قال أبو جعفر: تبارك: تفاعل من البركة, كما حدثنا أبو كريب, قال: ثنا عثمان بن
سعيد, قال: ثنا بشر بن عمارة,قال: ثنا أبو روق, عن الضحاك, عن عبد الله بن عباس,
قال: تبارك: تفاعل من البركة. وهو كقول القائل: تقدّس ربنا, فقوله: { تَبَارَكَ
الَّذِي نـزلَ الْفُرْقَانَ } يقول: تبارك الذي نـزل الفصل بين الحقّ والباطل, فصلا
بعد فصل وسورة بعد سورة, على عبده محمد صلى الله عليه وسلم, ليكون محمد لجميع الجنّ
والإنس، الذين بعثه الله إليهم داعيا إليه, نذيرا: يعني منذرا ينذرهم عقابه
ويخوِّفهم عذابه, إن لم يوحدوه ولم يخلصوا له العبادة، ويخلعوا كلّ ما دونه من
الآلهة والأوثان. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: { تَبَارَكَ الَّذِي نـزلَ
الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } قال: النبيّ
النذير. وقرأ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ وقرأ وَمَا أَهْلَكْنَا
مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ قال: رسل. قال: المنذرون: الرسل. قال: وكان
نذيرا واحدا بلَّغ ما بين المشرق والمغرب, ذو القرنين, ثم بلغ السدّين, وكان نذيرا,
ولم أسمع أحدا يحق أنه كان نبيا وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ
بِهِ وَمَنْ بَلَغَ قال: من بلغه القرآن من الخلق, فرسول الله نذيره. وقرأ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا وقال: لم يرسل الله
رسولا إلى الناس عامة إلا نوحا, بدأ به الخلق, فكان رسول أهل الأرض كلهم, ومحمد صلى
الله عليه وسلم ختم به.
يقول تعالى ذكره: تبارك الذي نـزل الفرقان { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ } فالذي الثانية من نعت الذي الأولى, وهما جميعا في موضع رفع, الأولى
بقوله تبارك, والثانية نعت لها ويعني بقوله: { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ } الذي له سلطان السماوات والأرض ينفذ في جميعها أمره وقضاءه, ويمضي في
كلها أحكامه، يقول: فحقّ على من كان كذلك أن يطيعه أهل مملكته، ومن في سلطانه، ولا
يعصوه, يقول: فلا تعصوا نذيري إليكم أيها الناس, واتبعوه, واعملوا بما جاءكم به من
الحق { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } يقول: تكذيبا لمن أضاف إليه الولد، وقال:
الملائكة بنات الله، ما اتخذ الذي نـزل الفرقان على عبده ولدا، فمن أضاف إليه ولدا
فقد كذب وافترى على ربه { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } يقول تكذيبا
لمن كان يضيف الألوهة إلى الأصنام ويعبدها من دون الله من مشركي العرب، ويقول في
تلبيته: لبيك لا شريك لك, إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، كذب قائلو هذا القول, ما
كان لله من شريك في مُلكه وسلطانه، فيصلح أن يعبد من دونه. يقول تعالى ذكره:
فأفردوا أيها الناس لربكم الذي نـزل الفرقان على عبده محمد نبيه صلى الله عليه وسلم
الألوهة, وأخلصوا له العبادة دون كلّ ما تعبدونه من دونه من الآلهة والأصنام
والملائكة والجنّ والإنس, فإن كلّ ذلك خلقه وفي ملكه, فلا تصلح العبادة إلا لله
الذي هو مالك جميع ذلك، وقوله: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } يقول تعالى ذكره: وخلق
الذي نـزل على محمد الفرقان كل شيء, فالأشياء كلها خلقه وملكه, وعلى المماليك طاعة
مالكهم، وخدمة سيدهم دون غيره. يقول: وأنا خالقكم ومالككم, فأخلصوا لي العبادة دون
غيري، وقوله: { فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } يقول: فسوّى كل ما خلق، وهيأه لما يصلح
له, فلا خلل فيه ولا تفاوت.
يقول تعالى ذكره مقرعا مشركي العرب بعبادتهم ما دونه من الآلهة, ومعجبا أولي النهى
منهم, ومنبههم على موضع خطأ فعلهم وذهابهم عن منهج الحقّ، وركوبهم من سبل الضلالة
ما لا يركبه إلا كل مدخول الرأي، مسلوب العقل: واتخذ هؤلاء المشركون بالله من دون
الذي له مُلك السماوات والأرض وحده. من غير شريك, الذي خلق كل شيء فقدّره، آلهة :
يعني أصناما بأيديهم يعبدونها, لا تخلق شيئا وهي تخلق, ولا تملك لأنفسها نفعا تجرّه
إليها، ولا ضرّا تدفعه عنها ممن أرادها بضرّ, ولا تملك إماتة حيّ، ولا إحياء ميت،
ولا نشره من بعد مماته, وتركوا عبادة خالق كلّ شيء، وخالق آلهتهم، ومالك الضرّ
والنفع، والذي بيده الموت والحياة والنشور. والنشور: مصدر نُشر الميت نشورا, وهو أن
يُبعث ويحيا بعد الموت.
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء الكافرون بالله، الذين اتخذوا من دونه آلهة: ما هذا
القرآن الذي جاءنا به محمد { إِلا إِفْكٌ } يعني: إلا كذب وبهتان { افْتَرَاهُ }
اختلقه وتخرّصه بقوله: { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } ذكر أنهم كانوا
يقولون: إنما يعلِّم محمدا هذا الذي يجيئنا به اليهود, فذلك قوله: { وَأَعَانَهُ
عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } يقول: وأعان محمدا على هذا الإفك الذي افتراه يهود. *
ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول
الله: { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } قال: يهود. حدثنا القاسم, قال: ثنا
الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, مثله. وقوله: { فَقَدْ جَاءُوا
ظُلْمًا وَزُورًا } يقول تعالى ذكره: فقد أتى قائلو هذه المقالة, يعني الذين قالوا:
{ إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } ظلما,
يعني بالظلم نسبتهم كلام الله وتنـزيله إلى أنه إفك افتراه محمد صلى الله عليه
وسلم. وقد بيَّنا فيما مضى أن معنى الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، فكان ظلم قائلي
هذه المقالة القرآن بقيلهم هذا وصفهم إياه بغير صفته، والزور: أصله تحسين الباطل.
فتأويل الكلام: فقد أتى هؤلاء، القوم في قيلهم { إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ
وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } كذبا محضا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى;
وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد،
وحدثني القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد { فَقَدْ
جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا } قال: كذبًا.
ذكر أن هذه الآية نـزلت في النضر بن الحارث, وأنه المعني بقوله: { وَقَالُوا
أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ }. * ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب, قال: ثنا يونس بن
بكير, قال: ثنا محمد بن إسحاق, قال: ثنا شيخ من أهل مصر, قدم منذ بضع وأربعين سنة,
عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كان النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن
عبد الدار بن قصيّ من شياطين قريش, وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصب
له العداوة, وكان قد قدم الحيرة, تعلَّم بها أحاديث ملوك فارس، وأحاديث رستم
وأسفنديار, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلسا، فذكّر بالله وحدّث
قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم، من نقمة الله خلفه في مجلسه إذا قام, ثم يقول: أنا
والله يا معشر قُريش أحسن حديثا منه. فهلموا فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم
عن ملوك فارس ورستم وأسفنديار, ثم يقول: ما محمد أحسن حديثا مني، قال: فأنـزل الله
تبارك وتعالى في النضر ثماني آيات من القرآن, قوله: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ
آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ وكل ما ذُكِر فيه الأساطير في القرآن.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: ثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد
أو عكرمة, عن ابن عباس نحوه, إلا أنه جعل قوله: " فأنـزل الله في النضر ثماني آيات
", عن ابن إسحاق, عن الكلبي, عن أبي صالح, عن ابن عباس. حدثنا القاسم, قال: ثنا
الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج { أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } أشعارهم
وكهانتهم، وقالها النضر بن الحارث. فتأويل الكلام: وقال هؤلاء المشركون بالله،
الذين قالوا لهذا القرآن إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ محمد صلى الله عليه
وسلم: هذا الذي جاءنا به محمد أساطير الأوّلين, يعنون أحاديثهم التي كانوا يسطرونها
في كتبهم, اكتتبها محمد صلى الله عليه وسلم من يهود، { فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ }
يعنون بقوله: { فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ } فهذه الأساطير تقرأ عليه, من قولهم:
أمليت عليك الكتاب وأمللت { بُكْرَةً وَأَصِيلا } يقول: وتملى عليه غدوة وعشيا.
وقوله: { قُلْ أَنـزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ }
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المكذّبين بآيات الله من مشركي قومك: ما الأمر
كما تقولون من أن هذا القرآن أساطير الأولين، وأن محمد صلى الله عليه وسلم افتراه
وأعانه عليه قوم آخرون, بل هو الحقّ, أنـزله الربّ الذي يعلم سرّ من في السماوات
ومن في الأرض, ولا يخفى عليه شيء, ومحصي ذلك على خلقه, ومجازيهم بما عزمت عليه
قلوبهم، وأضمروه في نفوسهم { إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } يقول: إنه لم يزل
يصفح عن خلقه ويرحمهم, فيتفضل عليهم بعفوه, يقول: فلأن ذلك من عادته في خلقه,
يمهلكم أيها القائلون ما قلتم من الإفك، والفاعلون ما فعلتم من الكفر. وبنحو الذي
قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين,
قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج { قُلْ أَنـزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } قال: ما يسرّ أهل الأرض وأهل السماء.
ذُكر أن هاتين الآيتين نـزلتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان مشركو
قومه قالوا له ليلة اجتماع أشرافهم بظهر الكعبة, وعرضوا عليه أشياء, وسألوه الآيات.
فكان فيما كلموه به حينئذ, فيما حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال:
ثني محمد بن أبي محمد, مولى زيد بن ثابت, عن سعيد بن جُبير, أو عكرمة مولى ابن
عباس, عن ابن عباس أن قالوا له: فإن لم تفعل لنا هذا- يعني ما سألوه من تسيير
جبالهم عنهم, وإحياء آبائهم, والمجيء بالله والملائكة قبيلا وما ذكره الله في سورة
بني إسرائيل، فخذ لنفسك, سل ربك يبعث معك ملَكا يصدّقك بما تقول، ويراجعنا عنك,
وسله فيجعل لك قصورا وجنانا، وكنوزا من ذهب وفضة, تغنيك عما نراك تبتغي, فإنك تقوم
بالأسواق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه, حتى نعلم فضلك ومنـزلتك من ربك إن كنت رسولا
كما تزعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بفاعل، فأنـزل الله في قولهم:
أن خذ لنفسك ما سألوه، أن يأخذ لها، أن يجعل له جنانا وقصورا وكنوزا, أو يبعث معه
ملَكا يصدّقه بما يقول، ويردّ عنه من خاصمه.{ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ
يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنـزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ
فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنـز أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ
يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا
). فتأويل الكلام: وقال المشركون ما لهذا الرسول يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم,
الذي يزعم أن الله بعثه إلينا يأكل الطعام كما نأكل، ويمشي في أسواقنا كما نمشي (
لَوْلا أُنـزلَ إِلَيْهِ } يقول: هلا أنـزل إليه ملَك إن كان صادقا من السماء,
فيكون معه منذرا للناس, مصدّقا له على ما يقول, أو يلقى إليه كنـز من فضة أو ذهب،
فلا يحتاج معه إلى التصرّف في طلب المعاش .
{ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ } يقول: أو يكون له بستان { يَأْكُلُ مِنْهَا }.
واختلف القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين (
يَأْكُلُ } بالياء, بمعنى: يأكل منها الرسول. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين (
نَأْكُلُ مِنْهَا } بالنون, بمعنى: نأكل من الجنة. وأولى القراءتين في ذلك عندي
بالصواب قراءة من قرأه بالياء، وذلك للخبر الذي ذكرنا قبل بأن مسألة من سأل من
المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يسأل ربه هذه الخلال لنفسه لا لهم. فإذ
كانت مسألتهم إياه ذلك كذلك, فغير جائز أن يقولوا له: سل لنفسك ذلك لنأكل نحن.
وبعدُ, فإن في قوله تعالى ذكره: تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا
مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ دليلا بيِّنا على أنهم
إنما قالوا له: اطلب ذلك لنفسك, لتأكل أنت منه, لا نحن. وقوله: { وَقَالَ
الظَّالِمُونَ } يقول: وقال المشركون للمؤمنين بالله ورسوله: { إِنْ تَتَّبِعُونَ }
أيها القوم باتباعكم محمدا{ إِلا رَجُلا } به سحر.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر يا محمد إلى هؤلاء المشركين
الذين شبهوا لك الأشباه بقولهم لك: هو مسحور, فضلوا بذلك عن قصد السبيل، وأخطؤوا
طريق الهدى والرشاد، فلا يستطيعون يقول: فلا يجدون سبيلا إلى الحقّ, إلا فيما بعثتك
به, ومن الوجه الذي ضلوا عنه. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. * ذكر
من قال ذلك: حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: ثني محمد بن أبى
محمد, عن سعيد بن جُبير, أو عكرمة, عن ابن عباس { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ
الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا } أي التمسوا الهدى في غير ما
بعثتك به إليهم فضلوا, فلن يستطيعوا أن يصيبوا الهدى في غيره. وقال آخرون في ذلك ما
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا
الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد { فَلا يَسْتَطِيعُونَ
سَبِيلا } قال: مخرجا يخرجهم من الأمثال التي ضربوا لك. وقوله: { تَبَارَكَ الَّذِي
إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأنْهَارُ } يقول تعالى ذكره: تقدس الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك. واختلف أهل
التأويل في المعني ب: " ذلك " التي في قوله: { جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ }
فقال بعضهم: معنى ذلك: خيرا مما قال هؤلاء المشركون لك يا محمد: هلا أوتيته وأنت
لله رسول، ثم بين تعالى ذكره عن الذي لو شاء جعل له من خير مما قالوا, فقال: (
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ }. * ذكر من قال ذلك.
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا
الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: { تَبَارَكَ
الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ } خيرا مما قالوا. حدثنا
القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, قوله: (
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ } قال: مما قالوا
وتمنوا لك, فيجعل لك مكان ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار. وقال آخرون: عني بذلك
المشي في الأسواق، والتماس المعاش. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد, قال: ثنا
سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, فيما يرى الطبري, عن سعيد بن جُبير, أو
عكرمة, عن ابن عباس قال: ثم قال: { تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ
خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ } من أن تمشي في الأسواق، وتلتمس المعاش كما يلتمسه الناس,(
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا }. قال أبو
جعفر: والقول الذي ذكرناه عن مجاهد في ذلك أشبه بتأويل الآية, لأن المشركين إنما
استعظموا أن لا تكون له جنة يأكل منها، وأن لا يلقى إليه كنـز واستنكروا أن يمشي في
الأسواق، وهو لله رسول، فالذي هو أولى بوعد الله إياه أن يكون وعدا بما هو خير مما
كان عند المشركين عظيما, لا مما كان منكرا عندهم، وعني بقوله: { جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } بساتين تجري في أصول أشجارها الأنهار. كما حدثني محمد
بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال:
ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأنْهَارُ } قال: حوائط. وقوله: { وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا } يعني بالقصور:
البيوت المبنية. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني
محمد بن عمرو, قال: قال أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد { وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا }
قال: بيوتا مبنية مشيدة, كان ذلك في الدنيا، قال: كانت قريش ترى البيت من الحجارة
قصرا كائنا ما كان. حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج,
عن مجاهد { وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا } مشيدة في الدنيا, كل هذا قالته قريش. وكانت
قريش ترى البيت من حجارة ما كان صغيرا (1) قصرا. حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد
الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن حبيب قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت أن
نعطيك من خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم يعط نبي قبلك، ولا يعطى من بعدك، ولا ينقص
ذلك مما لك عند الله تعالى، فقال: " اجمعوها لي في الآخرة "، فأنـزل الله في ذلك (
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا }. ------------------------
الهوامش: (1) الظاهر أنه سقط من قلم الناسخ " أو كبيرًا" كما يفيده ما قبله . والذي
في ابن كثير " صغيرًا كان أو كبيرًا " .
يقول تعالى ذكره: ما كذب هؤلاء المشركون بالله، وأنكروا ما جئتهم به يا محمد من
الحق من أجل أنك تأكل الطعام، وتمشي في الأسواق, ولكن من أجل أنهم لا يوقنون
بالمعاد، ولا يصدقون بالثواب والعقاب تكذيبا منهم بالقيامة، وبعث الله الأموات
أحياء لحشر القيامة , { وَأَعْتَدْنَا } يقول: وأعددنا لمن كذب ببعث الله الأموات
أحياء بعد فنائهم لقيام الساعة, نارا تسعر عليهم وتتقد.
{ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ }، يقول: إذا رأت هذه النار التي اعتدناها
لهؤلاء المكذبين أشخاصهم من مكان بعيد, تغيظت عليهم، وذلك أن تغلي وتفور، يقال:
فلان تغيظ على فلان, وذلك إذ غضب عليه، فغلى صدره من الغضب عليه، وتبين في كلامه،
{ وَزَفِيرًا), وهو صوتها. فإن قال قائل: وكيف قيل { سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا }
والتغيظ: لا يسمع، قيل معنى ذلك: سمعوا لها صوت التغيظ من التلهب والتوقد. حدثني
محمود بن خداش, قال: ثنا محمد بن يزيد الواسطي, قال: ثنا أصبع بن زيد الوَرَّاقُ,
عن خالد بن كثير, عن فديك, عن رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ يَقُولُ عَليَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ
بَيْنَ عَيْنَيْ جَهَنَّمَ مَقْعَدًا " قالوا: يا رسول الله, وهل لها من عين؟ قال:
" أَلَمْ تَسْمَعُوا إلى قَوْلِ اللهِ { إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ }
... الآية. حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر في قوله: (
سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } قال: أخبرني المنصور بن المعتمر, عن مجاهد,
عن عبيد بن عمير, قال: إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك ولا نبي إلا خر ترعد فرائضه
حتى إن إبراهيم ليجثو على ركبتيه, فيقول: يا رب لا أسألك اليوم إلا نفسي!. حدثنا
أحمد بن إبراهيم الدورقي, قال: ثنا عبيد الله بن موسى, قال: أخبرنا إسرائيل, عن أبي
يحيى, عن مجاهد, عن ابن عباس, قال: إن الرجل ليجر إلي النار, فتنـزوي، وينقبض بعضها
إلى بعض, فيقول لها الرحمن: ما لك؟ فتقول: إنه ليستجير مني! فيقول: أرسلوا عبدي.
وإن الرجل ليجر إلى النار, فيقول: يا رب ما كان هذا الظن بك؟ فيقول: ما كان ظنك؟
فيقول: أن تسعني رحمتك، قال: فيقول أرسلوا عبدي. وإن الرجل ليجرُّ إلى النار، فتشهق
إليه النار شهوق البغلة إلى الشعير، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف.
يقول تعالى ذكره: وإذا ألقي هؤلاء المكذّبون بالساعة من النار مكانا ضيقا, قد قرنت
أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال { دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا } واختلف أهل التأويل
في معنى الثبور, فقال بعضهم: هو الويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني علي, قال: ثنا أبو
صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس. في قوله: { وَادْعُوا ثُبُورًا
كَثِيرًا } يقول: ويلا. حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني
أبي, عن أبيه, عن ابن عباس { لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا } يقول: لا
تدعوا اليوم ويلا واحدا, وادعوا ويلا كثيرا. وقال آخرون: الثبور الهلاك. * ذكر من
قال ذلك: .
حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول, في
قوله: { لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا } الثبور: الهلاك. قال أبو جعفر:
والثبور في كلام العرب: أصله انصراف الرجل عن الشيء, يقال منه: ما ثبرك عن هذا
الأمر: أي ما صرفك عنه، وهو في هذا الموضع دعاء هؤلاء القوم بالندم على انصرافهم عن
طاعة الله في الدنيا، والإيمان بما جاءهم به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى
استوجبوا العقوبة منه, كما يقول القائل: وا ندامتاه, وا حسرتاه على ما فرطت في جنب
الله: وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول في قوله: { دَعَوْا
هُنَالِكَ ثُبُورًا } أي هلكة, ويقول: هو مصدر من ثبر الرجل: أي أهلك, ويستشهد
لقيله في ذلك ببيت ابن الزّبَعْرى: إذ أُجـاري الشَّـيطَان فـي سَـنَن الغي ومــن
مَــال مَيْلَــهُ مَثْبُــورا (1) وقوله: { لا تَدْعُوا الْيَوْمَ } أيها المشركون
ندمًا واحدًا: أي مرة واحدة, ولكن ادعوا ذلك كثيرا. وإنما قيل: { لا تَدْعُوا
الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا } لأن الثبور مصدر؛ والمصادر لا تجمع, وإنما توصف
بامتداد وقتها وكثرتها, كما يقال: قعد قعودا طويلا وأكل أكلا كثيرا. حدثنا محمد بن
مرزوق, قال: ثنا حجاج, قال: ثنا حماد قال: ثنا عليّ بن زيد, عن أنس بن مالك, أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أوَّلُ مَنْ يُكْسَى حُلَّةً مِنَ النَّار
إِبْلِيسُ, فَيَضَعُها عَلى حاجبَيْه, ويَسْحَبُها مِنْ خَلْفِهِ, وَذُرَّيَّتُهُ
مِنْ خَلْفِهِ, وَهُوَ يَقُولُ: يا ثُبُورَاه، وَهُمْ يُنَادُونَ: يا ثُبُورَهُمْ
فيقال: { لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا }
". ------------------------ الهوامش: (1) البيت لعبد الله بن الزبعرى شاعر قريش
الذي كان يهجو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ثم خرج إليه وأسلم بعد فتح
مكة ، وقال حين أسلم شعرًا ، منه هذا البيت من مقطوعة أربعة أبيات أنشدها ابن إسحاق
في السيرة { طبعة الحلبي 4 : 61) ومعنى أجاري : أباري وأعارض . والسنن بالتحريك :
وسط الطريق . ومثبور : هالك . والشاهد فيه عند المؤلف أن الثبور معناه الهلاك
والمثبور : الهالك .
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المكذّبين بالساعة: أهذه النار التي وصف لكم
ربكم صفتها وصفة أهلها خير؟ أم بستان الخلد الذي يدوم نعيمه ولا يبيد, الذي وعد من
اتقاه في الدنيا بطاعته فيما أمره ونهاه؟ وقوله: { كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً
وَمَصِيرًا } يقول: كانت جنة الخلد للمتقين جزاء أعمالهم لله في الدنيا بطاعته،
وثواب تقواهم إياه، ومصيرا لهم, يقول: ومصيرا للمتقين يصيرون إليها في الآخرة.
وقوله: { لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ } يقول: لهؤلاء المتقين في جنة الخلد التي
وعدهموها الله ما يشاءون مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، { خَالِدِينَ } فيها,
يقول: لابثين فيها ماكثين أبدا, لا يزولون عنها ولا يزول عنهم نعيمها. وقوله: (
كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا } وذلك أن المؤمنين سألوا ربهم ذلك في
الدنيا حين قالوا: وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ يقول الله تبارك
وتعالى: وكان إعطاء الله المؤمنين جنة الخلد التي وصف صفتها في الآخرة وعدا وعدهم
الله على طاعتهم إياه في الدنيا، ومسألتهم إياه ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال
أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن
ابن جُرَيج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس { كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا
مَسْئُولا } قال: فسألوا الذي وعدهم وتنجزوه. حدثني يونس. قال: أخبرنا ابن وهب,
قال: قال ابن زيد, في قوله: { كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا } قال: سألوه
إياها في الدنيا, طلبوا ذلك فأعطاهم وعدهم إذ سألوه أن يعطيهم، فأعطاهم, فكان ذلك
وعدا مسئولا كما وقَّت أرزاق العباد في الأرض قبل أن يخلقهم فجعلها أقواتا
للسائلين, وقَّت ذلك على مسألتهم، وقرأ وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي
أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ . وقد كان بعض أهل العربية يوجه معنى
قوله: { وَعْدًا مَسْئُولا } إلى أنه معنيّ به وعدا واجبا, وذلك أن المسئول واجب,
وإن لم يُسأل كالدين, ويقول ذلك نظير قول العرب: لأعطينك ألفا وعدا مسئولا بمعنى
واجب لك، فتسأله.
يقول تعالى ذكره: ويوم نحشر هؤلاء المكذّبين بالساعة، العابدين الأوثان، وما يعبدون
من دون الله من الملائكة والإنس والجنّ. كما حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو
عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن
أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ } فيقول: { أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ } قال: عيسى
وعُزير والملائكة. حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج,
عن مجاهد, نحوه. واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأه أبو جعفر القارئ وعبد الله بن
كثير: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ }
بالياء جميعا, بمعنى: ويوم يحشرهم ربك, ويحشر ما يعبدون من دون فيقول. وقرأته عامة
قرّاء الكوفيين { نَحْشُرُهُمْ) بالنون, فنقول. وكذلك قرأه نافع. وأولى الأقوال في
ذلك بالصواب أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ
فمصيب. وقوله: { فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ } يقول:
فيقول الله للذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله: أأنتم أضللتم عبادي
هؤلاء: يقول: أنتم أزلتموهم عن طريق الهدى، ودعوتموهم إلى الغيّ والضلالة حتى تاهوا
وهلكوا, أم هم ضلوا السبيل، يقول: أم عبادي هم الذين ضلوا سبيل الرشد والحقّ وسلكوا
العطب.
يقول تعالى ذكره: قالت الملائكة الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله
وعيسى: تنـزيها لك يا ربنا، وتبرئة مما أضاف إليك هؤلاء المشركون, ما كان ينبغي لنا
أن نتخذ من دونك من أولياء نواليهم, أنت ولينا من دونهم, ولكن متعتهم بالمال يا
ربنا في الدنيا والصحة، حتى نسوا الذكر وكانوا قوما هَلْكى، قد غلب عليهم الشقاء
والخذلان. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد
بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: (
وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا
بُورًا } يقول: قوم قد ذهبت أعمالهم وهم في الدنيا, ولم تكن لهم أعمال صالحة. حدثني
عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: (
وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا } يقول: هلكى. حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم,
قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح, عن مجاهد, قوله: { وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا } يقول: هلكى. حدثنا الحسن, قال:
أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن الحسن { وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا } قال:
هم الذين لا خير فيهم، حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في
قوله: { وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا } قال: يقول: ليس من الخير في شيء. البور: الذي
ليس فيه من الخير شيء. واختلفت القرّاء في قراءة قوله: { مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا
أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ } فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار (
نَتَّخِذَ } بفتح النون سوى الحسن ويزيد بن القعقاع, فإنهما قرآه: { أنَّ نُتَّخَذَ)
بضم النون. فذهب الذين فتحوها إلى المعنى الذي بَيَّنَّاه في تأويله من أن الملائكة
وعيسى، ومن عُبِد من دون الله من المؤمنين، هم الذين تبرّءوا أن يكون كان لهم وليّ
غير الله تعالى ذكره. وأما الذين قرءوا ذلك بضمّ النون, فإنهم وجهوا معنى الكلام
إلى أن المعبودين في الدنيا إنما تبرّءوا إلى الله أن يكون كان لهم أن يعبدوا من
دون الله جلّ ثناؤه, كما أخبر الله عن عيسى، أنه قال إذا قيل: أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ
مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ....* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا
مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ قال أبو جعفر:
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بفتح النون, لعلل ثلاث: إحداهن
إجماع من القرّاء عليها. والثانية: أن الله جلّ ثناؤه ذكر نظير هذه القصة في سورة
سبأ, فقال: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ
أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ
وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ ، فأخبر عن الملائكة أنهم إذا سُئلوا عن عبادة من عبدهم
تبرّءوا إلى الله من ولايتهم, فقالوا لربهم: أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ فذلك
يوضح عن صحة قراءة من قرأ ذلك { مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ
دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ } بمعنى: ما كان ينبغي لنا أن نتخذهم من دونك أولياء.
والثالثة: أن العرب لا تدخل " مِن " هذه التي تدخل في الجحد إلا في الأسماء, ولا
تدخلها في الأخبار, لا يقولون: ما رأيت أخاك من رجل, وإنما يقولون: ما رأيت من أحد,
وما عندي من رجل، وقد دخلت ها هنا في الأولياء، وهي في موضع الخبر, ولو لم تكن فيها
" من " كان وجها حسنا. وأما البور: فمصدر واحد وجمع للبائر, يقال: أصبحت منازلهم
بورا: أي خالية لا شيء فيها, ومنه قولهم: بارت السوق وبار الطعام إذا خلا من الطلاب
والمشتري، فلم يكن له طالب, فصار كالشيء الهالك; ومنه قول ابن الزبعْرى: يَــا
رَسُــولَ المَلِيــكِ إنَّ لسـانِي رَاتــقٌ مــا فَتَقْـتُ إذْ أنـا بُـورُ (2)
وقد قيل: إن بور: مصدر, كالعدل والزور والقطع, لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، وإنما
أريد بالبور في هذا الموضع أن أعمال هؤلاء الكفار كانت باطلة؛ لأنها لم تكن لله كما
ذكرنا عن ابن عباس. القول في تأويل قوله تعالى : فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا
تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا يقول تعالى ذكره مخبرا عما
هو قائل للمشركين عند تبرّي من كانوا يعبدونه في الدنيا من دون الله منهم: قد
كذّبوكم أيها الكافرون من زعمتم أنهم أضلوكم، ودعوكم إلى عبادتهم بما تقولون، يعني
بقولكم, يقول: كذّبوكم بكذبكم. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. *
ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد { فَقَدْ
كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ } يقول الله للذين كانوا يعبدون عيسى وعُزيرا
والملائكة, يكذّبون المشركين. حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن
ابن جُرَيج, عن مجاهد { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ } قال: عيسى وعُزيرا
والملائكة, يكذّبون المشركين بقولهم. وكان ابن زيد يقول في تأويل ذلك: ما حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا
تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا } قال: كذّبوكم بما تقولون
بما جاء من عند الله جاءت به الأنبياء والمؤمنون آمنوا به، وكذب هؤلاء فوجه ابن زيد
تأويل قوله: { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ } إلى: فقد كذّبوكم أيها المؤمنون المكذّبون بما
جاءهم به محمد من عند الله، بما تقولون من الحقّ, وهو أن يكون خبرا عن الذين كذّبوا
الكافرين في زعمهم أنهم دعوهم إلى الضلالة، وأمروهم بها على ما قاله مجاهد من القول
الذي ذكرناه عنه أشبه وأولى; لأنه في سياق الخبر عنهم، والقراءة في ذلك عندنا(
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ } بالتاء على التأويل الذي ذكرناه, لإجماع
الحجة من قرّاء الأمصار عليه. وقد حُكي عن بعضهم أنه قرأه { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ
بِمَا يَقُولُونَ) بالياء, بمعنى: فقد كذبوكم بقولهم. وقوله جلّ ثناؤه { فَمَا
تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا } يقول: فما يستطيع هؤلاء الكفار صرف عذاب
الله حين نـزل بهم عن أنفسهم, ولا نصرها من الله حين عذّبها وعاقبها. وبنحو الذي
قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو
عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن
أبي نجيح, عن مجاهد { فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا } قال: المشركون
لا يستطيعونه. حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن
مجاهد { فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا } قال: المشركون. قال ابن
جُرَيج: لا يستطيعون صرف العذاب عنهم, ولا نصر أنفسهم. حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن
وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله { فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا }
قال: لا يستطيعون يصرفون عنهم العذاب الذي نـزل بهم حين كذّبوا, ولا أن ينتصروا
قال: وينادي مناد يوم القيامة حين يجتمع الخلائق: ما لكم لا تناصرون، قال: من عبد
من دون الله لا ينصر اليوم من عبده, وقال العابدون من دون الله: لا ينصره اليوم
إلهه الذي يعبد من دون الله, فقال الله تبارك وتعالى: بَلْ هُمُ الْيَوْمَ
مُسْتَسْلِمُونَ وقرأ قول الله جلّ ثناؤه فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ .
ورُوي عن ابن مسعود في ذلك ما حدثنا به أحمد بن يونس, قال: ثنا القاسم, قال: ثنا
حجاج, عن هارون, قال: هي في حرف عبد الله بن مسعود { فَمَا يَسْتَطِيعُونَ لكَ
صَرْفًا) فإن تكن هذه الرواية عنه صحيحة صحّ التأويل الذي تأوّله ابن زيد في قوله:
{ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ } ويصير قوله { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ } خبرا
عن المشركين أنهم كذّبوا المؤمنين, ويكون تأويل قوله حينئذ { فَمَا يَسْتَطِيعُونَ
لكَ صَرْفًا) فما يستطيع يا محمد هؤلاء الكفار لك صرفا عن الحق الذي هداك الله له,
ولا نصر أنفسهم, مما بهم من البلاء الذي هم فيه, بتكذيبهم إياك.
------------------------ الهوامش: (2) البيت لعبد الله بن الزبعرى قاله حين أسلم
عند فتح مكة . وهو في أول المقطوعة قبل البيت الذي مضى شرحه قبل هذا . وراتق : مصلح
لما أفسدت ، وأصل الرتق السد للثوب الممزق بإصلاح ما تقطع منه . وفتقت : أي أفسدت
من الدين ، فكل إثم فتق وتمزيق ، وكل ثوبة رتق وإصلاح . وبور : هالك . يقال : رجل
بور وبائر ، وقوم بور ، وأصل البور : مصدر بار يبور بورًا ، ثم وصف به فلزم الإفراد
لأن المصادر لا تجمع . وقال المؤلف : إنه مصدر واحد { غير مجموع) ، وجمع للبائر ،
قال يقال: أصبحت منازلهم بورًا ، أي خالية .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: { وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ } أيها المؤمنون- يعني
بقوله: { وَمَنْ يَظْلِمْ } ومن يشرك بالله فيظلم نفسه، فذلك نذقه عذابا كبيرا
كالذي ذكرنا أنَّا نذيقه الذين كذّبوا بالساعة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم, قال: ثني الحسين, قال: ثني حجاج، قال:
قال ابن جُرَيج, في قوله: { وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ } قال: يشرك { نُذِقْهُ
عَذَابًا كَبِيرًا }. حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن
الحسن, في قوله: { وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ } قال: هو الشرك: .
وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه على مشركي قومه الذين قالوا: مَالِ هَذَا
الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ وجواب لهم عنه يقول لهم
جلّ ثناؤه: وما أنكر يا محمد هؤلاء القائلون: ما لهذا الرسول يأكل الطعام، ويمشي في
الأسواق, من أكلك الطعام، ومشيك في الأسواق, وأنت لله رسول، فقد علموا أنا ما
أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، كالذي تأكل
أنت وتمشي, فليس لهم عليك بما قالوا من ذلك حجة. فإن قال قائل: فإن { من) ليست في
التلاوة, فكيف قلت: معنى الكلام: إلا من إنهم ليأكلون الطعام؟ قيل: قلنا في ذلك:
معناه: أن الهاء والميم في قوله: إنهم, كناية أسماء لم تذكر, ولا بد لها من أن تعود
على من كُني عنه بها, وإنما ترك ذكر " من " وإظهاره في الكلام اكتفاء بدلالة قوله:
{ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } عليه, كما اكتفي في قوله: وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ
مَعْلُومٌ من إظهار " من ", ولا شكّ أن معنى ذلك: وما منا إلا من له مقام معلوم,
كما قيل وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ومعناه: وإن منكم إلا من هو واردها،
فقوله: { إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ } صلة لمن المتروك, كما يقال في
الكلام: ما أرسلت إليك من الناس إلا من إنه ليبلغك الرسالة, فإنه ليبلغك الرسالة،
صلة لمن. وقوله: { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) يقول تعالى ذكره:
وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض, جعلنا هذا نبيا وخصصناه بالرسالة, وهذا ملِكا
وخصصناه بالدنيا, وهذا فقيرًا وحرمناه الدنيا لنختبر الفقير بصبره على ما حرم مما
أعطيه الغنيّ, والملك بصبره على ما أعطيه الرسول من الكرامة, وكيف رضي كل إنسان
منهم بما أعطى، وقسم له, وطاعته ربه مع ما حرم مما أعطى غيره. يقول فمن أجل ذلك لم
أعط محمدا الدنيا, وجعلته يطلب المعاش في الأسواق, ولأبتليكم أيها الناس, وأختبر
طاعتكم ربكم وإجابتكم رسوله إلى ما دعاكم إليه, بغير عرض من الدنيا ترجونه من محمد
أن يعطيكم على اتباعكم إياه، لأني لو أعطيته الدنيا, لسارع كثير منكم إلى اتباعه
طمعا في دنياه أن يَنال منها. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. * ذكر
من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا ابن علية, عن أبي رجاء, قال: ثني عبد
القدوس, عن الحسن, في قوله: { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) ... الآية,
يقول هذا الأعمى: لو شاء الله لجعلني بصيرا مثل فلان, ويقول هذا الفقير: لو شاء
الله لجعلني غنيا مثل فلان, ويقول هذا السقيم: لوشاء الله لجعلني صحيحا مثل فلان.
حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, في قوله:
{ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) قال: يمسك عن هذا، ويوسع
على هذا, فيقول: لم يعطني مثل ما أعطى فلانا, ويبتلى بالوجع كذلك, فيقول: لم يجعلني
ربي صحيحا مثل فلان في أشباه ذلك من البلاء, ليعلم من يصبر ممن يجزع. حدثنا ابن
حميد, قال: ثنا سلمة, قال: ثني ابن إسحاق, قال: ثني محمد بن أبي محمد, فيما يرى
الطبري, عن عكرمة, أو عن سعيد, عن ابن عباس, قال: وأنـزل عليه في ذلك من قولهم: (
مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ } ... الآية:
{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ
الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً
أَتَصْبِرُونَ } : أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا على ما تسمعون منهم, وترون من
خلافهم, وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيهم عليه الدنيا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع
رسلي، فلا يخالفون لفعلت, ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم. وقوله:
{ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) يقول: وربك يا محمد بصير بمن يجزع ومن يصبر على ما
امتحن به من المحن. كما حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن
جُرَيج { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) إن ربك لبصير بمن يجزع، ومن يصبر.
يقول تعالى ذكره: وقال المشركون الذين لا يخافون لقاءنا, ولا يَخْشَون عقابنا, هلا
أنـزل الله علينا ملائكة, فتخبرَنا أن محمدًا محقّ فيما يقول, وأن ما جاءنا به صدق,
أو نرى ربنا فيخبرنا بذلك, كما قال جلّ ثناؤه مخبرا عنهم: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ
لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا ثم قال بعد: أَوْ تَأْتِيَ
بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا يقول الله: لقد استكبر قائلو هذه المقالة في
أنفسهم، ونعظموا، { وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا } يقول: وتجاوزوا في الاستكبار
بقيلهم ذلك حدّه. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. حدثنا القاسم,
قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج، قال: قال كفار قريش: { لَوْلا
أُنـزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ } فيخبرونا أن محمدا رسول الله { لَقَدِ
اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا } لأن " عتا " من ذوات الواو,
فأخرج مصدره على الأصل بالواو، وقيل في سورة مريم وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ
عِتِيًّا وإنما قيل ذلك كذلك لموافقة المصادر في هذا الوجه جمع الأسماء كقولهم: قعد
قعودا, وهم قوم قعود, فلما كان ذلك كذلك, وكان العاتي يجمع عتيا بناء على الواحد,
جعل مصدره أحيانا موافقا لجمعه, وأحيانا مردودا إلى أصله.
يقول تعالى ذكره: يوم يرى هؤلاء الذين قالوا: لَوْلا أُنْـزِلَ عَلَيْنَا
الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا بتصديق محمد الملائكة, فلا بشرى لهم يومئذ بخير
{ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا) يعني أن الملائكة يقولون للمجرمين حجرا محجورا,
حراما محرّما عليكم اليوم البشرى أن تكون لكم من الله; ومن الحجر قول المتلمس:
حَـنَّتْ إلـى نَخْلَـةَ القُصْوَى فَقُلْتُ لَهَا حِجْــرٌ حَـرَامٌ ألا تِلْـكَ
الدَّهـاريسُ (1) ومنه قولهم: حجر القاضي على فلان, وحجر فلان على أهله; ومنه حجر
الكعبة, لأنه لا يدخل إليه في الطواف, وإنما يطاف من ورائه; ومنه قول الآخر.
فَهَمَمْــتُ أنْ أَلْقَــى إلَيْهـا مَحْجَـرًا فَلَمِثْلُهَــا يُلْقَــى
إلَيْــهِ المَحْجَــرُ (2) أي مثلها يُركب منه المُحْرَمُ. واختلف أهل التأويل في
المخبر عنهم بقوله: { وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا) ومن قائلوه؟ فقال بعضهم:
قائلو ذلك الملائكة للمجرمين نحو الذي قلنا فيه. * ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن
عبد الرحمن المسروقي, قال: ثنا أبو أسامة, عن الأجلح, قال: سمعت الضحاك بن مزاحم,
وسأله رجل عن قول الله { وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا) قال: تقول الملائكة:
حراما محرما أن تكون لكم البُشرى. حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد, قال: ثني أبي, عن
جدي, عن الحسن, عن قتادة { وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا) قال: هي كلمة كانت
العرب تقولها, كان الرجل إذا نـزل به شدّة قال: حجرا, يقول: حراما محرّما. حُدثت عن
الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (
لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا } لما جاءت
زلازل الساعة, فكان من زلازلها أن السماء انشقت فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ *
وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا على شفة كل شيء تشقَّق من السماء, فذلك قوله: (
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ
) : يعني الملائكة تقول للمجرمين حراما محرمًا أيها المجرمون أن تكون لكم البشرى
اليوم حين رأيتمونا. حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث, قال: ثنا الحسن, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد { يَوْمَ يَرَوْنَ
الْمَلائِكَةَ } قال: يوم القيامة { وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا) قال: عوذا
معاذا. حدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن
مجاهد, مثله, وزاد فيه: الملائكة تقوله. وقال آخرون: ذلك خبر من الله عن قيل
المشركين إذا عاينوا الملائكة. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم, قال: ثني الحسين,
قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى
يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا } قال ابن جُرَيج:
كانت العرب إذا كرهوا شيئا قالوا حجرا, فقالوا حين عاينوا الملائكة. قال ابن
جُرَيج: قال مجاهد: { حِجْرًا } عوذا, يستعيذون من الملائكة. قال أبو جعفر: وإنما
اخترنا القول الذي اخترنا في تأويل ذلك من أجل أن الحِجْر هو الحرام, فمعلوم أن
الملائكة هي التي تخبر أهل الكفر أن البُشرى عليهم حرام. وأما الاستعاذة فإنها
الاستجارة, وليست بتحريم، ومعلوم أن الكفار لا يقولون للملائكة حرام عليكم, فيوجه
الكلام إلى أن ذلك خبر عن قيل المجرمين للملائكة. ------------------------
الهوامش: (1) البيت للمتلمس جرير بن عبد المسيح { عن معجم ما استعجم لأبي عبيد
البكري : رسم نخلة) .. وحنت : اشتاقت . وفي { اللسان : دهرس) : حجت . ونخلة القصوى :
موضع على ليلة من مكة . وقيل: هما نخلة الشامية ونخلة اليمانية ؛ فالشامية واد ينصب
من الغمير . واليمانية : واد ينصب من بطن قرن المنازل ، وهو طريق اليمن إلى مكة .
وحجر : مثلث الحاء بمعنى حرام ، وفي المعجم البكري : بسل عليك ، وهو الحرام أيضًا .
والدهاريس جمع دهرس ، مثلث الدال ، وهي الداهية { عن اللسان } . والبيت من شواهد أبي
عبيدة في مجاز القرآن { الورقة 167 من مصورة الجامعة رقم 26059) وعنه أخذه المؤلف(2)
البيت لحميد بن ثور الهلالي { اللسان : حجر . والديوان طبعة دار الكتب المصرية ص
84) . وفي رواية الديوان واللسان : أغشى في موضع ألقى . والمحجر : الحرام . قال في
اللسان : لمثلها يؤتى إليه الحرام . وقبل البيت ثلاثة أبيات وهي : لَـمْ أَلْـقَ
عَمْـرَةَ بَعْـدَ إذْ هِـيَ نَاشِئٌ خَرَجَـــتْ مُعَطَّفَــةً عَلَيْهَـا
مـئْزَرُ بَــرَزَتْ عَقِيلَــةَ أَرْبَــع هَادَيْنَهَـا بِيــضِ الوُجُــوهِ
كــأنهُنَّ الْعُنْقَـرُ ذَهَبَــتْ بِعَقْلِــكَ رَيطَــةٌ مَطْوِيَّـةٌ وَهِـيَ
التـي تُهْـدَي بِهَـا لَـوْ تَشْعُرُ والبيت شاهد على أنت المحجر الحرام . وقال
الفراء في معاني القرآن { الورقة 224 من مصورة الجامعة 24059) : ألقى : من لقيت أي
مثلها يركب منه المحرم . وعنه أخذ المؤلف .
يقول تعالى ذكره: { وَقَدِمْنَا } وعمدنا إلى ما عمل هؤلاء المجرمون { مِنْ عَمَلٍ
) ; ومنه قول الراجز: وَقَـــدِمَ الخَـــوَارِجُ الضُّــلالُ إلَـــى عِبــادِ
رَبِّهِــمْ وَقــالُوا إنَّ دِمَاءَكُم لَنا حَلالُ (3) يعني بقوله: قدم: عمد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو,
قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء،
جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: { وَقَدِمْنَا } قال: عَمَدنا. حدثنا
القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, مثله وقوله: (
فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } يقول: فجعلناه باطلا لأنهم لم يعملوه لله وإنما
عملوه للشيطان. والهباء: هو الذي يرى كهيئة الغبار إذا دخل ضوء الشمس من كوّة يحسبه
الناظر غبارًا ليس بشيء تقبض عليه الأيدي ولا تمسه, ولا يرى ذلك في الظل. واختلف
أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه. * ذكر من قال ذلك: حدثني
محمد بن المثنى, قال: ثنا محمد, قال: ثنا شعبة, عن سماك, عن عكرمة أنه قال في هذه
الآية { هَبَاءً مَنْثُورًا } قال: الغبار الذي يكون في الشمس. حدثني يعقوب بن
إبراهيم, قال: ثنا ابن علية, عن أبي رجاء, عن الحسن, في قوله: { وَقَدِمْنَا إِلَى
مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } قال: الشعاع في كوّة
أحدهم إن ذهب يقبض عليه لم يستطع. حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا
عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن
مجاهد, قوله: { هَبَاءً مَنْثُورًا } قال: شعاع الشمس من الكوّة. حدثنا القاسم,
قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, مثله. حدثنا الحسن, قال:
أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الحسن, في قوله: { هَبَاءً مَنْثُورًا }
قال: ما رأيت شيئا يدخل البيت من الشمس تدخله من الكوّة, فهو الهباء. وقال آخرون:
بل هو ما تسفيه الرياح من التراب, وتذروه من حطام الأشجار, ونحو ذلك. * ذكر من قال
ذلك: حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن عطاء
الخراساني, عن ابن عباس, قوله: { هَبَاءً مَنْثُورًا } قال: ما تسفي الريح
تَبُثُّهُ. حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة (
هَبَاءً مَنْثُورًا } قال: هو ما تذرو الريح من حطام هذا الشجر. حدثني يونس, قال:
أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: { هَبَاءً مَنْثُورًا } قال: الهباء:
الغبار. وقال آخرون: هو الماء المهراق. * ذكر من قال ذلك: حدثني علي, قال: ثنا عبد
الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: { هَبَاءً مَنْثُورًا }
يقال: الماء المهراق. ------------------------ الهوامش: (3) الرجز من شواهد أبي
عبيدة في مجاز القرآن { الورقة 167 مصورة الجامعة 26059) وقدم إلى الشيء : عمد إليه
وقصده . وهو محل الشاهد عند المؤلف .
وقوله جلّ ثناؤه: { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا
وَأَحْسَنُ مَقِيلا } يقول تعالى ذكره: أهل الجنة يوم القيامة خير مستقرّا, وهو
الموضع الذي يستقرّون فيه من منازلهم في الجنة من مستقرّ هؤلاء المشركين الذين
يفتخرون بأموالهم, وما أوتوا من عرض هذه الدنيا في الدنيا, وأحسن منهم فيها مقيلا.
فإن قال قائل: وهل في الجنة قائلة؟ فيقال: { وَأَحْسَنُ مَقِيلا } فيها؟ قيل: معنى
ذلك: وأحسن فيها قرارا في أوقات قائلتهم في الدنيا, وذلك أنه ذكر أن أهل الجنة لا
يمرّ فيهم في الآخرة إلا قدر ميقات النهار من أوّله إلى وقت القائلة, حتى يسكنوا
مساكنهم في الجنة, فذلك معنى قوله: { وَأَحْسَنُ مَقِيلا } . * ذكر الرواية عمن قال
ذلك: حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن
ابن عباس, قوله: { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ
مَقِيلا } يقول: قالوا في الغرف في الجنة, وكان حسابهم أن عرضوا على ربهم عرضة
واحدة, وذلك الحساب اليسير, وهو مثل قوله: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ
بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ
مَسْرُورًا . حدثني أبو السائب, قال: ثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن إبراهيم, في
قوله: { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا }
قال: كانوا يرون أنه يفرغ من حساب الناس يوم القيامة في نصف النهار, فيقيل هؤلاء في
الجنة وهؤلاء في النار. حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن
جُرَيج { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا
) قال: لم ينتصف النهار حتى يقضي الله بينهم, فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار
في النار. قال: وفي قراءة ابن مسعود: { ثُمَّ إِنَّ مَقِيلَهُمْ لإلى الجَحيم).
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: { أَصْحَابُ
الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } قال: قال ابن
عباس: كان الحساب من ذلك في أوّله, وقال القوم حين قالوا في منازلهم من الجنة, وقرأ
{ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا }.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنا عمرو بن الحارث أن سعيدًا الصوّاف
حدثه أنه بلغه أن يوم القيامة يقضي على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب
الشمس, وأنهم يقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس, فذلك قول الله: { أَصْحَابُ
الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا }. قال أبو جعفر:
وإنما قلنا: معنى ذلك: خير مستقرا في الجنة منهم في الدنيا, لأن الله تعالى ذكره
عَمَّ بقوله: { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ
مَقِيلا } جميع أحوال الجنة في الآخرة أنها خير في الاستقرار فيها, والقائلة من
جميع أحوال أهل النار, ولم يخُصّ بذلك أنه خير من أحوالهم في النار دون الدنيا, ولا
في الدنيا دون الآخرة, فالواجب أن يعمَّ كما عمّ ربنا جلّ ثناؤه, فيقال: أصحاب
الجنة يوم القيامة خير مستقرًّا في الجنة من أهل النار في الدنيا والآخرة, وأحسن
منهم مقيلا وإذا كان ذلك معناه, صحّ فساد قول من توهم أن تفضيل أهل الجنة بقول
الله: { خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا } على غير الوجه المعروف من كلام الناس بينهم في
قولهم: هذا خير من هذا, وهذا أحسن من هذا.
اختلف القرّاء في قراءة قوله { تَشَقَّقُ } فقرأته عامَّة قرّاء الحجاز { وَيَوْمَ
تَشَّقَّقُ) بتشديد الشين بمعنى: تَتَشقق, فأدغموا إحدى التاءين في الشين فشدّدوها,
كما قال: { لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى } وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل
الكوفة: { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ } بتخفيف الشين والاجتزاء بإحدى التاءين من الأخرى.
والقول في ذلك عندي: أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار بمعنى واحد,
فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وتأويل الكلام: ويوم تُشقق السماء عن الغمام. وقيل: إن
ذلك غمام أبيض مثل الغمام الذي ظلل على بني إسرائيل, وجعلت الباء, في قوله: (
بِالْغَمَامِ } مكان " عن " كما تقول: رميت عن القوس وبالقوس وعلى القوس, بمعنى
واحد. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم,
قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, قوله: { وَيَوْمَ
تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ } قال: هو الذي قال: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ
الذي يأتي الله فيه يوم القيامة, ولم يكن في تلك قطّ إلا لبني إسرائيل. قال ابن
جُرَيج: الغمام الذي يأتي الله فيه غمام زعموا في الجنة. قال: ثنا الحسين, قال: ثنا
معتمر بن سليمان, عن عبد الجليل, عن أبي حازم, عن عبد الله بن عمرو قال: يهبط الله
حين يهبط, وبينه وبين خلقه سبعون حجابا, منها النور والظلمة والماء, فيصوّت الماء
صوتا تنخلع له القلوب. قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن عكرمة في
قوله: يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ يقول:
والملائكة حوله. قال: ثني حجاج, عن مبارك بن فضالة, عن عليّ بن زيد بن جُدعان, عن
يوسف بن مهران, أنه سمع ابن عباس يقول: إن هذه السماء إذا انشقت نـزل منها من
الملائكة أكثر من الجنّ والإنس, وهو يوم التلاق, يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض,
فيقول أهل الأرض: جاء ربنا, فيقولون: لم يجيء وهو آت, ثم تَتَشقق السماء الثانية,
ثم سماء سماء على قدر ذلك من التضعيف إلى السماء السابعة, فينـزل منها من الملائكة
أكثر من جميع من نـزل من السماوات ومن الجنّ والإنس. قال: فتنـزل الملائكة
الكُروبيون, ثم يأتي ربنا تبارك وتعالى في حملة العرش الثمانية، بين كعب كل ملك
وركبته مسيرة سبعين سنة, وبين فخذه ومنكبه مسيرة سبعين سنة, قال: وكل ملك منهم لم
يتأمل وجه صاحبه, وكلّ ملك منهم واضع رأسه بين ثدييه يقول: سبحان الملك القدوس,
وعلى رءوسهم شيء مبسوط كأنه القباء, والعرش فوق ذلك, ثم وقف. قال: ثنا الحسن, قال:
ثنا جعفر بن سليمان, عن هارون بن وثاب, عن شهر بن حوشب, قال: حملة العرش ثمانية,
فأربعة منهم يقولون: سبحانك اللهمّ وبحمدك, لك الحمد على حلمك بعد علمك. وأربعة
يقولون: سبحانك اللهمّ وبحمدك, لك الحمد على عفوك بعد قدرتك. قال: ثنا الحسين, قال:
ثني حجاج, عن أبي بكر بن عبد الله, قال: إذا نظر أهل الأرض إلى العرش يهبط عليهم
فوقهم شخصت إليه أبصارهم, ورجفت كُلاهم في أجوافهم, قال: وطارت قلوبهم من مقرّها في
صدورهم إلى حناجرهم. حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي,
عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنـزلَ
الْمَلائِكَةُ تَنـزيلا } يعني يوم القيامة حين تشقق السماء بالغمام, وتنـزل
الملائكة تنـزيلا. وقوله: { وَنـزلَ الْمَلائِكَةُ تَنـزيلا } يقول: ونـزل الملائكة
إلى الأرض تنـزيلا.
{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ) يقول: الملك الحقّ يومئذ خالص للرحمن
دون كلّ من سواه, وبطلت الممالك يومئذ سوى ملكه. وقد كان في الدنيا ملوك, فبطل
الملك يومئذ سوى ملك الجبار { وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا }
يقول: وكان يومُ تشقُّق السماء بالغمام يوما على أهل الكفر بالله عسيرا, يعني صعبا
شديدا.
يقول تعالى ذكره: ويوم يعضّ الظالم نفسه المشرك بربه على يديه ندما وأسفًا على ما
فرط في جنب الله، وأوبق نفسه بالكفر به في طاعة خليله الذي صدّه عن سبيل ربه, يقول:
يا ليتني اتخذت في الدنيا مع الرسول سبيلا يعني طريقا إلى النجاة من عذاب الله .
وقوله { يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا } .اختلف أهل
التأويل في المعنيّ بقوله: { الظَّالِمُ } وبقوله: { فُلانًا } فقال بعضهم: عني
بالظالم: عقبة بن أبي معيط, لأنه ارتدّ بعد إسلامه, طلبا منه لرضا أُبيّ بن خلف,
وقالوا: فلان هو أُبيّ. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم, قال: ثني الحسين, قال: ثني
حجاج عن ابن جُرَيج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس قال: كان أُبيّ بن خلف يحضر
النبيّ صلى الله عليه وسلم, فزجره عقبة بن أبي معيط, فنـزل: { وَيَوْمَ يَعَضُّ
الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ
سَبِيلا } ... إلى قوله { خَذُولا } قال: { الظَّالِمُ } : عقبة, وفلانا خليلا
أُبيّ بن خلف. حدثنا ابن حميد, قال: ثنا جرير, عن مغيرة، عن الشعبيّ في قوله: (
لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا } قال: كان عقبة بن أبي معيط خليلا لأمية
بن خلف, فأسلم عقبة, فقال أمية: وجهي من وجهك حرام إن تابعت محمدا فكفر; وهو الذي
قال: { لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا } . حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد
الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن قتادة وعثمان الجزري, عن مقسم في قوله: { وَيَوْمَ
يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ
الرَّسُولِ سَبِيلا } قال: اجتمع عقبة بن أبي معيط وأبيّ بن خلف, وكانا خليلين,
فقال أحدهما لصاحبه: بلغني أنك أتيت محمدا فاستمعت منه, والله لا أرضى عنك حتى تتفل
في وجهه وتكذّبه, فلم يسلطه الله على ذلك, فقتل عقبة يوم بدر صبرا (4) . وأما أُبيّ
بن خلف فقتله النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده يوم أُحد في القتال, وهما اللذان
أنـزل الله فيهما: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا
لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا }. حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي,
قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن ابن عباس, { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى
يَدَيْهِ } ... إلى قوله: { فُلانًا خَلِيلا } قال: هو أُبيّ بن خلف, كان يحضر
النبيّ صلى الله عليه وسلم, فزجره عقبة بن أبي معيط. حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا
أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن
ابن أبي نجيح, عن مجاهد: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ } قال: عقبة
بن أبي معيط دعا مجلسا فيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم لطعام, فأبى النبيّ صلى الله
عليه وسلم أن يأكل, وقال: " ولا آكُل حتى تَشْهَدَ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ, وأنَّ
مُحمَّدًا رسُولُ الله ", فقال: ما أنت بآكل حتى أشهد؟ قال: " نعم ", قال: أشهد أن
لا إله إلا الله وأنَّ مُحمَّدًا رسُولُ الله. فلقيه أمية بن خلف فقال: صبوت؟ فقال:
إن أخاك على ما تعلم, ولكني صنعت طعاما فأبى أن يأكل حتى أقول ذلك, فقلته, وليس من
نفسي. وقال آخرون: عنى بفلان: الشيطان. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو, قال:
ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء،
جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد { فُلانًا خَلِيلا } قال: الشيطان.
------------------------ الهوامش: (4) يقال : قتل فلان صبرًا : قدم فقتل ، وهو يرى
وينظر ، وهو غير من يقتل في حرب أو حادث . السقا .
حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, مثله.
وقوله: { لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي } يقول جلّ ثناؤه
مخبرا عن هذا النادم على ما سلف منه في الدنيا, من معصية ربه في طاعة خليله: لقد
أضلني عن الإيمان بالقرآن, وهو الذكر, بعد إذ جاءني من عند الله, فصدّني عنه، يقول
الله: { وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا } يقول: مسلما لما ينـزل به من
البلاء غير منقذه ولا منجيه.
يقول تعالى ذكره: وقال الرسول يوم يعضّ الظالم على يديه: يا ربّ إن قومي الذين
بعثتني إليهم لأدعوهم إلى توحيدك اتخذوا هذا القرآن مهجورا. واختلف أهل التأويل في
معنى اتخاذهم القرآن مهجورا, فقال بعضهم: كان اتخاذهم ذلك هجرا, قولهم فيه السييء
من القول, وزعمهم أنه سحر, وأنه شعر. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو, قال:
ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء،
جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: { اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا }
قال: يهجُرون فيه بالقول, يقولون: هو سحر. حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني
حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, قوله: { وَقَالَ الرَّسُولُ } ... الآية: يهجرون
فيه بالقول. قال مجاهد: وقوله: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ قال:
مستكبرين بالبلد سامرا مجالس تهجرون, قال: بالقول السييء في القرآن غير الحقّ.
حدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال, ثنا هشيم, عن مغيرة, عن إبراهيم, في قول الله:
{ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } قال: قالوا فيه غير
الحقّ، ألم تر إلى المريض إذا هذي قال غير الحق. وقال آخرون: بل معنى ذلك: الخبر عن
المشركين أنهم هجروا القرآن وأعرضوا عنه ولم يسمعوا له. * ذكر من قال ذلك: حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله: { وَقَالَ الرَّسُولُ
يَا رَبّ إِنَّ َ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } لا يريدون أن
يسمعوه, وإن دعوا إلى الله قالوا لا. وقرأ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ
عَنْهُ قال: ينهون عنه, ويبعدون عنه. قال أبو جعفر: وهذا القول أولى بتأويل ذلك,
وذلك أن الله أخبر عنهم أنهم قالوا: لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا
فِيهِ , وذلك هجرهم إياه.
وقوله: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وكما جعلنا لك يا محمد أعداء من
مشركي قومك, كذلك جعلنا لكل من نبأناه من قبلك عدوّا من مشركي قومه, فلم تخصص بذلك
من بينهم. يقول: فاصبر لما نالك منهم كما صبر من قبلك أولو العزم من رسلنا. وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم, قال: ثنا
الحسين, قال: ثني حجاج, قال: قال ابن عباس: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ
عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ } قال: يوطن محمدا صلى الله عليه وسلم أنه جاعل له
عدوّا من المجرمين كما جعل لمن قبله. وقوله: { وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا
وَنَصِيرًا } يقول تعالى ذكره لنبيه: وكفاك يا محمد بربك هاديا يهديك إلى الحقّ,
ويبصرك الرشد, ونصيرا: يقول: ناصرا لك على أعدائك, يقول: فلا يهولنك أعداؤك من
المشركين, فإني ناصرك عليهم, فاصبر لأمري, وامض لتبليغ رسالتي إليهم.
يقول تعالى ذكره: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } بالله { لَوْلا نـزلَ عَلَيْهِ
الْقُرْآنُ } يقول: هلا نـزل على محمد صلى الله عليه وسلم القرآن { جُمْلَةً
وَاحِدَةً } كما أنـزلت التوراة على موسى جملة واحدة؟ قال الله: { كَذَلِكَ
لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } تنـزيله عليك الآية بعد الآية, والشيء بعد الشيء,
لنثبت به فؤادك نـزلناه. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال:
ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا
نـزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ
وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا } قال: كان الله ينـزل عليه الآية, فإذا علمها نبيّ الله
نـزلت آية أخرى ليعلمه الكتاب عن ظهر قلب, ويثبت به فؤاده. حدثنا القاسم, قال: ثنا
الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, قوله: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا
نـزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } كما أنـزلت التوراة على موسى, قال:
{ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) قال: كان القرآن ينـزل عليه جوابا لقولهم:
ليعلم محمد أن الله يجيب القوم بما يقولون بالحقّ, ويعني بقوله: { لِنُثَبِّتَ بِهِ
فُؤَادَكَ) لنصحح به عزيمة قلبك ويقين نفسك, ونشجعك به. وقوله { وَرَتَّلْنَاهُ
تَرْتِيلا) يقول: وشيئا بعد شيء علمناكه حتى تحفظنه، والترتيل في القراءة: الترسل
والتثبت. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب
بن إبراهيم, قال: ثنا هشيم, قال: أخبرنا مغيرة, عن إبراهيم, في قوله:
{ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا) قال: نـزل متفرّقا. حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد
الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الحسن, في قوله: { وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا) قال: كان
ينـزل آية وآيتين وآيات جوابا لهم إذا سألوا عن شيء أنـزله الله جوابا لهم, وردّا
عن النبيّ فيما يتكلمون به. وكان بين أوله وآخره نحو من عشرين سنة. حدثنا القاسم,
قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, قوله: { وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا)
قال: كان بين ما أنـزل القرآن إلى آخره أنـزل عليه لأربعين, ومات النبيّ صلى الله
عليه وسلم لثنتين أو لثلاث وستين. وقال آخرون: معنى الترتيل: التبيين والتفسير. *
ذكر من قال ذلك: حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله:
{ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا) قال: فسرناه تفسيرا, وقرأ: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ
تَرْتِيلا .
يقول تعالى ذكره: ولا يأتيك يا محمد هؤلاء المشركون بمثل يضربونه إلا جئناك من
الحق, بما نبطل به ما جاءوا به, وأحسن منه تفسيرًا. كما حدثنا القاسم, قال: ثنا
الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج: { وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ
بِالْحَقِّ } قال: الكتاب بما تردّ به ما جاءوا به من الأمثال التي جاءوا بها وأحسن
تفسيرا. وعنى بقوله { وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } وأحسن مما جاءوا به من المثل بيانا
وتفصيلا. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد
بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن ابن عباس قوله: وَأَحْسَنَ
تَفْسِيرًا } يقول: أحسن تفصيلا. حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن
ابن جُرَيج, عن مجاهد: وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا قال: بيانا. حُدثت عن الحسين, قال:
سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَأَحْسَنَ
تَفْسِيرًا يقول: تفصيلا.
وقوله: { الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شرٌّ
مَكَانًا يقول تعالى ذكره لنبيه: هؤلاء المشركون يا محمد, القائلون لك لَوْلا
نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ومن كان على مثل الذي هم عليه من
الكفر بالله, الذين يحشرون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم, فيساقون إلى جهنم شرّ
مستقرّا في الدنيا والآخرة من أهل الجنة في الجنة, وأضل منهم في الدنيا طريقا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني القاسم, قال:
ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد { الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى
وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ } قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على
وجوههم { أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا } من أهل الجنة { وَأَضَلُّ سَبِيلا) قال: طريقا.
حدثني محمد بن يحيى الأزدي, قال: ثنا الحسين بن محمد, قال: ثنا شيبان, عن قتادة,
قوله: { الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ } قال: حدثنا أنس
بن مالك أن رجلا قال: يا رسول الله، كيف يحشر الكافر على وجهه؟ قال: " الَّذِي
أَمْشَاهُ عَلى رِجْلَيْهِ قادرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ". حدثنا أبو
سفيان الغنوي يزيد بن عمرو, قال: ثنا خلاد بن يحيى الكوفي, قال: ثنا سفيان الثوري,
عن إسماعيل بن أبي خالد, قال: أخبرني من سمع أنس بن مالك يقول: جاء رجل إلى النبيّ
صلى الله عليه وسلم فقال: كيف يحشرهم على وجوههم؟ قال: " الَّذِي يَحْشُرُهُمْ عَلى
أرْجُلِهِمْ قادِرٌ بأنْ يَحْشُرُهُمْ عَلى وُجُوههمْ". حدثنا عبيد بن محمد
الورّاق, قال: ثنا يزيد بن هارون, قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي داود,
عن أنس بن مالك, قال: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يُحشر أهل النار على
وجوههم؟ فقال: إنَّ الَّذِي أمْشاهُمْ عَلى أقْدامِهِمْ قَادِرٌ عَلى أنْ
يُمْشِيَهُمْ عَلى وُجُوهِهِمْ". حدثني أحمد بن المقدام قال: ثنا حزم, قال: سمعت
الحسن يقول: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { الَّذِينَ يُحْشَرُونَ
عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ } فقالوا: يا نبي الله، كيف يمشون على وجوههم؟ "
قال : أرأيْتَ الَّذِي أمْشاهُمْ عَلى أقْدَامِهِمْ ألَيْس قَادِرًا أَنْ
يُمْشِيَهُمْ عَلى وُجُوهِهم ". حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثنا هشيم,
قال: أخبرنا منصور بن زاذان, عن علي بن زيد بن جدعان, عن أبي خالد, عن أبي هريرة,
قال: " يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: صنف على الدوابّ, وصنف على
أقدامهم, وصنف على وجوههم, فقيل: كيف يمشون على وجوههم؟ قال: إن الذي أمشاهم على
أقدامهم, قادر أن يمشيهم على وجوههم.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يتوعد مشركي قومه على كفرهم بالله,
وتكذيبهم رسوله ويخوّفهم من حلول نقمته بهم, نظير الذي يحلّ بمن كان قبلهم من الأمم
المكذّبة رسلها { وَلَقَدْ آتَيْنَا } يا محمد { مُوسَى الْكِتَابَ } يعني التوراة,
كالذي آتيناك من الفرقان وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا يعني معينا
وظهيرا.
يقول تعالى ذكره: وقوم نوح لما كذبوا رسلنا, وردّوا عليهم ما جاءوهم به من الحقّ,
أغرقناهم بالطوفان { وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً } يقول: وجعلنا تغريقنا إياهم
وإهلاكنا عظة وعبرة للناس يعتبرون بها{ وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا
أَلِيمًا } يقول: وأعددنا لهم من الكافرين بالله في الآخرة عذابا أليما, سوى الذي
حلّ بهم من عاجل العذاب في الدنيا.
يقول تعالى ذكره: ودمرنا أيضا عادا وثمود وأصحاب الرسّ. واختلف أهل التأويل في
أصحاب الرسّ, فقال بعضهم: أصحاب الرسّ من ثمود. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم,
قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قال ابن عباس: { وَأَصْحَابَ
الرَّسِّ } قال: قرية من ثمود. وقال آخرون: بل هي قرية من اليمامة يقال لها الفلْج
(1) . * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن وهب, قال: ثنا
جرير بن حازم, قال: قال قتادة: الرسّ: قرية من اليمامة يقال لها الفلج. حدثنا
القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, قال: قال ابن جُرَيج, قال عكرمة: أصحاب
الرسّ بفلج هم أصحاب يس. وقال آخرون: هم قوم رسوا نبيهم في بئر. * ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن أبي بكر, عن عكرمة, قال:
كان الرسّ بئرا رسُّوا فيها نبيهم. وقال آخرون: هي بئر كانت تسمى الرسّ. * ذكر من
قال ذلك: حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه,
عن ابن عباس { وَأَصْحَابَ الرَّسِّ } قال: هي بئر كانت تسمى الرّسّ. حدثني محمد بن
عمارة, قال: ثنا عبيد الله بن موسى, قال: أخبرنا إسرائيل, عن أبي يحيى عن مجاهد في
قوله: { وَأَصْحَابَ الرَّسِّ } قال: الرّسّ بئر كان عليها قوم. قال أبو جعفر:
والصواب من القول في ذلك, قول من قال: هم قوم كانوا على بئر, وذلك أن الرّسّ في
كلام العرب: كلّ محفور مثل البئر والقبر ونحو ذلك; ومنه قول الشاعر: سَـــبَقْتَ
إلــى فَــرطٍ بــاهِلٍ تنابِلَـــةٍ يَحْـــفِرُونَ الرِّساســا (2) يريد أنهم
يحفِرون المعادن, ولا أعلم قوما كانت لهم قصة بسبب حفرة, ذكرهم الله في كتابه إلا
أصحاب الأخدود, فإن يكونوا هم المعنيين بقوله: وَأَصْحَابَ الرَّسِّ فإنا سنذكر
خبرهم إن شاء الله إذا انتهينا إلى سورة البروج, وإن يكونوا غيرهم فلا نعرف لهم
خبرا, إلا ما جاء من جملة الخبر عنهم أنهم قوم رَسوا نبيهم في حفرة. إلا ما حدثنا
ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن كعب القرظي, قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يَدخُلُ الجَنَّةَ يَوْمَ
القِيَامَةِ الْعَبْدُ الأسْوَدُ". وذلك أن الله تبارك وتعالى بعث نبيا إلى أهل
قرية فلم يؤمن مِنْ أهلها أحد إلا ذلك الأسود, ثم إن أهل القرية عدوا على النبيّ
عليه السلام, فحفروا له بئرا فألقوه فيها, ثم أطبقوا عليه بحجر ضخم, قال: وكان ذلك
العبد يذهب فيحتطب على ظهره, ثم يأتي بحطبه فيبيعه, فيشتري به طعاما وشرابا, ثم
يأتي به إلى ذلك البئر, فيرفع تلك الصخرة, فيعينه الله عليها, فيدلي إليه طعامه
وشرابه, ثم يعيدها كما كانت, قال: فكان كذلك ما شاء الله أن يكون. ثم إنه ذهب يوما
يحتطب, كما كان يصنع, فجمع حطبه, وحزم حزمته وفرغ منها; فلما أراد أن يحتملها وجد
سِنة, فاضطجع فنام, فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما. ثم إنه هبّ فتمطى, فتحوّل
لشقة الآخر, فاضطجع, فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى. ثم إنه هبّ فاحتمل حزمته,
ولا يحسب إلا أنه نام ساعة من نهار, فجاء إلى القرية فباع حزمته, ثم اشترى طعاما
وشرابا كما كان يصنع ثم ذهب إلى الحفرة في موضعها التي كانت فيه فالتمسه فلم يجده,
وقد كان بدا لقومه فيه بداء, فاستخرجوه وآمنوا به وصدّقوه, قال: فكان النبي عليه
السلام يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل؟ فيقولون: ما ندري, حتى قبض الله النبيّ, فأهبّ
الله الأسود من نومته بعد ذلك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ ذَلكَ
الأسْودَ لأوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ" غير أن هؤلاء في هذا الخبر يذكر محمد بن
كعب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم آمنوا بنبيهم واستخرجوه من حفرته, فلا ينبغي
أن يكونوا المعنيين بقوله: { وَأَصْحَابَ الرَّسِّ } لأن الله أخبر عن أصحاب الرّسّ
أنه دمرهم تدميرا, إلا أن يكونوا دمروا بأحداث أحدثوها بعد نبيهم الذي استخرجوه من
الحفرة وآمنوا به, فيكون ذلك وجها { وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا } يقول:
ودمرنا بين أضعاف هذه الأمم التي سمَّيناها لكم أمما كثيرة. كما حدثنا الحسن بن
شبيب, قال: ثنا خلف بن خليفة, عن جعفر بن عليّ بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: خلفت بالمدينة عمي ممن يفتي على أن القرن سبعون سنة, وكان عمه عبيد
الله بن أبي رافع كاتب عليّ رضي الله عنه. حدثنا عمرو بن عبد الحميد, قال: ثنا حفص
بن غياث, عن الحجاج, عن الحكم, عن إبراهيم قال: القرن أربعون سنة.
------------------------ الهوامش: (1) في تاج العروس : وقيل { فلج) : بلد . ومنه
قيل لطريق مأخذه من البصرة إلى اليمامة : طريق بطن فلج . ا هـ .(2) البيت للنابغة
الجعدي { اللسان : رسس) . والفرط بالتحريك : القوم يتقدمون إلى الماء قبل الورود ،
فيهيئون لهم الأرسال والدلاء ، ويملئون الحياض ، ويستقون لهم { عن اللسان } .
والباهل : المتردد بلا عمل . والتنابلة جمع تنبل ، بوزن جَعْفَر ، وهو الرجل القصير
. ولعله كناية عن البطء والعجز عن العمل . والرساس جمع رس ، وهي البئر القديمة أو
المعدن { المنجم تستخرج منه المعادن كالحديد ونحوه } . استشهد به المؤلف على أن كل
محفور مثل البئر والقبر والمعدن فهو رس عند العرب . القول في تأويل .
{ أَمْ تَحْسَبُ) يا محمد أن أكثر هؤلاء المشركين { يَسْمَعُونَ) ما يتلى عليهم,
فيعون { أَوْ يَعْقِلُونَ } ما يعاينون من حجج الله, فيفهمون { إِنْ هُمْ إِلا
كَالأنْعَامِ } يقول: ما هم إلا كالبهائم التي لا تعقل ما يقال لها, ولا تفقه, بل
هم من البهائم أضلّ سبيلا لأن البهائم تهتدي لمراعيها, وتنقاد لأربابها, وهؤلاء
الكفرة لا يطيعون ربهم, ولا يشكرون نعمة من أنعم عليهم, بل يكفرونها, ويعصون من
خلقهم وبرأهم.
وقوله: { وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ } يقول تعالى ذكره: وكل هذه الأمم التي
أهلكناها التي سميناها لكم أو لم نسمها ضربنا له الأمثال يقول: مثلنا له الأمثال
ونبهناها على حججنا عليها, وأعذرنا إليها بالعبر والمواعظ, فلم نهلك أمة إلا بعد
الإبلاغ إليهم في المعذرة. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال
ذلك: حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قتادة, في قوله: { وَكُلا
ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ } قال: كلّ قد أعذر الله إليه, ثم انتقم منه. وقوله: (
وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا } يقول تعالى ذكره: وكل هؤلاء الذين ذكرنا لكم أمرهم
استأصلناهم, فدمرناهم بالعذاب إبادة, وأهلكناهم جميعا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال
أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا
معمر, عن الحسن, في قوله: { وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا } قال: تبر الله كلا
بعذاب تتبيرا. حدثنا أبو كريب قال: ثنا ابن يمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد بن
جُبير { وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا } قال: تتبير بالنبطية. حدثنا القاسم, قال:
ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, قال: قال ابن جُرَيج, قوله: { وَكُلا تَبَّرْنَا
تَتْبِيرًا } قال: بالعذاب.
يقول تعالى ذكره: ولقد أتى هؤلاء الذين اتخذوا القرآن مهجورا على القرية التي
أمطرها الله مطر السوء وهي سدوم, قرية قوم لوط. ومطر السوء: هو الحجارة التي أمطرها
الله عليهم فأهلكهم بها. كما: حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن
ابن جُرَيج { وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ
السَّوْءِ } قال: حجارة, وهي قرية قوم لوط, واسمها سدوم. قال ابن عباس: خمس
قرَّيات, فأهلك الله أربعة, وبقيت الخامسة, واسمها صعوة. لم تهلك صعوة، كان أهلها
لا يعملون ذلك العمل, وكانت سدوم أعظمها, وهي التي نـزل بها لوط, ومنها بعث، وكان
إبراهيم صلى الله عليه وسلم ينادي نصيحة لهم: يا سدوم, يوم لكم من الله, أنهاكم أن
تعرضوا لعقوبة الله, زعموا أن لوطا ابن أخي إبراهيم صلوات الله عليهما. وقوله: (
أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا } يقول جلّ ثناؤه: أو لم يكن هؤلاء المشركون الذين
قد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء يرون تلك القرية, وما نـزل بها من عذاب
الله بتكذيب أهلها رسلهم, فيعتبروا ويتذكروا, فيراجعوا التوبة من كفرهم وتكذيبهم
محمدا صلى الله عليه وسلم { بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا } يقول تعالى ذكره:
ما كذّبوا محمدا فيما جاءهم به من عند الله, لأنهم لم يكونوا رأوا ما حلّ بالقرية
التي وصفت, ولكنهم كذّبوه من أجل أنهم قوم لا يخافون نشورًا بعد الممات, يعني أنهم
لا يوقنون بالعقاب والثواب, ولا يؤمنون بقيام الساعة, فيردعهم ذلك عما يأتون من
معاصي الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا
القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج { أَفَلَمْ يَكُونُوا
يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا } بعثا.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا رآك هؤلاء المشركون الذين
قصصت عليك قصصهم { إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا } يقول: ما يتخذونك إلا سخرية
يسخرون منك, يقولون: { أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ } إلينا{ رَسُولا } من بين
خلقه.
يقول تعالى ذكره مخبرا عن هؤلاء المشركين الذين كانوا يهزءون برسول الله صلى الله
عليه وسلم إنهم يقولون إذا رأوه: قد كاد هذا يضلنا عن آلهتنا التي نعبدها, فيصدّنا
عن عبادتها لولا صبرنا عليها, وثبوتنا على عبادتها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ
يَرَوْنَ الْعَذَابَ } يقول جلّ ثناؤه: سيبين لهم حين يعاينون عذاب الله قد حلّ بهم
على عبادتهم الآلهة { مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا } يقول: من الراكب غير طريق الهدى,
والسالك سبيل الردى أنت أوهم. وبنحو ما قلنا في تأويل قوله: { لَوْلا أَنْ
صَبَرْنَا عَلَيْهَا } قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم, قال: ثنا
الحسين, قال: ثنا حجاج, عن ابن جُرَيج { إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا
لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا } قال: ثبتنا عليها.
يعني تعالى ذكره: { أَرَأَيْتَ } يا محمد { مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ } شهوته التي
يهواها وذلك أن الرجل من المشركين كان يعبد الحجر, فإذا رأى أحسن منه رمى به, وأخذ
الآخر يعبده, فكان معبوده وإلهه ما يتخيره لنفسه، فلذلك قال جلّ ثناؤه { أَرَأَيْتَ
مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا } يقول تعالى
ذكره: أفأنت تكون يا محمد على هذا حفيظا في أفعاله مع عظيم جهله؟ .
يقول تعالى ذكره: { أَلَمْ تَرَ } يا محمد { كَيْفَ مَدَّ } ربك { الظِّلَّ } وهو
ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر
من قال ذلك: حدثني عليّ, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن
عباس, قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ } يقول: ما بين
طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال:
ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ
الظِّلَّ } قال: مدّه ما بين صلاة الصبح إلى طلوع الشمس. حدثنا ابن حميد, قال: ثنا
يعقوب, عن جعفر, عن سعيد بن جُبير, في قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ
مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا } قال: الظلّ: ما بين طلوع الفجر
إلى طلوع الشمس. حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع, قال: ثنا أبو محصن, عن حصين, عن
أبي مالك, قال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ } قال: ما بين
طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى؛
وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد,
قوله: { كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ } قال. ظلّ الغداة قبل أن تطلع الشمس. حدثنا القاسم,
قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, قال: الظلّ: ظلّ الغداة.
قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن عكرمة, قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ
مَدَّ الظِّلَّ } قال: مدّه من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. حُدثت عن الحسين, قال:
سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: { أَلَمْ تَرَ
إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ } يعني: من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس. قوله:
{ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا } يقول: ولو شاء لجعله دائما لا يزول, ممدودا
لا تذهبه الشمس, ولا تنقصه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال
ذلك: حدثني علي, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله:
{ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا } يقول: دائما. حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا
أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال, ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن
ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: { وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا } قال: لا تصيبه
الشمس ولا يزول. حدثنا القاسم. قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن
مجاهد { وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا } قال: لا يزول. حدثني يونس, قال: أخبرنا
ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: { وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا } قال:
دائما لا يزول. وقوله: { ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا } يقول جلّ
ثناؤه: ثم دللناكم أيها الناس بنسخ الشمس إياه عند طلوعها عليه, أنه خلْق من خلق
ربكم, يوجده إذا شاء, ويفنيه إذا أراد; والهاء في قوله: " عليه " من ذكر الظلّ.
ومعناه: ثم جعلنا الشمس على الظلّ دليلا. قيل: معنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن
الشمس التي تنسخه لم يعلم أنه شيء, إذا كانت الأشياء إنما تعرف بأضدادها, نظير
الحلو الذي إنما يعرف بالحامض والبارد بالحارِّ, وما أشبه ذلك. وبنحو الذي قلنا في
ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني
معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: { ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا
) يقول: طلوع الشمس. حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد { ثُمَّ
جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا } قال: تحويه. حدثنا القاسم, قال: ثنا
الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, مثله. حدثني يونس, قال: أخبرنا
ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله: { ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ
دَلِيلا } قال: أخرجت ذلك الظل فذهبت به وقوله: { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا
قَبْضًا يَسِيرًا } يقول تعالى ذكره: ثم قبضنا ذلك الدليل من الشمس على الظلّ إلينا
قبضا خفيا سريعا بالفيء الذي نأتي به بالعشيّ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى;
وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد.
قوله: { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا } قال: حوى الشمس الظلّ.
وقيل: إن الهاء التي في قوله: { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا } عائدة على الظلّ,
وإن معنى الكلام: ثم قبضنا الظلّ إلينا بعد غروب الشمس، وذلك أن الشمس إذا غربت غاب
الظلّ الممدود, قالوا: وذلك وقت قبضه. واختلف أهل التأويل في معنى قوله: { يَسِيرًا
) فقال بعضهم: معناه: سريعا. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح,
قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا
قَبْضًا يَسِيرًا } يقول: سريعا. وقال آخرون: بل معناه: قبضا خفيا. * ذكر من قال
ذلك: حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن عبد العزيز بن رفيع,
عن مجاهد { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا } قال: خفيا. حدثنا
القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, قال: قال ابن جُرَيج { قَبْضًا يَسِيرًا }
قال: خفيا, قال: إن ما بين الشمس والظلّ مثل الخيط, واليسير الفعيل من اليسر, وهو
السهل الهين في كلام العرب. فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك, يتوجه لما روي عن ابن
عباس ومجاهد؛ لأن سهولة قبض ذلك قد تكون بسرعة وخفاء. وقيل: إنما قيل { ثُمَّ
قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا } لأن الظلّ بعد غروب الشمس لا يذهب كله
دفعة, ولا يقبل الظلام كله جملة, وإنما يقبض ذلك الظلّ قبضا خفيا, شيئا بعد شيء
ويعقب كل جزء منه يقبضه جزء من الظلام.
يقول تعالى ذكره: الذي مدّ الظل ثم جعل الشمس عليه دليلا هو الذي جعل لكم أيها
الناس الليل لباسا. وإنما قال جلّ ثناؤه { جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا } لأنه
جعله لخلقه جنة يجتنون فيها ويسكنون، فصار لهم سترا يستترون به, كما يستترون
بالثياب التي يُكسونها. وقوله: { وَالنَّوْمَ