إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ مكية , وهي ثمان وعشرون آية قد مضى القول
في }{ الأعراف }{ أن نوحا عليه السلام أول رسول أرسل . ورواه قتادة عن ابن عباس عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أول رسول أرسل نوح وأرسل إلى جميع أهل الأرض )
. فلذلك لما كفروا أغرق الله أهل الأرض جميعا . وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ
وهو إدريس بن يرد بن مهلايل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه السلام . قال وهب :
كلهم مؤمنون . أرسل إلى قومه وهو ابن خمسين سنة . وقال ابن عباس : ابن أربعين سنة
. وقال عبد الله بن شداد : بعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة . وقد مضى في سورة }
العنكبوت }{ القول فيه . والحمد لله . أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ أي بأن أنذر قومك ;
فموضع }{ أن }{ نصب بإسقاط الخافض . وقيل : موضعها جر لقوة خدمتها مع }{ أن } . ويجوز }
أن }{ بمعنى المفسرة فلا يكون لها موضع من الإعراب ; لأن في الإرسال معنى الأمر ,
فلا حاجة إلى إضمار الباء . وقراءة عبد الله }{ أنذر قومك }{ بغير }{ أن }{ بمعنى قلنا
له أنذر قومك . وقد تقدم معنى الإنذار في أول }{ البقرة } . مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قال ابن عباس : يعني عذاب النار في الآخرة . وقال
الكلبي : هو ما نزل عليهم من الطوفان . وقيل : أي أنذرهم العذاب الأليم على الجملة
إن لم يؤمنوا . فكان يدعو قومه وينذرهم فلا يرى منهم مجيبا ; وكانوا يضربونه حتى
يغشى عليه فيقول ( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) . وقد مضى هذا مستوفى في سورة }
العنكبوت }{ والحمد لله .
أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ و }{ أن }{ المفسرة على ما تقدم في }{ أن أنذر }
.{ اعبدوا }{ أي وحدوا . واتقوا : خافوا . وَأَطِيعُونِ أي فيما آمركم به , فإني رسول
الله إليكم .
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ جزم }{ يغفر }{ بجواب الأمر . و }{ من }{ صلة زائدة
. ومعنى الكلام يغفر لكم ذنوبكم , قاله السدي . وقيل : لا يصح كونها زائدة ; لأن }{ من
{ لا تزاد في الواجب , وإنما هي هنا للتبعيض , وهو بعض الذنوب , وهو ما لا يتعلق
بحقوق المخلوقين . وقيل : هي لبيان الجنس . وفيه بعد , إذ لم يتقدم جنس يليق به . وقال
زيد بن أسلم : المعنى يخرجكم من ذنوبكم . ابن شجرة : المعنى يغفر لكم من ذنوبكم ما
استغفرتموه منهاوَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قال ابن عباس : أي ينسئ في
أعماركم . ومعناه أن الله تعالى كان قضى قبل خلقهم أنهم إن آمنوا بارك في أعمارهم ,
وإن لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب . وقال مقاتل : يؤخركم إلى منتهى آجالكم في عافية ;
فلا يعاقبكم بالقحط وغيره . فالمعنى على هذا يؤخركم من العقوبات ( والشدائد إلى
آجالكم . وقال الزجاج أي يؤخركم عن العذاب فتموتوا غير موتة المستأصلين بالعذاب
. وعلى هذا قيل : { أجل مسمى }{ عندكم تعرفونه , لا يميتكم غرقا ولا حرقا ولا قتلا ;
ذكره الفراء . وعلى القول الأول }{ أجل مسمى }{ عند الله . إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا
جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ أي إذا جاء الموت لا يؤخر بعذاب كان أو بغير عذاب . وأضاف الأجل
إليه سبحانه لأنه الذي أثبته . وقد يضاف إلى القوم , كقوله تعالى : { فإذا جاء أجلهم
" [ النحل : 61 ] لأنه مضروب لهم . لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ بمعنى }{ إن }{ أي إن
كنتم تعلمون . وقال الحسن : معناه لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل الله إذا جاءكم لم
يؤخر .
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ أي إلى سبب المغفرة , وهي
الإيمان بك والطاعة لك . جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ لئلا يسمعوا دعائي
وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ أي غطوا بها وجوههم لئلا يروه . وقال ابن عباس : جعلوا
ثيابهم على رءوسهم لئلا يسمعوا كلامه . فاستغشاء الثياب إذا زيادة في سد الآذان حتى
لا يسمعوا , أو لتنكيرهم أنفسهم حتى يسكت أو ليعرفوه إعراضهم عنه . وقيل : هو كناية
عن العداوة . يقال : لبس لي فلان ثياب العداوة . وَأَصَرُّوا أي على الكفر فلم
يتوبوا . وَاسْتَكْبَرُوا عن قبول الحق ; لأنهم قالوا : { أنؤمن لك واتبعك الأرذلون
" [ الشعراء : 111 ] . اسْتِكْبَارًا تفخيم .
أي مظهرا لهم الدعوة . وهو منصوب }{ بدعوتهم }{ نصب المصدر ; لأن الدعاء أحد نوعيه
الجهار , فنصب به نصب القرفصاء بقعد ; لكونها أحد أنواع القعود , أو لأنه أراد }
بدعوتهم }{ جاهرتهم . ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا ; أي دعاء جهارا ; أي مجاهرا به
. ويكون مصدرا في موضع الحال ; أي دعوتهم مجاهرا لهم بالدعوة .
أي لم أبق مجهودا . وقال مجاهد : معنى أعلنت : صحت , { وأسررت لهم إسرارا } . بالدعاء
عن بعضهم من بعض . وقيل : { أسررت لهم }{ أتيتهم في منازلهم . وكل هذا من نوح عليه
السلام مبالغة في الدعاء لهم , وتلطف في الاستدعاء . وفتح الياء من }{ إني أعلنت لهم
{ الحرميون وأبو عمرو . وأسكن الباقون .
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ أي سلوه المغفرة من ذنوبكم السالفة بإخلاص
الإيمان . إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا وهذا منه ترغيب في التوبة . وقد روى حذيفة بن
اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الاستغفار ممحاة للذنوب ) . وقال
الفضيل : يقول العبد أستغفر الله ; وتفسيرها أقلني .
أي يرسل ماء السماء ; ففيه إضمار . وقيل : السماء المطر ; أي يرسل المطر . قال الشاعر
: إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا و }{ مدرارا }{ ذا غيث كثير . وجزم
{ يرسل }{ جوابا للأمر . وقال مقاتل : لما كذبوا نوحا زمانا طويلا حبس الله عنهم
المطر , وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة ; فهلكت مواشيهم وزروعهم , فصاروا إلى نوح
عليه السلام واستغاثوا به . فقال }{ استغفروا ربكم إنه كان غفارا }{ أي لم يزل كذلك
لمن أناب إليه . ثم قال ترغيبا في الإيمان : { يرسل السماء عليكم مدرارا . ويمددكم
بأموال وبنين ويجعل لهم جنات ويجعل لكم أنهارا } . قال قتادة : علم نبي الله صلى
الله عليه وسلم أنهم أهل حرص على الدنيا فقال : ( هلموا إلى طاعة الله فإن في طاعة
الله درك الدنيا والآخرة ) .
قيل : الرجاء هنا بمعنى الخوف ; أي ما لكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أحدكم
بالعقوبة . أي أي عذر لكم في ترك الخوف من الله . وقال سعيد بن جبير وأبو العالية
وعطاء بن أبي رباح : ما لكم لا ترجون لله ثوابا ولا تخافون له عقابا . وقال سعيد بن
جبير عن ابن عباس : ما لكم لا تخشون لله عقابا وترجون منه ثوابا . وقال الوالبي
والعوفي عنه : ما لكم لا تعلمون لله عظمة . وقال ابن عباس أيضا ومجاهد : ما لكم لا
ترون لله عظمة . وعن مجاهد والضحاك : ما لكم لا تبالون لله عظمة . قال قطرب : هذه لغة
حجازية . وهذيل وخزاعة ومضر يقولون : لم أرج : لم أبال . والوقار : العظمة . والتوقير
: التعظيم . وقال قتادة : ما لكم لا ترجون لله عاقبة ; كأن المعنى ما لكم لا ترجون
لله عاقبة الإيمان . وقال ابن كيسان : ما لكم لا ترجون في عبادة الله وطاعته أن
يثيبكم على توقيركم خيرا . وقال ابن زيد : ما لكم لا تؤدون لله طاعة . وقال الحسن :
ما لكم لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة . وقيل : ما لكم لا توحدون الله ; لأن
من عظمه فقد وحده . وقيل : إن الوقار الثبات لله عز وجل ; ومنه قوله تعالى : { وقرن
في بيوتكن } [ الأحزاب : 33 ] أي اثبتن . ومعناه ما لكم لا تثبتون وحدانية الله
تعالى وأنه إلهكم لا إله لكم سواه ; قاله ابن بحر . ثم دلهم على ذلك فقال : .
أي جعل لكم في أنفسكم آية تدل على توحيده . قال ابن عباس : { أطوارا }{ يعني نطفة ثم
علقة ثم مضغة ; أي طورا بعد طور إلى تمام الخلق , كما ذكر في سورة }{ المؤمنون }
. والطور في اللغة : المرة ; أي من فعل هذا وقدر عليه فهو أحق أن تعظموه . وقيل : { أطوارا }{ صبيانا , ثم شبابا , ثم شيوخا وضعفاء , ثم أقوياء . وقيل : أطوارا أي
أنواعا : صحيحا وسقيما , وبصيرا وضريرا , وغنيا وفقيرا . وقيل : إن }{ أطوارا }
اختلافهم في الأخلاق والأفعال .
ذكر لهم دليلا آخر ; أي ألم تعلموا أن الذي قدر على هذا , فهو الذي يجب أن يعبد
ومعنى }{ طباقا }{ بعضها فوق بعض , كل سماء مطبقة على الأخرى كالقباب ; قاله ابن عباس
والسدي . وقال الحسن : خلق الله سبع سموات طباقا على سبع أرضين , بين كل أرض وأرض ,
وسماء وسماء خلق وأمر . وقوله : { ألم تروا }{ على جهة الإخبار لا المعاينة ; كما
تقول : ألم ترني كيف صنعت بفلان كذا . وطباقا }{ نصب على أنه مصدر ; أي مطابقة طباقا
. أو حال بمعنى ذات طباق ; فحذف ذات وأقام طباقا مقامه .
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا أي في سماء الدنيا ; كما يقال : أتاني بنو تميم
وأتيت بني تميم والمراد بعضهم ; قاله الأخفش . قال ابن كيسان : إذا كان في إحداهن
فهو فيهن . وقال قطرب : { فيهن }{ بمعنى معهن ; وقاله الكلبي . أي خلق الشمس والقمر مع
خلق السموات والأرض . وقال جلة أهل اللغة في قول امرئ القيس : وهل ينعمن من كان آخر
عهده ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال }{ في }{ بمعنى مع . النحاس : وسألت أبا الحسن بن
كيسان عن هذه الآية فقال : جواب النحويين أنه إذا جعله في إحداهن فقد جعله فيهن ;
كما تقول : أعطني الثياب المعلمة وإن كنت إنما أعلمت أحدها . وجواب آخر أنه يروى أن
وجه القمر إلى السماء , وإذا كان إلى داخلها فهو متصل بالسموات , ومعنى }{ نورا }{ أي
لأهل الأرض ; قاله السدي . وقال عطاء : نورا لأهل السماء والأرض . وقال ابن عباس وابن
عمر : وجهه يضيء لأهل الأرض وظهره يضيء لأهل السماء . وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا
يعني مصباحا لأهل الأرض ليتوصلوا إلى التصرف لمعايشهم . وفي إضاءتها لأهل السماء
القولان الأولان حكاه الماوردي . وحكى القشيري عن ابن عباس أن الشمس وجهها في
السموات وقفاها في الأرض . وقيل : على العكس . وقيل لعبد الله بن عمر : ما بال الشمس
تقلينا أحيانا وتبرد علينا أحيانا ؟ فقال : إنها في الصيف في السماء الرابعة , وفي
الشتاء في السماء السابعة عند عرش الرحمن ; ولو كانت في السماء الدنيا لما قام لها
شيء .
يعني آدم عليه السلام خلقه من أديم الأرض كلها ; قاله ابن جريج . وقد مضى في سورة }
الأنعام والبقرة }{ بيان ذلك . وقال خالد بن معدان : خلق الإنسان من طين ; فإنما تلين
القلوب في الشتاء . و }{ نباتا }{ مصدر على غير المصدر ; لأن مصدره أنبت إنباتا , فجعل
الاسم الذي هو النبات في موضع المصدر . وقد مضى بيانه في سورة }{ آل عمران }{ وغيرها
. وقيل : هو مصدر محمول على المعنى ; لأن معنى : { أنبتكم }{ جعلكم تنبتون نباتا ;
قاله الخليل والزجاج . وقيل : أي أنبت لكم من الأرض النبات .{ فنباتا }{ على هذا نصب
على المصدر الصريح . والأول أظهر . وقال ابن جريج : أنبتهم في الأرض بالكبر بعد الصغر
وبالطول بعد القصر .
شكاهم إلى الله تعالى , وأنهم عصوه ولم يتبعوه فيما أمرهم به من الإيمان . وقال أهل
التفسير : لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما داعيا لهم وهم على كفرهم وعصيانهم . قال
ابن عباس : رجا نوح عليه السلام الأبناء بعد الآباء ; فيأتي بهم الولد بعد الولد
حتى بلغوا سبع قرون , ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم , وعاش بعد الطوفان ستين عاما
حتى كثر الناس وفشوا . قال الحسن : كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين ; حكاه
الماوردي .{ واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا }{ يعني كبراءهم وأغنياءهم
الذين لم يزدهم كفرهم وأموالهم وأولادهم إلا ضلالا في الدنيا وهلاكا في الآخرة
. وقرأ أهل المدينة والشام وعاصم }{ وولده }{ بفتح الواو واللام . الباقون }{ ولده }{ بضم
الواو وسكون اللام وهي لغة في الولد . ويجوز أن يكون جمعا للولد , كالفلك فإنه واحد
وجمع . وقد تقدم .
أي كبيرا عظيما . يقال : كبير وكبار وكبار , مثل عجيب وعجاب وعجاب بمعنى , ومثله
طويل وطوال وطوال . يقال : رجل حسن وحسان , وجميل وجمال , وقراء للقارئ , ووضاء
للوضيء . وأنشد ابن السكيت : بيضاء تصطاد القلوب وتستبي بالحسن قلب المسلم القراء
وقال آخر : والمرء يلحقه بفتيان الندى خلق الكريم وليس بالوضاء وقال المبرد : { كبارا } ( بالتشديد ) للمبالغة . وقرأ ابن محيصن وحميد ومجاهد }{ كبارا }{ بالتخفيف
. واختلف في مكرهم ما هو ؟ فقيل : تحريشهم سفلتهم على قتل نوح . وقيل : هو تعزيرهم
الناس بما أوتوا من الدنيا والولد ; حتى قالت الضعفة : لولا أنهم على الحق لما
أوتوا هذه النعم . وقال الكلبي : هو ما جعلوه لله من الصاحبة والولد . وقيل : مكرهم
كفرهم . وقال مقاتل : هو قول كبرائهم لأتباعهم : { لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا
سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } .
قال ابن عباس وغيره : هي أصنام وصور , كان قوم نوح يعبدونها ثم عبدتها العرب وهذا
قول الجمهور . وقيل : إنها للعرب لم يعبدها غيرهم . وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم
; فلذلك خصوها بالذكر بعد قوله تعالى : { لا تذرن آلهتكم } . ويكون معنى الكلام كما
قال قوم نوح لأتباعهم : { لا تذرن آلهتكم }{ قالت العرب لأولادهم وقومهم : لا تذرن
ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا ; ثم عاد بالذكر بعد ذلك إلى قوم نوح عليه
السلام . وعلى القول الأول , الكلام كله منسوق في قوم نوح . وقال عروة بن الزبير
وغيره : اشتكى آدم عليه السلام وعنده بنوه : ود , وسواع , ويغوث , ويعوق , ونسر
. وكان ود أكبرهم وأبرهم به . قال محمد بن كعب : كان لآدم عليه السلام خمس بنين : ود
وسواع ويغوث ويعوق ونسر ; وكانوا عبادا فمات واحد منهم فحزنوا عليه ; فقال الشيطان
: أنا أصور لكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه . قالوا : افعل فصوره في المسجد من صفر
ورصاص . ثم مات آخر , فصوره حتى ماتوا كلهم فصورهم . وتنقصت الأشياء كما تتنقص اليوم
إلى أن تركوا عبادة الله تعالى بعد حين . فقال لهم الشيطان : ما لكم لا تعبدون شيئا
؟ قالوا : وما نعبد ؟ قال : آلهتكم وآلهة آبائكم , ألا ترون في مصلاكم . فعبدوها من
دون الله ; حتى بعث الله نوحا فقالوا : { لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا }
الآية . وقال محمد بن كعب أيضا ومحمد بن قيس : بل كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح ,
وكان لهم تبع يقتدون بهم , فلما ماتوا زين لهم إبليس أن يصوروا صورهم ليتذكروا بها
اجتهادهم , وليتسلوا بالنظر إليها ; فصورهم . فلما ماتوا هم وجاء آخرون قالوا : ليت
شعرنا هذه الصور ما كان آباؤنا يصنعون بها ؟ فجاءهم الشيطان فقال : كان آباؤكم
يعبدونها فترحمهم وتسقيهم المطر . فعبدوها فابتدئ عبادة الأوثان من ذلك الوقت . قلت :
وبهذا المعنى فسر ما جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا
كنيسة رأينها بالحبشة تسمى مارية , فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ;
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات
بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة )
. وذكر الثعلبي عن ابن عباس قال : هذه الأصنام أسماء رجال صالحين من قوم نوح ; فلما
هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا
وسموها بأسمائهم تذكروهم بها ; ففعلوا , فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم
عبدت من دون الله . وذكر أيضا عن ابن عباس أن نوحا عليه السلام , كان يحرس جسد آدم
عليه السلام على جبل بالهند , فيمنع الكافرين أن يطوفوا بقبره ; فقال لهم الشيطان :
إن هؤلاء يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم , وإنما هو جسد , وأنا أصور لكم
مثله تطوفون به ; فصور لهم هذه الأصنام الخمسة وحملهم على عبادتها . فلما كان أيام
الطوفان دفنها الطين والتراب والماء ; فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي
العرب . قال الماوردي : فأما ود فهو أول صنم معبود , سمي ودا لودهم له ; وكان بعد
قوم نوح لكلب بدومة الجندل ; في قول ابن عباس وعطاء ومقاتل . وفيه يقول شاعرهم :
حياك ود فإنا لا يحل لنا لهو النساء وإن الدين قد عزما وأما سواع فكان لهذيل بساحل
البحر ; في قولهم . وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجوف من سبأ ; في قول قتادة
. وقال المهدوي : لمراد ثم لغطفان . الثعلبي : وأخذت أعلى وأنعم - وهما من طيئ - وأهل
جرش من مذحج يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا . ثم إن بني ناجية أرادوا نزعه من
أعلى وأنعم , ففروا به إلى الحصين أخي بن الحارث بن كعب من خزاعة . وقال أبو عثمان
النهدي : رأيت يغوث وكان من رصاص , وكانوا يحملونه على جمل أحرد , ويسيرون معه ولا
يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك , فإذا برك نزلوا وقالوا : قد رضي لكم المنزل ;
فيضربون عليه بناء ينزلون حوله . وأما يعوق فكان لهمدان ببلخع ; في قول عكرمة وقتادة
وعطاء . ذكره الماوردي . وقال الثعلبي : وأما يعوق فكان لكهلان من سبأ , ثم توارثه
بنوه ; الأكبر فالأكبر حتى صار إلى همدان . وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني : يريش
الله في الدنيا ويبري ولا يبري يعوق ولا يريش وأما نسر فكان لذي الكلاع من حمير ;
في قول قتادة , ونحوه عن مقاتل . وقال الواقدي : كان ود على صورة رجل , وسواع على
صورة امرأة , ويغوث على صورة أسد , ويعوق على صورة فرس , ونسر على صورة نسر من
الطير ; فالله أعلم . وقرأ نافع }{ ولا تذرن ودا }{ بضم الواو . وفتحها الباقون . قال
الليث : ود ( بفتح الواو ) صنم كان لقوم نوح . وود ( بالضم ) صنم لقريش ; وبه سمي
عمرو بن ود . وفي الصحاح : والود ( بالفتح ) الوتد في لغة أهل , نجد ; كأنهم سكنوا
التاء وأدغموها في الدال . والود في قول امرئ القيس : تظهر الود إذا ما أشجذت
وتواريه إذا ما تعتكر قال ابن دريد : هو اسم جبل : وود صنم كان لقوم نوح عليه
السلام ثم صار لكلب وكان بدومة الجندل ; ومنه سموه عبد ود وقال : { لا تذرن آلهتكم
{ ثم قال : { ولا تذرن ودا ولا سواعا }{ الآية . خصها بالذكر ; لقوله تعالى : { وإذ
أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح } [ الأحزاب : 7 ] .
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا هذا من قول نوح ; أي أضل كبراؤهم كثيرا من أتباعهم ; فهو
عطف على قوله : { ومكروا مكرا كبارا } . وقيل : إن الأصنام }{ أضلوا كثيرا }{ أي ضل
بسببها كثير ; نظيره قول إبراهيم : { رب إنهن أضللن كثيرا من الناس } [ إبراهيم :
36 ] فأجرى عليهم وصف ما يعقل ; لاعتقاد الكفار فيهم ذلك . وَلَا تَزِدِ
الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا أي عذابا ; قاله ابن بحر . واستشهد بقوله تعالى : { إن المجرمين في ضلال وسعر } [ القمر : 47 ] . وقيل إلا خسرانا . وقيل إلا فتنة بالمال
والولد . وهو محتمل .
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا "ما }{ صلة مؤكدة ; والمعنى من خطاياهم وقال
الفراء : المعنى من أجل خطاياهم ; فأدت }{ ما }{ هذا المعنى . قال : و }{ ما }{ تدل على
المجازاة . وقراءة أبي عمرو }{ خطاياهم }{ على جمع التكسير ; الواحدة خطية . وكان الأصل
في الجمع خطائئ على فعائل ; فلما اجتمعت الهمزتان قلبت الثانية ياء , لأن قبلها
كسرة ثم استثقلت والجمع ثقيل , وهو معتل مع ذلك ; فقلبت الياء ألفا ثم قلبت الهمزة
الأولى ياء لخفائها بين الألفين . الباقون }{ خطيئاتهم }{ على جمع السلامة . قال أبو
عمرو : قوم كفروا ألف سنة فلم يكن لهم إلا خطيات ; يريد أن الخطايا أكثر من الخطيات
. وقال قوم : خطايا وخطيات واحد ; جمعان مستعملان في الكثرة والقلة ; واستدلوا بقوله
تعالى : { ما نفدت كلمات الله } [ لقمان : 27 ] وقال الشاعر : لنا الجفنات الغر
يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما وقرئ }{ خطيئاتهم }{ و }{ خطياتهم }{ بقلب
الهمزة ياء وإدغامها . وعن الجحدري وعمرو بن عبيد والأعمش وأبي حيوة وأشهب العقيلي }
خطيئتهم }{ على التوحيد , والمراد الشرك . فَأُدْخِلُوا نَارًا أي بعد إغراقهم . قال
القشيري : وهذا يدل على عذاب القبر . ومنكروه يقولون : صاروا مستحقين دخول النار ,
أو عرض عليهم أماكنهم من النار ; كما قال تعالى : { النار يعرضون عليها غدوا وعشيا
" [ غافر : 46 ] . وقيل : أشاروا إلى ما في الخبر من قوله : ( البحر نار من نار )
. وروى أبو روق عن الضحاك في قوله تعالى : { أغرقوا فأدخلوا نارا }{ قال : يعني عذبوا
بالنار في الدنيا مع الغرق في الدنيا في حالة واحدة ; كانوا يغرقون في جانب
ويحترقون في الماء من جانب . ذكره الثعلبي قال : أنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال
أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح قال أنشدني أبو بكر بن الأنباري : الخلق
مجتمع طورا ومفترق والحادثات فنون ذات أطوار لا تعجبن لأضداد إن اجتمعت فالله يجمع
بين الماء والنار فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصَارًا أي من يدفع
عنهم العذاب .
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ الأولى : دعا
عليهم حين يئس من اتباعهم إياه . وقال قتادة : دعا عليهم بعد أن أوحى الله إليه : { أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } [ هود : 36 ] فأجاب الله دعوته وأغرق أمته ;
وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم منزل الكتاب سريع الحساب وهازم
الأحزاب اهزمهم وزلزلهم ) . وقيل : سبب دعائه أن رجلا من قومه حمل ولدا صغيرا على
كتفه فمر بنوح فقال : ( احذر هذا فإنه يضلك ) . فقال : يا أبت أنزلني ; فأنزله فرماه
فشجه ; فحينئذ غضب ودعا عليهم . وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وعطية وابن زيد :
إنما قال هذا حينما أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم . وأعقم أرحام
النساء وأصلاب الرجال قبل العذاب بسبعين سنة . وقيل : بأربعين . قال قتادة : ولم يكن
فيهم صبي وقت العذاب . وقال الحسن وأبو العالية : لو أهلك الله أطفالهم معهم كان
عذابا من الله لهم وعدلا فيهم ; ولكن الله أهلك أطفالهم وذريتهم بغير عذاب , ثم
أهلكهم بالعذاب ; بدليل قوله تعالى : { وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم } [
الفرقان : 37 ] . الثانية : قال ابن العربي : { دعا نوح على الكافرين أجمعين , ودعا
النبي صلى الله عليه وسلم على من تحزب على المؤمنين وألب عليهم . وكان هذا أصلا في
الدعاء على الكافرين في الجملة , فأما كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه ;
لأن مآله عندنا مجهول , وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة . وإنما خص النبي
صلى الله عليه وسلم بالدعاء عتبة وشيبة وأصحابهما ; لعلمه بمآلهم وما كشف له من
الغطاء عن حالهم . والله أعلم } . قلت : قد مضت هذه المسألة مجودة في سورة }{ البقرة }
والحمد لله . الثالثة : قال ابن العربي : { إن قيل لم جعل نوح دعوته على قومه سببا
لتوقفه عن طلب الشفاعة للخلق من الله في الآخرة ؟ قلنا قال الناس في ذلك وجهان :
أحدهما أن تلك الدعوة نشأت عن غضب وقسوة ; والشفاعة تكون عن رضا ورقة , فخاف أن
يعاتب ويقال : دعوت على الكفار بالأمس وتشفع لهم اليوم . الثاني أنه دعا غضبا بغير
نص ولا إذن صريح في ذلك ; فخاف الدرك فيه يوم القيامة ; كما قال موسى عليه السلام :
( إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها ) . قال : وبهذا أقول } . قلت : وإن كان لم يؤمر
بالدعاء نصا فقد قيل له : { أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } [ هود : 36 ]
. فأعلم عواقبهم فدعا عليهم بالهلاك ; كما دعا نبينا صلى الله عليه وسلم على شيبة
وعتبة ونظرائهم فقال : ( اللهم عليك بهم ) لما أعلم عواقبهم ; وعلى هذا يكون فيه
معنى الأمر بالدعاء . والله أعلم . دَيَّارًا أي من يسكن الديار ; قاله السدي . وأصله
ديوار على فيعال من دار يدور ; فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى . مثل
القيام ; أصله قيوام . ولو كان فعالا لكان دوارا . وقال القتبي : أصله من الدار ; أي
نازل بالدار . يقال : ما بالدار ديار ; أي أحد . وقيل : الديار صاحب الدار .
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ دعا لنفسه ولوالديه وكانا مؤمنين . وهما : لمك بن
متوشلخ وشمخى بنت أنوش ; ذكره القشيري والثعلبي . وحكى الماوردي في اسم أمه منجل
. وقال سعيد بن جبير : أراد بوالديه أباه وجده . وقرأ سعيد بن جبير }{ لوالدي }{ بكسر
الدال على الواحد . قال الكلبي : كان بينه وبين آدم عشرة آباء كلهم مؤمنون . وقال ابن
عباس : لم يكفر لنوح والد فيما بينه وبين آدم عليهما السلام . وَلِمَنْ دَخَلَ
بَيْتِيَ مُؤْمِنًا أي مسجدي ومصلاي مصليا مصدقا بالله . وكان إنما يدخل بيوت
الأنبياء من آمن منهم فجعل المسجد سببا للدعاء بالغفرة . وقد قال النبي صلى الله
عليه وسلم : ( الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه ما لم يحدث
فيه تقول اللهم اغفر له اللهم ارحمه ) الحديث . وقد تقدم . وهذا قول ابن عباس : { بيتي }{ مسجدي ; حكاه الثعلبي وقاله الضحاك . وعن ابن عباس أيضا : أي ولمن دخل ديني ;
فالبيت بمعنى الدين ; حكاه القشيري وقاله جويبر . وعن ابن عباس أيضا : يعني صديقي
الداخل إلى منزلي ; حكاه الماوردي . وقيل : أراد داري . وقيل سفينتي
. وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ عامة إلى يوم القيامة ; قاله الضحاك . وقال
الكلبي : من أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : من قومه ; والأول أظهر . وَلَا
تَزِدِ الظَّالِمِينَ أي الكافرين . إِلَّا تَبَارًا إلا هلاكا ; فهي عامة في كل
كافر ومشرك . وقيل : أراد مشركي قومه . والتبار : الهلاك . وقيل : الخسران ; حكاهما
السدي . ومنه قوله تعالى : { إن هؤلاء متبر ما هم فيه } [ الأعراف : 139 ] . وقيل :
التبار الدمار ; والمعنى واحد . والله أعلم بذلك . وهو الموفق للصواب .
نهاية تفسير السورة - تفسير القرآن الكريم
End of Tafseer of The Surah - The Holy Quran Tafseer