هذه السورة أول ما نزل من القرآن في قول معظم المفسرين . نزل بها جبريل على النبي
صلى الله عليه وسلم وهو قائم على حراء , فعلمه خمس آيات من هذه السورة . وقيل : إن
أول ما نزل }{ يا أيها المدثر } [ المدثر : 1 ] , قاله جابر بن عبد الله ; وقد تقدم
. وقيل : فاتحة الكتاب أول ما نزل ; قاله أبو ميسرة الهمداني . وقال علي بن أبي طالب
رضي الله عنه : أول ما نزل من القرآن }{ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } [
الأنعام : 151 ] والصحيح الأول . قالت عائشة : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله
عليه وسلم الرؤيا الصادقة ; فجاءه الملك فقال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق
الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم } . خرجه البخاري . وفي الصحيحين عنها قالت : أول ما
بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ; فكان لا
يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح , ثم حبب إليه الخلاء , فكان يخلو بغار حراء ,
يتحنث فيه الليالي ذوات العدد , قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك ; ثم يرجع إلى
خديجة فيتزود لمثلها ; حتى فجئه الحق وهو في غار حراء , فجاءه الملك , فقال : [
اقرأ ] : فقال : ( ما أنا بقارئ - قال - فأخذني فغطني , حتى بلغ مني الجهد , ثم
أرسلني ) فقال : [ اقرأ ] فقلت : [ ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني
الجهد , ثم أرسلني , فقال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك
الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ] الحديث بكامله . وقال أبو رجاء
العطاردي : وكان أبو موسى الأشعري يطوف علينا في هذا المسجد }{ مسجد البصرة }
فيقعدنا حلقا , فيقرئنا القرآن ; فكأني أنظر إليه بين ثوبين له أبيضين , وعنه أخذت
هذه السورة : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } . وكانت أول سورة أنزلها الله على محمد صلى
الله عليه وسلم . وروت عائشة رضي الله عنها أنها أول سورة أنزلت على رسول الله صلى
الله عليه وسلم , ثم بعدها }{ ن والقلم } , ثم بعدها }{ يا أيها المدثر }{ ثم بعدها }
والضحى }{ ذكره الماوردي . وعن الزهري : أول ما نزل سورة : { اقرأ باسم ربك - إلى
قوله - ما لم يعلم } , فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وجعل يعلو شواهق الجبال
, فأتاه جبريل فقال له : [ إنك نبي الله ] فرجع إلى خديجة وقال : [ دثروني وصبوا
علي ماء باردا ] فنزل }{ يا أيها المدثر } [ المدثر : 1 ] . ومعنى }{ اقرأ باسم ربك }
أي اقرأ ما أنزل إليك من القرآن مفتتحا باسم ربك , وهو أن تذكر التسمية في ابتداء
كل سورة . فمحل الباء من }{ باسم ربك }{ النصب على الحال . وقيل : الباء بمعنى على , أي
اقرأ على اسم ربك . يقال : فعل كذا باسم الله , وعلى اسم الله . وعلى هذا فالمقروء
محذوف , أي اقرأ القرآن , وافتتحه باسم الله . وقال قوم : اسم ربك هو القرآن , فهو
يقول : { اقرأ باسم ربك }{ أي اسم ربك , والباء زائدة ; كقوله تعالى }{ تنبت بالدهن }
[ المؤمنون : 20 ] , وكما قال : سود المحاجر لا يقرأن بالسور أراد : لا يقرأن السور
. وقيل : معنى }{ اقرأ باسم ربك }{ أي اذكر اسمه . أمره أن يبتدئ القراءة باسم الله .
Tafseer Al-Qurtoubiy تفسير القرطبي
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ
الأية 2
خَلَقَ الْإِنْسَانَ }{ خلق الإنسان }{ يعني ابن آدم . مِنْ عَلَقٍ أي من دم ; جمع
علقة , والعلقة الدم الجامد ; وإذا جرى فهو المسفوح . وقال : { من علق }{ فذكره بلفظ
الجمع ; لأنه أراد بالإنسان الجمع , وكلهم خلقوا من علق بعد النطفة . والعلقة : قطعة
من دم رطب , سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمر عليه , فإذا جفت لم تكن علقة
. قال الشاعر : تركناه يخر على يديه يمج عليهما علق الوتين وخص الإنسان بالذكر
تشريفا له . وقيل : أراد أن يبين قدر نعمته عليه , بأن خلقه من علقة مهينة , حتى صار
بشرا سويا , وعاقلا مميزا .
Tafseer Al-Qurtoubiy تفسير القرطبي
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ
الأية 3
قوله تعالى : { اقرأ }{ تأكيد , وتم الكلام , ثم استأنف فقال : { وربك الأكرم }{ أي
الكريم . وقال الكلبي : يعني الحليم عن جهل العباد , فلم يعجل بعقوبتهم . والأول أشبه
بالمعنى ; لأنه لما ذكر ما تقدم من نعمه , دل بها على كرمه . وقيل : { اقرأ وربك }
أي اقرأ يا محمد وربك يعينك ويفهمك , وإن كنت غير القارئ . و }{ الأكرم }{ بمعنى
المتجاوز عن جهل العباد .
Tafseer Al-Qurtoubiy تفسير القرطبي
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ
الأية 4
فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : { الذي علم بالقلم }{ يعني الخط والكتابة ;
أي علم الإنسان الخط بالقلم . وروى سعيد عن قتادة قال : القلم نعمة من الله تعالى
عظيمة , لولا ذلك لم يقم دين , ولم يصلح عيش . فدل على كمال كرمه سبحانه , بأنه علم
عباده ما لم يعلموا , ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم , ونبه على فضل علم
الكتابة , لما فيه من المنافع العظيمة , التي لا يحيط بها إلا هو . وما دونت العلوم
, ولا قيدت الحكم , ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم , ولا كتب الله المنزلة إلا
بالكتابة ; ولولا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا . وسمي قلما لأنه يقلم ; أي يقطع
, ومنه تقليم الظفر . وقال بعض الشعراء المحدثين يصف القلم : فكأنه والحبر يخضب رأسه
شيخ لوصل خريدة يتصنع لم لا ألاحظه بعين جلالة وبه إلى الله الصحائف ترفع وعن عبد
الله بن عمر قال : يا رسول الله , أأكتب ما أسمع منك من الحديث ؟ قال : [ نعم فاكتب
, فإن الله علم بالقلم ] . وروى مجاهد عن أبي عمر قال : خلق الله عز وجل أربعة أشياء
بيده , ثم قال لسائر الحيوان : كن فكان : القلم , والعرش , وجنة عدن , وآدم عليه
السلام . وفيمن علمه بالقلم ثلاثة أقاويل : أحدها : أنه آدم عليه السلام ; لأنه أول
من كتب , قاله كعب الأحبار . الثاني : أنه إدريس , وهو أول من كتب . قاله الضحاك
. الثالث : أنه أدخل كل من كتب بالقلم ; لأنه ما علم إلا بتعليم الله سبحانه , وجمع
بذلك نعمته عليه في خلقه , وبين نعمته عليه في تعليمه ; استكمالا للنعمة عليه .
الثانية : صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة , قال : ( لما خلق
الله الخلق كتب في كتابه - فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي ) . وثبت عنه
عليه السلام أنه قال : ( أول ما خلق الله : القلم , فقال له اكتب , فكتب ما يكون
إلى يوم القيامة , فهو عنده في الذكر فوق عرشه ) . وفي الصحيح من حديث ابن مسعود :
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة
, بعث الله إليها ملكا فصورها , وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها , ثم يقول
, يا رب , أذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول : يا رب أجله ,
فيقول ربك ما شاء , ويكتب الملك , ثم يقول يا رب رزقه , فيقضي ربك ما شاء , ويكتب
الملك , ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده , فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص , وقال
تعالى : { إن عليكم لحافظين . كراما كاتبين } ( الانفطار : 10 ) . قال علماؤنا :
فالأقلام في الأصل ثلاثة : القلم الأول : الذي خلقه الله بيده , وأمره أن يكتب
. والقلم الثاني : أقلام الملائكة , جعلها الله بأيديهم يكتبون بها المقادير
والكوائن والأعمال . والقلم الثالث : أقلام الناس , جعلها الله بأيديهم , يكتبون بها
كلامهم , ويصلون بها مآربهم . وفي الكتابة فضائل جمة . والكتابة من جملة البيان ,
والبيان مما اختص به الآدمي . الثالثة : قال علماؤنا : كانت العرب أقل الخلق معرفة
بالكتاب , وأقل العرب معرفة به المصطفى صلى الله عليه وسلم ; صرف عن علمه ; ليكون
ذلك أثبت لمعجزته , وأقوى في حجته , وقد مضى هذا مبينا في سورة }{ العنكبوت } . وروى
حماد بن سلمة عن الزبير بن عبد السلام , عن أيوب بن عبد الله الفهري , عن عبد الله
بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ لا تسكنوا نساءكم الغرف , ولا
تعلموهن الكتابة ] . قال علماؤنا : وإنما حذرهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأن في
إسكانهن الغرف تطلعا إلى الرجل ; وليس في ذلك تحصين لهن ولا تستر . وذلك أنهن لا
يملكن أنفسهن حتى يشرفن على الرجل ; فتحدث الفتنة والبلاء ; فحذرهم أن يجعلوا لهن
غرفا ذريعة إلى الفتنة . وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ليس للنساء
خير لهن من ألا يراهن الرجال , ولا يرين الرجال ] . وذلك أنها خلقت من الرجل ,
فنهمتها في الرجل , والرجل خلقت فيه الشهوة , وجعلت سكنا له , فغير مأمون كل واحد
منهما في صاحبه . وكذلك تعليم الكتابة ربما كانت سببا للفتنة , وذلك إذا علمت
الكتابة كتبت إلى من تهوى . والكتابة عين من العيون , بها يبصر الشاهد الغائب ,
والخط هو آثار يده . وفي ذلك تعبير عن الضمير بما لا ينطلق به اللسان , فهو أبلغ من
اللسان . فأحب رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينقطع عنهن أسباب الفتنة ; تحصينا لهن ,
وطهارة لقلوبهن .
Tafseer Al-Qurtoubiy تفسير القرطبي
عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ
الأية 5
قيل : { الإنسان }{ هنا آدم عليه السلام . علمه أسماء كل شيء ; حسب ما جاء به القرآن
في قوله تعالى : { وعلم آدم الأسماء كلها } . فلم يبق شيء إلا وعلم سبحانه آدم اسمه
بكل لغة , وذكره آدم للملائكة كما علمه . وبذلك ظهر فضله , وتبين قدره , وثبتت نبوته
, وقامت حجة الله على الملائكة وحجته , وامتثلت الملائكة الأمر لما رأت من شرف
الحال , ورأت من جلال القدرة , وسمعت من عظيم الأمر . ثم توارثت ذلك ذريته خلفا بعد
سلف , وتناقلوه قوما عن قوم . وقد مضى هذا في سورة }{ البقرة }{ مستوفى والحمد لله
. وقيل : { الإنسان }{ هنا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ; دليله قوله تعالى : { وعلمك ما لم تكن تعلم } [ النساء : 113 ] . وعلى هذا فالمراد ب }{ علمك }{ المستقبل ;
فإن هذا من أوائل ما نزل . وقيل : هو عام لقوله تعالى : { والله أخرجكم من بطون
أمهاتكم لا تعلمون شيئا } [ النحل : 78 ] .
Tafseer Al-Qurtoubiy تفسير القرطبي
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ
الأية 6
قيل : إنه نزل في أبي جهل . وقيل : نزلت السورة كلها في أبي جهل ; نهى النبي صلى
الله عليه وسلم عن الصلاة ; فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي في المسجد
ويقرأ باسم الرب . وعلى هذا فليست السورة من أوائل ما نزل . ويجوز أن يكون خمس آيات
من أولها أول ما نزلت , ثم نزلت البقية في شأن أبي جهل , وأمر النبي صلى الله عليه
وسلم بضم ذلك إلى أول السورة ; لأن تأليف السور جرى بأمر من الله . ألا ترى أن قوله
تعالى : { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } [ البقرة : 281 ] آخر ما نزل , ثم هو
مضموم إلى ما نزل قبله بزمان طويل . و }{ كلا }{ بمعنى حقا ; إذ ليس قبله شيء
. والإنسان هنا أبو جهل . والطغيان : مجاوزة الحد في العصيان .
Tafseer Al-Qurtoubiy تفسير القرطبي
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ
الأية 7
أن رآه }{ أي لأن رأى نفسه استغنى ; أي صار ذا مال وثروة . وقال ابن عباس في رواية
أبي صالح عنه , قال : لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون , أتاه أبو جهل فقال :
يا محمد تزعم أنه من استغنى طغى ; فاجعل لنا جبال مكة ذهبا , لعلنا نأخذ منها ,
فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك . قال فأتاه جبريل عليه السلام فقال : ( يا محمد خيرهم
في ذلك فإن شاءوا فعلنا بهم ما أرادوه فإن لم يسلموا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب
المائدة ) . فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القوم لا يقبلون ذلك ; فكف عنهم
إبقاء عليهم . وقيل : { أن رآه استغنى }{ بالعشيرة والأنصار والأعوان . وحذف اللام من
قوله }{ أن رآه }{ كما يقال : إنكم لتطغون إن رأيتم غناكم . وقال الفراء : لم يقل رأى
نفسه , كما قيل قتل نفسه ; لأن رأى من الأفعال التي تريد اسما وخبرا , نحو الظن
والحسبان , فلا يقتصر فيه على مفعول واحد . والعرب تطرح النفس من هذا الجنس تقول :
رأيتني وحسبتني , ومتى تراك خارجا , ومتى تظنك خارجا . وقرأ مجاهد وحميد وقنبل عن
ابن كثير }{ أن رأه استغنى }{ بقصر الهمزة . الباقون }{ رآه }{ بمدها , وهو الاختيار .
Tafseer Al-Qurtoubiy تفسير القرطبي
إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ
الأية 8
أي مرجع من هذا وصفه , فنجازيه . والرجعى والمرجع والرجوع : مصادر ; يقال : رجع إليه
رجوعا ومرجعا ورجعى على وزن فعلى .
Tafseer Al-Qurtoubiy تفسير القرطبي
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ
الأية 9
وهو أبو جهل .
Tafseer Al-Qurtoubiy تفسير القرطبي
عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ
الأية 10
وهو محمد صلى الله عليه وسلم . فإن أبا جهل قال : إن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه
; قاله أبو هريرة . فأنزل الله هذه الآيات تعجبا منه . وقيل : في الكلام حذف ;
والمعنى : أمن هذا الناهي عن الصلاة من العقوبة .
Tafseer Al-Qurtoubiy تفسير القرطبي
أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ
الأية 11
أي أرأيت يا أبا جهل إن كان محمد على هذه الصفة , أليس ناهيه عن التقوى والصلاة
هالكا ؟ .
Tafseer Al-Qurtoubiy تفسير القرطبي
أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ
الأية 12
أي أرأيت يا أبا جهل إن كان محمد على هذه الصفة , أليس ناهيه عن التقوى والصلاة
هالكا ؟ .
Tafseer Al-Qurtoubiy تفسير القرطبي
أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
الأية 13
يعني أبا جهل كذب بكتاب الله عز وجل , وأعرض عن الإيمان . وقال الفراء : المعنى }
أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى }{ وهو على الهدى , وأمر بالتقوى , والناهي مكذب متول
عن الذكر ; أي فما أعجب هذا .
Tafseer Al-Qurtoubiy تفسير القرطبي
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ
الأية 14
ثم يقول : ويله ألم يعلم أبو جهل بأن الله يرى ; أي يراه ويعلم فعله ; فهو تقرير
وتوبيخ . وقيل : كل واحد من }{ أرأيت }{ بدل من الأول . و }{ ألم يعلم بأن الله يرى }
الخبر .
كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ أي أبو جهل عن أذاك يا محمد . لَنَسْفَعًا
بِالنَّاصِيَةِ }{ لنسفعا }{ أي لنأخذن }{ بالناصية }{ فلنذلنه . وقيل : لنأخذن بناصيته
يوم القيامة , وتطوى مع قدميه , ويطرح في النار , كما قال تعالى : { فيؤخذ بالنواصي
والأقدام } [ الرحمن : 41 ] . فالآية - وإن كانت في أبي جهل - فهي عظة للناس ,
وتهديد لمن يمتنع أو يمنع غيره عن الطاعة . وأهل اللغة يقولون : سفعت بالشيء : إذا
قبضت عليه وجذبته جذبا شديدا . ويقال : سفع بناصية فرسه . قال : قوم إذا كثر الصياح
رأيتهم من بين ملجم مهره أو سافع وقيل : هو مأخوذ من سفعته النار والشمس : إذا غيرت
وجهه إلى حال تسويد ; كما قال : أثافي سفعا في معرس مرجل ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
والناصية : شعر مقدم الرأس . وقد يعبر بها عن جملة الإنسان ; كما يقال : هذه ناصية
مباركة ; إشارة إلى جميع الإنسان . وخص الناصية بالذكر على عادة العرب فيمن أرادوا
إذلاله وإهانته أخذوا بناصيته . وقال المبرد : السفع : الجذب بشدة ; أي لنجرن
بناصيته إلى النار . وقيل : السفع الضرب ; أي لنلطمن وجهه . وكله متقارب المعنى . أي
يجمع عليه الضرب عند الأخذ ; ثم يجر إلى جهنم .
Tafseer Al-Qurtoubiy تفسير القرطبي
نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ
الأية 16
ثم قال على البدل : { ناصية كاذبة خاطئة }{ أي ناصية أبي جهل كاذبة في قولها , خاطئة
في فعلها . والخاطئ معاقب مأخوذ . والمخطئ غير مأخوذ . ووصف الناصية بالكاذبة الخاطئة
كوصف الوجوه بالنظر في قوله تعالى : { إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 23 ] . وقيل :
أي صاحبها كاذب خاطئ ; كما يقال : نهاره صائم , وليله قائم ; أي هو صائم في نهاره ,
ثم قائم في ليله .
Tafseer Al-Qurtoubiy تفسير القرطبي
فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ
الأية 17
أي أهل مجلسه وعشيرته , فليستنصر بهم .
Tafseer Al-Qurtoubiy تفسير القرطبي
سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ
الأية 18
أي الملائكة الغلاط الشداد - عن ابن عباس وغيره - واحدهم زبني ; قاله الكسائي . وقال
الأخفش : زابن . أبو عبيدة : زبنية . وقيل : زباني . وقيل : هو اسم للجمع ; كالأبابيل
والعباديد . وقال قتادة : هم الشرط في كلام العرب . وهو مأخوذ من الزبن وهو الدفع ;
ومنه المزابنة في البيع . وقيل : إنما سموا الزبانية لأنهم يعملون بأرجلهم , كما
يعملون بأيديهم ; حكاه أبو الليث السمرقندي - رحمه الله - قال : وروي في الخبر أن
النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه السورة , وبلغ إلى قوله تعالى : { لنسفعا
بالناصية }{ قال أبو جهل : أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك . فقال الله تعالى : { فليدع ناديه , سندع الزبانية } . فلما سمع ذكر الزبانية رجع فزعا ; فقيل له : خشيت
منه قال لا ولكن رأيت عنده فارسا يهددني بالزبانية . فما أدري ما الزبانية , ومال
إلي الفارس , فخشيت منه أن يأكلني . وفي الأخبار أن الزبانية رءوسهم في السماء
وأرجلهم في الأرض , فهم يدفعون الكفار في جهنم وقيل : إنهم أعظم الملائكة خلقا ,
وأشدهم بطشا . والعرب تطلق هذا الاسم على من اشتد بطشه . قال الشاعر : مطاعيم في
القصوى مطاعين في الوغى زبانية غلب عطام حلومها وعن عكرمة عن ابن عباس : { سندع
الزبانية }{ قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه . فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : [ لو فعل لأخذته الملائكة عيانا ] . قال أبو عيسى : هذا حديث
حسن صحيح غريب . وروى عكرمة عن ابن عباس قال : مر أبو جهل على النبي صلى الله عليه
وسلم وهو يصلي عند المقام , فقال : ألم أنهك عن هذا يا محمد فأغلظ له رسول الله صلى
الله عليه وسلم ; فقال أبو جهل : بأي شيء تهددني يا محمد , والله إني لأكثر أهل
الوادي هذا ناديا ; فأنزل الله عز وجل : { فليدع ناديه . سندع الزبانية } . قال ابن
عباس : والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب من ساعته . أخرجه الترمذي بمعناه ,
وقال : حسن غريب صحيح . والنادي في كلام العرب : المجلس الذي ينتدي فيه القوم ; أي
يجتمعون , والمراد أهل النادي ; كما قال جرير : لهم مجلس صهب السبال أذلة وقال زهير
: وفيهم مقامات حسان وجوههم وقال آخر : واستب بعدك يا كليب المجلس وقد ناديت الرجل
أناديه إذا جالسته . قال زهير : وجار البيت والرجل المنادي أمام الحي عقدهما سواء .
Tafseer Al-Qurtoubiy تفسير القرطبي
كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ۩
الأية 19
كَلَّا أي ليس الأمر على ما يظنه أبو جهل . لَا تُطِعْهُ أي فيما دعاك إليه من ترك
الصلاة . وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ أي صل لله }{ واقترب }{ أي تقرب إلى الله جل ثناؤه
بالطاعة والعبادة . وقيل : المعنى : إذا سجدت فاقترب من الله بالدعاء . روى عطاء عن
أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ أقرب ما يكون العبد من ربه ,
وأحبه إليه , جبهته في الأرض ساجدا لله ] . قال علماؤنا : وإنما كان ذلك لأنها
نهاية العبودية والذلة ; ولله غاية العزة , وله العزة التي لا مقدار لها ; فكلما
بعدت من صفته , قربت من جنته , ودنوت من جواره في داره . وفي الحديث الصحيح : أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ أما الركوع فعظموا فيه الرب . وأما السجود
فاجتهدوا في الدعاء , فإنه قمن أن يستجاب لكم ] . ولقد أحسن من قال : وإذا تذللت
الرقاب تواضعا منا إليك فعزها في ذلها وقال زيد بن أسلم : اسجد أنت يا محمد مصليا ,
واقترب أنت يا أبا جهل من النار . وقوله تعالى : { واسجد }{ هذا من السجود . يحتمل أن
يكون بمعنى السجود في الصلاة , ويحتمل أن يكون سجود التلاوة في هذه السورة . قال ابن
العربي : { والظاهر أنه سجود الصلاة }{ لقوله تعالى : { أرأيت الذي ينهى عبدا إذا
صلى - إلى قوله - كلا لا تطعه واسجد واقترب } , لولا ما ثبت في الصحيح من رواية
مسلم وغيره من الأئمة عن أبي هريرة أنه قال : سجدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
في }{ إذا السماء انشقت } [ الانشقاق : 1 ] , وفي }{ اقرأ باسم ربك الذي خلق } [
العلق : 1 ] سجدتين , فكان هذا نصا على أن المراد سجود التلاوة . وقد روى ابن وهب ,
عن حماد بن زيد , عن عاصم بن بهدلة , عن زر بن حبيش , عن علي بن أبي طالب رضي الله
عنه , قال : عزائم السجود أربع : { ألم }{ و }{ حم تنزيل من الرحمن الرحيم }{ و }
النجم }{ و }{ اقرأ باسم ربك } . وقال ابن العربي : وهذا إن صح يلزم عليه السجود
الثاني من سورة }{ الحج } , وإن كان مقترنا بالركوع ; لأنه يكون معناه اركعوا في
موضع الركوع , واسجدوا في موضع السجود . وقد قال ابن نافع ومطرف : وكان مالك يسجد في
خاصة نفسه بخاتمة هذه السورة من }{ اقرأ باسم ربك }{ وابن وهب يراها من العزائم . قلت
: وقد روينا من حديث مالك بن أنس عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن نافع عن ابن عمر
قال : لما أنزل الله تعالى }{ اقرأ باسم ربك الذي خلق } [ العلق : 1 ] قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لمعاذ : [ اكتبها يا معاذ ] فأخذ معاذ اللوح والقلم والنون -
وهي الدواة - فكتبها معاذ ; فلما بلغ }{ كلا لا تطعه واسجد واقترب }{ سجد اللوح ,
وسجد القلم , وسجدت النون , وهم يقولون : اللهم ارفع به ذكرا , اللهم احطط به وزرا
, اللهم اغفر به ذنبا . قال معاذ : سجدت , وأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ,
فسجد . ختمت السورة . والحمد لله على ما فتح ومنح وأعطى وله الحمد والمنة .
نهاية تفسير السورة - تفسير القرآن الكريم
End of Tafseer of The Surah - The Holy Quran Tafseer