرمة وقتادة وأبو ثور : هو عليه في ماله . وقال الشعبي والنخعي والحكم والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي : هو على العاقلة . قال ابن المنذر : قول الشعبي أصح ; لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية الجنين على عاقلة الضاربة . الرابعة : أجمع العلماء على أن العاقلة لا تحمل دية العمد وأنها في مال الجاني ; وقد تقدم ذكرها في { البقرة } . وقد أجمعوا على أن على القاتل خطأ الكفارة ; واختلفوا فيها في قتل العمد ; فكان مالك والشافعي يريان على قاتل العمد الكفارة كما في الخطأ . قال الشافعي : إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب في العمد أولى . وقال : إذا شرع السجود في السهو فلأن يشرع في العمد أولى , وليس ما ذكره الله تعالى في كفارة العمد بمسقط ما قد وجب في الخطأ . وقد قيل : إن القاتل عمدا إنما تجب عليه الكفارة إذا عفي عنه فلم يقتل , فأما إذا قتل قودا فلا كفارة عليه تؤخذ من ماله . وقيل تجب . ومن قتل نفسه فعليه الكفارة في ماله . وقال الثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي : لا تجب الكفارة إلا حيث أوجبها الله تعالى . قال ابن المنذر : وكذلك نقول ; لأن الكفارات عبادات ولا يجوز التمثيل . وليس يجوز لأحد أن يفرض فرضا يلزمه عباد الله إلا بكتاب أو سنة أو إجماع , وليس مع من فرض على القاتل عمدا كفارة حجة من حيث ذكرت . الخامسة : واختلفوا في الجماعة يقتلون الرجل خطأ ; فقالت طائفة : على كل واحد منهم الكفارة ; كذلك قال الحسن وعكرمة والنخعي والحارث العكلي ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي . وقالت طائفة : عليهم كلهم كفارة واحدة ; هكذا قال أبو ثور , وحكي ذلك عن الأوزاعي . وفرق الزهري بين العتق والصوم ; فقال في الجماعة يرمون بالمنجنيق فيقتلون رجلا : عليهم كلهم عتق رقبة , وإن كانوا لا يجدون فعلى كل واحد منهم صوم شهرين متتابعين . السادسة : روى النسائي : أخبرنا الحسن بن إسحاق المروزي - ثقة قال : حدثنا خالد بن خداش قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل عن بشير بن المهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا )  . وروي عن عبد الله قال : قال رسول الله : ( أول ما يحاسب به العبد الصلاة وأول ما يقضى بين الناس في الدماء )  . وروى إسماعيل بن إسحاق عن نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عباس أنه سأل سائل فقال : يا أبا العباس , هل للقاتل توبة ؟ فقال له ابن عباس كالمتعجب من مسألته : ماذا تقول ! مرتين أو ثلاثا . ثم قال ابن عباس : ويحك ! أنى له توبة ! سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : ( يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله بيده الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يوقفا فيقول المقتول لله سبحانه وتعالى رب هذا قتلني فيقول الله تعالى للقاتل تعست ويذهب به إلى النار )  . وعن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما نازلت ربي في شيء ما نازلته في قتل المؤمن فلم يجبني )  . السابعة : واختلف العلماء في قاتل العمد هل له من توبة ؟ فروى البخاري عن سعد بن جبير قال : اختلف فيها أهل الكوفة , فرحلت فيها إلى ابن عباس , فسألته عنها فقال : نزلت هذه الآية { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم { هي آخر ما نزل وما نسخها شيء . وروى النسائي عنه قال : سألت ابن عباس هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة ؟ قال : لا . وقرأت عليه الآية التي في الفرقان : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } [ الفرقان : 68 ] قال : هذه آية مكية نسختها آية مدنية { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه } . وروي عن زيد بن ثابت نحوه , وإن آية النساء نزلت بعد آية الفرقان بستة أشهر , وفي رواية بثمانية أشهر ; ذكرهما النسائي عن زيد بن ثابت . وإلى عموم هذه الآية مع هذه الأخبار عن زيد وابن عباس ذهبت المعتزلة وقالوا : هذا مخصص عموم قوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] ورأوا أن الوعيد نافذ حتما على كل قاتل ; فجمعوا بين الآيتين بأن قالوا : التقدير ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء إلا من قتل عمدا . وذهب جماعة من العلماء منهم . عبد الله بن عمر - وهو أيضا مروي عن زيد وابن عباس - إلى أن له توبة . روى يزيد بن هارون قال : أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال ألمن قتل مؤمنا متعمدا توبة ؟ قال : لا , إلا النار ; قال : فلما ذهب قال له جلساؤه : أهكذا كنت تفتينا ؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة ; قال : إني لأحسبه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا . قال : فبعثوا في إثره فوجدوه كذلك . وهذا مذهب أهل السنة وهو الصحيح , وإن هذه الآية مخصوصة , ودليل التخصيص آيات وأخبار . وقد أجمعوا على أن الآية نزلت في مقيس بن صبابة ; وذلك أنه كان قد أسلم هو وأخوه هشام بن صبابة ; فوجد هشاما قتيلا في بني النجار فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم , فكتب له إليهم أن يدفعوا إليه قاتل أخيه وأرسل معه رجلا من بني فهر ; فقال بنو النجار : والله ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدي الدية ; فأعطوه مائة من الإبل ; ثم انصرفا راجعين إلى المدينة فعدا مقيس على الفهري فقتله بأخيه وأخذ الإبل وانصرف إلى مكة كافرا مرتدا , وجعل ينشد : قتلت به فهرا وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع حللت به وتري وأدركت ثورتي وكنت إلى الأوثان أول راجع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا أؤمنه في حل ولا حرم )  . وأمر بقتله يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة . وإذا ثبت هذا بنقل أهل التفسير وعلماء الدين فلا ينبغي أن يحمل على المسلمين , ثم ليس الأخذ بظاهر الآية بأولى من الأخذ بظاهر قوله : { إن الحسنات يذهبن السيئات } [ هود : 114 ] وقوله تعالى : { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } [ الشورى : 25 ] وقوله : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] . والأخذ بالظاهرين تناقض فلا بد من التخصيص . ثم إن الجمع بين آية { الفرقان { وهذه الآية ممكن فلا نسخ ولا تعارض , وذلك أن يحمل مطلق آية { النساء { على مقيد آية { الفرقان { فيكون معناه فجزاؤه كذا إلا من تاب ; لا سيما وقد اتحد الموجب وهو القتل والموجب وهو التواعد بالعقاب . وأما الأخبار فكثيرة كحديث عبادة بن الصامت الذي قال فيه : ( تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه )  . رواه الأئمة أخرجه الصحيحان . وكحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي قتل مائة نفس . أخرجه مسلم في صحيحه وابن ماجه في سننه وغيرهما إلى غير ذلك من الأخبار الثابتة . ثم إنهم قد أجمعوا معنا في الرجل يشهد عليه بالقتل , ويقر بأنه قتل عمدا , ويأتي السلطان الأولياء فيقام عليه الحد ويقتل قودا , فهذا غير متبع في الآخرة , والوعيد غير نافذ عليه إجماعا على مقتضى حديث عبادة ; فقد انكسر عليهم ما تعلقوا به من عموم قوله تعالى : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم { ودخله التخصيص بما ذكرنا , وإذا كان كذلك فالوجه أن هذه الآية مخصوصة كما بينا , أو تكون محمولة على ما حكي عن ابن عباس أنه قال : متعمدا معناه مستحلا لقتله ; فهذا أيضا يئول إلى الكفر إجماعا . وقالت جماعة : إن القاتل في المشيئة تاب أو لم يتب ; قاله أبو حنيفة وأصحابه . فإن قيل : إن قوله تعالى : { فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه { دليل على كفره ; لأن الله تعالى لا يغضب إلا على كافر خارج من الإيمان . قلنا : هذا وعيد , والخلف في الوعيد كرم ; كما قال : ش وإني متى أوعدته أو وعدته و لمخلف إيعادي ومنجز موعدي ش وقد تقدم . جواب ثان : إن جازاه بذلك ; أي هو أهل لذلك ومستحقه لعظيم ذنبه . نص على هذا أبو مجلز لاحق بن حميد وأبو صالح وغيرهما . وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا وعد الله لعبد ثوابا فهو منجزه وإن أوعد له العقوبة فله المشيئة إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه )  . وفي هذين التأويلين دخل , أما الأول - فقال القشيري : وفي هذا نظر ; لأن كلام الرب لا يقبل الخلف إلا أن يراد بهذا تخصيص العام ; فهو إذا جائز في الكلام . وأما الثاني : وإن روي أنه مرفوع فقال النحاس : وهذا الوجه الغلط فيه بين , وقد قال الله عز وجل : " ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا } [ الكهف : 106 ] ولم يقل أحد : إن جازاهم ; وهو خطأ في العربية لأن بعده { وغضب الله عليه { وهو محمول على معنى جازاه . وجواب ثالث : فجزاؤه جهنم إن لم يتب وأصر على الذنب حتى وافى ربه على الكفر بشؤم المعاصي . وذكر هبة الله في كتاب { الناسخ والمنسوخ { أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] , وقال : هذا إجماع الناس إلا ابن عباس وابن عمر فإنهما قالا هي محكمة . وفي هذا الذي قاله نظر ; لأنه موضع عموم وتخصيص لا موضع نسخ ; قال ابن عطية . قلت : هذا حسن ; لأن النسخ لا يدخل الأخبار إنما المعنى فهو يجزيه . وقال النحاس في { معاني القرآن { له : القول فيه عند العلماء أهل النظر أنه محكم وأنه يجازيه إذا لم يتب , فإن تاب فقد بين أمره بقوله : { وإني لغفار لمن تاب " [ طه : 82 ] فهذا لا يخرج عنه , والخلود لا يقتضي الدوام , قال الله تعالى : " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } [ الأنبياء : 35 ] الآية . وقال تعالى : { يحسب أن ماله أخلده } [ الهمزة : 3 ] . وقال زهير : ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا وهذا كله يدل على أن الخلد يطلق على غير معنى التأبيد ; فإن هذا يزول بزوال الدنيا . وكذلك العرب تقول : لأخلدن فلانا في السجن ; والسجن ينقطع ويفنى , وكذلك المسجون . ومثله قولهم في الدعاء : خلد الله ملكه وأبد أيامه . وقد تقدم هذا كله لفظا ومعنى . والحمد لله .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
    +/- -/+  
الأية
94
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ هذا متصل بذكر القتل والجهاد . والضرب : السير في الأرض ; تقول العرب : ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيره ; مقترنة بفي . وتقول : ضربت الأرض دون { في { إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان ; ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يخرج الرجلان يضربان الغائط يتحدثان كاشفين عن فرجيهما فإن الله يمقت على ذلك )  . وهذه الآية نزلت في قوم من المسلمين مروا في سفرهم برجل معه جمل وغنيمة يبيعها فسلم على القوم وقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ; فحمل عليه أحدهم فقتله . فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم شق عليه ونزلت الآية . وأخرجه البخاري عن عطاء عن ابن عباس قال : قال ابن عباس : كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال : السلام عليكم , فقتلوه وأخذوا غنيمته ; فأنزل الله تعالى ذلك إلى قوله : { عرض الحياة الدنيا { تلك الغنيمة . قال : قرأ ابن عباس { السلام } . في غير البخاري : وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله ورد عليه غنيماته . واختلف في تعيين القاتل والمقتول في هذه النازلة , فالذي عليه الأكثر وهو في سير ابن إسحاق ومصنف أبي داود والاستيعاب لابن عبد البر أن القاتل محلم بن جثامة , والمقتول عامر بن الأضبط فدعا عليه السلام على محلم فما عاش بعد ذلك إلا سبعا ثم دفن فلم تقبله الأرض ثم دفن فلم تقبله ثم دفن ثالثة فلم تقبله ; فلما رأوا أن الأرض لا تقبله ألقوه في بعض تلك الشعاب ; وقال عليه السلام : ( إن الأرض لتقبل من هو شر منه )  . قال الحسن : أما إنها تحبس من هو شر منه ولكنه وعظ القوم ألا يعودوا . وفي سنن ابن ماجه عن عمران بن حصين قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا من المسلمين إلى المشركين فقاتلوهم قتالا شديدا , فمنحوهم أكتافهم فحمل رجل من لحمتي على رجل من المشركين بالرمح فلما غشيه قال : أشهد أن لا إله إلا الله ; إني مسلم ; فطعنه فقتله ; فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله , هلكت ! قال : ( وما الذي صنعت )  ؟ مرة أو مرتين , فأخبره بالذي صنع . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه )  فقال : يا رسول الله لو شققت بطنه أكنت أعلم ما في قلبه ؟ قال : ( لا فلا أنت قبلت ما تكلم به ولا أنت تعلم ما في قلبه )  . فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات فدفناه , فأصبح على وجه الأرض . فقلنا : لعل عدوا نبشه , فدفناه ثم أمرنا غلماننا يحرسونه فأصبح على ظهر الأرض . فقلنا : لعل الغلمان نعسوا , فدفناه ثم حرسناه بأنفسنا فأصبح على ظهر الأرض , فألقيناه في بعض تلك الشعاب . وقيل : إن القاتل أسامة بن زيد والمقتول مرداس بن نهيك الغطفاني ثم الفزاري من بني مرة من أهل فدك . وقال ابن القاسم عن مالك . وقيل : كان مرداس هذا قد أسلم من الليلة وأخبر بذلك أهله ; ولما عظم النبي صلى الله عليه وسلم الأمر على أسامة حلف عند ذلك ألا يقاتل رجلا يقول : لا إله إلا الله . وقد تقدم القول فيه . وقيل : القاتل أبو قتادة . وقيل : أبو الدرداء . ولا خلاف أن الذي لفظته الأرض حين مات هو محرم الذي ذكرناه . ولعل هذه الأحوال جرت في زمان متقارب فنزلت الآية في الجميع . وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على أهل المسلم الغنم والجمل وحمل ديته على طريق الائتلاف والله أعلم . وذكر الثعلبي أن أمير تلك السرية رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي . وقيل : المقداد حكاه السهيلي . اللهِ أي تأملوا . و { تبينوا { قراءة الجماعة , وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم , وقالا : من أمر بالتبين فقد أمر بالتثبيت ; يقال : تبينت الأمر وتبين الأمر بنفسه , فهو متعد ولازم . وقرأ حمزة } فتثبتوا { من التثبت بالثاء مثلثة وبعدها باء بواحدة { وتبينوا { في هذا أوكد ; لأن الإنسان قد يتثبت ولا يبين . وفي { إذا { معنى الشرط , فلذلك دخلت الفاء في قوله } فتبينوا } . وقد يجازى بها كما قال : وإذا تصبك خصاصة فتجمل والجيد ألا يجازى بها كما قال الشاعر : والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع والتبين التثبت في القتل واجب حضرا وسفرا ولا خلاف فيه , وإنما خص السفر بالذكر لأن الحادثة التي فيها نزلت الآية وقعت في السفر . فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ فيها ست مسائل الأولى : السلم والسلم , والسلام واحد , قاله البخاري . وقرئ بها كلها . واختار أبو عبيد القاسم بن سلام { السلام } . وخالفه أهل النظر فقالوا : { السلم { ههنا أشبه ; لأنه بمعنى الانقياد والتسليم , كما قال عز وجل : { فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء } [ النحل : 28 ] فالسلم الاستسلام والانقياد . أي لا تقولوا لمن ألقى بيده واستسلم لكم وأظهر دعوتكم لست مؤمنا . وقيل : السلام قول السلام عليكم , وهو راجع إلى الأول ; لأن سلامه بتحية الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده , ويحتمل أن يراد به الانحياز والترك . قال الأخفش : يقال فلان سلام إذا كان لا يخالط أحدا . والسلم ( بشد السين وكسرها وسكون اللام )  الصلح . الثانية : وروي عن أبي جعفر أنه قرأ { لست مؤمنا { بفتح الميم الثانية , من آمنته إذا أجرته فهو مؤمن . الثالثة : والمسلم إذا لقي الكافر ولا عهد له جاز له قتله ; فإن قال : لا إله إلا الله لم يجز قتله ; لأنه قد اعتصم بعصام الإسلام المانع من دمه وماله وأهله : فإن قتله بعد ذلك قتل به . وإنما سقط القتل عن هؤلاء لأجل أنهم كانوا في صدر الإسلام وتأولوا أنه قالها متعوذا وخوفا من السلاح , وأن العاصم قولها مطمئنا , فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاصم كيفما قالها ; ولذلك قال لأسامة : ( أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا )  أخرجه مسلم . أي تنظر أصادق هو في قوله أم كاذب ؟ وذلك لا يمكن فلم يبق إلا أن يبين عنه لسانه . وفي هذا من الفقه باب عظيم , وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر . الرابعة : فإن قال : سلام عليكم فلا ينبغي أن يقتل أيضا حتى يعلم ما وراء هذا ; لأنه موضع إشكال . وقد قال مالك في الكافر يوجد فيقول : جئت مستأمنا أطلب الأمان : هذه أمور مشكلة , وأرى أن يرد إلى مأمنه ولا يحكم له بحكم الإسلام ; لأن الكفر قد ثبت له فلا بد أن يظهر منه ما يدل على قوله , ولا يكفي أن يقول أنا مسلم ولا أنا مؤمن ولا أن يصلي حتى يتكلم بالكلمة العاصمة التي علق النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بها عليه في قوله : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله )  . الخامسة : فإن صلى أو فعل فعلا من خصائص الإسلام فقد اختلف فيه علماؤنا ; فقال ابن العربي : نرى أنه لا يكون بذلك مسلما , أما أنه يقال له : ما وراء هذه الصلاة ؟ فإن قال : صلاة مسلم , قيل له : قل لا إله إلا الله ; فإن قالها تبين صدقه , وإن أبى علمنا أن ذلك تلاعب , وكانت عند من يرى إسلامه ردة , والصحيح أنه كفر أصلي ليس بردة . وكذلك هذا الذي قال : سلام عليكم , يكلف الكلمة , فإن قالها تحقق رشاده , وإن أبى تبين عناده وقتل . وهذا معنى قوله : { فتبينوا { أي الأمر المشكل , أو { تثبتوا { ولا تعجلوا المعنيان سواء . فإن قتله أحد فقد أتى منهيا عنه . فإن قيل : فتغليظ النبي صلى الله عليه وسلم على محلم , ونبذه من قبره كيف مخرجه ؟ قلنا : لأنه علم من نيته أنه لم يبال بإسلامه فقتله متعمدا لأجل الحنة التي كانت بينهما في الجاهلية . السادسة : استدل بهذه الآية من قال : إن الإيمان هو القول , لقوله تعالى : { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا } . قالوا : ولما منع أن يقال لمن قال لا إله إلا الله لست مؤمنا منع من قتلهم بمجرد القول . ولولا الإيمان الذي هو هذا القول لم يعب قولهم . قلنا : إنما شك القوم في حالة أن يكون هذا القول منه تعوذا فقتلوه , والله لم يجعل لعباده غير الحكم بالظاهر ; وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله )  وليس في ذلك أن الإيمان هو الإقرار فقط ; ألا ترى أن المنافقين كانوا يقولون هذا القول وليسوا بمؤمنين حسب ما تقدم بيانه في { البقرة } وقد كشف البيان في هذا قوله عليه السلام : ( أفلا شققت عن قلبه )  ؟ فثبت أن الإيمان هو الإقرار وغيره , وأن حقيقته التصديق بالقلب , ولكن ليس للعبد طريق إليه إلا ما سمع منه فقط . واستدل بهذا أيضا من قال : إن الزنديق تقبل توبته إذا أظهر الإسلام ; قال : لأن الله تعالى لم يفرق بين الزنديق وغيره متى أظهر الإسلام . وقد مضى القول في هذا في أول البقرة . وفيها رد على القدرية , فإن الله تعالى أخبر أنه من على المؤمنين من بين جميع الخلق بأن خصهم بالتوفيق , والقدرية تقول : خلقهم كلهم للإيمان . ولو كان كما زعموا لما كان لاختصاص المؤمنين بالمنة من بين الخلق معنى . مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ أي تبتغون أخذ ماله : ويسمى متاع الدنيا عرضا لأنه عارض زائل غير ثابت . قال أبو عبيدة : يقال جميع متاع الحياة الدنيا عرض بفتح الراء ; ومنه : ( الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر )  . والعرض ( بسكون الراء )  ما سوى الدنانير والدراهم ; فكل عرض عرض , وليس كل عرض عرضا . وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس )  . وقد أخذ بعض العلماء هذا المعنى فنظمه : تقنع بما يكفيك واستعمل الرضا فإنك لا تدري أتصبح أم تمسي فليس الغنى عن كثرة المال إنما يكون الغنى والفقر من قبل النفس وهذا يصحح قول أبي عبيدة : فإن المال يشمل كل ما يتمول . وفي كتاب العين : العرض ما نيل من الدنيا ; ومنه قوله تعالى : { تريدون عرض الدنيا } [ الأنفال : 67 ] وجمعه عروض . وفي المجمل لابن فارس : والعرض ما يعترض الإنسان من مرض أو نحوه وعرض الدنيا ما كان فيها من مال قل أو كثر . والعرض من الأثاث ما كان غير نقد . وأعرض الشيء إذا ظهر وأمكن . والعرض خلاف الطول . الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ عدة من الله تعالى بما يأتي به على وجهه ومن حله دون ارتكاب محظور , أي فلا تتهافتوا . كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ أي كذلك كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم خوفا منكم على أنفسكم حتى من الله عليكم بإعزاز الدين وغلبة المشركين , فهم الآن كذلك كل واحد منهم في قومه متربص أن يصل إليكم , فلا يصلح إذ وصل إليكم أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره . وقال ابن زيد : المعنى كذلك كنتم كفرة قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ بأن أسلمتم فلا تنكروا أن يكون هو كذلك ثم يسلم لحينه حين لقيكم فيجب أن تتثبتوا في أمره . عَلَيْكُمْ أعاد الأمر بالتبيين للتأكيد . فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ تحذير عن مخالفة أمر الله ; أي احفظوا أنفسكم وجنبوها الزلل الموبق لكم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا
    +/- -/+  
الأية
95
 
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ { لا يستوي القاعدون من المؤمنين { قال ابن عباس : لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها . ثم قال : { غير أولي الضرر { والضرر الزمانة . روى الأئمة واللفظ لأبي داود عن زيد بن ثابت قال : كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي , فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سري عنه فقال : ( اكتب )  فكتبت في كتف { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله { إلى آخر الآية ; فقام ابن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - لما سمع فضيلة المجاهدين فقال : يا رسول الله , فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين ؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم السكينة فوقعت فخذه على فخذي , ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى , ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( اقرأ يا زيد )  فقرأت { لا يستوي القاعدون من المؤمنين { فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { غير أولي الضرر } الآية كلها . قال زيد : فأنزلها الله وحدها فألحقتها ; والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف . وفي البخاري عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث أنه سمع ابن عباس يقول : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين { عن بدر والخارجون إلى بدر . قال العلماء : أهل الضرر هم أهل الأعذار إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد . وصح وثبت في الخبر أنه عليه السلام قال - وقد قفل من بعض قطعتم واديا ولا سرتم مسيرا إلا كانوا معكم أولئك قوم حبسهم العذر )  . فهذا يقتضي أن صاحب العذر يعطى أجر الغازي ; فقيل : يحتمل أن يكون أجره مساويا وفي فضل الله متسع , وثوابه فضل لا استحقاق ; فيثيب على النية الصادقة ما لا يثيب على الفعل . وقيل : يعطى أجره من غير تضعيف فيفضله الغازي بالتضعيف للمباشرة . والله أعلم . قلت : والقول الأول أصح - إن شاء الله - للحديث الصحيح في ذلك ( إن بالمدينة رجالا )  ولحديث أبي كبشة الأنماري قوله عليه السلام ( إنما الدنيا لأربعة نفر )  الحديث وقد تقدم في سورة { آل عمران } . ومن هذا المعنى ما ورد في الخبر ( إذا مرض العبد قال الله تعالى اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ أو أقبضه إلي )  . وقد تمسك بعض العلماء بهذه الآية بأن أهل الديوان أعظم أجرا من أهل التطوع ; لأن أهل الديوان لما كانوا متملكين بالعطاء , ويصرفون في الشدائد , وتروعهم البعوث والأوامر , كانوا أعظم من المتطوع ; لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف الكبار ونحوها . قال ابن محيريز : أصحاب العطاء أفضل من المتطوعة لما يروعون . قال مكحول : روعات البعوث تنفي روعات القيامة . وتعلق بها أيضا من قال : إن الغنى أفضل من الفقر ; لذكر الله تعالى المال الذي يوصل به إلى صالح الأعمال . وقد اختلف الناس في هذه المسألة مع اتفاقهم أن ما أحوج من الفقر مكروه , وما أبطر من الغنى مذموم ; فذهب قوم إلى تفضيل الغني , لأن الغني مقتدر والفقير عاجز , والقدرة أفضل من العجز . قال الماوردي : وهذا مذهب من غلب عليه حب النباهة . وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر , لأن الفقير تارك والغني ملابس , وترك الدنيا أفضل من ملابستها . قال الماوردي : وهذا مذهب من غلب عليه حب السلامة . وذهب آخرون إلى تفضيل التوسط بين الأمرين بأن يخرج عن حد الفقر إلى أدنى مراتب الغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين , وليسلم من مذمة الحالين . قال الماوردي : وهذا مذهب من يرى تفضيل الاعتدال وأن ( خير الأمور أوسطها )  . ولقد أحسن الشاعر الحكيم حيث قال : ألا عائذا بالله من عدم الغنى ومن رغبة يوما إلى غير مرغب قوله تعالى : { غير أولي الضرر { قراءة أهل الكوفة وأبو عمرو { غير { بالرفع ; قال الأخفش : هو نعت للقاعدين ; لأنهم لم يقصد بهم قوم بأعيانهم فصاروا كالنكرة فجاز وصفهم بغير ; والمعنى لا يستوي القاعدون غير أولي الضرر ; أي لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر . والمعنى لا يستوي القاعدون الأصحاء ; قاله الزجاج . وقرأ أبو حيوة { غير { جعله نعتا للمؤمنين ; أي من المؤمنين الذين هم غير أولي الضرر من المؤمنين الأصحاء . وقرأ أهل الحرمين { غير } بالنصب على الاستثناء من القاعدين أو من المؤمنين ; أي إلا أولي الضرر فإنهم يستوون مع المجاهدين . وإن شئت على الحال من القاعدين ; أي لا يستوي القاعدون من الأصحاء أي في حال صحتهم ; وجازت الحال منهم ; لأن لفظهم لفظ المعرفة , وهو كما تقول : جاءني زيد غير مريض . وما ذكرناه من سبب النزول يدل على معنى النصب , والله أعلم . فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا { فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة { وقد قال بعد هذا : { درجات منه ومغفرة ورحمة { فقال قوم : التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد . وقيل : فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة , وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات ; قال ابن جريج والسدي وغيرهما . وقيل : إن معنى درجة علو , أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء والمدح والتقريظ . فهذا معنى درجة , ودرجات يعني في الجنة . قال ابن محيريز : سبعين درجة بين كل درجتين حضر الفرس الجواد سبعين سنة . و { درجات { بدل من أجر وتفسير له , ويجوز نصبه أيضا على تقدير الظرف ; أي فضلهم بدرجات , ويجوز أن يكون توكيدا لقول { أجرا عظيما { لأن الأجر العظيم هو الدرجات والمغفرة والرحمة , ويجوز الرفع ; أي ذلك درجات . و { أجرا { نصب ب { فضل { وإن شئت كان مصدرا وهو أحسن , ولا ينتصب ب { فضل { لأنه قد استوفى مفعوليه وهما قوله : { المجاهدين { و } على القاعدين } ; وكذا { درجة } . فالدرجات منازل بعضها أعلى من بعض . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله بين الدرجتين كما بين السماء والأرض )  .{ وكلا وعد الله الحسنى } { كلا { منصوب ب } وعد { و } الحسنى { الجنة ; أي وعد الله كلا الحسنى . ثم قيل : المراد ( بكل )  المجاهدون خاصة . وقيل : المجاهدون وأولو الضرر . والله أعلم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً ۚ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا
    +/- -/+  
الأية
96
 
الملء ( بالكسر )  مقدار ما يملأ الشيء , والملء ( بالفتح )  مصدر ملأت الشيء ; ويقال : أعطني ملأه وملأيه وثلاثة أملائه . والواو في { لو افتدى به { قيل : هي مقحمة زائدة ; المعنى : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو افتدى به . وقال أهل النظر من النحويين : لا يجوز أن تكون الواو مقحمة لأنها تدل على معنى . ومعنى الآية : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا تبرعا ولو افتدى به . و { ذهبا { نصب على التفسير في قول الفراء . قال المفضل : شرط التفسير أن يكون الكلام تاما وهو مبهم ; كقولك عندي عشرون ; فالعدد معلوم والمعدود مبهم ; فإذا قلت درهما فسرت . وإنما نصب التمييز لأنه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه , وكان النصب أخف الحركات فجعل لكل ما لا عامل فيه . وقال الكسائي : نصب على إضمار من , أي من ذهب ; كقوله : { أو عدل ذلك صياما } [ المائدة : 95 ] أي من صيام . وفي البخاري ومسلم عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك )  . لفظ البخاري . وقال مسلم بدل ( قد كنت ; كذبت , قد سئلت )  .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا
    +/- -/+  
الأية
97
 
الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ المراد بها جماعة من أهل مكة كانوا قد أسلموا وأظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به , فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أقاموا مع قومهم وفتن منهم جماعة فافتتنوا , فلما كان أمر بدر خرج منهم قوم مع الكفار ; فنزلت الآية . وقيل : إنهم لما استحقروا عدد المسلمين دخلهم شك في دينهم فارتدوا فقتلوا على الردة ; فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا على الخروج فاستغفروا لهم ; فنزلت الآية . والأول أصح . روى البخاري عن محمد بن عبد الرحمن قال : قطع على أهل المدينة بعث فاكتتبت فيه فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته فنهاني عن ذلك أشد النهي , ثم قال : أخبرني ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل ; فأنزل الله تعالى : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } . { توفاهم الملائكة { يحتمل أن يكون فعلا ماضيا لم يستند بعلامة تأنيث , إذ تأنيث لفظ الملائكة غير حقيقي , ويحتمل أن يكون فعلا مستقبلا على معنى تتوفاهم ; فحذفت إحدى التاءين . وحكى ابن فورك عن الحسن أن المعنى تحشرهم إلى النار . وقيل : تقبض أرواحهم ; وهو أظهر . وقيل : المراد بالملائكة ملك الموت ; لقوله تعالى : { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } [ السجدة : 11 ] . ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ نصب على الحال ; أي في حال ظلمهم أنفسهم , والمراد ظالمين أنفسهم فحذف النون استخفافا وأضاف ; كما قال تعالى : { هديا بالغ الكعبة } [ المائدة : 95 ] . قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ تسألهم الملائكة سؤال تقريع وتوبيخ , أي أكنتم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أم كنتم مشركين ! والأصل { فيما { ثم حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر , والوقف عليها ( فيمه )  لئلا تحذف الألف والحركة . قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ يعني مكة , اعتذار غير صحيح ; إذ كانوا يستطيعون الحيل ويهتدون السبيل , ثم وقفتهم الملائكة على دينهم بقولهم { ألم تكن أرض الله واسعة } . ويفيد هذا السؤال والجواب أنهم ماتوا مسلمين ظالمين لأنفسهم في تركهم الهجرة , وإلا فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شيء من هذا , وإنما أضرب عن ذكرهم في الصحابة لشدة ما واقعوه , ولعدم تعين أحدهم بالإيمان , واحتمال ردته . والله أعلم . ثم استثنى تعالى منهم من الضمير الذي هو الهاء والميم في { مأواهم } من كان مستضعفا حقيقة من زمنى الرجال وضعفة النساء والولدان ; كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام وغيرهم الذين دعا لهم الرسول صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس : كنت أنا وأمي ممن عنى الله بهذه الآية ; وذلك أنه كان من الولدان إذ ذاك , وأمه هي أم الفضل بنت الحارث واسمها لبابة , وهي أخت ميمونة , وأختها الأخرى لبابة الصغرى , وهن تسع أخوات قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهن : ( الأخوات مؤمنات )  ومنهن سلمى والعصماء وحفيدة ويقال في حفيدة : أم حفيد , واسمها هزيلة . هن ست شقائق وثلاث لأم ; وهن سلمى , وسلامة , وأسماء . بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب , ثم امرأة أبي بكر الصديق , ثم امرأة علي رضي الله عنهم أجمعين . قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا المدينة ; أي ألم تكونوا متمكنين قادرين على الهجرة والتباعد ممن كان يستضعفكم ! وفي هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي . وقال سعيد بن جبير : إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها ; وتلا { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما السلام )  . فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ أي مثواهم النار . وكانت الهجرة واجبة على كل من أسلم . وَسَاءَتْ مَصِيرًا نصب على التفسير .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا
    +/- -/+  
الأية
98
 
الحيلة لفظ عام لأنواع أسباب التخلص . والسبيل سبيل المدينة ; فيما ذكر مجاهد والسدي وغيرهما , والصواب أنه عام في جميع السبل .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ۚ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا
    +/- -/+  
الأية
99
 
هذا الذي لا حيلة له في الهجرة لا ذنب له حتى يعفى عنه ; ولكن المعنى أنه قد يتوهم أنه يجب تحمل غاية المشقة في الهجرة , حتى إن من لم يتحمل تلك المشقة يعاقب فأزال الله ذلك الوهم ; إذ لا يجب تحمل غاية المشقة , بل كان يجوز ترك الهجرة عند فقد الزاد والراحلة . فمعنى الآية ; فأولئك لا يستقصى عليهم في المحاسبة ; ولهذا قال : " وكان الله عفوا غفورا { والماضي والمستقبل في حقه تعالى واحد , وقد تقدم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ ۗ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا
    +/- -/+  
الأية
100
 
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا شرط وجوابه { يجد في الأرض مراغما { اختلف في تأويل المراغم ; فقال مجاهد : المراغم المتزحزح . وقال ابن عباس والضحاك والربيع وغيرهم : المراغم المتحول والمذهب . وقال ابن زيد : والمراغم المهاجر ; وقاله أبو عبيدة . قال النحاس : فهذه الأقوال متفقة المعاني . فالمراغم المذهب والمتحول في حال هجرة , وهو اسم الموضع الذي يراغم فيه , وهو مشتق من الرغام . ورغم أنف فلان أي لصق بالتراب . وراغمت فلانا هجرته وعاديته , ولم أبال إن رغم أنفه . وقيل : إنما سمي مهاجرا ومراغما لأن الرجل كان إذا أسلم عادى قومه وهجرهم , فسمي خروجه مراغما , وسمي مصيره إلى النبي صلى الله عليه وسلم هجرة . وقال السدي : المراغم المبتغى للمعيشة . وقال ابن القاسم : سمعت مالكا يقول : المراغم الذهاب في الأرض . وهذا كله تفسير بالمعنى , وكله قريب بعضه من بعض ; فأما الخاص باللفظة فإن المراغم موضع المراغمة كما ذكرنا , وهو أن يرغم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده ; فكأن كفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين بمكة , فلو هاجر منهم مهاجر لأرغم أنوف قريش لحصوله في منعة منهم , فتلك المنعة هي موضع المراغمة . ومنه قول النابغة : كطرد يلاذ بأركانه عزيز المراغم والمهرب وَسَعَةً أي في الرزق ; قاله ابن عباس والربيع والضحاك . وقال قتادة : المعنى سعة من الضلالة إلى الهدى ومن العلة إلى الغنى . وقال مالك : السعة سعة البلاد . وهذا أشبه بفصاحة العرب ; فإن بسعة الأرض وكثرة المعاقل تكون السعة في الرزق , واتساع الصدر لهمومه وفكره وغير ذلك من وجوه الفرج . ونحو هذا المعنى قول الشاعر : وكنت إذا خليل رام قطعي وجدت وراي منفسحا عريضا وقال آخر : لكان لي مضطرب واسع في الأرض ذات الطول والعرض قال مالك : هذه الآية دالة على أنه ليس لأحد المقام بأرض يسب فيها السلف ويعمل فيها بغير الحق . وقال : والمراغم الذهاب في الأرض , والسعة سعة البلاد على ما تقدم . واستدل أيضا بعض العلماء بهذه الآية على أن للغازي إذا خرج إلى الغزو ثم مات قبل القتال له سهمه وإن لم يحضر الحرب ; رواه ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أهل المدينة . وروي ذلك عن ابن المبارك أيضا . وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ قال عكرمة مولى ابن عباس : طلبت اسم هذا الرجل أربع عشرة سنة حتى وجدته . وفي قول عكرمة هذا دليل على شرف هذا العلم قديما , وأن الاعتناء به حسن والمعرفة به فضل ; ونحو منه قول ابن عباس : مكثت سنين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم , ما يمنعني إلا مهابته . والذي ذكره عكرمة هو ضمرة بن العيص أو العيص بن ضمرة بن زنباع ; حكاه الطبري عن سعيد بن جبير . ويقال فيه : ضميرة أيضا . ويقال : جندع بن ضمرة من بني ليث , وكان من المستضعفين بمكة وكان مريضا , فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة قال : أخرجوني ; فهيئ له فراش ثم وضع عليه وخرج به فمات في الطريق بالتنعيم , فأنزل الله فيه { ومن يخرج من بيته مهاجرا { الآية . وذكر أبو عمر أنه قد قيل فيه : خالد بن حزام بن خويلد ابن أخي خديجة , وأنه هاجر إلى أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات قبل أن يبلغ أرض الحبشة ; فنزلت فيه الآية , والله أعلم . وحكى أبو الفرج الجوزي أنه حبيب بن ضمرة . وقيل : ضمرة بن جندب الضمري ; عن السدي . وحكي عن عكرمة أنه جندب بن ضمرة الجندعي . وحكي عن ابن جابر أنه ضمرة بن بغيض الذي من بني ليث . وحكى المهدوي أنه ضمرة بن ضمرة بن نعيم . وقيل : ضمرة بن خزاعة , والله أعلم . وروى معمر عن قتادة قال : لما نزلت { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم { الآية , قال رجل من المسلمين وهو مريض : والله ما لي من عذر ! إني لدليل في الطريق , وإني لموسر , فاحملوني . فحملوه فأدركه الموت في الطريق ; فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لو بلغ إلينا لتم أجره ; وقد مات بالتنعيم . وجاء بنوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بالقصة , فنزلت هذه الآية { ومن يخرج من بيته مهاجرا { الآية . وكان اسمه ضمرة بن جندب , ويقال : جندب بن ضمرة على ما تقدم . قال ابن العربي : قسم العلماء رضي الله عنهم الذهاب في الأرض قسمين : هربا وطلبا ; فالأول ينقسم إلى ستة أقسام : الأول : الهجرة وهي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام , وكانت فرضا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم , وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة , والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان ; فإن بقي في دار الحرب عصى ; ويختلف في حاله . الثاني : الخروج من أرض البدعة ; قال ابن القاسم : سمعت مالكا يقول لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف . قال ابن العربي : وهذا صحيح ; فإن المنكر إذا لم تقدر أن تغيره فزل عنه , قال الله تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم { إلى قوله { الظالمين } [ الأنعام : 68 ] . الثالث : الخروج من أرض غلب عليها الحرام : فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم . الرابع : الفرار من الأذية في البدن ; وذلك فضل من الله أرخص فيه , فإذا خشي على نفسه فقد أذن الله في الخروج عنه والفرار بنفسه ليخلصها من ذلك المحذور . وأول من فعله إبراهيم عليه السلام ; فإنه لما خاف من قومه قال : { إني مهاجر إلى ربي } [ العنكبوت : 26 ] , وقال : { إني ذاهب إلى ربي سيهدين } [ الصافات : 99 ] . وقال مخبرا عن موسى : { فخرج منها خائفا يترقب } [ القصص : 21 ] . الخامس : خوف المرض في البلاد الوخمة والخروج منها إلى الأرض النزهة . وقد أذن صلى الله عليه وسلم للرعاة حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المسرح فيكونوا فيه حتى يصحوا . وقد استثني من ذلك الخروج من الطاعون ; فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن نبيه صلى الله عليه وسلم , وقد تقدم بيانه في { البقرة } . بيد أن علماءنا قالوا : هو مكروه . السادس : الفرار خوف الأذية في المال ; فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه , والأهل مثله وأوكد . وأما قسم الطلب فينقسم قسمين : طلب دين وطلب دنيا ; فأما طلب الدين فيتعدد بتعدد أنواعه إلى تسعة أقسام : الأول : سفر العبرة ; قال الله تعالى : " أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } [ الروم : 9 ] وهو كثير . ويقال : إن ذا القرنين إنما طاف الأرض ليرى عجائبها . وقيل : لينفذ الحق فيها . الثاني : سفر الحج . والأول وإن كان ندبا فهذا فرض . الثالث : سفر الجهاد وله أحكامه . الرابع : سفر المعاش ; فقد يتعذر على الرجل معاشه مع الإقامة فيخرج في طلبه لا يزيد عليه من صيد أو احتطاب أو احتشاش ; فهو فرض عليه . الخامس : سفر التجارة والكسب الزائد على القوت , وذلك جائز بفضل الله سبحانه وتعالى , قال الله تعالى : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } [ البقرة : 198 ] يعني التجارة , وهي نعمة من الله بها في سفر الحج , فكيف إذا انفردت . السادس : في طلب العلم وهو مشهور . السابع : قصد البقاع ; قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد )  . الثامن : الثغور للرباط بها وتكثير سوادها للذب عنها . التاسع : زيارة الإخوان في الله تعالى : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( زار رجل أخا له في قرية فأرصد الله له ملكا على مدرجته فقال أين تريد فقال أريد أخا لي في هذه القرية قال : هل لك من نعمة تربها عليه قال لا غير أني أحببته في الله عز وجل قال فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه )  . رواه مسلم وغيره . وَكَانَ اللهُ غَفُورًا لما كان منه من الشرك . رَحِيمًا حين قبل توبته .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا
    +/- -/+  
الأية
101
 
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ قاله تعالى على جهة التعجب , أي { وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله { يعني القرآن . وَفِيكُمْ رَسُولُهُ محمد صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس : كان بين الأوس والخزرج قتال وشر في الجاهلية , فذكروا ما كان بينهم فثار بعضهم على بعض بالسيوف ; فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فذهب إليهم ; فنزلت هذه الآية { وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله - إلى قوله تعالى : فأنقذكم منها } ويدخل في هذه الآية من لم ير النبي صلى الله عليه وسلم ; لأن ما فيهم من سنته يقوم مقام رؤيته . قال الزجاج : يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد خاصة ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيهم وهم يشاهدونه . ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الأمة ; لأن آثاره وعلاماته والقرآن الذي أوتي فينا مكان النبي صلى الله عليه وسلم فينا وإن لم نشاهده . وقال قتادة : في هذه الآية علمان بينان : كتاب الله ونبي الله ; فأما نبي الله فقد مضى , وأما كتاب الله فقد أبقاه بين أظهرهم رحمة منه ونعمة ; فيه حلاله وحرامه , وطاعته ومعصيته .{ وكيف { في موضع نصب , وفتحت الفاء عند الخليل وسيبويه لالتقاء الساكنين , واختير لها الفتح لأن ما قبل الفاء ياء فثقل أن يجمعوا بين ياء وكسرة . وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ أي يمتنع ويتمسك بدينه وطاعته . فَقَدْ هُدِيَ وفق وأرشد إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ابن جريج { يعتصم بالله { يؤمن به . وقيل : المعنى ومن يعتصم بالله أي يتمسك بحبل الله , وهو القرآن . يقال : أعصم به واعتصم , وتمسك واستمسك إذا امتنع به من غيره . واعتصمت فلانا هيأت له ما يعتصم به . وكل متمسك بشيء معصم ومعتصم . وكل مانع شيئا فهو عاصم ; قال الفرزدق : أنا ابن العاصمين بني تميم إذا ما أعظم الحدثان نابا قال النابغة : يظل من خوفه الملاح معتصما بالخيزرانة بعد الأين والنجد وقال آخر : فأشرط فيها نفسه وهو معصم وألقى بأسباب له وتوكلا وعصمه الطعام : منع الجوع منه ; تقول العرب : عصم فلانا الطعام أي منعه من الجوع ; فكنوا السويق بأبي عاصم لذلك . قال أحمد بن يحيى : العرب تسمي الخبز عاصما وجابرا ; وأنشد : فلا تلوميني ولومي جابرا فجابر كلفني الهواجرا ويسمونه عامرا . وأنشد : أبو مالك يعتادني بالظهائر يجيء فيلقي رحله عند عامر أبو مالك كنية الجوع .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ۗ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَىٰ أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ ۖ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ۗ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا
    +/- -/+  
الأية
102
 
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ قوله تعالى : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة { روى الدارقطني عن أبي عياش الزرقي قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان , فاستقبلنا المشركون , عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة , فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر , فقالوا : قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم ; قال : ثم قالوا تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم ; قال : فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية بين الظهر والعصر { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } . وذكر الحديث . وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى . وهذا كان سبب إسلام خالد رضي الله عنه . وقد اتصلت هذه الآية بما سبق من ذكر الجهاد . وبين الرب تبارك وتعالى أن الصلاة لا تسقط بعذر السفر ولا بعذر الجهاد وقتال العدو , ولكن فيها رخص على ما تقدم في { البقرة { وهذه السورة , بيانه من اختلاف العلماء . وهذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم , وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم القيامة , ومثله قوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] هذا قول كافة العلماء . وشذ أبو يوسف وإسماعيل ابن علية فقالا : لا نصلي صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم ; فإن الخطاب كان خاصا له بقوله تعالى : { وإذا كنت فيهم { وإذا لم يكن فيهم لم يكن ذلك لهم ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس كغيره في ذلك , وكلهم كان يحب أن يأتم به ويصلي خلفه , وليس أحد بعده يقوم في الفضل مقامه , والناس بعده تستوي أحوالهم وتتقارب ; فلذلك يصلي الإمام بفريق ويأمر من يصلي بالفريق الآخر , وأما أن يصلوا بإمام واحد فلا . وقال الجمهور : إنا قد أمرنا باتباعه والتأسي به في غير ما آية وغير حديث , فقال تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة .. ." [ النور : 63 ] وقال صلى الله عليه وسلم : ( صلوا كما رأيتموني أصلي )  . فلزم اتباعه مطلقا حتى يدل دليل واضح على الخصوص ; ولو كان ما ذكروه دليلا على الخصوص للزم قصر الخطابات على من توجهت له , وحينئذ كان يلزم أن تكون الشريعة قاصرة على من خوطب بها ; ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين اطرحوا توهم الخصوص في هذه الصلاة وعدوه إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم , وهم أعلم بالمقال وأقعد بالحال . وقد قال تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } [ الأنعام : 68 ] وهذا خطاب له , وأمته داخلة فيه , ومثله كثير . وقال تعالى : { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] وذلك لا يوجب الاقتصار عليه وحده , وأن من بعده يقوم في ذلك مقامه ; فكذلك في قوله : { وإذا كنت فيهم } . ألا ترى أن أبا بكر الصديق في جماعة الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا من تأول في الزكاة مثل ما تأولتموه في صلاة الخوف . قال أبو عمر : ليس في أخذ الزكاة التي قد استوى فيها النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء ما يشبه صلاة من صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى خلف غيره ; لأن أخذ الزكاة فائدتها توصيلها للمساكين , وليس فيها فضل للمعطى كما في الصلاة فضل للمصلي خلفه . قوله تعالى : " فلتقم طائفة منهم معك { يعني جماعة منهم تقف معك في الصلاة .{ ليأخذوا أسلحتهم } يعني الذين يصلون معك . ويقال : { وليأخذوا أسلحتهم { الذين هم بإزاء العدو , على ما يأتي بيانه . ولم يذكر الله تعالى في الآية لكل طائفة إلا ركعة واحدة , ولكن روي في الأحاديث أنهم أضافوا إليها أخرى , على ما يأتي . وحذفت الكسرة من قوله : { فلتقم } و { فليكونوا { لثقلها . وحكى الأخفش والفراء والكسائي أن لام الأمر ولام كي ولام الجحود يفتحن . وسيبويه يمنع من ذلك لعلة موجبة , وهي الفرق بين لام الجر ولام التأكيد . والمراد من هذا الأمر الانقسام , أي وسائرهم وجاه العدو حذرا من توقع حملته . وقد اختلفت الروايات في هيئة صلاة الخوف , واختلف العلماء لاختلافها , فذكر ابن القصار أنه صلى الله عليه وسلم صلاها في عشرة مواضع . قال ابن العربي : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة . وقال الإمام أحمد بن حنبل , وهو إمام أهل الحديث والمقدم في معرفة علل النقل فيه : لا أعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت . وهي كلها صحاح ثابتة , فعلى أي حديث صلى منها المصلي صلاة الخوف أجزأه إن شاء الله . وكذلك قال أبو جعفر الطبري . وأما مالك وسائر أصحابه إلا أشهب فذهبوا في صلاة الخوف إلى حديث سهل بن أبي حثمة , وهو ما رواه في موطئه عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات الأنصاري أن سهل بن أبي حثمة حدثه أن صلاة الخوف أن يقوم الإمام ومعه طائفة من أصحابه وطائفة مواجهة العدو , فيركع الإمام ركعة ويسجد بالذين معه ثم يقوم , فإذا استوى قائما ثبت , وأتموا لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون وينصرفون والإمام قائم , فيكونون وجاه العدو , ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراء الإمام فيركع بهم الركعة ويسجد ثم يسلم , فيقومون ويركعون لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون . قال ابن القاسم صاحب مالك : والعمل عند مالك على حديث القاسم بن محمد عن صالح بن خوات . قال ابن القاسم : وقد كان يأخذ بحديث مزيد بن رومان ثم رجع إلى هذا . قال أبو عمر : حديث القاسم وحديث يزيد بن رومان كلاهما عن صالح بن خوات : إلا أن بينهما فصلا في السلام , ففي حديث القاسم أن الإمام يسلم بالطائفة الثانية ثم يقومون فيقضون لأنفسهم الركعة , وفي حديث يزيد بن رومان أنه ينتظرهم ويسلم بهم . وبه قال الشافعي وإليه ذهب ; قال الشافعي : حديث يزيد بن رومان عن صالح بن خوات هذا أشبه الأحاديث في صلاة الخوف بظاهر كتاب الله , وبه أقول . ومن حجة مالك في اختياره حديث القاسم القياس على سائر الصلوات , في أن الإمام ليس له أن ينتظر أحدا سبقه بشيء منها , وأن السنة المجتمع عليها أن يقضي المأمومون ما سبقوا به بعد سلام الإمام . وقول أبي ثور في هذا الباب كقول مالك , وقال أحمد كقول الشافعي في المختار عنده , وكان لا يعيب من فعل شيئا من الأوجه المروية في صلاة الخوف . وذهب أشهب من أصحاب مالك إلى حديث ابن عمر قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو , ثم انصرفوا وقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدو , وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم , ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة . وقال ابن عمر : فإذا كان خوف أكثر من ذلك صلى راكبا أو قائما يومئ إيماء , أخرجه البخاري ومسلم ومالك وغيرهم . وإلى هذه الصفة ذهب الأوزاعي , وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر , قال : لأنه أصحها إسنادا , وقد ورد بنقل أهل المدينة وبهم الحجة على من خالفهم , ولأنه أشبه بالأصول , لأن الطائفة الأولى والثانية لم يقضوا الركعة إلا بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة , وهو المعروف من سنته المجتمع عليها في سائر الصلوات . وأما الكوفيون : أبو حنيفة وأصحابه إلا أبا يوسف القاضي يعقوب فذهبوا إلى حديث عبد الله بن مسعود , أخرجه أبو داود والدارقطني قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فقاموا صفين , صفا خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصفا مستقبل العدو , فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة , وجاء الآخرون فقاموا مقامهم , واستقبل هؤلاء العدو فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سلم , فقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلين العدو , ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا . وهذه الصفة والهيئة هي الهيئة المذكورة في حديث ابن عمر إلا أن بينهما فرقا ; وهو أن قضاء أولئك في حديث ابن عمر يظهر أنه في حالة واحدة ويبقى الإمام كالحارس وحده , وهاهنا قضاؤهم متفرق على صفة صلاتهم . وقد تأول بعضهم حديث ابن عمر على ما جاء في حديث ابن مسعود . وقد ذهب إلى حديث ابن مسعود الثوري - في إحدى الروايات الثلاث عنه - وأشهب بن عبد العزيز فيما ذكر أبو الحسن اللخمي عنه , والأول ذكره أبو عمر وابن يونس وابن حبيب عنه . وروى أبو داود من حديث حذيفة وأبي هريرة وابن عمر أنه عليه السلام صلى بكل طائفة ركعة ولم يقضوا , وهو مقتضى حديث ابن عباس { وفي الخوف ركعة } . وهذا قول إسحاق . وقد تقدم في { البقرة { الإشارة إلى هذا , وأن الصلاة أولى بما احتيط لها , وأن حديث ابن عباس لا تقوم به حجة , وقوله في حديث حذيفة وغيره : " ولم يقضوا { أي في علم من روى ذلك , لأنه قد روي أنهم قضوا ركعة في تلك الصلاة بعينها , وشهادة من زاد أولى . ويحتمل أن يكون المراد لم يقضوا , أي لم يقضوا إذا أمنوا , وتكون فائدة أن الخائف إذا أمن لا يقضي ما صلى على تلك الهيئة من الصلوات في الخوف , قال جميعه أبو عمر . وفي صحيح مسلم عن جابر أنه عليه الصلاة والسلام صلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا , وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين . قال : فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان . وأخرجه أبو داود والدارقطني من حديث الحسن عن أبي بكرة وذكرا فيه أنه سلم من كل ركعتين . وأخرجه الدارقطني أيضا عن الحسن عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم ركعتين ثم سلم , ثم صلى بالآخرين ركعتين ثم سلم . قال أبو داود : وبذلك كان الحسن يفتي , وروي عن الشافعي . وبه يحتج كل من أجاز اختلاف نية الإمام والمأموم في الصلاة , وهو مذهب الشافعي والأوزاعي وابن علية وأحمد بن حنبل وداود . وعضدوا هذا بحديث جابر : إن معاذا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يأتي فيؤم قومه , الحديث . وقال الطحاوي : إنما كان هذا في أول الإسلام إذ كان يجوز أن تصلي الفريضة مرتين ثم نسخ ذلك , والله أعلم . فهذه أقاويل العلماء في صلاة الخوف . وهذه الصلاة المذكورة في القرآن إنما يحتاج إليها والمسلمون مستدبرون القبلة ووجه العدو القبلة , وإنما اتفق هذا بذات الرقاع , فأما بعسفان والموضع الآخر فالمسلمون كانوا في قبالة القبلة . وما ذكرناه من سبب النزول في قصة خالد بن الوليد لا يلائم تفريق القوم إلى طائفتين , فإن في الحديث بعد قوله : { فأقمت لهم الصلاة { قال : فحضرت الصلاة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا السلاح وصفنا خلفه صفين , قال : ثم ركع فركعنا جميعا , قال : ثم رفع فرفعنا جميعا , قال : ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه قال : والآخرون قيام يحرسونهم , فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم , قال : ثم تقدم هؤلاء في مصاف هؤلاء وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء , قال : ثم ركع فركعوا جميعا , ثم رفع فرفعوا جميعا , ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه , والأخرون قيام , يحرسونهم فلما جلس الآخرون سجدوا ثم سلم عليهم . قال : فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين : مرة بعسفان ومرة في أرض بني سليم . وأخرجه أبو داود من حديث أبي عياش الزرقي وقال : وهو قول الثوري وهو أحوطها . وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضجنان وعسفان ; الحديث . وفيه أنه عليه السلام صدعهم صدعين وصلى بكل طائفة ركعة , فكانت للقوم ركعة ركعة , وللنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان , قال : حديث حسن صحيح غريب . وفي الباب عن عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وجابر وأبي عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت , وابن عمر وحذيفة وأبي بكر وسهل بن أبي حثمة . قلت : ولا تعارض بين هذه الروايات , فلعله صلى بهم صلاة كما جاء في حديث أبي عياش مجتمعين , وصلى بهم صلاة أخرى متفرقين كما جاء في حديث أبي هريرة , ويكون فيه حجة لمن يقول صلاة الخوف ركعة . قال الخطابي : صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة , يتوخى فيها كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة . واختلفوا في كيفية صلاة المغرب , فروى الدارقطني عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالقوم صلاة المغرب ثلاث ركعات ثم انصرفوا , وجاء الآخرون فصلى بهم ثلاث ركعات , فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ستا وللقوم ثلاثا ثلاثا , وبه قال الحسن . والجمهور في صلاة المغرب على خلاف هذا , وهو أنه يصلي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة , وتقضي على اختلاف أصولهم فيه متى يكون ؟ هل قبل سلام الإمام أو بعده . هذا قول مالك وأبي حنيفة , لأنه أحفظ لهيئة الصلاة . وقال الشافعي : يصلى بالأولى ركعة , لأن عليا رضي الله عنه فعلها ليلة الهرير , والله تعالى أعلم . واختلفوا في صلاة الخوف عند التحام الحرب وشدة القتال وخيف خروج الوقت فقال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة العلماء : يصلى كيفما أمكن , لقول ابن عمر : فإن كان خوف أكثر من ذلك فيصلي راكبا أو قائما يومئ إيماء . قال في الموطأ : مستقبل القبلة وغير مستقبلها , وقد تقدم في { البقرة { قول الضحاك وإسحاق . وقال الأوزاعي : إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه ; فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ويأمنوا فيصلوا ركعتين , فإن لم يقدروا صلوا ركعة سجدتين , فإن لم يقدروا يجزئهم التكبير ويؤخروها حتى يأمنوا ; وبه قال مكحول . قلت : وحكاه الكيا الطبري في { أحكام القرآن { له عن أبي حنيفة وأصحابه , قال الكيا : وإذا كان الخوف أشد من ذلك وكان التحام القتال فإن المسلمين يصلون على ما أمكنهم مستقبلي القبلة ومستدبريها , وأبو حنيفة وأصحابه الثلاثة متفقون على أنهم لا يصلون والحالة هذه بل يؤخرون الصلاة . وإن قاتلوا في الصلاة قالوا : فسدت الصلاة وحكي عن الشافعي أنه إن تابع الطعن والضرب فسدت صلاته . قلت : وهذا القول يدل على صحة قول أنس : حضرت مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر , واشتد اشتعال القتال فلم نقدر على الصلاة إلا بعد ارتفاع النهار ; فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا . قال أنس : وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها , ذكره البخاري وإليه كان يذهب شيخنا الأستاذ أبو جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بأبي حجة ; وهو اختيار البخاري فيما يظهر ; لأنه أردفه بحديث جابر , قال : جاء عمر يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول : يا رسول الله , ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغرب , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وأنا والله ما صليتها )  قال : فنزل إلى بطحان فتوضأ وصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى المغرب بعدها . واختلفوا في صلاة الطالب والمطلوب ; فقال مالك وجماعة من أصحابه هما سواء , كل واحد منهما يصلي على دابته . وقال الأوزاعي والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث وابن عبد الحكم : لا يصلي الطالب إلا بالأرض وهو الصحيح ; لأن الطلب تطوع , والصلاة المكتوبة فرضها أن تصلي بالأرض حيثما أمكن ذلك , ولا يصليها راكب إلا خائف شديد خوفه وليس كذلك الطالب . والله أعلم . واختلفوا أيضا في العسكر إذا رأوا سوادا فظنوه عدوا فصلوا صلاة الخوف ثم بان لهم أنه غير شيء ; فلعلمائنا فيه روايتان : إحداهما يعيدون , وبه قال أبو حنيفة . والثانية لا إعادة عليهم , وهو أظهر قولي الشافعي . ووجه الأولى أنهم تبين لهم الخطأ فعادوا إلى الصواب كحكم الحاكم . ووجه الثانية أنهم عملوا على اجتهادهم فجاز لهم كما لو أخطئوا القبلة ; وهذا أولى لأنهم فعلوا ما أمروا به . وقد يقال : يعيدون في الوقت , فأما بعد خروجه فلا . والله أعلم . فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ الضمير في { سجدوا { للطائفة المصلية فلينصرفوا ; هذا على بعض الهيئات المروية . وقيل : المعنى فإذا سجدوا ركعة القضاء ; وهذا على هيئة سهل بن أبي حثمة . ودلت هذه الآية على أن السجود قد يعبر به عن جميع الصلاة ; وهو كقوله عليه السلام : ( إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين )  . أي فليصل ركعتين وهو في السنة . والضمير في قوله : { فليكونوا { يحتمل أن يكون للذين سجدوا , ويحتمل أن يكون للطائفة القائمة أولا بإزاء العدو . { وليأخذوا أسلحتهم } وقال : { وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم { هذا وصاة بالحذر وأخذ السلاح لئلا ينال العدو أمله ويدرك فرصته . والسلاح ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب , قال عنترة : كسوت الجعد بني أبان سلاحي بعد عري وافتضاح يقول : أعرته سلاحي ليمتنع بها بعد عريه من السلاح . قال ابن عباس : { وليأخذوا أسلحتهم { يعني الطائفة التي وجاه العدو , لأن المصلية لا تحارب . وقال غيره : هي المصلية أي وليأخذ الذين صلوا أولا أسلحتهم , ذكره , الزجاج . قال : ويحتمل أن تكون الطائفة الذين هم في الصلاة أمروا بحمل السلاح ; أي فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإنه أرهب للعدو . النحاس : يجوز أن يكون للجميع ; لأنه أهيب . للعدو . ويحتمل أن يكون للتي وجاه العدو خاصة . قال أبو عمر : أكثر أهل العلم يستحبون للمصلي أخذ سلاحه إذا صلى في الخوف , ويحملون قوله : " وليأخذوا أسلحتهم { على الندب ; لأنه شيء لولا الخوف لم يجب أخذه ; فكان الأمر به ندبا . وقال أهل الظاهر : أخذ السلاح في صلاة الخوف واجب لأمر الله به , إلا لمن كان به أذى من مطر , فإن كان ذلك جاز له وضع سلاحه . قال ابن العربي : إذا صلوا أخذوا سلاحهم عند الخوف , وبه قال الشافعي وهو نص القرآن . وقال أبو حنيفة : لا يحملونها ; لأنه لو وجب عليهم حملها لبطلت الصلاة بتركها . قلنا : لم يجب حملها لأجل الصلاة وإنما وجب عليهم قوة لهم ونظرا . وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ أي تمنى وأحب الكافرون غفلتكم عن أخذ السلاح ليصلوا إلى مقصودهم ; فبين الله تعالى بهذا وجه الحكمة في الأمر بأخذ السلاح , وذكر الحذر في الطائفة الثانية دون الأولى ; لأنها أولى بأخذ الحذر , لأن العدو لا يؤخر قصده عن هذا الوقت لأنه آخر الصلاة ; وأيضا يقول العدو قد أثقلهم السلاح وكلوا . وفي هذه الآية أدل دليل على تعاطي الأسباب , واتخاذ كل ما ينجي ذوي الألباب , ويوصل إلى السلامة , ويبلغ دار الكرامة . فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً مبالغة , أي مستأصلة لا يحتاج معها إلى ثانية . وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا للعلماء في وجوب حمل السلاح في الصلاة كلام قد أشرنا إليه , فإن لم يجب فيستحب للاحتياط . ثم رخص في المطر وضعه ; لأنه تبتل المبطنات وتثقل ويصدأ الحديد . وقيل : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم يوم بطن نخلة لما انهزم المشركون وغنم المسلمون ; وذلك أنه كان يوما مطيرا وخرج النبي صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته واضعا سلاحه , فرآه الكفار منقطعا عن أصحابه فقصده غورث بن الحارث فانحدر عليه من الجبل بسيفه , فقال : من يمنعك مني اليوم ؟ فقال : ( الله )  ثم قال : ( اللهم اكفني الغورث بما شئت )  . فأهوى بالسيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه , فانكب لوجهه لزلقة زلقها . وذكر الواقدي أن جبريل عليه السلام دفعه في صدره على ما يأتي في المائدة , وسقط السيف من يده فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ( من يمنعك مني يا غورث )  ؟ فقال : لا أحد . فقال : ( تشهد لي بالحق وأعطيك سيفك )  ؟ قال : لا ; ولكن أشهد ألا أقاتلك بعد هذا ولا أعين عليك عدوا ; فدفع إليه السيف ونزلت الآية رخصة في وضع السلاح في المطر . ومرض عبد الرحمن بن عوف من جرح كما في صحيح البخاري , فرخص الله سبحانه لهم في ترك السلاح والتأهب للعدو بعذر المطر , ثم أمرهم فقال : { خذوا حذركم { أي كونوا متيقظين , وضعتم السلاح أو لم تضعوه . وهذا يدل على تأكيد التأهب والحذر من العدو في كل الأحوال وترك الاستسلام ; فإن الجيش ما جاءه مصاب قط إلا من تفريط في حذر , وقال الضحاك في قوله تعالى : { وخذوا حذركم { يعني تقلدوا سيوفكم فإن ذلك هيئة الغزاة .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ ۚ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۚ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا
    +/- -/+  
الأية
103
 
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ { قضيتم { معناه فرغتم من صلاه الخوف وهذا يدل على أن القضاء يستعمل فيما قد فعل في وقته ; ومنه قوله تعالى : { فإذا قضيتم مناسككم } [ البقرة : 200 ] وقد تقدم . الثانية : قوله تعالى : { فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم { ذهب الجمهور إلى أن هذا الذكر المأمور به . إنما هو إثر صلاة الخوف ; أي إذا فرغتم من الصلاة فاذكروا الله بالقلب واللسان , على أي حال كنتم { قياما وقعودا وعلى جنوبكم { وأديموا ذكره بالتكبير والتهليل والدعاء بالنصر لا سيما في حال القتال . ونظيره } إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } [ الأنفال : 45 ] . ويقال : { فإذا قضيتم الصلاة { بمعنى إذا صليتم في دار الحرب فصلوا على الدواب , أو قياما أو قعودا أو على جنوبكم إن لم تستطيعوا القيام , إذا كان خوفا أو مرضا ; كما قال تعالى في آية أخرى : { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } [ البقرة : 239 ] وقال قوم : هذه الآية نظيرة التي في { آل عمران } ; فروي أن عبد الله بن مسعود رأى الناس يضجون في المسجد فقال : ما هذه الضجة ؟ قالوا : أليس الله تعالى يقول { فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم { ؟ قال : إنما يعني بهذا الصلاة المكتوبة إن لم تستطع قائما فقاعدا , وإن لم تستطع فصل على جنبك . فالمراد نفس الصلاة ; لأن الصلاة ذكر الله تعالى , وقد اشتملت على الأذكار المفروضة والمسنونة ; والقول الأول أظهر . والله أعلم . فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ أي أمنتم . والطمأنينة سكون النفس من الخوف . فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ أي فأتوها بأركانها وبكمال هيئتها في السفر , وبكمال عددها في الحضر . إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا أي مؤقتة مفروضة . وقال زيد بن أسلم : { موقوتا { منجما , أي تؤدونها في أنجمها ; والمعنى عند أهل اللغة : مفروض لوقت بعينه ; يقال : وقته فهو موقوت . ووقته فهو مؤقت . وهذا قول زيد بن أسلم بعينه . وقال : { كتابا { والمصدر مذكر ; فلهذا قال : " موقوتا } .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
    +/- -/+  
الأية
104
 
وَلَا تَهِنُوا أي لا تضعفوا , وقد تقدم في { آل عمران } . فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ طلبهم قيل : نزلت في حرب أحد حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج في آثار المشركين , وكان بالمسلمين جراحات , وكان أمر ألا يخرج معه إلا من كان في الوقعة , كما تقدم في { آل عمران { وقيل : هذا في كل جهاد . إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ { إن تكونوا تألمون { أي تتألمون مما أصابكم من الجراح فهم يتألمون أيضا مما يصيبهم , ولكم مزية وهي أنكم ترجون ثواب الله وهم لا يرجونه ; ولك أن من لا يؤمن بالله لا يرجون من الله شيئا . ونظير هذه الآية { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } [ آل عمران : 140 ] وقد تقدم . وقرأ عبد الرحمن الأعرج { أن تكونوا { بفتح الهمزة , أي لأن وقرأ منصور بن المعتمر { إن تكونوا تألمون { بكسر التاء . ولا يجوز عند البصريين كسر التاء لثقل الكسر فيها . ثم قيل : الرجاء هنا بمعنى الخوف ; لأن من رجا شيئا فهو غير قاطع بحصوله فلا يخلو من خوف فوت ما يرجو . وقال الفراء والزجاج : لا يطلق الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي ; كقوله تعالى : " ما لكم لا ترجون لله وقارا } [ نوح : 13 ] أي لا تخافون لله عظمة . وقوله تعالى : " للذين لا يرجون أيام الله } [ الجاثية : 14 ] أي لا يخافون . قال القشيري : ولا يبعد ذكر الخوف من غير أن يكون في الكلام نفي , ولكنهما ادعيا أنه لم يوجد ذلك إلا مع النفي . والله أعلم . وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا بجميع المعلومات حَكِيمًا فيما حكم وأبرم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ ۚ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا
    +/- -/+  
الأية
105
 
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ في هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتكريم وتعظيم وتفويض إليه , وتقويم أيضا على الجادة في الحكم , وتأنيب على ما رفع إليه من أمر بني أبيرق ! وكانوا ثلاثة إخوة : بشر وبشير ومبشر , وأسير بن عروة ابن عم لهم ; نقبوا مشربة لرفاعة بن زيد في الليل وسرقوا أدراعا له وطعاما , فعثر على ذلك . وقيل إن السارق بشير وحده , وكان يكنى أبا طعمة أخذ درعا ; قيل : كان الدرع في جراب فيه دقيق , فكان الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى داره , فجاء ابن أخي رفاعة واسمه قتادة بن النعمان يشكوهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فجاء أسير بن عروة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله , إن هؤلاء عمدوا إلى أهل بيت هم أهل صلاح ودين فأنبوهم بالسرقة ورموهم بها من غير بينة ; وجعل يجادل عنهم حتى غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتادة ورفاعة ; فأنزل الله تعالى : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } [ النساء : 107 ] الآية . وأنزل الله تعالى : { ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا } [ النساء : 112 ] وكان البريء الذي رموه بالسرقة لبيد بن سهل . وقيل : زيد بن السمين وقيل : رجل من الأنصار . فلما أنزل الله ما أنزل , هرب ابن أبيرق السارق إلى مكة , ونزل على سلافة بنت سعد بن شهيد ; فقال فيها حسان بن ثابت بيتا يعرض فيه بها , وهو : وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت ينازعها جلد استها وتنازعه ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتمو وفينا نبي عنده الوحي واضعه فلما بلغها قالت : إنما أهديت لي شعر حسان ; وأخذت رحله فطرحته خارج المنزل , فهرب إلى خيبر وارتد . ثم إنه نقب بيتا ذات ليلة ليسرق فسقط الحائط عليه فمات مرتدا . ذكر هذا الحديث بكثير من ألفاظه الترمذي وقال : حديث حسن غريب , لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني . وذكره الليث والطبري بألفاظ مختلفة . وذكر قصة موته يحيى بن سلام في تفسيره , والقشيري كذلك وزاد ذكر الردة . ثم قيل : كان زيد بن السمين ولبيد بن سهل يهوديين . وقيل : كان لبيد مسلما . وذكره المهدوي , وأدخله أبو عمر في كتاب الصحابة له , فدل ذلك على إسلامه عنده . وكان بشير رجلا منافقا يهجو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وينحل الشعر غيره , وكان المسلمون يقولون : والله ما هو إلا شعر الخبيث . فقال شعرا يتنصل فيه ; فمنه قوله : أوكلما قال الرجال قصيدة نحلت وقالوا ابن الأبيرق قالها وقال الضحاك : أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يده وكان مطاعا , فجاءت اليهود شاكين في السلاح فأخذوه وهربوا به ; فنزل { ها أنتم هؤلاء } [ النساء : 109 ] يعني اليهود . والله أعلم . بِمَا أَرَاكَ اللهُ معناه على قوانين الشرع ; إما بوحي ونص , أو بنظر جار على سنن الوحي . وهذا أصل في القياس , وهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئا أصاب ; لأن الله تعالى أراه ذلك , وقد ضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة ; فأما أحدنا إذا رأى شيئا يظنه فلا قطع فيما رآه , ولم يرد رؤية العين هنا ; لأن الحكم لا يرى بالعين . وفي الكلام إضمار , أي بما أراكه الله , وفيه إضمار آخر , وامض الأحكام على ما عرفناك من غير اغترار باستدلالهم . وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا اسم فاعل ; كقولك : جالسته فأنا جليسه , ولا يكون فعيلا هنا بمعنى مفعول ; يدل على ذلك { ولا تجادل { فالخصيم هو المجادل وجمع الخصيم خصماء . وقيل : خصيما مخاصما اسم فاعل أيضا . فنهى الله عز وجل رسوله عن عضد أهل التهم والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة . وفي هذا دليل على أن النيابة عن المبطل والمتهم في الخصومة لا تجوز . فلا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق . ومشى الكلام في السورة على حفظ أموال اليتامى والناس ; فبين أن مال الكافر محفوظ عليه كمال المسلم , إلا في الموضع الذي أباحه الله تعالى . قال العلماء : ولا ينبغي إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق منهم فريقا عنهم ليحموهم ويدفعوا عنهم ; فإن هذا قد وقع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل قوله تعالى : " ولا تكن للخائنين خصيما { وقوله : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } [ النساء : 107 ] . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه الذين كانوا يفعلونه من المسلمين دونه لوجهين : أحدهما : أنه تعالى أبان ذلك بما ذكره بعد بقوله : { ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا } [ النساء : 109 ] . والآخر : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حكما فيما بينهم , ولذلك كان يعتذر إليه ولا يعتذر هو إلى غيره , فدل على أن القصد لغيره .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَاسْتَغْفِرِ اللهَ ۖ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
    +/- -/+  
الأية
106
 
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة ووجوه الكافرين مسودة . ويقال : إن ذلك عند قراءة الكتاب , إذ قرأ المؤمن كتابه فرأى في كتابه حسناته استبشر وابيض وجهه , وإذا قرأ الكافر والمنافق كتابه فرأى فيه سيئاته اسود وجهه . ويقال : إن ذلك عند الميزان إذا رجحت حسناته ابيض وجهه , وإذا رجحت سيئاته اسود وجهه . ويقال : ذلك عند قوله تعالى : { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } [ يس : 59 ] . ويقال : إذا كان يوم القيامة يؤمر كل فريق بأن يجتمع إلى معبوده , فإذا انتهوا إليه حزنوا واسودت وجوههم , فيبقى المؤمنون وأهل الكتاب والمنافقون ; فيقول الله تعالى للمؤمنين : { من ربكم { ؟ فيقولون : ربنا الله عز وجل فيقول لهم : { أتعرفونه إذا رأيتموه } . فيقولون : سبحانه ! إذا اعترف عرفناه . فيرونه كما شاء الله فيخر المؤمنون سجدا لله تعالى , فتصير وجوههم مثل الثلج بياضا , ويبقى المنافقون وأهل الكتاب لا يقدرون على السجود فيحزنوا وتسود وجوههم ; وذلك قوله تعالى : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } . ويجوز } تبيض وتسود { بكسر التائين ; لأنك تقول : ابيضت , فتكسر التاء كما تكسر الألف , وهي لغة تميم وبها قرأ يحيى بن وثاب . وقرأ الزهري { يوم تبياض وتسواد { ويجوز كسر التاء أيضا , ويجوز { يوم يبيض وجوه { بالياء على تذكير الجمع , ويجوز { أجوه { مثل } أقتت } . وابيضاض الوجوه إشراقها بالنعيم . واسودادها هو ما يرهقها من العذاب الأليم . واختلفوا في التعيين ; فقال ابن عباس : تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة . قلت : وقول ابن عباس هذا رواه مالك بن سليمان الهروي أخو غسان عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى } يوم تبيض وجوه وتسود وجوه { قال : ( يعني تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة )  ذكره أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب . وقال فيه : منكر من حديث مالك . قال عطاء : تبيض وجوه المهاجرين والأنصار , وتسود وجوه بني قريظة والنضير . وقال أبي بن كعب : الذين اسودت وجوههم هم الكفار , وقيل لهم : أكفرتم بعد إيمانكم لإقراركم حين أخرجتم من ظهر آدم كالذر . هذا اختيار الطبري . الحسن : الآية في المنافقين . قتادة هي في المرتدين . عكرمة : هم قوم من أهل الكتاب كانوا مصدقين بأنبيائهم مصدقين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث عليه السلام كفروا به ; فذلك قوله : { أكفرتم بعد إيمانكم { وهو اختيار الزجاج . مالك بن أنس : هي في أهل الأهواء . أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم : هي في الحرورية . وفي خبر آخر أنه عليه السلام قال : ( هي في القدرية )  . روى الترمذي عن أبي غالب قال : رأى أبو أمامة رءوسا منصوبة على باب دمشق , فقال أبو أمامة : كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء , خير قتلى من قتلوه - ثم قرأ - { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه { إلى آخر الآية . قلت لأبي أمامة : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا - حتى عد سبعا - ما حدثتكموه . قال : هذا حديث حسن . وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إني فرطكم على الحوض من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم )  . قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال : أهكذا سمعت من سهل بن سعد ؟ فقلت : نعم . فقال : أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها : ( فأقول إنهم مني فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن غير بعدي )  . وعن أبي هريرة أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يرد على الحوض يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى )  . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة . فمن بدل أو غير أو ابتدع في دين الله ما لا يرضاه الله ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبتدعين منه المسودي الوجوه , وأشدهم طردا وإبعادا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم ; كالخوارج على اختلاف فرقها , والروافض على تباين ضلالها , والمعتزلة على أصناف أهوائها ; فهؤلاء كلهم مبدلون ومبتدعون , وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم , والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي , وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع ; كل يخاف عليهم أن يكونوا عنوا بالآية , والخبر كما بينا , ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان . وقد قال ابن القاسم : وقد يكون من غير أهل الأهواء من هو شر من أهل الأهواء . وكان يقول : تمام الإخلاص تجنب المعاصي . فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ في الكلام حذف , أي فيقال لهم { أكفرتم بعد إيمانكم { يعني يوم الميثاق حين قالوا بلى . ويقال : هذا لليهود وكانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به . وقال أبو العالية : هذا للمنافقين , يقال : أكفرتم في السر بعد إقراركم في العلانية . وأجمع أهل العربية على أنه لا بد من الفاء في جواب ( أما )  لأن المعنى في قولك : أما زيد فمنطلق , مهما يكن من شيء فزيد منطلق .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ۚ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا
    +/- -/+  
الأية
107
 
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ أي لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم ; نزلت في أسير بن عروة كما تقدم . والمجادلة المخاصمة , من الجدل وهو الفتل ; ومنه رجل مجدول الخلق , ومنه الأجدل للصقر . وقيل : هو من الجدالة وهي وجه الأرض , فكل واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها ; قال العجاج : قد أركب الحالة بعد الحاله وأترك العاجز بالجداله منعفرا ليست له محاله الجدالة الأرض ; من ذلك قولهم : تركته مجدلا ; أي مطروحا على الجدالة . إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ أي لا يرضى عنه ولا ينوه بذكر . مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا خائنا . ( وخوانا )  أبلغ ; لأنه من أبنية المبالغة ; وإنما كان ذلك لعظم قدر تلك الخيانة . والله أعلم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۚ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا
    +/- -/+  
الأية
108
 
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ قال الضحاك : لما سرق الدرع اتخذ حفرة في بيته وجعل الدرع تحت التراب ; فنزلت { يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله { يقول : لا يخفى مكان الدرع على الله وقيل : { يستخفون من الناس } أي يستترون , كما قال تعالى : { ومن هو مستخف بالليل } [ الرعد : 10 ] أي مستتر . وقيل : يستحيون من الناس , وهذا لأن الاستحياء سبب الاستتار . وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ أي رقيب حفيظ عليهم . وقيل { وهو معهم { أي بالعلم والرؤية والسمع , هذا قول أهل السنة . وقالت الجهمية والقدرية والمعتزلة : هو بكل مكان , تمسكا بهذه الآية وما كان مثلها , قالوا : لما قال { وهو معهم { ثبت أنه بكل مكان , لأنه قد أثبت كونه معهم تعالى الله عن قولهم , فإن هذه صفة الأجسام والله تعالى متعال عن ذلك ألا ترى مناظرة بشر في قول الله عز وجل : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } [ المجادلة : 7 ] حين قال : هو بذاته في كل مكان فقال له خصمه : هو في قلنسوتك وفي حشوك وفي جوف حمارك . تعالى الله عما يقولون ! حكى ذلك وكيع رضي الله عنه . ومعنى يقولون . قاله الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس . مَا لَا يَرْضَى أي ما لا يرضاه الله لأهل طاعته . مِنَ الْقَوْلِ أي من الرأي والاعتقاد , كقولك : مذهب مالك والشافعي . وقيل : { القول { بمعنى المقول ; لأن نفس القول لا يبيت . وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا أي أحاط علمه بكل الأشياء .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
هَا أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
    +/- -/+  
الأية
109
 
هَا أَنْتُمْ يريد قوم بشير السارق لما هربوا به وجادلوا عنه . قال الزجاج : { هؤلاء { بمعنى الذين . هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ حاججتم عنهم في الدنيا . الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ استفهام معناه الإنكار والتوبيخ . الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ الوكيل : القائم بتدبير الأمور , فالله تعالى قائم بتدبير خلقه . والمعنى : لا أحد لهم يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه وأدخلهم النار .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا
    +/- -/+  
الأية
110
 
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا قال ابن عباس : عرض الله التوبة على بني أبيرق بهذه الآية , أي { ومن يعمل سوءا { بأن يسرق أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ بأن يشرك ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا { ثم يستغفر الله { يعني بالتوبة , فإن الاستغفار باللسان من غير توبة لا ينفع , وقد بيناه في { آل عمران } . وقال الضحاك : نزلت الآية في شأن وحشي قاتل حمزة أشرك بالله وقتل حمزة , ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إني لنادم فهل لي من توبة ؟ فنزل : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه { الآية . وقيل : المراد بهذه الآية العموم والشمول لجميع الخلق . وروى سفيان عن أبي إسحاق عن الأسود وعلقمة قالا : قال عبد الله بن مسعود من قرأ هاتين الآيتين من سورة { النساء { ثم استغفر غفر له : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } .{ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما } [ النساء : 64 ] . وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : كنت إذا سمعت حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعني الله به ما شاء , وإذا سمعته من غيره حلفته , وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال : ما من عبد يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له , ثم تلا هذه الآية { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۚ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
    +/- -/+  
الأية
111
 
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى يعني كذبهم وتحريفهم وبهتهم ; لا أنه تكون لهم الغلبة ; عن الحسن وقتادة . فالاستثناء متصل , والمعنى لن يضروكم إلا ضرا يسيرا ; فوقع الأذى موقع المصدر . فالآية وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين , أن أهل الكتاب لا يغلبونهم وأنهم منصورون عليهم لا ينالهم منهم اصطلام إلا إيذاء بالبهت والتحريف , وأما العاقبة فتكون للمؤمنين . وقيل : هو منقطع , والمعنى لن يضروكم البتة , لكن يؤذونكم بما يسمعونكم . قال مقاتل : إن رءوس اليهود : كعب وعدي والنعمان وأبو رافع وأبو ياسر وكنانة وابن صوريا عمدوا إلى مؤمنيهم : عبد الله بن سلام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم ; فأنزل الله تعالى : { لن يضروكم إلا أذى { يعني باللسان , وتم الكلام . وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ يعني منهزمين , وتم الكلام .{ ثم لا ينصرون { مستأنف ; فلذلك ثبتت فيه النون . وفي هذه الآية معجزة للنبي عليه السلام ; لأن من قاتله من اليهود ولاه دبره .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا
    +/- -/+  
الأية
112
 
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا قيل : هما بمعنى واحد كرر لاختلف اللفظ تأكيدا . وقال الطبري : إنما فرق بين الخطيئة والإثم أن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد , والإثم لا يكون إلا عن عمد . وقيل : الخطيئة ما لم تتعمده خاصة كالقتل بالخطأ . وقيل : الخطيئة الصغيرة , والإثم الكبيرة , وهذه الآية لفظها عام يندرج تحته أهل النازلة وغيرهم . ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا قد تقدم اسم البريء في البقرة . والهاء في { به { للإثم أو للخطيئة . لأن معناها الإثم , أولهما جميعا . وقيل : ترجع إلى الكسب . فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا تشبيه ; إذ الذنوب ثقل ووزر فهي كالمحمولات . وقد قال تعالى : { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم } [ العنكبوت : 13 ] . والبهتان من البهت , وهو أن تستقبل أخاك بأن تقذفه بذنب وهو منه بريء . وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أتدرون ما الغيبة )  ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ; قال : ( ذكرك أخاك بما يكره )  . قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : ( إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته )  . وهذا نص ; فرمي البريء بهت له . يقال : بهته بهتا وبهتا وبهتانا إذا قال عليه ما لم يفعله . وهو بهات والمقول له مبهوت . ويقال : بهت الرجل ( بالكسر )  إذا دهش وتحير . وبهت ( بالضم )  مثله , وأفصح منهما بهت , كما قال الله تعالى : { فبهت الذي كفر } [ البقرة : 258 ] لأنه يقال : رجل مبهوت ولا يقال : باهت ولا بهيت , قاله الكسائي .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ ۚ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا
    +/- -/+  
الأية
113
 
وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ ما بعد { لولا { مرفوع بالابتداء عند سيبويه , والخبر محذوف لا يظهر , والمعنى : { ولولا فضل الله عليك ورحمته { بأن نبهك على الحق , وقيل : بالنبوءة والعصمة . لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ عن الحق ; لأنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبرئ ابن أبيرق من التهمة ويلحقها اليهودي , فتفضل الله عز وجل على رسوله عليه السلام بأن نبهه على ذلك وأعلمه إياه . وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأنهم يعملون عمل الضالين , فوباله لهم راجع عليهم . وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ لأنك معصوم . وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ هذا ابتداء كلام . وقيل : الواو للحال , كقولك : جئتك والشمس طالعة , ومنه قول امرئ القيس : وقد أغتدي والطير في وكناتهما فالكلام متصل , أي ما يضرونك من شيء مع إنزال الله عليك القرآن . وَالْحِكْمَةَ القضاء بالوحي . وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا يعني من الشرائع والأحكام وكان فضله عليك كبيرا . و { تعلم { في موضع نصب ; لأنه خبر كان . وحذفت الضمة من النون للجزم , وحذفت الواو لالتقاء الساكنين .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا
    +/- -/+  
الأية
114
 
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أراد ما تفاوض به قوم بني أبيرق من التدبير , وذكروه للنبي صلى الله عليه وسلم . والنجوى : السر بين الاثنين , تقول : ناجيت فلانا مناجاة ونجاء وهم ينتجون ويتناجون . ونجوت فلانا أنجوه نجوا , أي ناجيته , فنجوى مشتقة من نجوت الشيء أنجوه , أي خلصته وأفردته , والنجوة من الأرض المرتفع لانفراده بارتفاعه عما حوله , قال الشاعر : فمن بنجوته كمن بعقوته والمستكين كمن يمشي بقرواح فالنجوى المسارة , مصدر , وقد تسمى به الجماعة , كما يقال : قوم عدل ورضا . قال الله تعالى : { وإذ هم نجوى " [ الإسراء : 47 ] فعلى الأول يكون الأمر أمر استثناء من غير الجنس . وهو الاستثناء المنقطع . وقد تقدم , وتكون { من { في موضع رفع , أي لكن من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ودعا إليه ففي نجواه خير . ويجوز أن تكون { من { في موضع خفض ويكون التقدير : لا خير في كثير من نجواهم إلا نجوى من أمر بصدقة ثم حذف . وعلى الثاني وهو أن يكون النجوى اسما للجماعة المنفردين , فتكون { من { في موضع خفض على البدل , أي لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة . أو تكون في موضع نصب على قول من قال : ما مررت بأحد إلا زيدا . وقال بعض المفسرين منهم الزجاج : النجوى كلام الجماعة المنفردة أو الاثنين كان ذلك سرا أو جهرا , وفيه بعد . والله أعلم . والمعروف لفظ يعم أعمال البر كلها . وقال مقاتل : المعروف هنا الفرض , والأول أصح . وقال صلى الله عليه وسلم : ( كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق )  . وقال صلى الله عليه وسلم : ( المعروف كاسمه وأول من يدخل الجنة يوم القيامة المعروف وأهله )  . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره , فقد يشكر الشاكر بأضعاف جحود الكافر . وقال الحطيئة : من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس وأنشد الرياشي : يد المعروف غنم حيث كانت تحملها كفور أو شكور ففي شكر الشكور لها جزاء وعند الله ما كفر الكفور وقال الماوردي : { فينبغي لمن يقدر على إسداء المعروف أن يعجله حذار فواته , ويبادر به خيفة عجزه , وليعلم أنه من فرص زمانه , وغنائم إمكانه , ولا يهمله ثقة بالقدرة عليه , فكم من واثق بالقدرة فاتت فأعقبت ندما , ومعول على مكنة زالت فأورثت خجلا , كما قال الشاعر : ما زلت أسمع كم من واثق خجل حتى ابتليت فكنت الواثق الخجلا ولو فطن لنوائب دهره , وتحفظ من عواقب أمره لكانت مغانمه مذخورة , ومغارمه مجبورة , فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من فتح عليه باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عنه )  . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف السراح )  . وقيل لأنوشروان : ما أعظم المصائب عندكم ؟ قال : أن تقدر على المعروف فلا تصطنعه حتى يفوت . وقال عبد الحميد : من أخر الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها . وقال بعض الشعراء : إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكونا ولا تغفل عن الإحسان فيها فما تدري السكون متى يكونا وكتب بعض ذوي الحرمات إلى وال قصر في رعاية حرمته : أعلى الصراط تريد رعية حرمتي أم في الحساب تمن بالإنعام للنفع في الدنيا أريدك , فانتبه لحوائجي من رقدة النوام وقال العباس رضي الله عنه : لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال : تعجيله وتصغيره وستره , فإذا عجلته هنأته , وإذا صغرته عظمته , وإذا سترته أتممته . وقال بعض الشعراء : زاد معروفك عندي عظما أنه عندك مستور حقير تتناساه كأن لم تأته وهو عند الناس مشهور خطير ومن شرط المعروف ترك الامتنان به , وترك الإعجاب بفعله , لما فيهما من إسقاط الشكر وإحباط الأجر . وقد تقدم في { البقرة { بيانه . أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا عام في الدماء والأموال والأعراض , وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين , وفي كل كلام يراد به وجه الله تعالى . وفي الخبر : ( كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله تعالى )  . فأما من طلب الرياء والترؤس فلا ينال الثواب . وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : رد الخصوم حتى يصطلحوا , فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن . وسيأتي في { المجادلة { ما يحرم من المناجاة وما يجوز إن شاء الله تعالى . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال , : من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب : ( ألا أدلك على صدقة يحبها الله ورسوله , تصلح بين أناس إذا تفاسدوا , وتقرب بينهم إذا تباعدوا )  . وقال الأوزاعي : ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين , ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءة من النار . وقال محمد بن المنكدر : تنازع رجلان في ناحية المسجد فملت إليهما , فلم أزل بهما حتى اصطلحا ; فقال أبو هريرة وهو يراني : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من أصلح بين اثنين استوجب ثواب شهيد )  . ذكر هذه الأخبار أبو مطيع مكحول بن المفضل النسفي في كتاب اللؤلؤيات له , وجدته بخط المصنف في وريقة ولم ينبه على موضعها رضي الله عنه . و ( ابتغاء )  نصب على المفعول من أجله .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا
    +/- -/+  
الأية
115
 
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا قال العلماء : هاتان الآيتان نزلتا بسبب ابن أبيرق السارق , لما حكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه بالقطع وهرب إلى مكة وارتد , قال سعيد بن جبير : لما صار إلى مكة نقب بيتا بمكة فلحقه المشركون فقتلوه ; فأنزل الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به { إلى قوله : { فقد ضل ضلالا بعيدا } . وقال الضحاك : قدم نفر من قريش المدينة وأسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين فنزلت هذه الآية { ومن يشاقق الرسول } . والمشاقة المعاداة . والآية وإن نزلت في سارق الدرع أو غيره فهي عامة في كل من خالف طريق المسلمين . و { الهدى } : الرشد والبيان , وقد تقدم . وقوله تعالى : { نوله ما تولى { يقال : إنه نزل فيمن ارتد ; والمعنى ; نتركه وما يعبد ; عن مجاهد . أي نكله إلى الأصنام التي لا تنفع ولا تضر ; وقاله مقاتل . وقال الكلبي ; نزل قوله تعالى : { نوله ما تولى { في ابن أبيرق ; لما ظهرت حاله وسرقته هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا لرجل بمكة يقال له : حجاج بن علاط , فسقط فبقي في النقب حتى وجد على حاله , وأخرجوه من مكة ; فخرج إلى الشام فسرق بعض أموال القافلة فرجموه وقتلوه , فنزلت { نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } . وقرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو { نوله " { ونصله { بجزم الهاء , والباقون بكسرها , وهما لغتان . قال العلماء في قوله تعالى : { ومن يشاقق الرسول { دليل على صحة القول بالإجماع .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا
    +/- -/+  
الأية
116
 
في قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به { رد على الخوارج ; حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر . وقد تقدم القول في هذا المعنى . وروى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء { قال : هذا حديث غريب . قال ابن فورك : وأجمع أصحابنا على أنه لا تخليد إلا للكافر , وأن الفاسق من أهل القبلة إذا مات غير تائب فإنه إن عذب بالنار فلا محالة أنه يخرج منها بشفاعة الرسول , أو بابتداء رحمة من الله تعالى . وقال الضحاك : إن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله , إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا , إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به , فما حالي عند الله ؟ فأنزل الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء { الآية .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا
    +/- -/+  
الأية
117
 
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا { إن يدعون من دونه { أي من دون الله { إلا إناثا } ; نزلت في أهل مكة إذ عبدوا الأصنام . و { إن { نافية بمعنى { ما } . و { إناثا { أصناما , يعني اللات والعزى ومناة . وكان لكل حي صنم يعبدونه ويقولون : أنثى بني فلان , قال الحسن وابن عباس , وأتى مع كل صنم شيطانه يتراءى للسدنة والكهنة ويكلمهم , فخرج الكلام مخرج التعجب ; لأن الأنثى من كل جنس أخسه ; فهذا جهل ممن يشرك بالله جمادا فيسميه أنثى , أو يعتقده أنثى . وقيل : { إلا إناثا { مواتا ; لأن الموات لا روح له , كالخشبة والحجر . والموات يخبر عنه كما يخبر عن المؤنث لا تضاع المنزلة ; تقول : الأحجار تعجبني , كما تقول : المرأة تعجبني . وقيل : { إلا إناثا { ملائكة ; لقولهم : الملائكة بنات الله , وهي شفعاؤنا عند الله ; عن الضحاك . وقراءة ابن عباس { إلا وثنا { بفتح الواو والثاء على إفراد اسم الجنس ; وقرأ أيضا { وثنا { بضم الثاء والواو ; جمع وثن . وأوثان أيضا جمع وثن مثل أسد وآساد . النحاس : ولم يقرأ به فيما علمت . قلت : قد ذكر أبو بكر الأنباري - حدثنا أبي حدثنا نصر بن داود حدثنا أبو عبيد حدثنا حجاج عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ : { إن يدعون من دونه إلا أوثانا } . وقرأ ابن عباس أيضا } إلا أثنا { كأنه جمع وثنا على وثان ; كما تقول : جمل وجمال , ثم جمع أوثانا على وثن ; كما تقول : مثال ومثل ; ثم أبدل من الواو همزة لما انضمت ; كما قال عز وجل : " وإذا الرسل أقتت } [ المرسلات : 11 ] من الوقت ; فأثن جمع الجمع . وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم : { إلا أنثا { جمع أنيث , كغدير وغدر . وحكى الطبري أنه جمع إناث كثمار وثمر . حكى هذه القراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو عمرو الداني ; قال : وقرأ بها ابن عباس والحسن وأبو حيوة . وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا يريد إبليس ; لأنهم إذا أطاعوه فيما سول لهم فقد عبدوه ; ونظيره في المعنى : " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } [ التوبة : 31 ] أي أطاعوهم فيما أمروهم به ; لا أنهم عبدوهم . وسيأتي . وقد تقدم اشتقاق لفظ الشيطان . والمريد : العاتي المتمرد ; فعيل من مرد إذا عتا . قال الأزهري : المريد الخارج عن الطاعة , وقد مرد الرجل يمرد مرودا إذا عتا وخرج عن الطاعة , فهو مارد ومريد ومتمرد . ابن عرفة هو الذي ظهر شره ; ومن هذا يقال : شجرة مرداء إذا تساقط ورقها فظهرت عيدانها ; ومنه قيل للرجل : أمرد , أي ظاهر مكان الشعر من عارضيه .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
لَعَنَهُ اللهُ ۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا
    +/- -/+  
الأية
118
 
لَعَنَهُ اللهُ أصل اللعن الإبعاد , وقد تقدم . وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط وغضب ; فلعنة الله على إبليس - عليه لعنة الله - على التعيين جائزة , وكذلك سائر الكفرة الموتى كفرعون وهامان وأبي جهل ; فأما الأحياء فقد مضى الكلام فيه في } البقرة } . وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا أي وقال الشيطان ; والمعنى : لأستخلصنهم . بغوايتي وأضلنهم بإضلالي , وهم الكفرة والعصاة . وفي الخبر ( من كل ألف واحد لله والباقي للشيطان )  . قلت : وهذا صحيح معنى ; يعضده قوله تعالى لآدم يوم القيامة : ( ابعث بعث النار فيقول : وما بعث النار ؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين )  . أخرجه مسلم . وبعث النار هو نصيب الشيطان , والله أعلم . وقيل : من النصيب طاعتهم إياه في أشياء ; منها أنهم كانوا يضربون للمولود مسمارا عند ولادته , ودورانهم به يوم أسبوعه , يقولون : ليعرفه العمار .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ ۚ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا
    +/- -/+  
الأية
119
 
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ أي لأصرفنهم عن طريق الهدى . وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ أي لأسولن لهم , من التمني , وهذا لا ينحصر إلى واحد من الأمنية , لأن كل واحد في نفسه إنما يمنيه بقدر رغبته وقرائن حاله . وقيل : لأمنينهم طول الحياة الخير والتوبة والمعرفة مع الإصرار . وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ البتك القطع , ومنه سيف باتك . أي أحملهم على قطع آذان البحيرة والسائبة ونحوه . يقال : بتكه وبتكه , ( مخففا ومشددا )  وفي يده بتكة أي : قطعة , والجمع بتك , قال زهير : طارت وفي كفه من ريشها بتك وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ فيه ثماني مسائل : الأولى : اللامات كلها للقسم . واختلف العلماء في هذا التغيير إلى ماذا يرجع , فقالت طائفة : هو الخصاء وفقء الأعين وقطع الآذان , قال معناه ابن عباس وأنس وعكرمة وأبو صالح . وذلك كله تعذيب للحيوان , وتحريم وتحليل بالطغيان , وقول بغير حجة ولا برهان . والآذان في الأنعام جمال ومنفعة , وكذلك غيرها من الأعضاء , فلذلك رأى الشيطان أن يغير بها خلق الله تعالى . وفي حديث عياض بن حمار المجاشعي : ( وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم فحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وأمرتهم أن يغيروا خلقي )  . الحديث , أخرجه القاضي إسماعيل ومسلم أيضا . وروى إسماعيل قال : حدثنا أبو الوليد وسليمان بن حرب قالا حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن أبيه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قشف الهيئة , قال : ( هل لك من مال )  ؟ قال قلت : نعم . قال ( من أي المال )  ؟ قلت : من كل المال , من الخيل والإبل والرقيق - قال أبو الوليد : والغنم - قال : ( فإذا آتاك الله مالا فلير عليك أثره )  ثم قال : ( هل تنتج إبل قومك صحاحا آذانها فتعمد إلى موسى فتشق آذانها وتقول هذه بحر وتشق جلودها وتقول هذه صرم لتحرمها عليك وعلى أهلك )  ؟ قال : قلت أجل . قال : ( وكل ما آتاك الله حل وموسى الله أحد من موساك , وساعد الله أشد من ساعدك )  . قال قلت : يا رسول الله , أرأيت رجلا نزلت به فلم يقرني ثم نزل بي أفأقريه أم أكافئه ؟ فقال : ( بل أقره )  . الثانية : ولما كان هذا من فعل الشيطان وأثره أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم } أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء ) أخرجه أبو داود عن علي قال : أمرنا ; فذكره . المقابلة : المقطوعة طرف الأذن . والمدابرة المقطوعة مؤخر الأذن . والشرقاء : مشقوقة الأذن , والخرقاء التي تخرق أذنها السمة . والعيب في الأذن مراعى عند جماعة العلماء . قال مالك والليث : المقطوعة الأذن أو جل الأذن لا تجزئ , والشق للميسم يجزئ , وهو قول الشافعي وجماعة الفقهاء . فإن كانت سكاء , وهي التي خلقت بلا أذن فقال مالك والشافعي : لا تجوز . وإن كانت صغيرة الأذن أجزأت , وروي عن أبي حنيفة مثل ذلك . الثالثة : وأما خصاء البهائم فرخص فيه جماعة من أهل العلم إذا قصدت فيه المنفعة إما لسمن أو غيره . والجمهور من العلماء وجماعتهم على أنه لا بأس أن يضحى بالخصي , واستحسنه بعضهم إذا كان أسمن من غيره . ورخص في خصاء الخيل عمر بن عبد العزيز . وخصى عروة بن الزبير بغلا له . ورخص مالك في خصاء ذكور الغنم , وإنما جاز ذلك لأنه لا يقصد به تعليق الحيوان بالدين لصنم يعبد , ولا لرب يوحد . وإنما يقصد به تطييب اللحم فيما يؤكل , وتقوية الذكر إذا انقطع أمله عن الأنثى . ومنهم من كره ذلك , لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون )  . واختاره ابن المنذر وقال : لأن ذلك ثابت عن ابن عمر , وكان يقول : هو نماء خلق الله ; وكره ذلك عبد الملك بن مروان . وقال الأوزاعي : كانوا يكرهون خصاء كل شيء له نسل . وقال ابن المنذر : وفيه حديثان : أحدهما عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن خصاء الغنم والبقر والإبل والخيل . والآخر حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صبر الروح وخصاء البهائم . والذي في الموطأ من هذا الباب ما ذكره عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكره الإخصاء ويقول : فيه تمام الخلق . قال أبو عمر : يعني في ترك الإخصاء تمام الخلق , وروي نماء الخلق . قلت : أسنده أبو محمد عبد الغني من حديث عمر بن إسماعيل عن نافع عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تخصوا ما ينمي خلق الله )  . رواه عن الدارقطني شيخه , قال : حدثنا أبو عبد الله المعدل حدثنا عباس بن محمد حدثنا أبو مالك النخعي عن عمر بن إسماعيل , فذكره . قال الدارقطني : ورواه عبد الصمد بن النعمان عن أبي مالك . الرابعة : وأما الخصاء في الآدمي فمصيبة , فإنه إذا خصي بطل قلبه وقوته , عكس الحيوان , وانقطع نسله المأمور به في قوله عليه السلام : ( تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم )  ثم إن فيه ألما عظيما ربما يفضي بصاحبه إلى الهلاك , فيكون فيه تضييع مال وإذهاب نفس , وكل ذلك منهي عنه . ثم هذه مثلة , وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة , وهو صحيح . وقد كره جماعة من فقهاء الحجازيين والكوفيين شراء الخصي من الصقالبة وغيرهم وقالوا : لو لم يشتروا منهم لم يخصوا . ولم يختلفوا أن خصاء بني آدم لا يحل ولا يجوز ; لأنه مثلة وتغيير لخلق الله تعالى , وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود , قاله أبو عمر . الخامسة : وإذا تقرر هذا فاعلم أن الوسم والإشعار مستثنى من نهيه عليه السلام عن شريطة الشيطان , وهي ما قدمناه من نهيه عن تعذيب الحيوان بالنار , والوسم : الكي بالنار وأصله العلامة , يقال : وسم الشيء يسمه إذا علمه بعلامة يعرف بها , ومنه قوله تعالى : " سيماهم في وجوههم } [ الفتح : 29 ] . فالسيما العلامة والميسم المكواة . وثبت في صحيح مسلم عن أنس قال : رأيت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم الميسم وهو يسم إبل الصدقة والفيء وغير ذلك حتى يعرف كل مال فيؤدى في حقه , ولا يتجاوز به إلى غيره . السادسة : والوسم جائز في كل الأعضاء غير الوجه , لما رواه جابر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه , أخرجه مسلم . وإنما كان ذلك لشرفه على الأعضاء , إذ هو مقر الحسن والجمال , ولأن به قوام الحيوان , وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل يضرب عبده فقال : ( اتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته )  . أي على صورة المضروب ; أي وجه هذا المضروب يشبه وجه آدم , فينبغي أن يحترم لشبهه . وهذا أحسن ما قيل في تأويله والله أعلم . وقالت طائفة : الإشارة بالتغيير إلي الوشم وما جرى مجراه من التصنع للحسن ; قاله ابن مسعود والحسن . ومن ذلك الحديث الصحيح عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن , المغيرات خلق الله )  الحديث أخرجه مسلم , وسيأتي بكماله في الحشر إن شاء الله تعالى . والوشم يكون في اليدين , وهو أن يغرز ظهر كف المرأة ومعصمها بإبرة ثم يحشى بالكحل أو بالنئور فيخضر . وقد وشمت تشم وشما فهي واشمة . والمستوشمة التي يفعل ذلك بها ; قال الهروي . وقال ابن العربي : ورجال صقلية وإفريقية يفعلونه ; ليدل كل واحد منهم على رجلته في حداثته . قال القاضي عياض : ووقع في رواية الهروي - أحد رواة مسلم - مكان { الواشمة والمستوشمة } { الواشية والمستوشية } ( بالياء مكان الميم )  وهو من الوشي وهو التزين ; وأصل الوشي نسج الثوب على لونين , وثور موشى في وجهه وقوائمه سواد ; أي تشي المرأة نفسها بما تفعله فيها من التنميص والتفليج والأشر . والمتنمصات جمع متنمصة وهي التي تقلع الشعر من وجهها بالمنماص , وهو الذي يقلع الشعر ; ويقال لها النامصة . ابن العربي : وأهل مصر ينتفون شعر العانة وهو منه ; فإن السنة حلق العانة ونتف الإبط , فأما نتف الفرج فإنه يرخيه ويؤذيه , ويبطل كثيرا من المنفعة فيه . والمتفلجات جمع متفلجة , وهي التي تفعل الفلج في أسنانها ; أي تعانيه حتى ترجع المصمتة الأسنان خلقة فلجاء صنعة . وفي غير كتاب مسلم : { الواشرات } , وهي جمع واشرة , وهي التي تشر أسنانها ; أي تصنع فيها أشرا , وهي التحزيزات التي تكون في أسنان الشبان ; تفعل ذلك المرأة الكبيرة تشبها بالشابة . وهذه الأمور كلها قد شهدت الأحاديث بلعن فاعلها وأنها من الكبائر . واختلف في المعنى الذي نهي لأجلها ; فقيل : لأنها من باب التدليس . وقيل : من باب تغيير خلق الله تعالى ; كما قال ابن مسعود , وهو أصح , وهو يتضمن المعنى الأول . ثم قيل : هذا المنهي عنه إنما هو فيما يكون باقيا ; لأنه من باب تغيير خلق الله تعالى , فأما ما لا يكون باقيا كالكحل والتزين به للنساء فقد أجاز العلماء ذلك مالك وغيره . وكرهه مالك للرجال . وأجاز مالك أيضا أن تشي المرأة يديها بالحناء . وروي عن عمر إنكار ذلك وقال : إما أن تخضب يديها كلها وإما أن تدع , وأنكر مالك هذه الرواية عن عمر , ولا تدع الخضاب بالحناء ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة لا تختضب قال : ( لا تدع إحداكن يدها كأنها يد رجل )  فما زالت تختضب وقد جاوزت التسعين حتى ماتت . قال القاضي عياض : وجاء حديث بالنهي عن تسويد الحناء , ذكره صاحب المصابيح ولا تتعطل , ويكون في عنقها قلادة من سير في خرز , فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها : ( إنه لا ينبغي أن تكوني بغير قلادة إما بخيط وإما بسير )  . وقال أنس : يستحب للمرأة أن تعلق في عنقها في الصلاة ولو سيرا . قال أبو جعفر الطبري : في حديث ابن مسعود دليل على أنه لا يجوز تغيير شيء من خلقها الذي خلقها الله عليه بزيادة أو نقصان , التماس الحسن لزوج أو غيره , سواء فلجت أسنانها أو وشرتها , أو كان لها سن زائدة فأزالتها أو أسنان طوال فقطعت أطرافها . وكذا لا يجوز لها حلق لحية أو شارب أو عنفقة إن نبتت لها ; لأن كل ذلك تغيير خلق الله . قال عياض : ويأتي على ما ذكره أن من خلق بأصبع زائدة أو عضو زائد لا يجوز له قطعه ولا نزعه ; لأنه من تغيير خلق الله تعالى : إلا أن تكون هذه الزوائد تؤلمه فلا بأس بنزعها عند أبي جعفر وغيره . السابعة : قلت : ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة )  أخرجه مسلم . فنهى صلى الله عليه وسلم عن وصل المرأة شعرها ; وهو أن يضاف إليه شعر آخر يكثر به , والواصلة هي التي تفعل ذلك , والمستوصلة هي التي تستدعي من يفعل ذلك بها . مسلم عن جابر قال : زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة بشعرها شيئا . وخرج عن أسماء بنت أبي بكر قالت : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله , إن لي ابنة عريسا أصابتها حصبة فتمرق شعرها أفأصله ؟ فقال : ( لعن الله الواصلة والمستوصلة )  . وهذا كله نص في تحريم وصل الشعر , وبه قال مالك وجماعه العلماء . ومنعوا الوصل بكل شيء من الصوف والخرق وغير ذلك ; لأنه في معنى وصله بالشعر . وشذ الليث بن سعد فأجاز وصله بالصوف والخرق وما ليس بشعر ; وهذا أشبه بمذهب أهل الظاهر . وأباح آخرون وضع الشعر على الرأس وقالوا : إنما جاء النهي عن الوصل خاصة , وهذه ظاهرية محضة وإعراض عن المعنى . وشذ قوم فأجازوا الوصل مطلقا , وهو قول باطل قطعا ترده الأحاديث . وقد روي عن عائشة رضي الله عنها ولم يصح . وروي عن ابن سيرين أنه سأله رجل فقال : إن أمي كانت تمشط النساء , أتراني آكل من مالها ؟ فقال : إن كانت تصل فلا . ولا يدخل في النهي ما ربط منه بخيوط الحرير الملونة على وجه الزينة والتجميل , والله أعلم . الثامنة : وقالت طائفة : المراد بالتغيير لخلق الله هو أن الله تعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من المخلوقات ; ليعتبر بها وينتفع بها , فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة . قال الزجاج : إن الله تعالى خلق الأنعام لتركب وتؤكل فحرموها على أنفسهم , وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس فجعلوها آلهة يعبدونها , فقد غيروا ما خلق الله . وقاله جماعة من أهل التفسير : مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة . وروي عن ابن عباس } فليغيرن خلق الله { دين الله ; وقال النخعي , واختاره الطبري قال : وإذا كان ذلك معناه دخل فيه فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ووشم وغير ذلك من المعاصي ; لأن الشيطان يدعو إلى جميع المعاصي ; أي فليغيرن ما خلق الله في دينه . وقال مجاهد أيضا : { فليغيرن خلق الله { فطرة الله التي فطر الناس عليها ; يعني أنهم ولدوا على الإسلام فأمرهم الشيطان بتغييره , وهو معنى قوله عليه السلام : ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه )  . فيرجع معنى الخلق إلى ما أوجده فيهم يوم الذر من الإيمان به في قوله تعالى : { ألست بربكم قالوا بلى } [ الأعراف : 172 ] . قال ابن العربي : روي عن طاوس أنه كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ولا بيضاء بأسود ويقول : هذا من قول الله { فليغيرن خلق الله } . قال القاضي : وهذا وإن كان يحتمله اللفظ فهو مخصوص بما أنفذه النبي صلى الله عليه وسلم من نكاح مولاه زيد وكان أبيض بظئره بركة الحبشية أم أسامة وكان أسود من أبيض , وهذا مما خفي على طاوس مع علمه . قلت : ثم أنكح أسامة فاطمة بنت قيس وكانت بيضاء قرشية . وقد كانت تحت بلال أخت عبد الرحمن بن عوف زهرية . وهذا أيضا يخص وقد خفي عليهما . وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ أي يطيعه ويدع أمر الله . فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا أي نقص نفسه وغبنها بأن أعطى الشيطان حق الله تعالى فيه وتركه من أجله .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا
    +/- -/+  
الأية
120
 
يَعِدُهُمْ المعنى يعدهم أباطيله وترهاته من المال والجاه والرياسة , وأن لا بعث ولا عقاب , ويوهمهم الفقر حتى لا ينفقوا في الخير وَيُمَنِّيهِمْ كذلك وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا أي خديعة . قال ابن عرفة : الغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه وفيه باطن مكروه أو مجهول . والشيطان غرور ; لأنه يحمل على محاب النفس , ووراء ذلك ما يسوء .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا
    +/- -/+  
الأية
121
 
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ العامل في { إذ { فعل مضمر تقديره : واذكر إذ غدوت , يعني خرجت بالصباح .{ من أهلك { من منزلك من عند عائشة . تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ هذه غزوة أحد وفيها نزلت هذه الآية كلها . وقال مجاهد والحسن ومقاتل والكلبي : هي غزوة الخندق . وعن الحسن أيضا يوم بدر . والجمهور على أنها غزوة أحد ; يدل عليه قوله تعالى : { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } [ آل عمران : 122 ] وهذا إنما كان يوم أحد , وكان المشركون قصدوا المدينة في ثلاثة آلاف رجل ليأخذوا بثأرهم في يوم بدر ; فنزلوا عند أحد على شفير الوادي بقناة مقابل المدينة , يوم الأربعاء الثاني عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة , على رأس أحد وثلاثين شهرا من الهجرة , فأقاموا هنالك يوم الخميس والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة , فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه أن في سيفه ثلمة , وأن بقرا له تذبح , وأنه أدخل يده في درع حصينة ; فتأولها أن نفرا من أصحابه يقتلون , وأن رجلا من أهل بيته يصاب , وأن الدرع الحصينة المدينة . أخرجه مسلم . فكان كل ذلك على ما هو معروف مشهور من تلك الغزاة . وأصل التبوء اتخاذ المنزل , بوأته منزلا إذا أسكنته إياه ; ومنه قوله عليه السلام : ( من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار )  أي ليتخذ فيها منزلا . فمعنى { تبوئ المؤمنين { تتخذ لهم مصاف . وذكر البيهقي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( رأيت فيما يرى النائم كأني مردف كبشا وكأن ضبة سيفي انكسرت فأولت أني أقتل كبش القوم وأولت كسر ضبة سيفي قتل رجل من عترتي )  فقتل حمزة وقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة , وكان صاحب اللواء . وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب : وكان حامل لواء المهاجرين رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنا عاصم إن شاء الله لما معي ; فقال له طلحة بن عثمان أخو سعيد بن عثمان اللخمي : هل لك يا عاصم في المبارزة ؟ قال نعم ; فبدره ذلك الرجل . فضرب بالسيف على رأس طلحة حتى وقع السيف في لحيته فقتله ; فكان قتل صاحب اللواء تصديقا لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كأني مردف كبشا )  .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ وَعْدَ اللهِ حَقًّا ۚ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا
    +/- -/+  
الأية
122
 
{ ومن أصدق من الله قيلا { ابتداء وخبر .{ قيلا { على البيان ; قال قيلا وقولا وقالا , بمعنى أي لا أحد أصدق من الله . وقد مضى الكلام على ما تضمنته هذه الآي من المعاني والحمد لله .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا
    +/- -/+  
الأية
123
 
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ قرأ أبو جعفر المدني } ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب { بتخفيف الياء فيهما جميعا . ومن أحسن ما روي في نزولها ما رواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال : قالت اليهود والنصارى لن يدخل الجنة إلا من كان منا . وقالت قريش : ليس نبعث , فأنزل الله { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } . وقال قتادة والسدي : تفاخر المؤمنون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أحق بالله منكم . وقال المؤمنون : نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على سائر الكتب , فنزلت الآية . مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ السوء هاهنا الشرك , قال الحسن : هذه الآية في الكافر , وقرأ } وهل يجازى إلا الكفور } [ سبأ : 17 ] . وعنه أيضا { من يعمل سوءا يجز به { قال : ذلك لمن أراد الله هوانه , فأما من أراد كرامته فلا , قد ذكر الله قوما فقال : { أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون } [ الأحقاف : 16 ] . وقال الضحاك : يعني اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب . وقال الجمهور : لفظ الآية عام , والكافر والمؤمن مجازى بعمله السوء , فأما مجازاة الكافر فالنار ; لأن كفره أوبقه , وأما المؤمن فبنكبات الدنيا , كما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : لما نزلت { من يعمل سوءا يجز به { بلغت من المسلمين مبلغا شديدا , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها )  . وخرج الترمذي الحكيم في ( نوادر الأصول , في الفصل الخامس والتسعين )  حدثنا إبراهيم بن المستمر الهذلي قال حدثنا عبد الرحمن بن سليم بن حيان أبو زيد قال : سمعت أبي يذكر عن أبيه قال صحبت ابن عمر من مكة إلى المدينة فقال لنافع : لا تمر بي على المصلوب ; يعني ابن الزبير , قال : فما فجئه في جوف الليل أن صك محمله جذعه ; فجلس فمسح عينيه ثم قال : يرحمك الله أبا خبيب أن كنت وأن كنت ! ولقد سمعت أباك الزبير يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من يعمل سوءا يجز به في الدنيا أو في الآخرة )  فإن يك هذا بذاك فهيه . قال الترمذي أبو عبد الله : فأما في التنزيل فقد أجمله فقال : { من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا { فدخل فيه البر والفاجر والعدو والولي والمؤمن والكافر ; ثم ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين الموطنين فقال : ( يجز به في الدنيا أو في الآخرة )  وليس يجمع عليه الجزاء في الموطنين ; ألا ترى أن ابن عمر قال : فإن يك هذا بذاك فهيه ; معناه أنه قاتل في حرم الله وأحدث فيه حدثا عظيما حتى أحرق البيت ورمي الحجر الأسود بالمنجنيق فانصدع حتى ضبب بالفضة فهو إلى يومنا هذا كذلك , وسمع للبيت أنينا : آه آه ! فلما رأى ابن عمر فعله ثم رآه مقتولا مصلوبا ذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من يعمل سوءا يجز به )  . ثم قال : إن يك هذا القتل بذاك الذي فعله فهيه ; أي كأنه جوزي بذلك السوء هذا القتل والصلب . رحمه الله ! ثم ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بين الفريقين ; حدثنا أبي رحمه الله قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا محمد بن مسلم عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي قال : لما نزلت { من يعمل سوءا يجز به { قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : ما هذه بمبقية منا ; قال : ( يا أبا بكر إنما يجزى المؤمن بها في الدنيا ويجزى بها الكافر يوم القيامة )  . حدثنا الجارود قال حدثنا وكيع وأبو معاوية وعبدة عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي قال : لما نزلت { من يعمل سوءا يجز به { قال أبو بكر : كيف الصلاح يا رسول الله مع هذا ؟ كل شيء عملناه جزينا به , فقال : ( غفر الله لك يا أبا بكر ألست تنصب , ألست تحزن , ألست تصيبك اللأواء ؟ . قال : بلى . قال ( فذلك مما تجزون به ) ففسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أجمله التنزيل من قوله : { من يعمل سوءا يجز به } . وروى الترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنها لما نزلت قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( أما أنت يا أبا بكر والمؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة )  . قال : حديث غريب : وفي إسناده مقال : وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث , ضعفه يحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل . ومولى ابن سباع مجهول , وقد روي هذا من غير وجه عن أبي بكر وليس له إسناد صحيح أيضا ; وفي الباب عن عائشة . قلت : خرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن أمه أنها سألت عائشة عن هذه الآية { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } [ البقرة : 284 ] وعن هذه الآية { من يعمل سوءا يجز به { فقالت عائشة : ما سألني أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ; فقال : ( يا عائشة , هذه مبايعة الله بما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة حتى البضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيفزع فيجدها في عيبته , حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر من الكير )  . واسم { ليس } مضمر فيها في جميع هذه الأقوال ; والتقدير : ليس الكائن من أموركم ما تتمنونه , بل من يعمل سوءا يجز به . وقيل : المعنى ليس ثواب الله بأمانيكم { إذ قد تقدم { والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات } . وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا يعني المشركين ; لقوله تعالى : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } [ غافر : 51 ] . وقيل : { من يعمل سوءا يجز به { إلا أن يتوب . وقراءة الجماعة { ولا يجد له { بالجزم عطفا على { يجز به } . وروى ابن بكار عن ابن عامر { ولا يجد { بالرفع استئنافا . فإن حملت الآية على الكافر فليس له غدا ولي ولا نصير . وإن حملت على المؤمن فليس له ولي ولا نصير دون الله .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا
    +/- -/+  
الأية
124
 
شرط الإيمان لأن المشركين أدلوا بخدمة الكعبة وإطعام الحجيج وقري الأضياف , وأهل الكتاب بسبقهم , وقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه ; فبين تعالى أن الأعمال الحسنة لا تقبل من غير إيمان . وقرأ { يدخلون الجنة { الشيخان أبو عمرو وابن كثير ( بضم الياء وفتح الخاء )  على ما لم يسم فاعله . الباقون بفتح الياء وضم الخاء ; يعني يدخلون الجنة بأعمالهم . وقد مضى ذكر النقير وهي النكتة في ظهر النواة .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۗ وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا
    +/- -/+  
الأية
125
 
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا فضل دين الإسلام على سائر الأديان و } أسلم وجهه لله { معناه أخلص دينه لله وخضع له وتوجه إليه بالعبادة . قال ابن عباس : أراد أبا بكر الصديق رضي الله عنه . وانتصب { دينا { على البيان .{ وهو محسن } ابتداء وخبر في موضع الحال , أي موحد فلا يدخل فيه أهل الكتاب ; لأنهم تركوا الإيمان بمحمد عليه السلام . والملة : الدين , والحنيف : المسلم ; وقد تقدم . وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا قال ثعلب : إنما سمي الخليل خليلا لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللا إلا ملأته ; وأنشد قول بشار : قد تخللت مسلك الروح مني وبه سمي الخليل خليلا وخليل فعيل بمعنى فاعل كالعليم بمعنى العالم وقيل : هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى المحبوب , وإبراهيم كان محبا لله وكان محبوبا لله . وقيل : الخليل من الاختصاص فالله عز وجل أعلم اختص إبراهيم في وقته للرسالة . واختار هذا النحاس قال : والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم ( وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا )  يعني نفسه . وقال صلى الله عليه وسلم : ( لو كنت متخذا أبا بكر خليلا )  أي لو كنت مختصا أحدا بشيء لاختصصت أبا بكر . رضي الله عنه . وفي هذا رد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم اختص بعض أصحابه بشيء من الدين . وقيل : الخليل المحتاج ; فإبراهيم خليل الله معنى أنه فقير محتاج إلى الله تعالى ; كأنه الذي به الاختلال . وقال زهير يمدح هرم بن سنان وإن أتاه خليل يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم أي لا ممنوع . قال الزجاج : ومعنى الخليل : الذي ليس في محبته خلل ; فجائز أن يكون سمي خليلا لله بأنه الذي أحبه واصطفاه محبة تامة . وجائز أن يسمى خليل الله أي فقيرا إلى الله تعالى ; لأنه لم يجعل فقره ولا فاقته إلا إلى الله تعالى مخلصا في ذلك . والاختلال الفقر ; فروي أنه لما رمي بالمنجنيق وصار في الهواء أتاه جبريل عليه السلام فقال : ألك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا . فخلق الله تعالى لإبراهيم نصرته إياه . وقيل : سمي بذلك بسبب أنه مضى إلى خليل له بمصر , وقيل : بالموصل ليمتار من عنده طعاما فلم يجد صاحبه , فملأ غرائره رملا وراح به إلى أهله فحطه ونام ; ففتحه أهله فوجدوه دقيقا فصنعوا له منه , فلما قدموه إليه قال : من أين لكم هذا ؟ قالوا : من الذي جئت به من عند خليلك المصري ; فقال : هو من عند خليلي ; يعني الله تعالى ; فسمي خليل الله بذلك . وقيل : إنه أضاف رؤساء الكفار وأهدى لهم هدايا وأحسن إليهم فقالوا له : ما حاجتك ؟ قال : حاجتي أن تسجدوا سجدة ; فسجدوا فدعا الله تعالى وقال : اللهم إني قد فعلت ما أمكنني فافعل اللهم ما أنت أهل لذلك ; فوفقهم الله تعالى للإسلام فاتخذه الله خليلا لذلك . ويقال : لما دخلت عليه الملائكة بشبه الآدميين وجاء بعجل سمين فلم يأكلوا منه وقالوا : إنا لا نأكل شيئا بغير ثمن فقال لهم : أعطوا ثمنه وكلوا , قالوا : وما ثمنه ؟ قال : أن تقولوا في أوله باسم الله وفي آخره الحمد لله , فقالوا فيما بينهم : حق على الله أن يتخذه خليلا ; فاتخذه الله خليلا . وروى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( اتخذ الله إبراهيم خليلا لإطعامه الطعام وإفشائه السلام وصلاته بالليل والناس نيام )  . وروى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يا جبريل لم اتخذ الله إبراهيم خليلا )  ؟ قال : لإطعامه الطعام يا محمد . وقيل : معنى الخليل الذي يوالي في الله ويعادي في الله . والخلة بين الآدميين الصداقة ; مشتقة من تخلل الأسراء بين المتخالين . وقيل : هي من الخلة فكل واحد من الخليلين يسد خلة صاحبه . وفي مصنف أبي داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل )  . ولقد أحسن من قال : من لم تكن في الله خلته فخليله منه على خطر آخر : إذا ما كنت متخذا خليلا فلا تثقن بكل أخي إخاء فإن خيرت بينهم فألصق بأهل العقل منهم والحياء فإن العقل ليس له إذا ما تفاضلت الفضائل من كفاء وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه : أخلاء الرجال هم كثير ولكن في البلاء هم قليل فلا تغررك خلة من تؤاخي فما لك عند نائبة خليل وكل أخ يقول أنا وفي ولكن ليس يفعل ما يقول سوى خل له حسب ودين فذاك لما يقول هو الفعول .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا
    +/- -/+  
الأية
126
 
وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ الهاء للمدد , وهو الملائكة أو الوعد أو الإمداد , ويدل عليه { يمددكم { أو للتسويم أو للإنزال أو العدد على المعنى ; لأن خمسة آلاف عدد . وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ اللام لام كي , أي ولتطمئن قلوبكم به جعله ; كقوله : { وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا } [ فصلت : 12 ] أي وحفظا لها جعل ذلك . وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ يعني نصر المؤمنين , ولا يدخل في ذلك نصر الكافرين ; لأن ما وقع لهم من غلبة إنما هو إملاء محفوف بخذلان وسوء عاقبة وخسران .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ ۖ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَىٰ بِالْقِسْطِ ۚ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا
    +/- -/+  
الأية
127
 
نزلت بسبب سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في الميراث وغير ذلك ; فأمر الله نبيه عليه السلام أن يقول لهم : الله يفتيكم فيهن ; أي يبين لكم حكم ما سألتم عنه . وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء , وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها فسألوا فقيل لهم : إن الله يفتيكم فيهن . روى أشهب عن مالك قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل فلا يجيب حتى ينزل عليه الوحي , وذلك في كتاب الله { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن } .{ ويسألونك عن اليتامى } [ البقرة : 220 ] . و { يسألونك عن الخمر والميسر } [ البقرة : 219 ] .{ ويسألونك عن الجبال } [ طه : 105 ] . قوله تعالى : { وما يتلى عليكم } { ما { في موضع رفع , عطف على اسم الله تعالى . والمعنى : والقرآن يفتيكم فيهن , وهو قول : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } [ النساء : 3 ] وقد تقدم . وقوله تعالى : { وترغبون أن تنكحوهن } أي وترغبون عن أن تنكحوهن , ثم حذفت { عن } . وقيل : وترغبون في أن تنكحوهن ثم حذفت { في } . قال سعيد بن جبير ومجاهد : ويرغب في نكاحها وإذا كانت كثيرة المال . وحديث عائشة يقوي حذف { عن { فإن في حديثها : وترغبون أن تنكحوهن رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال ; وقد تقدم أول السورة .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ۚ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
    +/- -/+  
الأية
128
 
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا فيها أربع مسائل : الأولى : { وإن امرأة { رفع بإضمار فعل يفسره ما بعده . و { خافت { بمعنى توقعت . وقول من قال : خافت تيقنت خطأ . قال الزجاج : المعنى وإن امرأة . خافت من بعلها دوام النشوز . قال النحاس : الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز التباعد , والإعراض ألا يكلمها ولا يأنس بها . ونزلت الآية بسبب سودة بنت زمعة . روى الترمذي عن ابن عباس قال : خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : لا تطلقني وأمسكني , واجعل يومي منك لعائشة ; ففعل فنزلت : { فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحا والصلح خير { فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز , قال : هذا حديث حسن غريب . وروى ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رافع بن خديج كانت تحته خولة بنت محمد بن مسلمة , فكره من أمرها إما كبرا وإما غيره , فأراد أن يطلقها فقالت : لا تطلقني واقسم لي ما شئت ; فجرت السنة بذلك فنزلت { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا } . وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا { قالت : الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول : أجعلك من شأني في حل ; فنزلت هذه الآية . وقراءة العامة { أن يصالحا } . وقرأ أكثر الكوفيين { أن يصلحا } . وقرأ الجحدري وعثمان البتي { أن يصلحا { والمعنى يصطلحا ثم أدغم . الثانية : في هذه الآية من الفقه الرد على الرعن الجهال الذين يرون أن الرجل إذا أخذ شباب المرأة وأسنت لا ينبغي أن يتبدل بها . قال ابن أبي مليكة : إن سودة بنت زمعة لما أسنت أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها , فآثرت الكون معه , فقالت له : أمسكني واجعل يومي لعائشة ; ففعل صلى الله عليه وسلم , وماتت وهي من أزواجه . قلت : وكذلك فعلت بنت محمد بن مسلمة ; روى مالك عن ابن شهاب عن رافع بن خديج أنه تزوج بنت محمد بن مسلمة الأنصارية , فكانت عنده حتى كبرت , فتزوج عليها فتاة شابة , فآثر الشابة عليها , فناشدته الطلاق , فطلقها واحدة , ثم أهملها حتى إذا كانت تحل راجعها , ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقها واحدة , ثم راجعها فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فقال : ما شئت إنما بقيت واحدة , فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة , وإن شئت فارقتك . قالت : بل أستقر على الأثرة . فأمسكها على ذلك ; ولم ير رافع عليه إثما حين قرت عنده على الأثرة . رواه معمر عن الزهري بلفظه ومعناه وزاد : فذلك الصلح الذي بلغنا أنه نزل فيه { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير } . قال أبو عمر بن عبد البر : قوله والله أعلم : { فآثر الشابة عليها { يريد في الميل بنفسه إليها والنشاط لها ; لا أنه آثرها عليها في مطعم وملبس ومبيت ; لأن هذا لا ينبغي أن يظن بمثل رافع , والله أعلم . وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رجلا سأله عن هذه الآية فقال : هي المرأة تكون عند الرجل فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو فقرها أو كبرها أو سوء خلقها وتكره فراقه ; فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له أن يأخذ وإن جعلت له من أيامها فلا حرج . وقال الضحاك : لا بأس أن ينقصها من حقها إذا تزوج من هي أشب منها وأعجب إليه . وقال مقاتل بن حيان : هو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوج عليها الشابة ; فيقول لهذه الكبيرة : أعطيك من مالي على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك من الليل والنهار ; فترضى الأخرى بما اصطلحا عليه ; وإن أبت ألا ترضى فعليه أن يعدل بينهما في القسم الثالثة : قال علماؤنا : وفي هذا أن أنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة ; بأن يعطي الزوج على أن تصبر هي , أو تعطي هي على أن يؤثر الزوج , أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة , أو يقع الصلح على الصبر والأثرة من غير عطاء ; فهذا كله مباح . وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشيء تعطيها , كما فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ; وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غضب على صفية , فقالت لعائشة : أصلحي بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقد وهبت يومي لك . ذكره ابن خويز منداد في أحكامه عن عائشة قالت : وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية في شيء ; فقالت لي صفية : هل لك أن ترضين رسول الله صلى الله عليه وسلم عني ولك يومي ؟ قالت : فلبست خمارا كان عندي مصبوغا بزعفران ونضحته , ثم جئت فجلست إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( إليك عني فإنه ليس بيومك )  . فقلت : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ; وأخبرته الخبر , فرضي عنها . وفيه أن ترك التسوية بين النساء وتفضيل بعضهن على بعض لا يجوز إلا بإذن المفضولة ورضاها . الرابعة : قرأ الكوفيون { يصلحا } . والباقون { أن يصالحا } . الجحدري { يصلحا { فمن قرأ { يصالحا } فوجهه أن المعروف في كلام العرب إذا كان بين قوم تشاجر أن يقال : تصالح القوم , ولا يقال : أصلح القوم ؟ ولو كان أصلح لكان مصدره إصلاحا . ومن قرأ { يصلحا { فقد استعمل مثله في التشاجر والتنازع ; كما قال { فأصلح بينهم } . ونصب قول : { صلحا { على هذه القراءة على أنه مفعول , وهو اسم مثل العطاء من أعطيت . فأصلحت صلحا مثل أصلحت أمرا ; وكذلك هو مفعول أيضا على قراءة من قرأ { يصالحا { لأن تفاعل قد جاء متعديا ; ويحتمل أن يكون مصدرا حذفت زوائده . ومن قرأ { يصلحا { فالأصل { يصتلحا { ثم صار إلى يصطلحا , ثم أبدلت الطاء صادا وأدغمت فيها الصاد ; ولم تبدل الصاد طاء لما فيها من امتداد الزفير . وَالصُّلْحُ خَيْرٌ لفظ عام مطلق يقتضي أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق . ويدخل في هذا المعنى جميع ما يقع عليه الصلح بين الرجل وامرأته في مال أو وطء أو غير ذلك .{ خير { أي خير من الفرقة ; فإن التمادي على الخلاف والشحناء والمباغضة هي قواعد الشر , وقال عليه السلام في البغضة : ( إنها الحالقة )  يعني حالقة الدين لا حالقة الشعر . وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ إخبار بأن الشح في كل أحد . وأن الإنسان لا بد أن يشح بحكم خلقته وجبلته حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره ; يقال : شح يشح ( بكسر الشين )  قال ابن جبير : هو شح المرأة بالنفقة من زوجها وبقسمه لها أيامها . وقال ابن زيد : الشح هنا منه ومنها . وقال ابن عطية : وهذا أحسن ; فإن الغالب على المرأة الشح بنصيبها من زوجها , والغالب على الزوج الشح بنصيبه من الشابة . والشح الضبط على المعتقدات والإرادة وفي الهمم والأموال ونحو ذلك , فما أفرط منه على الدين فهو محمود , وما أفرط منه في غيره ففيه بعض المذمة , وهو الذي قال الله فيه : { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } [ التغابن : 16 ] . وما صار إلى حيز منع الحقوق الشرعية أو التي تقتضيها المروءة فهو البخل وهي رذيلة . وإذا آل البخل إلى هذه الأخلاق المذمومة والشيم اللئيمة لم يبق معه خير مرجو ولا صلاح مأمول . قلت : وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار : ( من سيدكم )  ؟ قالوا : الجد بن قيس على بخل فيه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وأي داء أدوى من البخل )  ! قالوا : وكيف ذاك يا رسول الله ؟ قال : ( إن قوما نزلوا بساحل البحر فكرهوا لبخلهم نزول الأضياف بهم فقالوا ليبعد الرجال منا عن النساء حتى يعتذر الرجال بالرجال والنساء بالنساء )  . وقد تقدم , ذكره الماوردي . وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا شرط جوابه { فإن الله كان بما تعملون خبيرا { فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وهذا خطاب للأزواج من حيث إن للزوج أن يشح ولا يحسن ; أي إن تحسنوا وتتقوا في عشرة النساء بإقامتكم عليهن مع كراهيتكم لصحبتهن واتقاء ظلمهن فهو أفضل لكم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ۖ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ۚ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
    +/- -/+  
الأية
129
 
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء , وذلك في ميل الطبع بالمحبة والجماع والحظ من القلب . فوصف الله تعالى حالة البشر وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض ; ولهذا كان عليه السلام يقول : ( اللهم إن هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك )  . فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ قال مجاهد : لا تتعمدوا الإساءة بل الزموا التسوية في القسم والنفقة ; لأن هذا مما يستطاع . وسيأتي بيان هذا في { الأحزاب { مبسوطا إن شاء الله تعالى . وروى قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل )  . فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ أي لا هي مطلقة ولا ذات زوج ; قاله الحسن . وهذا تشبيه بالشيء المعلق من شيء ; لأنه لا على الأرض استقر ولا على ما علق عليه انحمل ; وهذا مطرد في قولهم في المثل : { ارض من المركب بالتعليق } . وفي عرف النحويين فمن تعليق الفعل . ومنه في حديث أم زرع في قول المرأة : زوجي العشنق , إن أنطق أطلق , وإن أسكت أعلق . وقال قتادة : كالمسجونة ; وكذا قرأ أبي { فتذروها كالمسجونة } . وقرأ ابن مسعود } فتذروها كأنها معلقة } . وموضع { فتذروها { نصب ; لأنه جواب النهي . والكاف في } كالمعلقة { في موضع نصب أيضا . وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا شرط فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا جوابه . وهذا خطاب للأزواج من حيث إن للزوج أن يشح ولا يحسن ; أي إن تصلحوا وتتقوا في عشرة النساء بإقامتكم عليهن مع كراهيتكم لصحبتهن واتقاء ظلمهن فهو أفضل لكم .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ۚ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا
    +/- -/+  
الأية
130
 
قوله تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته { أي وإن لم يصطلحا بل تفرقا فليحسنا ظنهما بالله , فقد يقيض للرجل امرأة تقر بها عينه , وللمرأة من يوسع عليها . وروي عن جعفر بن محمد أن رجلا شكا إليه الفقر , فأمره بالنكاح , فذهب الرجل وتزوج ; ثم جاء إليه وشكا إليه الفقر , فأمره بالطلاق ; فسئل عن هذه الآية فقال : أمرته بالنكاح لعله من أهل هذه الآية : { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله { فلما لم يكن من أهل تلك الآية أمرته بالطلاق فقلت : فلعله من أهل هذه الآية { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته } .

 
Tafseer Al-Qurtoubiy  تفسير القرطبي
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ ۚ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا
    +/- -/+