سورة الأنبياء: قال البخاري حدثنا محمد بن بشار ثنا غندر ثنا شعبة عن أبي إسحاق
سمعت عبد الرحمن بن زيد عن عبد الله قال { بنو إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء
هن من العتاق الأول وهن من تلادي. هذا تنبيه من الله عز وجل على اقتراب الساعة
ودنوها وأن الناس في غفلة عنها أي لا يعملون لها ولا يستعدون من أجلها وقال النسائي
حدثنا أحمد بن نصر حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي حدثنا أبو معاوية
حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم { في غفلة
معرضون { قال { في الدنيا { وقال تعالى { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } وقال { اقتربت
الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا { الآية وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة
الحسن بن هانئ أبي نواس الشاعر أنه قال: أشعر الناس الشيخ الطاهر أبو العتاهية حيث
يقول: الناس في غفلاتهم ورحا المنية تطحن فقيل له من أين أخذ هذا؟ قال من قول الله
تعالى { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون { وروى في ترجمة عامر بن ربيعة من
طريق موسى بن عبيد الآمدي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عامر ابن ربيعة
أنه نزل به رجل من العرب فأكرم عامرٌ مثواه وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
فجاءه الرجل فقال إني استقطعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم واديا في العرب وقد
أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك فقال عامر لا حاجة لي في قطيعتك
نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون { ثم
أخبر تعالى أنهم لا يصغون إلى الوحي الذي أنزل الله على رسوله والخطاب مع قريش ومن
شابههم من الكفار فقال.
{ ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } أي جديد إنزاله { إلا استمعوه وهم يلعبون { كما
قال ابن عباس: ما لكم تسألون أهل الكتب عما بأيديهم وقد حرفوه وبدلوه وزادوا فيه
ونقصوا منه وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرءونه محضا لم يشب رواه البخاري بنحوه.
وقوله { وأسروا النجوى الذين ظلموا } أي قائلين فيما بينهم خفية { هل هذا إلا بشر
مثلكم { يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبعدون كونه نبيا لأنه بشر مثلهم
فكيف اختص بالوحي دونهم ولهذا قال { أفتأتون السحر وأنتم تبصرون } أي أفتتبعونه
فتكونون كمن يأتي السحر وهو يعلم أنه سحر فقال تعالى مجيبا لهم عما افتروه واختلقوه
من الكذب.
{ قال ربي يعلم القول في السماء والأرض } أي الذي يعلم ذلك لا يخفى عليه خافية وهو
الذي أنزل هذا القرآن المشتمل على خبر الأولين والآخرين الذي لا يستطيع أحد أن يأتي
بمثله إلا الذي يعلم السر في السموات والأرضى وقوله { وهو السميع العليم { أي
السميع لأقوالكم العليم بأحوالكم وفي هذا تهديد لهم ووعيد.
وقوله { بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه { هذا إخبار عن تعنت الكفار وإلحادهم
واختلافهم فيما يصفون به القرآن وحيرتهم فيه وضلالهم عنه فتارة يجعلونه سحرا وتارة
يجعلونه شعرا وتارة يجعلونه أضغاث أحلام وتارة يجعلونه مفترى كما قال { انظر كيف
ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا { وقوله { فليأتنا بآية كما أرسل
الأولون { يعنون كناقة صالح وآيات موسى وعيسى وقد قال الله { وما منعنا أن نرسل
بالآيات إلا أن كذب بها الأولون { الآية.
ولهذا قال تعالى { ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون } أي ما آتينا قرية
من القرى الذي بعث فيهم الرسل آية على يدي نبيها فآمنوا بها بل كذبوا فأهلكناهم
بذلك أفهؤلاء يؤمنون بالآيات لو رأوها دون أولئك؟ كلا بل { إن الذين حقت عليهم كلمة
ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم { هذا كله وقد شاهدوا من
الآيات الباهرات والحجج القاطعات والدلائل البينات على يدي رسول الله صلى الله عليه
وسلم ما هو أظهر وأجلى وأبهر وأقطع وأقهر مما شوهد مع غيره من الأنبياء صلوات الله
وسلامه عليهم أجمعين. قال ابن أبي حاتم رحمه الله ذكر عن زيد بن الحباب حدثنا ابن
لهيعة حدثنا الحارث بن زيد الحضرمي عن علي ابن رباح اللخمي حدثني من شهد عبادة بن
الصامت يقول: كنا في المسجد ومعنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرأ بعض القرآن
فجاء عبد الله بن أبي ابن سلول ومعه نمرقة وزربية فوضع واتكأ وكان صبيحا فصيحا جدلا
فقال يا أبا بكر قل لمحمد يأتينا بآية كما جاء الأولون؟ جاء موسى بالألواح وجاء
داود بالزبور وجاء صالح بالناقة وجاء عيسى بالإنجيل وبالمائدة. فبكى أبو بكر - رضي
الله عنه- فخرج رسول- الله صلى الله عليه وسلم- فقال أبو بكر قوموا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم نستغيث به من هذا المنافق فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:
{ إنه لا يقام لي إنما يقام لله عز وجل { فقلنا يا رسول الله: { إنا لقينا من هذا
المنافق فقال: { إن جبريل قال لي اخرج فأخبر بنعم الله التي أنعم بها عليك وفضيلته
التي فضلت بها فبشرني أني بُعثت إلى الأحمر والأسود وأمرني أن أنذر الجن وآتاني
كتابه وأنا أُمِّيٌّ وغفر دنبي ما تقدم وما تأخر وذكر اسمي في الأذان وأمدني
بالملائكة وآتاني النصر وجعل الرعب أمامي وآتاتي الكوثر وجعل حوضي من أكثر الحياض
يوم القيامة ووعدني المقام المحمود والناس مهطعون مقنعو رءوسهم وجعلني في أول زمرة
تخرج من الناس وأدخل في شفاعتي سبعين ألفا من أمتي الجنة بغير حساب وآتاني السلطان
والملك وجعلني في أعلى غرفة في الجنة في جنات النعيم فليس فوقي أحد إلا الملائكة
الذين يحملون العرش وأجل لي ولأمتي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلنا { وهذا الحديث
غريب جدا.
يقول تعالى رادًا على من أنكر بعثة الرسل من البشر { وما أرسلنا قبلك إلا رجالا
نوحي إليهم } أي جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالا من البشر لم يكن فيهم أحد من
الملائكة كما قال في الآية الأخرى { وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل
القرى { وقال تعالى { قل ما كنت بدعا من الرسل { وقال تعالى حكاية عمن تقدم من
الأمم لأنهم أنكروا ذلك فقالوا { أبشر يهدوننا { ولهذا قال تعالى { فاسألوا أهل
الذكر إن كنتم لا تعلمون } أي اسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر
الطوائف هل كان الرسل الذين آتوهم بشرا أو ملائكة وإنما كانوا بشرا وذلك من تمام
نعمة الله على خلقه إذ بعث فيهم رسلا منهم يتمكنون من تناول البلاغ منهم والأخذ
عنهم.
وقوله { وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام } أي بل قد كانوا أجسادا يأكلون الطعام
كما قال تعالى { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في
الأسواق } أي قد كانوا بشرا من البشر يأكلون ويشربون مثل الناس ويدخلون الأسواق
للتكسب والتجارة وليس ذلك بضار لهم ولا ناقص منهم شيئا كما توهمه المشركون في قولهم
{ ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا
أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها { الآية وقوله { وما كانوا خالدين { أي
في الدنيا بل كانوا يعيشون ثم يموتون { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد { وخاصتهم
أنهم يوحى إليهم من الله عز وجل تنزل عليهم الملائكة عن الله بما يحكمه في خلقه مما
يأمر به وينهى عنه.
وقوله { ثم صدقناهم الوعد } أي الذي وعدهم ربهم ليهلكن الظالمين صدقهم الله وعده
وفعل ذلك ولهذا قال { فأنجيناهم ومن نشاء } أي أتباعهم من المؤمنين { وأهلكنا
المسرفين } أي المكذبين بما جاءت به الرسل.
يقول تعالى منبها على شرف القرآن ومحرضا لهم على معرفة قدره { لقد أنزلنا إليكم
كتابا فيه ذكركم { قال ابن عباس شرفكم وقال مجاهد حديثكم وقال الحسن دينكم { أفلا
تعقلون } أي هذه النعمة وتتلقونها بالقبول كما قال تعالى { وإنه لذكر لك ولقومك
وسوف تسألون } .
وقوله { وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة { هذه صيغة تكثير كما قال { وكم أهلكنا من
القرون من بعد نوح { وقال تعالى { وكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على
عروشها { الآية. وقوله { وأنشأنا بعدها قوما آخرين } أي أمة أخرى بعدهم.
{ لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم { هذا تهكم بهم نزرا أي قيل لهم
نزرا لا تركضوا هاربين من نزول العذاب وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور
والمعيشة والمساكن الطيبة قال قتادة استهزاء بهم { لعلكم تسئلون } أي عما كنتم فيه
من أداء شكر النعم.
يخبر تعالى أنه خلق السموات والأرض بالحق أي بالعدل والقسط ليجزي الذين أساءوا بما
عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى والله لم يخلق ذلك عبثا ولا لعبا كما قال { وما
خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من
النار } .
قوله تعالى { لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين { قال ابن أبي
نجيح عن مجاهد { لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا } يعني من عندنا يقول وما
خلقنا جنة ولا نارا ولا موتا ولا بعثا ولا حسابا وقال الحسن وقتادة وغيرهما { لو
أردنا أن نتخذ لهوا { اللهو المرأة بلسان أهل اليمن وقال إبراهيم النخعي { لاتخذناه
{ من الحور العين وقال عكرمة والسدي: المراد باللهو ههنا الولد وهذا والذي قبله
متلازمان وهو كقوله تعالى { لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء
سبحانه هو الله الواحد القهار { فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقا ولا سيما عما
يقولون من الإفك والباطل من اتخاذ عيسى أو العزير أو الملائكة { سبحان الله عما
يقولون علوا كبيرا { وقوله { إن كنا فاعلين { قال قتادة والسدي وإبراهيم النخعي
ومغيرة بن مقسم أي ما كنا فاعلين وقال مجاهد: كل شيء في القرآن إن فهو إنكار.
وقوله { بل تقذف بالحق على الباطل } أي نبين الحق فيدحض الباطل ولهذا قال { فيدمغه
فإذ هو زاهق } أي ذاهب مضمحل { ولكم الويل } أي أيها القاتلون لله ولد { مما تصفون
{ أي تقولون وتفترون ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له ودأبهم في طاعته ليلا
ونهارا.
فقال { وله من في السموات والأرض ومن عنده } يعني الملائكة { لا يستكبرون عن عبادته
{ أي لا يستنكفون عنها كما قال { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة
المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا { وقوله { ولا يستحسرون
{ أي لا يعتبرن ولا يملون.
{ يسبحون الليل والنهار لا يفترون { فهم دائبون في العمل ليلا ونهارا مطيعون قصدا
وعملا قادرون عليه كما قال تعالى { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون }
وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن أبي دلامة البغدادي أنبأنا عبد الوهاب بن عطاء
حدثنا سعيد عن قتادة عن صفوان بن محرز عن حكيم بن حزام قال: بينا رسول الله صلى
الله عليه وسلم بين أصحابه إذ قال لهم { هل تسمعون ما أسمع { قالوا ما نسمع من شيء.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم } . إني لأسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط وما
فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم { غريب ولم يخرجوه ثم رواه أعني ابن أبي
حاتم من طريق يزيد بن أبي زريع عن سعيد عن قتادة مرسلا وقال محمد بن إسحاق عن حسان
بن مخارق عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام فقلت
له أرأيت قول الله تعالى للملائكة { يسبحون الليل والنهار لا يفترون { أما يشغلهم
عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل. فقال من هذا الغلام؟ فقالوا من بني عبد المطلب
قال فقبل رأسي ثم قال: يا بني إنه جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس أليس تتكلم
وأنت تتنفس وتمشي وأنت تتنفس؟.
ينكر تعالى على من اتخذ من دونه آلهة فقال: { أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون }
أي أهم يحيون الموتى وينشرونهم من الأرض أي لا يقدرون على شيء من ذلك فكيف جعلوها
لله ندا وعبدوها معه ثم أخبر تعالى أنه لو كان في الوجود آلهة غيره لفسدت السموات
والأرض.
فقال { لو كان فيهما آلهة } أي في السموات والأرض { لفسدتا } كقوله تعالى { ما اتخذ
الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان
الله عما يصفون { وقال ههنا { فسبحان الله رب العرش عما يصفون } أي عما يقولون إن
له ولدا أو شريك سبحانه وتعالى وتقدس وتنزه عن الذي يفترون ويأفكون علوا كبيرا.
وقوله { لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون } أي هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه ولا يعترض
عليه أحد لعظمته وجلاله وكبريائه وعلمه وحكمته وعدله ولطفه { وهم يسئلون } أي وهو
سائل خلقه عما يعملون كقوله { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون { وهذا كقوله
تعالى { وهو يجير ولا يجار عليه } .
أكثرهم لا يلعمون الحق فهم معرضون يقول تعالى { أم اتخذوا من دونه آلهة قل { يا
محمد { هاتوا برهانكم } أي دليلكم على ما تقولون { هذا ذكر من معي } يعني القرآن }
وذكر من قبلي } يعني الكتب المتقدمة على خلاف ما تقولونه وتزعمون فكل كتاب أنزل على
كل نبي أرسل ناطق بأنه لا إله إلا الله ولكن أنتم أيها المشركون لا تعلمون الحق
فأنتم معرضون عنه ولهذا.
قال { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون { كما
قال { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون { وقال }
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت { فكل نبي بعثه الله
يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له والفطرة شاهدة بذلك أيضا والمشركون لا برهان
لهم وحجتهم داحضة عند ربهم وعليم غضب ولهم عذاب شديد.
يقول تعالى رادا على من زعم أن له- تعالى وتقدس - ولدا من الملائكة كمن قال ذلك من
العرب إن الملائكة بنات الله فقال { سبحانه بل عباد مكرمون } أي الملائكة عباد الله
مكرمون عنده في منازل عالية ومقامات سامية وهم له في غاية الطاعة قولا وفعلا.
{ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } أي لا يتقدمون بين يديه بأمر ولا يخالفونه
فيما أمرهم به بل يبادرون إلى فعله وهو تعالى علمه محيط بهم فلا يخفى عليهم منه
خافية } .
مشفقون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم { وقوله { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى { كقوله }
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه { وقوله { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له }
في آيات كثيرة في معنى ذلك { وهم من خشيته } أي من خوفه ورهبته.
ومن يقل منهم إني إله من دونه } أي من ادعى منهم أنه إله من دون الله أي مع الله }
فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين } أي كل من قال ذلك وهذا شرط والشرط لا يلزم
وقوعه كقوله { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين { وقوله { لئن أشركت ليحبطن
عملك ولتكونن من الخاسرين } .
يقول تعالى منبها على قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء وقهره لجميع
المخلوقات فقال { أو لم ير الذين كفروا } أي الجاحدون لإلهيته العابدون معه غيره
ألم يعلموا أن الله هو المستقل بالخلق المستبد بالتدبير فكيف يليق أن يعبد معه غيره
أو يشرك به ما سواه ألم يروا أن السموات والأرض كانتا رتقا أي كان الجميع متصلا
بعضه ببعض متلاصق متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر ففتق هذه من هذه فجعل
السموات سبعا والأرض سبعا وفصل بين السماء الدنيا والأرض بالهواء فأمطرت السماء
وأنبتت الأرض ولهذا قال { وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون } أي وهم يشاهدون
المخلوقات تحدث شيئا فشيئا عيانا وذلك كله دليل على وجود الصانع الفاعل المختار
القادر على ما يشاء. ففي كل شيء له آية تدل عل أنه واحد قال سفيان الثوري عن أبيه
عن عكرمة قال سئل ابن عباس: الليل كان قبل أو النهار؟ فقال أرأيتم السموات والأرض
حين كانتا رتقا هل كان بينهما إلا ظلمة؟ ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار. وقال ابن
أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن أبي حمزة حدثنا حاتم عن حمزة بن أبي محمد عن
عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رجلا أتاه يساله عن السموات والأرض كانتا رتقا
ففتقناهما. قال اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله. ثم تعال فأخبرني بما قال لك قال فذهب
إلى ابن عباس فسأله فقال ابن عباس نعم كانت السموات رتقا لا تمطر وكانت الأرض رتقا
لا تنبت فلما خلق للأرض أهلا فتق هذه بالمطر وفتق هذه بالنبات فرجع الرجل إلى ابن
عمر فأخبره فقال ابن عمر الآن قد علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علما صدق هكذا
كانت قال ابن عمر قد كنت أقول ما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن فالآن
علمت أنه قد أوتي في القرآن علما وقال عطية العوفي كانت هذه رتقا لا تمطر فأمطرت
وكانت هذه رتقا لا تنبت فأنبتت وقال إسماعيل بن أبي خالد سألت أبا صالح الحنفي عن
قوله { أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما { قال كانت السماء واحدة ففتق منها
سبع سموات وكانت الأرض واحدة ففتق منها سبع أرضين وهكذا قال مجاهد وزاد ولم تكن
السماء والأرض متماستين وقال سعيد بن جبير بل كانت السماء والأرض ملتزقتين فلما رفع
السماء وأبرز منها الأرض كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه وقال الحسن وقتادة
كانتا جميعا ففصل بينهما بهذا الهواء وقوله { وجعلنا من الماء كل شيء حي } أي أصل
كل الأحياء. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو الجماهر حدثنا سعيد بن بشير
حدثنا قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة أنه قال يا نبي الله إذا رأيتك قرت عيني
وطابت نفسي فأخبرنا عن كل شيء قال { كل شيء خلق من ماء } . وقال الإمام أحمد حدثنا
يزيد حدثنا همام عن قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة قال قلت يا رسول الله إني إذا
رأيتك طابت نفسي وقرت عيني فأنبئني عن كل شيء قال { كل شيء خلق من ماء { قال قلت
أنبئني عن أمر إذا عملت به دخلت الجنة قال { أفش السلام وأطعم الطعام وصل الأرحام
وقم بالليل والناس نيام ثم ادخل الجنة بسلام { ورواه أيضا عبد الصمد وعفان وبهز عن
همام تفرد به أحمد وهذا إسناد على شرط الصحيحين إلا أن أبا ميمونة من رجال السنن
واسمه سليم والترمذي يصح له وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلا والله أعلم.
وقوله { وجعلنا في الأرض رواسي } أي جبالا أرسى الأرض بها وقررها وثقلها لئلا تميد
بالناس أي تضطرب وتتحرك فلا يحصل لهم قرار عليها لأنها غامرة في الماء إلا مقدار
الربع فإنه باد للهواء والشمس ليشاهد أهلها السماء وما فيها من الآيات الباهرات
والحكم والدلالات. ولهذا قال { أن تميد بهم } أي لئلا تميد بهم وقوله وجعلنا فيها
فجاجا سبلا } أي ثغرا في الجبال يسلكون فيها طرقا من قطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم
كما هو المشاهد في الأرض يكون الجبل حائلا بين هذه البلاد وهذه البلاد فيجعل الله
فيه فجوة ثغرة ليسلك الناس فيها من ههنا إلى ههنا ولهذا قال { لعلهم يهتدون } .
وقوله { وجعلنا السماء سقفا محفوظا } أي على الأرض وهي كالقبة عليها كما قال }
والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون { وقال { والسماء وما بناها } { أفلم ينظروا إلى
السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج { والبناء هو نصب القبة كما قال
رسول الله } صلى الله عليه وسلم } { بني الإسلام على خمس } أي خمسة دعائم وهذا لا
يكون إلا في الخيام كما تعهده العرب { محفوظا } أي عاليا محروسا أن ينال وقال مجاهد
مرفوع. وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي
حدثني أبي عن أبيه عن أشعث يعني ابن إسحاق القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس قال رجل يا رسول الله ما هذه السماء قال { موج مكفوف عنكم }
إسناده غريب وقوله { وهم عن آياتها معرضون { كقوله { وكأين من آية في السموات
والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون } أي لا يتفكرون فيما خلق الله فيها من الاتساع
العظيم والارتفاع الباهر وما زينت به من الكواكب الثوابت والسيارات في ليلها
ونهارها من هذه الشمس التي تقطع الفلك بكماله في يوم وليلة فتسير غاية لا يعلم
قدرها إلا الله الذي قدرها وسخرها وسيرها. وقد ذكر ابن أبي الدنيا- رحمه الله- في
كتابه التفكر والاعتبار: { أن بعض عُبَّاد بني إسرائيل تعبد ثلاثين سنة وكان الرجل
منهم إذا تعبد ثلاثين سنة أظلته غمامة فلم ير ذلك الرجل شيئا مما كان محصل لغيره
فشكى ذلك إلى أمه فقالت له يا بني فلعلك أذنبت في مدة عبادتك هذه فقال لا والله ما
أعلمه قالت فلعلك هَمَمْتَ قال لا ولا هُمَمْتُ قالت فلعلك رفعت بصرك إلى السماء ثم
رددته بغير فكر فقال نعم كثيرا قالت فمن ههنا أُتِيتَ ثم قال منبها على بعض آياته.
{ وهو الذي خلق الليل والنهار } أي هذا في ظلامه وسكونه وهذا بضيائه وأنسه يطول هذا
تارة ثم يقصر أخرى وعكسه الآخر { والشمس والقمر { هذه لها نور يخصها وفلك بذاته
وزمان على حدة وحركة وسير خاص وهذا بنور آخر وفلك آخر وسير آخر وتقدير آخر { وكل في
فلك يسبحون } أي يدورون قال ابن عباس يدورون كما يدور المغزل الفلكة قال مجاهد فلا
يدور المغزل إلا بالفلكة ولا الفلكة إلا بالمغزل كذلك النجوم والشمس والقمر لا
يدورون إلا به ولا يدور إلا كما قال تعالى { فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس
والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم } .
يقول تعالى { وما جعلنا لبشر من قبلك } أي يا محمد { الخلد } أي في الدنيا بل { كل
من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام { وقد استدل بهذه الآية الكريمة من
ذهب من العلماء إلى أن الخضر عليه السلام مات وليس بحي إلى الآن لأنه بشر سواء كان
وليا أو نبيا أو رسولا وقد قال تعالى { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد { وقوله }
أفإن مت } أي يا محمد { فهم الخالدون } أي يؤملون أن يعيشوا بعدك لا يكون هذا بل كل
إلى الفناء.
ولهذا قال تعالى { كل نفس ذائقة الموت { وقد روي عن الشافعي - رحمه الله- أنه أنشد
واستشهد بهذين البيتين: تمنى رجــــــال أن أمـوت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضـى تهيأ لأخــرى مثلها فكأن قـد وقوله { ونبلوكم بالشر
والخير فتنة } أي نختبركم بالمصائب تارة وبالنعم أخرى فننظر من يشكر ومن يكفر ومن
يصبر ومن يقنط كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { ونبلوكم { يقول نبتليكم }
بالشر والخير فتنة { بالشدة والرخاء والصحة والسقم والغنى والفقر والحلال والحرام
والطاعة والمعصية والهدى والضلال وقوله { وإلينا ترجعون } أي فنجازيكم بأعمالكم.
يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه { إذا رآك الذين كفروا } يعني كفار قريش
كأبي جهل وأشباهه { إن يتخذونك إلا هزوا } أي يستهزئون بك وينتقصونك يقولون { أهذا
الذي يذكر آلهتكم { يعنون أهذا الذي يسب آلهتكم ويسفه أحلامكم قال تعالى { وهم بذكر
الرحمن هم كافرون } أي وهم كافرون بالله ومع هذا يستهزءون برسول الله- صلى الله
عليه وسلم- كما قال في الآية الأخرى { وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث
الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون
العذاب من أضل سبيلا } .
وقوله { خلق الإنسان من عجل { كما قال في الآية الأخرى { وكان الإنسان عجولا { أي
في الأمور قال مجاهد خلق الله آدم بعد كل شيء من آخر النهار من يوم خلق الخلائق
فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه ولم يبلغ أسفله قال يا رب استعجل بخلقي. قبل
غروب الشمس وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا محمد
بن علقمة بن وقاص الليثي عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم { خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أهبط
منها وفيه تقوم الساعة وفيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلي - وقبض أصابعه يقللها -
فسأل الله خيرا إلا أعطاه إياه { قال أبو سلمة فقال عبد الله بن سلام قد عرفت تلك
الساعة هي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة وهي التي خلق الله فيها آدم قال الله
تعالى { خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون { والحكمة في ذكر عجلة
الإنسان ههنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول صلوات الله وسلامه عليه وقع في النفوس
سرعة الانتقام منهم واستعجلت ذلك فقال الله تعالى خلق الإنسان من عجل لأنه تعالى
يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته يؤجل ثم يعجل وينظر ثم لا يؤخر ولهذا قال }
سأريك آياتي } أي نقمي وحكمي واقتداري علي من عصاني { فلا تستعجلون } .
قال الله تعالى { لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم
{ أي لو تيقنوا أنها واقعة بهم لا محالة لما استعجلوا به ولو يعلمون حين يغشاهم
العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم { لهم من فوقهم ظل من النار ومن تحتهم ظلل } { لهم
من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش { وقال في هذه الآية { حين لا يكفون عن وجوههم النار
ولا عن ظهورهم } وقال: { سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار { فالعذاب محيط بهم
من جميع جهاتهم { ولا هم ينصرون أي لا ناصر لهم كما قال { ومالهم من الله من واق } .
وقوله { بل تأتيهم بغتة { أي { تأتيهم النار بغتة } أي فجأة فتبهتهم } أي تذعرهم
فيستسلمون لها حائرين لا يدرون ما يصنعون { فلا يستطيعون ردها } أي ليس له حيلة في
ذلك ولا هم ينظرون } أي ولا يؤخر عنهم ذلك ساعة واحدة.
يقول تعالى مسليا لرسوله عما آذاه به المشركون من الاستهزاء والتكذيب { ولقد استهزئ
برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون } يعني من العذاب الذي
كانوا يستبعدون وقوعه كما قال تعالى { ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا
وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين }.
ثم ذكر تعالى نعمته على عبيده في حفظه لهم بالليل والنهار وكلاءته وحراسته لهم
بعينه التي لا تنام فقال { قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن } أي بدل الرحمن
يعني غيره كما قال الشاعر: جارية لم تلبس المرققا ولم تذق من البقول الفستقا أي لم
تذق بدل البقول الفستق وقوله تعالى { بل هم عن ذكر ربهم معرضون } أي لا يعترفون
بنعمة الله عليهم وإحسانه إليهم بل يعرضون عن آياته وآلائه.
ثم قال { أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا { استفهام إنكار وتقرير. وتوبيخ أي ألهم آلهة
تمنعهم وتكلؤهم غيرنا؟ ليس الأمر كما توهموا لا ولا كما زعموا ولها قال { لا
يستطيعون نصر أنفسهم } أي هذه الآلهة التي استندوا إليها غير الله لا يستطيعون نصر
أنفسهم وقوله { ولا هم منا يصحبون { قال العوفي عن ابن عباس { لا هم منا يصحبون }
أي يجارون وقال قتادة لا يصحبون من الله بخير وقال غيره ولا هم منا يصحبون يمنعون.
. يقول تعالى مخبرا عن المشركين إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال أنهم
متعوا في الحياة الدنيا ونعموا وطال عليهم العمر فيما هم فيه قاعتقدوا أنهم على شيء
ثم قال واعظا لهم { أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها { اختلف المفسرون
في معناه وقد أسلفناه في سورة الرعد وأحسن ما فسر بقوله تعالى { ولقد أهلكنا ما
حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون { وقال الحسن البصري يعني بذلك ظهور
الإسلام على الكفر والمعنى أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه وإهلاكه
الأمم المكذبة والقرى الظالمة وإنجائه لعباده المؤمنين ولهذا قال { أفهم الغالبون }
يعني بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون الأرذلون وقوله { قل إنما أنذركم بالوحي }
أي إنما أنا مبلغ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال ليس ذلك إلا عما أوحاه
الله إلي ولكن لا يجدي هذا عمن أعمى الله بصيرته وختم على سمعه وقلبه ولهذا قال }
ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون } .
قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرونوقوله { قل إنما أنذركم
بالوحي } أي إنما أنا مبلغ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال ليس ذلك إلا
عما أوحاه الله إلي ولكن لا يجدي هذا عمن أعمى الله بصيرته وختم على سمعه وقلبه
ولهذا قال { ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون } .
وقوله { ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ولينا إنا كنا ظالمين } أي ولئن مس
هؤلاء المكذبين أدنى شيء من عذاب الله ليعترفون بذنوبهم وأنهم كانوا ظالمي أنفسهم
في الدنيا.
وقوله { ونضع الموازبن القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } أي ونضع الموازين
العدل ليوم القيامة الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد وإنما جمع باعتبار تعدد
الأعمال الموزونة فيه وقوله { فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا
بها وكفى بنا حاسبين كما قال تعالى { ولا يظلم ربك أحدا { وقال { إن الله لا يظلم
مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما { وقال لقمان { يا بني إنها
إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن
الله لطيف خبير { وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه
وسلم { كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان
الله وبحمده سبحان الله العظيم { وقال الإمام أحمد حدثنا إبراهيم بن إسحاق
الطالقاني حدثنا ابن المبارك عن ليث بن سعد عن عامر بن يحيى عن أبي عبد الرحمن
الحبلي قال سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
{ إن الله عز وجل يستخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه
تسعة وتسعين سجلا كل سجل مد البصر لم يقول أتنكرن هذا شيئا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟
قال لا يا رب قال أفلك عذر أو حسنة؟ قال فبهت الرجل فيقول لا يا رب فيقول بلى إن لك
عندنا حسنة واحدة لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أن محمدا رسول الله فيقول أحضروه فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟
فيقول إنك لا تظلم قال فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة قال فطاشت السجلات
ونقلت البطاقة قال ولا يثقل شيء مع بسم الله الرحمن الرحيم } ورواه الترمذي وابن
ماجه من حديث الليث بن سعد وقال الترمذي حسن غريب وقال الإمام أحمد حدثنا قتيبة
حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن
العاص قال قال رسول الله { صلى الله عليه وسلم }: { توضع الموازين يوم القيامة فيؤتى
بالرجل فيوضع في كفة ويوضع ما أُحصِيَ عليه فيمايل به الميزان قال فيبعث به إلى
النار قال فإذا أُدبر به إذا صائح من عند الرحمن عز وجل يقول لا تَعَجَّلُوا فإنه
قد بقي له فيؤتى ببطاقة فيها: { لا إله إلا الله } فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل به
الميزان { وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو نوح مرارا أنبأنا ليث بن سعد عن مالك
بن أنس عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رجلا من أصحاب رسول الله } صلى الله عليه
وسلم } جلس بين يديه فقال يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني
وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم فقال له رسول الله } صلى الله عليه وسلم } : { يحسب ما
خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك
ولا عليك وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك وإن كان عقابك إياهم فوق
ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قبلك { فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله { صلى
الله عليه وسلم } ويهتف فقال رسول الله } صلى الله عليه وسلم } { ما له لا يقرأ كتاب
الله { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من
خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين } { فقال الرجل يا رسول الله ما أجد شيئا خيرا من
فراق هؤلاء - يعني عبيده - إني أشهدك أنهم أحرار كلهم.
قد تقدم التنبيه على أن الله تعالى كثيرا ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد صلوات الله
وسلامه عليهما وبين كتابيهما ولهذا قال { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان { قال
مجاهد يعني الكتاب وقال أبو صالح التوراة وقال قتادة التوراة حلالها وحرامها وما
فرق الله بين الحق والباطل وقال ابن زيد يعني النصر وجامع القول في ذلك أن الكتب
السماوية مشتملة على التفرقة بين الحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد
والحلال والحرام وعلى ما يحصل نورا في القلوب وهداية وخوف وإنابة وخشية ولهذا قال }
الفرقان وضياء وذكرا للمتقين } أي تذكيرا لهم وعظة.
ثم وصفهم فقال { الذين يخشون ربهم بالغيب { كقوله { من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب
منيب { وقوله { إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير } { وهم من الساعة
مشفقون } أي خائفون وجلون.
ثم قال تعالى { وهذا ذكر مبارك أنزلناه } يعني القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل
من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد { أفأنتم له منكرون } أي أفتنكرونه وهو
في غاية الجلاء والظهور؟.
يخبر تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه آتاه رشده من قبل أي من صغره ألهمه
الحق والحجة على قومه كما قال تعالى { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه { وما
يذكر من الأخبار عنه في إدخال أبيه له في السرب وهو رضيع وأنه خرج بعد أيام فنظر
إلى الكوكب والمخلوقات فتبصر فيها وما قصه كثير من المفسرين وغيرهم فعامتها أحاديث
بني إسرائيل فما وافق منها الحق مما بأيدينا عن المعصوم قبلناه لموافقته الصحيح وما
خالف شيئا من ذلك رددناه وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة لا نصدقه ولا نكذبه بل
نجعله وفقا وما كان من هذا الضرب منها فقد رخص كثير من السلف في روايته وكثير من
ذلك ما لا فائدة فيه ولا حاصل له مما ينتفع به في الدين ولو كانت فائدته تعود على
المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة والذي نسلكه في هذا التفسير
الإعراض عن كثير من الأحاديث الإسرائيلية لما فيها من تضييع الزمان ولما اشتمل عليه
كثير منها من الكذب المروج عليهم فإنهم لا تفرقة عندهم بين صحيحها وسقيمها كما حرره
الأئمة الحفاظ المتقنون من هذه الأمة. والمقصود ههنا أن الله تعالى أخبر أنه قد آتى
إبراهيم رشده من قبل أي من قبل ذلك وقوله { وكنا به عالمين } أي وكان أهلا لذلك.
ثم قال { إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون { هذا هو الرشد
الذي أوتيه من صغره الإنكار على قومه في عبادة الأصنام من دون الله عز وجل فقال }
ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } أي معتكفون على عبادتها قال ابن أبي حاتم
حدثنا الحسن بن محمد الصباح حدثنا أبو معاوية الضرير حدثنا سعيد بن طريف عن الأصبغ
بن نباته قال: مر عليٌّ- رضي الله عنه- على قوم يلعبون بالشطرنج فقال ما هذه
التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفأ خير له من أن يمسها.
ولهذا قال { لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين } أي الكلام مع آبائكم الذين
احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم فأنتم وهم في ضلال على غير الطريق المستقيم فلما سفه
أحلامهم وضلل آباءهم واحتقر آلهتهم.
{ قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن } أي ربكم الذي لا إله غيره وهو الذي
خلق السموات والأرض وما حوت من المخلوقات الذي ابتدأ خلقهن وهو الخالق لجميع
الأشياء { وأنا على ذلكم من الشاهدبن } أي وأنا أشهد أنه لا إله غيره ولا رب سواه.
ثم أقسم الخليل قسما أسمعه بعض قومه ليكيدن أصنامهم أي ليحرضن على أذاهم وتكسيرهم
بعد أن يولوا مدبرين أي إلى عيدهم وكان لهم عيد يخرجون إليه قال السدي: لما اقترب
وقت ذلك العيد قال أبوه يا بني لو خرجت معنا إلى عيدك لأعجبك ديننا فخرج معهم فلما
كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض وقال إني سقيم فجعلوا يمرون عليه وهو صريع
فيقولون: مه فيقول إني سقيم فلما جاز عامتهم وبقي ضعفاؤهم قال { تالله لأكيدن
أصنامكم { فسمعه أولئك وقال ابن إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: لما خرج قوم
إبراهيم إلى عيدهم مروا عليه فقالوا يا إبراهيم ألا تخرج معنا؟ قال إني سقيم وقد
كان بالأمس قال { تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين { فسمعه ناس منهم.
وقوله { فجعلهم جذاذا } أي حطاما كسرها كلها إلا كبيرا لهم يعني إلا الصنم الكبير
عندهم كما قال { فراغ عليهم ضربا باليمين { وقوله { لعلهم إليه يرجعون { ذكروا أنه
وضع القدوم في يد كبيرهم لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غار لنفسه وأنف أن تعبد معه هذه
الأصنام الصغار فكسرها.
{ قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين } أي حين رجعوا وشاهدوا ما فعله
الخليل بأصنامهم من الإهانة والإذلال الدال على عدم إلهيتها لا وعلى سخافة عقول
عابديها { قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين } أي في صنيعه هذا.
{ قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم } أي قال من سمعه يحلف إنه ليكيدنهم
سمعنا فتى أي شابا يذكرهم يقال له إبراهيم قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عوف
حدثنا سعيد بن منصور حدثنا جرير بن عبد الحميد عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس قال:
ما بعث الله نبيا إلا شابا ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب وتلا هذه الآية { قالوا
سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم } .
وقوله { قالوا فأتوا به على أعين الناس } أي على رءوس الأشهاد في الملإ الأكبر
بحضرة الناس كلهم وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم عليه السلام أن يبين في هذا
المحفل العظيم كثرة جهلهم وقلة عقلهم في عبادة هذه الأصنام التي لا تدفع عن نفسها
ضرا ولا تملك لها نصرا فكيف يطلب منها شيء من ذلك؟ } .
{ فاسألوهم إن كانوا ينطقون { وإنما أراد بهذا أن يبادروا من تلقاء أنفسهم فيعترفوا
أنهم لا ينطقون وأن هذا لا يصدر عن هذا الصنم لأنه جماد. وفي الصحيحين من حديث هشام
بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله } صلى الله عليه وسلم } قال { إن
إبراهيم عليه السلام لم يكذب غير ثلاث: ثنتين في ذات الله قوله { بل فعله كبيرهم
هذا { وقوله { إني سقيم { قال وبينا هو يسير في أرض جبار من الجبابرة ومعه سارة إذ
نزل منزلا فأتى الجبار رجل فقال إنه قد نزل ههنا رجل بأرضك معه امرأة أحسن الناس
فأرسل إليه فجاء فقال ما هذه المرأة منك؟ قال أختي. قال فاذهب فأرسل بها إلي فانطلق
إلى سارة فقال إن هذا الجبار قد سألني عنك فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني عنده فإنك
أختى في كتاب الله وإنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك فانطلق بها إبراهيم ثم قام
يصلي فلما أن دخلت عليه فرآها أهوى إليها فتناولها فأخذ أخذا شديدا فقال ادعي الله
لي ولا أضرك فدعت له فأرسل فأهوى إليها فتناولها فأخذ بمثلها أو أشد ففعل ذلك
الثالثة فأخذ فذكر مثل المرتين الأوليين فقال ادعي الله فلا أضرك فدعت له فأرسل ثم
دعا أدنى حجابه فقال إنك لم تأتني بإنسان ولكنك أتيتني بشيطان أخرجها وأعطها هاجر
فأخرجت وأعطيت هاجر فأقبلت فلما أحس إبراهيم بمجئيها انفتل من صلاته وقال مهيم؟
قالت كفى الله كيد الكافر الفاجر وأخد مني هاجر { قال محمد بن سيربن فكان أبو هريرة
إذا حدث بهذا الحديث قال تلك أمكم يا بني ماء السماء.
يقول تعالى مخبرا عن قوم إبراهيم حين قال لهم ما قال { فرجعوا إلى أنفسهم { أي
بالملامة في عدم احترازهم وحراستهم لآلهتهم فقالوا { إنكم أنتم الظالمون } أي في
ترككم لها مهملة لا حافظ عندها } .
ثم نكسوا على رءوسهم } أي ثم أطرقوا في الأرض فقالوا { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون }
قال قتادة أدركت القومَ حيرةُ سوءٍ فقالوا { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون { وقال السدي
{ ثم نكسوا على رءوسهم } أي في الفتنة وقال ابن زيد أي في الرأي وقول قتادة أظهر في
المعنى لأنهم إنما فعلوا ذلك حيرة وعجزا ولهذا قالوا له { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون
{ فكيف تقول لنا سلوهم إن كانوا ينطقون وأنت تعلم أنها لا تنطق فعندها قال لهم
إبراهيم لما اعترفوا بذلك } .