سورة المطففين مكية قال مقاتل : وهي أول سورة نزلت بالمدينة . وقال ابن عباس وقتادة
: مدنية إلا ثماني آيات من قوله : { إن الذين أجرموا }{ إلى آخرها , مكي . وقال
الكلبي وجابر بن زيد : نزلت بين مكة والمدينة . وفيه أربع مسائل : الأولى : روى
النسائي عن ابن عباس قال : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث
الناس كيلا , فأنزل الله تعالى : { ويل للمطففين }{ فأحسنوا الكيل بعد ذلك . قال
الفراء : فهم من أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا . وعن ابن عباس أيضا قال : هي : أول
سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة نزل المدينة , وكان هذا فيهم ;
كانوا إذا اشتروا استوفوا بكيل راجح , فإذا باعوا بخسوا المكيال والميزان , فلما
نزلت هذه السورة انتهوا , فهم أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا . وقال قوم : نزلت في
رجل يعرف بأبي جهينة , واسمه عمرو ; كان له صاعان يأخذ بأحدهما , ويعطي بالآخر ;
قاله أبو هريرة رضي الله عنه . الثانية : قوله تعالى : { ويل }{ أي شدة عذاب في
الآخرة . وقال ابن عباس : إنه واد في جهنم يسيل فيه صديد . أهل النار , فهو قوله
تعالى : { ويل للمطففين }{ أي الذين ينقصون مكاييلهم وموازينهم . وروي عن ابن عمر قال
: المطفف : الرجل يستأجر المكيال وهو يعلم أنه يحيف في كيله فوزره عليه . وقال آخرون
: التطفيف في الكيل والوزن والوضوء والصلاة والحديث . في الموطأ قال مالك : ويقال
لكل شيء وفاء وتطفيف . وروي عن سالم ابن أبي الجعد قال : الصلاة بمكيال , فمن أوفى
له ومن طفف فقد علمتم ما قال الله عز وجل في ذلك : { ويل للمطففين } . الثالثة : قال
أهل اللغة : المطفف مأخوذ من الطفيف , وهو القليل , والمطفف هو المقل حق صاحبه
بنقصانه عن الحق , في كيل أو وزن . وقال الزجاج : إنما قيل للفاعل من هذا مطفف ;
لأنه لا يكاد يسرق من المكيال والميزان إلا الشيء الطفيف الخفيف , وإنما أخذ من طف
الشيء وهو جانبه . وطفاف المكوك وطفافه بالكسر والفتح : ما ملأ أصباره , وكذلك طف
المكوك وطففه ; وفي الحديث : ( كلكم بنو آدم طف الصاع لم تملئوه ) . وهو أن يقرب أن
يمتلئ فلا يفعل , والمعنى بعضكم من بعض قريب , فليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى
. والطفاف والطفافة بالضم : ما فوق المكيال . وإناء طفاف : إذا بلغ الملء طفافه ;
تقول منه : أطففت . والتطفيف : نقص المكيال وهو ألا تملأه إلى أصباره , أي جوانبه ;
يقال : أدهقت الكأس إلى أصبارها أي إلى رأسها . وقول ابن عمر حين ذكر النبي صلى الله
عليه وسلم سبق الخيل : كنت فارسا يومئذ فسبقت الناس حتى طفف بي الفرس مسجد بني زريق
, حتى كاد يساوي المسجد . يعني : وثب بي . الرابعة : المطفف : هو الذي يخسر في الكيل
والوزن , ولا يوفي حسب ما بيناه ; وروى ابن القاسم عن مالك : أنه قرأ }{ ويل
للمطففين }{ فقال : لا تطفف ولا تخلب , ولكن أرسل وصب عليه صبا , حتى إذا استوفى
أرسل يدك ولا تمسك . وقال عبد الملك بن الماجشون : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن مسح الطفاف , وقال : إن البركة في رأسه . قال : وبلغني أن كيل فرعون كان مسحا
بالحديد .
قال الفراء : أي من الناس يقال : اكتلت منك : أي استوفيت منك , ويقال : اكتلت ما
عليك : أي أخذت ما عليك . وقال الزجاج : أي إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم
الكيل ; والمعنى : الذين إذا استوفوا أخذوا الزيادة , وإذا أوفوا أو وزنوا لغيرهم
نقصوا , فلا يرضون للناس ما يرضون لأنفسهم . الطبري : { على }{ بمعنى عند .
فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : { وإذا كالوهم أو وزنوهم } : أي كالوا لهم أو
وزنوا لهم فحذفت اللام , فتعدى الفعل فنصب ; ومثله نصحتك ونصحت لك , وأمرتك به
وأمرتكه ; قاله الأخفش والفراء . قال الفراء : وسمعت أعرابية تقول إذا صدر الناس
أتينا التاجر فيكيلنا المد والمدين إلى الموسم المقبل . وهو من كلام أهل الحجاز ومن
جاورهم من قيس . قال الزجاج : لا يجوز الوقف على }{ كالوا }{ و }{ وزنوا }{ حتى تصل به }
هم }{ قال : ومن الناس من يجعلها توكيدا , ويجيز الوقف على }{ كالوا }{ و }{ وزنوا }
والأول الاختيار ; لأنها حرف واحد . وهو قول الكسائي . قال أبو عبيد : وكان عيسى بن
عمر يجعلها حرفين , ويقف على }{ كالوا }{ و }{ وزنوا }{ ويبتدئ }{ هم يخسرون }{ قال :
وأحسب قراءة حمزة كذلك أيضا . قال أبو عبيد : والاختيار أن يكونا كلمة واحدة من
جهتين : إحداهما : الخط ; وذلك أنهم كتبوهما بغير ألف , ولو كانتا مقطوعتين لكانتا
{ كالوا }{ و }{ وزنوا }{ بالألف , والأخرى : أنه يقال : كلتك ووزنتك بمعنى كلت لك ,
ووزنت لك , وهو كلام عربي ; كما يقال : صدتك وصدت لك , وكسبتك وكسبت لك , وكذلك
شكرتك ونصحتك ونحو ذلك . قول : { يخسرون } : أي ينقصون ; والعرب تقول : أخسرت
الميزان وخسرته . و ( هم ) في موضع نصب , على قراءة العامة , راجع إلى الناس ,
تقديره ( وإذا كالوا ) الناس ( أو وزنوهم يخسرون ) وفيه وجهان : أحدهما أن يراد
كالوا لهم أو وزنوا لهم , فحذف الجار , وأوصل الفعل , كما قال : ولقد جنيتك أكمؤا
وعساقلا ولقد نهيتك عن بنات الأوبر أراد : جنيت لك , والوجه الآخر : أن يكون على
حذف المضاف , وإقامة المضاف إليه مقامه , والمضاف هو المكيل والموزون . وعن ابن عباس
رضي الله عنه : إنكم معاشر الأعاجم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم : المكيال
والميزان . وخص الأعاجم , لأنهم كانوا يجمعون الكيل والوزن جميعا , وكانا مفرقين في
الحرمين ; كان أهل مكة يزنون , وأهل المدينة يكيلون . وعلى القراءة الثانية }{ هم }
في موضع رفع بالابتداء ; أي وإذا كالوا للناس أو وزنوا لهم فهم يخسرون . ولا يصح ;
لأنه تكون الأولى ملغاة , ليس لها خبر , وإنما كانت تستقيم لو كان بعدها : وإذا
كالوا هم ينقصون , أو وزنوا هم يخسرون . الثانية : قال ابن عباس قال النبي صلى الله
عليه وسلم : ( خمس بخمس : ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم , ولا حكموا
بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر , وما ظهرت الفاحشة فيهم إلا ظهر فيهم
الطاعون , وما طففوا الكيل إلا منعوا النبات , وأخذوا بالسنين , ولا منعوا الزكاة
إلا حبس الله عنهم المطر ) خرجه أبو بكر البزار بمعناه , ومالك بن أنس أيضا من حديث
ابن عمر . وقد ذكرناه في كتاب التذكرة . وقال مالك بن دينار : دخلت على جار لي قد نزل
به الموت , فجعل يقول : جبلين من نار , جبلين من نار فقلت : ما تقول ؟ أتهجر ؟ قال
: يا أبا يحيى , كان لي مكيالان , أكيل بأحدهما , وأكتال بالآخر فقمت فجعلت أضرب
أحدهما بالآخر حتى كسرتهما فقال يا أبا يحيى كلما ضربت أحدهما بالآخر ازداد عظما ,
فمات من وجعه . وقال عكرمة : أشهد على كل كيال أو وزان أنه في النار . قيل له : فإن
ابنك كيال أو وزان . فقال : أشهد أنه في النار . قال الأصمعي : وسمعت أعرابية تقول :
لا تلتمس المروءة ممن مروءته في رءوس المكاييل , ولا ألسنة الموازين . وروي ذلك عن
علي رضي الله عنه , وقال عبد خير : مر علي رضي الله عنه على رجل وهو يزن الزعفران
وقد أرجح , فأكفأ الميزان , ثم قال : أقم الوزن بالقسط ; ثم أرجح بعد ذلك ما شئت
. كأنه أمره بالتسوية أولا ليعتادها , ويفضل الواجب من النفل . وقال نافع : كان ابن
عمر يمر بالبائع فيقول : اتق الله وأوف الكيل والوزن بالقسط , فإن المطففين يوم
القيامة يوقفون حتى إن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم . وقد روي أن أبا هريرة قدم
المدينة وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر واستخلف على المدينة سباع بن
عرفطة , فقال أبو هريرة : فوجدناه في صلاة الصبح فقرأ في الركعة الأولى }{ كهيعص }
وقرأ في الركعة الثانية }{ ويل للمطففين }{ قال أبو هريرة : فأقول في صلاتي : ويل
لأبي فلان , كان له مكيالان إذا اكتال اكتال بالوافي , وإذا كال كال بالناقص .
أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ إنكار وتعجب عظيم من حالهم , في الاجتراء على التطفيف ,
كأنهم لا يخطرون التطفيف ببالهم , ولا يخمنون تخميناأَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ
فمسئولون عما يفعلون . والظن هنا بمعنى اليقين ; أي ألا يوقن أولئك , ولو أيقنوا ما
نقصوا في الكيل والوزن . وقيل : الظن بمعنى التردد , أي إن كانوا لا يستيقنون بالبعث
, فهلا ظنوه , حتى يتدبروا ويبحثوا عنه , ويأخذوا بالأحوط .
فيه أربع مسائل : الأولى : العامل في }{ يوم }{ فعل مضمر , دل عليه }{ مبعوثون }
والمعنى يبعثون }{ يوم يقوم الناس لرب العالمين } . ويجوز أن يكون بدلا من يوم في }
ليوم عظيم } , وهو مبني . وقيل : هو في موضع خفض ; لأنه أضيف إلى غير متمكن . وقيل :
هو منصوب على الظرف أي في يوم , ويقال : أقم إلى يوم يخرج فلان , فتنصب يوم , فإن
أضافوا إلى الاسم فحينئذ يخفضون ويقولون : أقم إلى يوم خروج فلان . وقيل : في الكلام
تقديم وتأخير , التقدير إنهم مبعوثون يوم يقوم الناس لرب العالمين ليوم عظيم
. الثانية : وعن عبد الملك بن مروان : أن أعرابيا قال له : قد سمعت ما قال الله
تعالى في المطففين ; أراد بذلك أن المطففين قد توجه عليهم هذا الوعيد العظيم الذي
سمعت به , فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن . وفي هذا
الإنكار والتعجيب وكلمة الظن , ووصف اليوم بالعظيم , وقيام الناس فيه لله خاضعين ,
ووصف ذاته برب العالمين , بيان بليغ لعظم الذنب , وتفاقم الإثم في التطفيف , وفيما
كان في مثل حاله من الحيف , وترك القيام بالقسط , والعمل على التسوية والعدل , في
كل أخذ وإعطاء , بل في كل قول وعمل . الثالثة : قرأ ابن عمر : { ويل للمطففين }{ حتى
بلغ }{ يوم يقوم الناس لرب العالمين }{ فبكى حتى سقط , وامتنع من قراءة ما بعده , ثم
قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( يوم يقوم الناس لرب العالمين , في يوم
كان مقداره خمسين ألف سنة , فمنهم من يبلغ العرق كعبيه , ومنهم من يبلغ ركبتيه ,
ومنهم من يبلغ حقويه , ومنهم من يبلغ صدره , ومنهم من يبلغ أذنيه , حتى إن أحدهم
ليغيب في رشحه كما يغيب الضفدع ) . وروى ناس عن ابن عباس قال : يقومون مقدار
ثلاثمائة سنة . قال : ويهون على المؤمنين قدر صلاتهم الفريضة . وروي عن عبد الله بن
عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يقومون ألف عام في الظلة ) . وروى مالك عن
نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يوم يقوم الناس لرب العالمين
حتى إن أحدهم ليقوم في رشحه إلى أنصاف أذنيه ) . وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه
وسلم : ( يقوم مائة سنة ) . وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم لبشير
الغفاري : ( كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس فيه مقدار ثلاثمائة سنة لرب العالمين ,
لا يأتيهم فيه خبر , ولا يؤمر فيه بأمر ) قال بشير : المستعان الله . قلت : قد
ذكرناه مرفوعا من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنه ليخفف
عن المؤمن , حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا ) في }{ سأل سائل
" [ المعارج : 1 ] . وعن ابن عباس : يهون على المؤمنين قدر صلاتهم الفريضة . وقيل :
إن ذلك المقام على المؤمن كزوال الشمس ; والدليل على هذا من الكتاب قوله الحق : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [ يونس : 62 ] ثم وصفهم فقال : { الذين آمنوا وكانوا يتقون } [ يونس : 63 ] جعلنا الله منهم بفضله وكرمه وجوده . ومنه
آمين . وقيل : المراد بالناس جبريل عليه السلام يقوم لرب العالمين ; قاله ابن جبير
وفيه بعد ; لما ذكرنا من الأخبار في ذلك , وهي صحيحة ثابتة , وحسبك بما في صحيح
مسلم , والبخاري والترمذي من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم }{ يوم يقوم
الناس لرب العالمين }{ قال : ( يقوم أحدهم في رشحه إلى نصف أذنيه ) . ثم قيل : هذا
القيام يوم يقومون من قبورهم . وقيل : في الآخرة بحقوق عباده في الدنيا . وقال يزيد
الرشك : يقومون بين يديه للقضاء . الرابعة : القيام لله رب العالمين سبحانه حقير
بالإضافة إلى عظمته وحقه , فأما قيام الناس بعضهم لبعض فاختلف فيه الناس ; فمنهم من
أجازه , ومنهم من منعه . وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام إلى جعفر بن أبي
طالب واعتنقه , وقام طلحة لكعب بن مالك يوم تيب عليه . وقول النبي صلى الله عليه
وسلم للأنصار حين طلع عليه سعد بن معاذ : ( قوموا إلى سيدكم ) . وقال أيضا : ( من
سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار ) . وذلك يرجع إلى حال الرجل
ونيته , فإن انتظر ذلك واعتقده لنفسه , فهو ممنوع , وإن كان على طريق البشاشة
والوصلة فإنه جائز , وخاصة عند الأسباب , كالقدوم من السفر ونحوه . وقد مضى في آخر
سورة }{ يوسف }{ شيء من هذا .
قال قوم من أهل العلم بالعربية : { كلا }{ ردع وتنبيه , أي ليس الأمر على ما هم عليه
من تطفيف الكيل والميزان , أو تكذيب بالآخرة , فليرتدعوا عن ذلك . فهي كلمة ردع وزجر
, ثم استأنف فقال : { إن كتاب الفجار } . وقال الحسن : { كلا }{ بمعنى حقا . وروى ناس
عن ابن عباس }{ كلا }{ قال : ألا تصدقون ; فعلى هذا : الوقف }{ لرب العالمين . وفي
تفسير مقاتل : إن أعمال الفجار . وروى ناس عن ابن عباس قال : إن أرواح الفجار
وأعمالهم }{ لفي سجين } . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : سجين صخرة تحت الأرض
السابعة , تقلب فيجعل كتاب الفجار تحتها . ونحوه عن ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير
ومقاتل وكعب ; قال كعب : تحتها أرواح الكفار تحت خد إبليس . وعن كعب أيضا قال : سجين
صخرة سوداء تحت الأرض السابعة , مكتوب فيها اسم كل شيطان , تلقى أنفس , الكفار
عندها . وقال سعيد بن جبير : سجين تحت خد إبليس . يحيى بن سلام : حجر أسود تحت الأرض
, يكتب فيه أرواح الكفار . وقال عطاء الخراساني : هي الأرض السابعة السفلى , وفيها
إبليس وذريته . وعن ابن عباس قال : إن الكافر يحضره الموت , وتحضره رسل الله , فلا
يستطيعون لبغض الله له وبغضهم إياه , أن يؤخروه ولا يعجلوه حتى تجيء ساعته , فإذا
جاءت ساعته قبضوا نفسه , ورفعوه إلى ملائكة العذاب , فأروه ما شاء الله أن يروه من
الشر , ثم هبطوا به إلى الأرض السابعة , وهي سجين , وهي آخر سلطان إبليس , فأثبتوا
فيها كتابه . وعن كعب الأحبار في هذه الآية قال : إن روح الفاجر إذا قبضت يصعد بها
إلى السماء , فتأبى السماء أن تقبلها , ثم يهبط بها إلى الأرض , فتأبى الأرض أن
تقبلها , فتدخل في سبع أرضين , حتى ينتهى بها إلى سجين , وهو خد إبليس . فيخرج لها
من سجين من تحت خد إبليس رق , فيرقم فيوضع تحت خد إبليس . وقال الحسن : سجين في
الأرض السابعة . وقيل : هو ضرب مثل وإشارة إلى أن الله تعالى يرد أعمالهم التي ظنوا
أنها تنفعهم . قال مجاهد : المعنى عملهم تحت الأرض السابعة لا يصعد منها شيء . وقال :
سجين صخرة في الأرض السابعة . وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (
سجين جب في جهنم وهو مفتوح ) وقال في الفلق : ( إنه جب مغطى ) . وقال أنس : هي دركة
في الأرض السفلى . وقال أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( سجين أسفل الأرض
السابعة ) . وقال عكرمة : ( سجين : خسار وضلال ; كقولهم لمن سقط قدره : قد زلق
بالحضيض . وقال أبو عبيدة والأخفش والزجاج : { لفي سجين }{ لفي حبس وضيق شديد , فعيل
من السجين ; كما يقول : فسيق وشريب ; قال ابن مقبل : ورفقة يضربون البيض ضاحية ضربا
تواصت به الأبطال سجينا والمعنى : كتابهم في حبس ; جعل ذلك دليلا على خساسة منزلتهم
, أو لأنه يحل من الإعراض عنه والإبعاد له محل الزجر والهوان . وقيل : أصله سجيل ,
فأبدلت اللام نونا . وقد تقدم ذلك . وقال زيد بن أسلم : سجين في الأرض السافلة ,
وسجيل في السماء الدنيا . القشيري : سجين : موضع في السافلين , يدفن فيه كتاب هؤلاء
, فلا يظهر بل يكون في ذلك الموضع كالمسجون . وهذا دليل على خبث أعمالهم , وتحقير
الله إياها ; ولهذا قال في كتاب الأبرار : { يشهده المقربون } .
وما أدراك ما سجين }{ أي ليس ذلك مما كنت تعلمه يا محمد أنت ولا قومك . وليس في
قوله : { وما أدراك ما سجين }{ ما يدل على أن لفظ سجين ليس عربيا , كما لا يدل في
قوله : { القارعة ما القارعة . وما أدراك ما القارعة } [ القارعة : 1 - 3 ] بل هو
تعظيم لأمر سجين , وقد مضى في مقدمة الكتاب - والحمد لله - أنه ليس في القرآن غير
عربي .
أي مكتوب كالرقم في الثوب , لا ينسى ولا يمحى . وقال قتادة : مرقوم أي مكتوب , رقم
لهم بشر : لا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد . وقال الضحاك : مرقوم : مختوم , بلغة
حمير ; وأصل الرقم : الكتابة ; قال : سأرقم في الماء القراح إليكم على بعدكم إن كان
للماء راقم .
كلا } : ردع وزجر , أي ليس هو أساطير الأولين . وقال الحسن : معناها حقا }{ ران على
قلوبهم } . وقيل : في الترمذي : عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء , فإذا هو نزع واستغفر الله
وتاب , صقل قلبه , فإن عاد زيد . فيها , حتى تعلو على قلبه ) , وهو ( الران ) الذي
ذكر الله في كتابه : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } . قال : هذا حديث
حسن صحيح . وكذا قال المفسرون : هو الذنب على الذنب حتى يسود القلب . قال مجاهد : هو
الرجل يذنب الذنب , فيحيط الذنب بقلبه , ثم يذنب الذنب فيحيط الذنب بقلبه , حتى
تغشي الذنوب قلبه . قال مجاهد : هي مثل الآية التي في سورة البقرة : { بلى من كسب
سيئة } [ البقرة : 81 ] الآية . ونحوه عن الفراء ; قال : يقول كثرت المعاصي منهم
والذنوب , فأحاطت بقلوبهم , فذلك الرين عليها . وروي عن مجاهد أيضا قال : القلب مثل
الكهف ورفع كفه , فإذا أذنب العبد الذنب انقبض , وضم إصبعه , فإذا أذنب الذنب انقبض
, وضم أخرى , حتى ضم أصابعه كلها , حتى يطبع على قلبه . قال : وكانوا يرون أن ذلك هو
الرين , ثم قرأ : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } . ومثله عن حذيفة رضي
الله عنه سواء . وقال بكر بن عبد الله : إن العبد إذا أذنب صار في قلبه كوخزة الإبرة
, ثم صار إذا أذنب ثانيا صار كذلك , ثم إذا كثرت الذنوب صار القلب كالمنخل , أو
كالغربال , لا يعي خيرا , ولا يثبت فيه صلاح . وقد بينا في }{ البقرة }{ القول في هذا
المعنى بالأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلا معنى لإعادتها . وقد
روى عبد الغني بن سعيد عن موسى بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ,
وعن موسى عن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس شيئا الله أعلم بصحته ; قال : هو الران
الذي يكون على الفخذين والساق والقدم , وهو الذي يلبس في الحرب . قال : وقال آخرون :
الران : الخاطر الذي يخطر بقلب الرجل . وهذا مما لا يضمن عهدة صحته . فالله أعلم
. فأما عامة أهل التفسير فعلى ما قد مضى ذكره قبل هذا . وكذلك أهل اللغة عليه ; يقال
: ران على قلبه ذنبه يرين رينا وريونا أي غلب . قال أبو عبيدة في قوله : { كلا بل
ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون }{ أي غلب ; وقال أبو عبيد : كل ما غلبك [ وعلاك ]
فقد ران بك , ورانك , وران عليك ; وقال الشاعر : وكم ران من ذنب على قلب فاجر فتاب
من الذنب الذي ران وانجلى ورانت الخمر على عقله : أي غلبته , وران عليه النعاس :
إذا غطاه ; ومنه قول عمر في الأسيفع - أسيفع جهينة - : فأصبح قد رين به . أي غلبته
الديون , وكان يدان ; ومنه قول أبي زبيد يصف رجلا شرب حتى غلبه الشراب سكرا , فقال
: ثم لما رآه رانت به الخم ر وأن لا ترينه باتقاء فقوله : رانت به الخمر , أي غلبت
على عقله وقلبه . وقال الأموي : قد أران القوم فهم مرينون : إذا هلكت مواشيهم وهزلت
. وهذا من الأمر الذي أتاهم مما يغلبهم , فلا يستطيعون احتماله . قال أبو زيد يقال :
قد رين بالرجل رينا : إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه , ولا قبل له وقال أبو
معاذ النحوي : الرين : أن يسود القلب من الذنوب , والطبع أن يطبع على القلب , وهذا
أشد من الرين , والإقفال أشد من الطبع . الزجاج : الرين : هو كالصدأ يغشي القلب
كالغيم الرقيق , ومثله الغين , يقال : غين على قلبه : غطي . والغين : شجر ملتف ,
الواحدة غيناء , أي خضراء , كثيرة الورق , ملتفة الأغصان . وقد تقدم قول الفراء :
إنه إحاطة الذنب بالقلوب . وذكر الثعلبي عن ابن عباس : { ران على قلوبهم } : أي غطى
عليها . وهذا هو الصحيح عنه إن شاء الله . وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وأبو بكر
والمفضل }{ ران }{ بالإمالة ; لأن فاء الفعل الراء , وعينه الألف منقلبة من ياء ,
فحسنت الإمالة لذلك . ومن فتح فعلى الأصل ; لأن باب فاء الفعل في ( فعل ) الفتح ,
مثل كال وباع ونحوه . واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ووقف حفص }{ بل }{ ثم يبتدئ }{ ران }
وقفا يبين اللام , لا للسكت .
كَلَّا أي حقاإِنَّهُمْ يعني الكفارعَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم
القيامةلَمَحْجُوبُونَ وقيل : { كلا }{ ردع وزجر , أي ليس كما يقولون , بل }{ إنهم عن
ربهم يومئذ لمحجوبون } . قال الزجاج : في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى في
القيامة , ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة , ولا خست منزلة الكفار بأنهم
يحجبون . وقال جل ثناؤه : { وجوه يومئذ ناضرة , إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 22 -
23 ] فأعلم الله جل ثناؤه أن المؤمنين ينظرون إليه , وأعلم أن الكفار محجوبون عنه ,
وقال مالك بن أنس في هذه الآية : لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه
. وقال الشافعي : لما حجب قوما بالسخط , دل على أن قوما يرونه بالرضا . ثم قال : أما
والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا . وقال
الحسين بن الفضل : لما حجبهم في الدنيا عن نور توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته
. وقال مجاهد في قوله تعالى : { لمحجوبون } : أي عن كرامته ورحمته ممنوعون . وقال
قتادة : هو أن الله لا ينظر إليهم برحمته , ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم . وعلى الأول
الجمهور , وأنهم محجوبون عن رؤيته فلا يرونه .
أي ملازموها , ومحترقون فيها غير خارجين منها , { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا
غيرها } [ النساء : 56 ] و }{ كلما خبت زدناهم سعيرا } [ الإسراء : 97 ] . ويقال :
الجحيم الباب الرابع من النار .
كلا }{ بمعنى حقا , والوقف على }{ تكذبون } . وقيل أي ليس الأمر كما يقولون ولا كما
ظنوا بل كتابهم في سجين , وكتاب المؤمنين في عليين . وقال مقاتل : كلا , أي لا
يؤمنون بالعذاب الذي يصلونه . ثم استأنف فقال : { إن كتاب الأبرار }{ مرفوع في عليين
على قدر مرتبتهم . قال ابن عباس : أي في الجنة . وعنه أيضا قال : أعمالهم في كتاب
الله في السماء . وقال الضحاك ومجاهد وقتادة : يعني السماء السابعة فيها أرواح
المؤمنين . وروى ابن الأجلح عن الضحاك قال : هي سدرة المنتهى , ينتهي إليها كل شيء
من أمر الله لا يعدوها , فيقولون : رب عبدك فلان , وهو أعلم به منهم , فيأتيه كتاب
من الله عز وجل مختوم بأمانه من العذاب . فذلك قوله تعالى : { كلا إن كتاب الأبرار }
. وعن كعب الأحبار قال : إن روح المؤمن إذا قبضت صعد بها إلى السماء , وفتحت لها
أبواب السماء , وتلقتها الملائكة بالبشرى , ثم يخرجون معها حتى ينتهوا إلى العرش ,
فيخرج لهم من تحت العرش , رق فيرقم ويختم فيه النجاة من الحساب يوم القيامة ويشهده
المقربون . وقال قتادة أيضا : { في عليين }{ هي فوق السماء السابعة عند قائمة العرش
اليمنى . وقال البراء بن عازب قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( عليون في السماء
السابعة تحت العرش ) . وعن ابن عباس أيضا : هو لوح من زبرجدة خضراء معلق بالعرش ,
أعمالهم مكتوبة فيه . وقال الفراء : عليون ارتفاع بعد ارتفاع . وقيل : عليون أعلى
الأمكنة . وقيل : معناه علو في علو مضاعف , كأنه لا غاية له ; ولذلك جمع بالواو
والنون . وهو معنى قول الطبري . قال الفراء : هو اسم موضوع على صفة الجمع , ولا واحد
له من لفظه ; كقولك : عشرون وثلاثون , والعرب إذا جمعت جمعا ولم يكن له بناء من
واحده ولا تثنية , قالوا في المذكر والمؤنث بالنون . وهي معنى قول الطبري . وقال
الزجاج : إعراب هذا الاسم كإعراب الجمع , كما تقول : هذه قنسرون , ورأيت قنسرين
. وقال يونس النحوي واحدها : علي وعلية . وقال أبو الفتح : عليين : جمع علي , وهو
فعيل من العلو . وكان سبيله أن يقول علية كما قالوا للغرفة علية ; لأنها من العلو ,
فلما حذف التاء من علية عوضوا منها الجمع بالواو والنون , كما قالوا في أرضين . وقيل
: إن عليين صفة للملائكة , فإنهم الملأ الأعلى ; كما يقال : فلان في بني فلان ; أي
هو في جملتهم وعندهم . والذي في الخبر من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : ( إن أهل عليين لينظرون إلى الجنة من كذا , فإذا أشرف رجل من أهل عليين
أشرقت الجنة لضياء وجهه , فيقولون : ما هذا النور ؟ فيقال أشرف رجل من أهل عليين
الأبرار أهل الطاعة والصدق ) . وفي خبر آخر : ( إن أهل الجنة ليرون أهل عليين كما
يرى الكوكب الدري في أفق السماء ) يدل على أن عليين اسم الموضع المرتفع . وروى ناس
عن ابن عباس في قوله }{ عليين }{ قال : أخبر أن أعمالهم وأرواحهم في السماء الرابعة .
ليس تفسيرا لعليين , بل تم الكلام عند قوله }{ عليون }{ ثم ابتدأ وقال : { كتاب مرقوم
{ أي كتاب الأبرار كتاب مرقوم ولهذا عكس الرقم في كتاب الفجار ; قاله القشيري . وروي
: أن الملائكة تصعد بعمل العبد , فيستقبلونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله من
سلطانه أوحى إليهم : إنكم الحفظة على عبدي , وأنا الرقيب على ما في قلبه , وإنه
أخلص لي عمله , فاجعلوه في عليين , فقد غفرت له , وإنها لتصعد بعمل العبد ,
فيتركونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحى إليهم : أنتم الحفظة على عبدي وأنا
الرقيب على ما في قلبه , وإنه لم يخلص لي عمله , فاجعلوه في سجين .
أي يشهد عمل الأبرار مقربو كل سماء من الملائكة . وقال وهب وابن إسحاق : المقربون
هنا إسرافيل عليه السلام , فإذا عمل المؤمن عمل البر , صعدت الملائكة بالصحيفة وله
نور يتلألأ في السموات كنور الشمس في الأرض , حتى ينتهى بها إلى إسرافيل , فيختم
عليها ويكتب فهو قوله : { يشهده المقربون }{ أي يشهد كتابتهم .
إِنَّ الْأَبْرَارَ أي أهل الصدق والطاعة . لَفِي نَعِيمٍ أي نعمة , والنعمة بالفتح
: التنعيم ; يقال : نعمه الله وناعمه فتنعم وامرأة منعمة ومناعمة بمعنى . أي إن
الأبرار في الجنات يتنعمون .
عَلَى الْأَرَائِكِ وهي الأسرة في الحجاليَنْظُرُونَ أي إلى ما أعد الله لهم من
الكرامات ; قاله عكرمة وابن عباس ومجاهد . وقال مقاتل : ينظرون إلى أهل النار . وعن
النبي صلى الله عليه وسلم : ( ينظرون إلى أعدائهم في النار ) ذكره المهدوي . وقيل :
على أرائك أفضاله ينظرون إلى وجهه وجلاله .
أي بهجته وغضارته ونوره ; يقال : نضر النبات : إذا أزهر ونور . وقراءة العامة }{ تعرف
{ بفتح التاء وكسر الراء }{ نضرة }{ نصبا ; أي تعرف يا محمد . وقرأ أبو جعفر بن
القعقاع ويعقوب وشيبة وابن أبي إسحاق : { تعرف }{ بضم التاء وفتح الراء على الفعل
المجهول }{ نضرة }{ رفعا .
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ أي من شراب لا غش فيه . قاله الأخفش والزجاج . وقيل , الرحيق
الخمر الصافية . وفي الصحاح : الرحيق صفوة الخمر . والمعنى واحد . الخليل : أقصى الخمر
وأجودها . وقال مقاتل وغيره : هي الخمر العتيقة البيضاء الصافية من الغش النيرة ,
قال حسان : يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل وقال آخر : أم لا
سبيل إلى الشباب وذكره أشهى إلي من الرحيق السلسل مَخْتُومٍ المختوم الممزوج . وقيل
: مختوم أي ختمت ومنعت عن أن يمسها ماس إلى أن يفك ختامها الأبرار . وقرأ علي وعلقمة
وشقيق والضحاك وطاوس والكسائي }{ خاتمه }{ بفتح الخاء والتاء وألف بينهما . قاله علقمة
: أما رأيت المرأة تقول للعطار : اجعل خاتمه مسكا , تريد آخره . والخاتم والختام
متقاربان في المعنى , إلا أن الخاتم الاسم , والختام المصدر ; قاله الفراء . وفي
الصحاح : والختام : الطين الذي يختم به . وكذا قال مجاهد وابن زيد : ختم إناؤه
بالمسك بدلا من الطين . حكاه المهدوي . وقال الفرزدق : وبت أفض أغلاق الختام وقال
الأعشى : وأبرزها وعليها ختم .
خِتَامُهُ مِسْكٌ قال مجاهد : يختم به آخر جرعة . وقيل : المعنى إذا شربوا هذا
الرحيق ففني ما في الكأس , انختم ذلك بخاتم المسك . وكان ابن مسعود يقول : يجدون
عاقبتها طعم المسك . ونحوه عن سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي قالا : ختامه آخر طعمه
. وهو حسن ; لأن سبيل الأشربة أن يكون الكدر في آخرها , فوصف شراب أهل الجنة بأن
رائحة آخره رائحة المسك . وعن مسروق عن عبد الله قال : المختوم الممزوج . وقيل :
مختوم أي ختمت ومنعت عن أن يمسها ماس إلى أن يفك ختامها الأبرار . وقرأ علي وعلقمة
وشقيق والضحاك وطاوس والكسائي }{ خاتمه }{ بفتح الخاء والتاء وألف بينهما . قاله علقمة
: أما رأيت المرأة تقول للعطار : اجعل خاتمه مسكا , تريد آخره . والخاتم والختام
متقاربان في المعنى , إلا أن الخاتم الاسم , والختام المصدر ; قاله الفراء . وفي
الصحاح : والختام : الطين الذي يختم به . وكذا قال مجاهد وابن زيد : ختم إناؤه
بالمسك بدلا من الطين . حكاه المهدوي . وقال الفرزدق : وبت أفض أغلاق الختام وقال
الأعشى : وأبرزها وعليها ختم أي عليها طينة مختومة ; مثل نفض بمعنى منفوض , وقبض
بمعنى مقبوض . وذكر ابن المبارك وابن وهب , واللفظ لابن وهب , عن عبد الله . بن مسعود
في قوله تعالى : { ختامه مسك } : خلطه , ليس بخاتم يختم , ألا ترى إلى قول المرأة
من نسائكم : إن خلطه من الطيب كذا وكذا . إنما خلطه مسك ; قال : شراب أبيض مثل الفضة
يختمون به آخر أشربتهم , لو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل فيه يده ثم أخرجها , لم يبق
ذو روح إلا وجد ريح طيبها . وروى أبي بن كعب قال : قيل يا رسول الله ما الرحيق
المختوم ؟ قال : ( غدران الخمر ) . وقيل : مختوم في الآنية , وهو غير الذي يجري في
الأنهار . فالله أعلم . وَفِي ذَلِكَ أي وفي الذي وصفناه من أمر الجنةفَلْيَتَنَافَسِ
الْمُتَنَافِسُونَ أي فليرغب الراغبون يقال : نفست عليه الشيء أنفسه نفاسة : أي
ضننت به , ولم أحب أن يصير إليه . وقيل : الفاء بمعنى إلى , أي وإلى ذلك فليتبادر
المتبادرون في العمل ; نظيره : { لمثل هذا فليعمل العاملون } .
وَمِزَاجُهُ أي ومزاج ذلك الرحيقمِنْ تَسْنِيمٍ وهو شراب ينصب عليهم من علو , وهو
أشرف شراب في الجنة . وأصل التسنيم في اللغة : الارتفاع فهي عين ماء تجري من علو إلى
أسفل ; ومنه سنام البعير لعلوه من بدنه , وكذلك تسنيم القبور . وروي عن عبد الله قال
: تسنيم عين في الجنة يشرب بها المقربون صرفا , ويمزج منها كأس أصحاب اليمين فتطيب
. وقال ابن عباس في قوله عز وجل : { ومزاجه من تسنيم }{ قال : هذا مما قال الله تعالى
: { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } [ السجدة : 17 ] . وقيل : التسنيم عين
تجري في الهواء بقدرة الله تعالى , فتنصب في أواني أهل الجنة على قدر مائها , فإذا
امتلأت أمسك الماء , فلا تقع منه قطرة على الأرض , ولا يحتاجون إلى الاستقاء ; قال
قتادة , ابن زيد : بلغنا أنها عين تجري من تحت العرش . وكذا في مراسيل الحسن . وقد
ذكرناه في سورة }{ الإنسان } .
أي يشرب منها أهل جنة عدن , وهم أفاضل أهل الجنة صرفا , وهي لغيرهم مزاج . و }{ عينا
{ نصب على المدح . وقال الزجاج : نصب على الحال من تسنيم , وتسنيم معرفة , ليس يعرف
له اشتقاق , وإن جعلته مصدرا مشتقا من السنام فـ }{ عينا }{ نصب ; لأنه مفعول به ;
كقوله تعالى : { أو إطعام في يوم ذي مسغبة . يتيما } [ البلد : 14 - 15 ] وهذا قول
الفراء إنه منصوب بتسنيم . وعند الأخفش بـ }{ يسقون }{ أي يسقون عينا أو من عين . وعند
المبرد بإضمار أعني على المدح .
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وصف أرواح الكفار في الدنيا مع المؤمنين باستهزائهم بهم
والمراد رؤساء قريش من أهل الشرك . روى ناس عن ابن عباس قال : هو الوليد بن المغيرة
, وعقبة بن أبي معيط , والعاص بن وائل , والأسود بن عبد يغوث , والعاص بن هشام ,
وأبو جهل , والنضر بن الحارث ; وأولئككَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا من أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم مثل عمار , وخباب وصهيب وبلاليَضْحَكُونَ على وجه السخرية .
وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ عند إتيانهم رسول الله صلى الله عليه وسلميَتَغَامَزُونَ
يغمز بعضهم بعضا , ويشيرون بأعينهم . وقيل : أي يعيرونهم بالإسلام ويعيبونهم به يقال
: غمزت الشيء بيدي ; قال : وكنت إذا غمزت قناة قوم كسرت كعوبها أو تستقيما وقالت
عائشة : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد غمزني , فقبضت رجلي . الحديث ; وقد
مضى في }{ النساء } . وغمزته بعيني . وقيل : الغمز : بمعنى العيب , يقال غمزه : أي
عابه , وما في فلان غمزة أي عيب . وقال مقاتل : نزلت في علي بن أبي طالب جاء في نفر
من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلمزهم المنافقون , وضحكوا عليهم
وتغامزوا .
وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ أي انصرفوا إلى أهلهم وأصحابهم
وذويهمانْقَلَبُوا فَكِهِينَ أي معجبين منهم . وقيل : معجبون بما هم عليه من الكفر ,
متفكهون بذكر المؤمنين . وقرأ ابن القعقاع وحفص والأعرج والسلمي : { فكهين }{ بغير
ألف . الباقون بألف . قال الفراء : هما لغتان مثل طمع وطامع وحذر وحاذر , وقد تقدم في
سورة }{ الدخان }{ والحمد لله . وقيل : الفكه : الأشر البطر والفاكه : الناعم المتنعم
.
فَالْيَوْمَ يعني هذا اليوم الذي هو يوم القيامةالَّذِينَ آمَنُوا بمحمد صلى الله
عليه وسلممِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ كما ضحك الكفار منهم في الدنيا . نظيره في
آخر سورة }{ المؤمنين }{ وقد تقدم . وذكر ابن المبارك : أخبرنا محمد بن بشار عن قتادة
في قوله تعالى : { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون }{ قال : ذكر لنا أن كعبا
كان يقول إن بين الجنة والنار كوى , فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو كان له في
الدنيا اطلع من بعض الكوى ; قال الله تعالى في آية أخرى : { فاطلع فرآه في سواء
الجحيم } [ الصافات : 55 ] قال : ذكر لنا أنه اطلع فرأى جماجم القوم تغلي . وذكر ابن
المبارك أيضا : أخبرنا الكلبي عن أبي صالح في قوله تعالى : { الله يستهزئ بهم } [
البقرة : 15 ] قال : يقال لأهل النار وهم في النار : اخرجوا , فتفتح لهم أبواب
النار , فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج , والمؤمنون ينظرون إليهم
على الأرائك , فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم ; فذلك قوله : { الله يستهزئ بهم
" [ البقرة : 15 ] ويضحك منهم المؤمنون حين غلقت دونهم فذلك قوله تعالى : { فاليوم
الذين آمنوا من الكفار يضحكون } .
عَلَى الْأَرَائِكِ وهي الأسرة في الحجاليَنْظُرُونَ أي إلى ما أعد الله لهم من
الكرامات ; قال عكرمة وابن عباس ومجاهد . وقال مقاتل : ينظرون إلى أهل النار . وعن
النبي صلى الله عليه وسلم : ( ينظرون إلى أعدائهم في النار ) ذكره المهدوي . وقيل :
على أرائك أفضاله ينظرون إلى وجهه وجلاله .
وقد مضى هذا في أول سورة }{ البقرة } . ومعنى }{ هل ثوب }{ أي هل جوزي بسخريتهم في
الدنيا بالمؤمنين إذا فعل بهم ذلك . وقيل : إنه متعلق بـ }{ ينظرون }{ أي ينظرون : هل
جوزي الكفار ؟ فيكون معنى هل [ التقرير ] وموضعها نصبا ب }{ ينظرون } . وقيل :
استئناف لا موضع له من الإعراب . وقيل : هو إضمار على القول , والمعنى ; يقول بعض
المؤمنين لبعض : { هل ثوب الكفار }{ أي أثيب وجوزي . وهو من ثاب يثوب أي رجع ;
فالثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله , ويستعمل في الخير والشر . ختمت السورة
والله أعلم .
نهاية تفسير السورة - تفسير القرآن الكريم
End of Tafseer of The Surah - The Holy Quran Tafseer