يجوز أن تكون }{ لا }{ زائدة , كما تقدم في }{ لا أقسم بيوم القيامة } [ القيامة : 1 ]
قاله الأخفش . أي أقسم ; لأنه قال : { بهذا البلد }{ وقد أقسم به في قوله : { وهذا
البلد الأمين } [ التين : 3 ] فكيف يجحد القسم به وقد أقسم به . قال الشاعر : تذكرت
ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع أي يتقطع , ودخل حرف }{ لا }{ صلة ومنه
قوله تعالى : { ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك } [ الأعراف : 12 ] بدليل قوله تعالى في
[ ص ] : { ما منعك أن تسجد } .[ ص : 75 ] . وقرأ الحسن والأعمش وابن كثير }{ لأقسم }
من غير ألف بعد اللام إثباتا . وأجاز الأخفش أيضا أن تكون بمعنى }{ ألا } . وقيل :
ليست بنفي القسم , وإنما هو كقول العرب : لا والله لا فعلت كذا , ولا والله ما كان
كذا , ولا والله لأفعلن كذا . وقيل : هي نفي صحيح والمعنى : لا أقسم بهذا البلد إذا
لم تكن فيه , بعد خروجك منه . حكاه مكي . ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : { لا }
رد عليهم . وهذا اختيار ابن العربي ; لأنه قال : وأما من قال إنها رد , فهو قول ليس
له رد ; لأنه يصح به المعنى , ويتمكن اللفظ والمراد . فهو رد لكلام من أنكر البعث ثم
ابتدأ القسم . وقال القشيري : قوله }{ لا }{ رد لما توهم الإنسان المذكور في هذه
السورة , المغرور بالدنيا . أي ليس الأمر كما يحسبه , من أنه لن يقدر عليه أحد , ثم
ابتدأ القسم . و }{ البلد } : هي مكة , أجمعوا عليه . أي أقسم بالبلد الحرام الذي أنت
فيه , لكرامتك علي وحبي لك . وقال الواسطي أي نحلف لك بهذا البلد الذي شرفته بمكانك
فيه حيا , وبركتك ميتا , يعني المدينة . والأول أصح ; لأن السورة نزلت بمكة باتفاق .
يعني في المستقبل مثل قوله تعالى : { إنك ميت وإنهم ميتون } . ومثله واسع في كلام
العرب . تقول لمن تعده الإكرام والحباء : أنت مكرم محبو . وهو في كلام الله واسع ;
لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال
, وأن تفسيره بالحال محال : أن السورة باتفاق مكية قبل الفتح . فروى منصور عن مجاهد
: { وأنت حل }{ قال : ما صنعت فيه من شيء فأنت في حل . وكذا قال ابن عباس : أحل له
يوم دخل مكة أن يقتل من شاء , فقتل ابن خطل ومقيس بن صبابة وغيرهما . ولم يحل لأحد
من الناس أن يقتل بها أحدا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروى السدي قال :
أنت في حل ممن قاتلك أن تقتله . وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : أحلت له ساعة من
نهار , ثم أطبقت وحرمت إلى يوم القيامة , وذلك يوم فتح مكة . وثبت عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - أنه قال : [ إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض , فهي حرام
إلى أن تقوم الساعة , فلم تحل لأحد قبلي , ولا تحل لأحد بعدي , ولم تحل لي إلا ساعة
من نهار ] الحديث . وقد تقدم في سورة }{ المائدة }{ ابن زيد : لم يكن بها أحد حلالا
غير النبي - صلى الله عليه وسلم - : وقيل : وأنت مقيم فيه وهو محلك . وقيل : وأنت
فيه محسن , وأنا عنك فيه راض . وذكر أهل اللغة أنه يقال : رجل حل وحلال ومحل , ورجل
حرام ومحل , ورجل حرام ومحرم . وقال قتادة : أنت حل به : لست بآثم . وقيل : هو ثناء
على النبي - صلى الله عليه وسلم - أي إنك غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك
ارتكابه , معرفة منك بحق هذا البيت لا كالمشركين الذين يرتكبون الكفر بالله فيه . أي
أقسم بهذا البيت المعظم الذي قد عرفت حرمته , فأنت مقيم فيه معظم له , غير مرتكب
فيه ما يحرم عليك . وقال شرحبيل بن سعد : { وأنت حل بهذا البلد }{ أي حلال أي هم
يحرمون مكة أن يقتلوا بها صيدا أو يعضدوا بها شجرة , ثم هم مع هذا يستحلون إخراجك
وقتلك .
قال مجاهد وقتادة والضحاك والحسن وأبو صالح : { ووالد }{ آدم : عليه السلام .{ وما
ولد }{ أي وما نسل من ولده . أقسم بهم ; لأنهم أعجب ما خلق الله تعالى على وجه الأرض
لما فيهم من البيان والنطق والتدبير , وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى . وقيل
: هو إقسام بآدم والصالحين من ذريته , وأما غير الصالحين فكأنهم بهائم . وقيل :
الوالد إبراهيم . وما ولد : ذريته قال أبو عمران الجوني . ثم يحتمل أنه يريد جميع
ذريته . ويحتمل أنه يريد المسلمين من ذريته . قال الفراء : وصلحت }{ ما }{ للناس كقوله
: { ما طاب لكم } [ النساء : 3 ] وكقوله : { وما خلق الذكر والأنثى } [ الليل : 3 ]
وهو الخالق للذكر والأنثى , وقيل : { ما }{ مع ما بعدها في موضع المصدر أي ووالد
وولادته كقوله تعالى : { والسماء وما بناها } . وقال عكرمة وسعيد بن جبير : { ووالد
{ يعني الذي يولد له , { وما ولد }{ يعني العاقر الذي لا يولد له وقاله ابن عباس . و
{ ما }{ على هذا نفي . وهو بعيد ولا يصح إلا بإضمار الموصول أي ووالد والذي ما ولد ,
وذلك لا يجوز عند البصريين . وقيل : هو عموم في كل والد وكل مولود قاله عطية العوفي
. وروي معناه عن ابن عباس أيضا . وهو اختيار الطبري . قال الماوردي : ويحتمل أن الوالد
النبي - صلى الله عليه وسلم - لتقدم ذكره , وما ولد أمته : لقوله عليه السلام : [
إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم ] . فأقسم به وبأمته بعد أن أقسم ببلده مبالغة في
تشريفه عليه السلام .
إلى هنا انتهى القسم وهذا جوابه . ولله أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته لتعظيمها , كما
تقدم . والإنسان هنا ابن آدم .{ في كبد }{ أي في شدة وعناء من مكابدة الدنيا . وأصل
الكبد الشدة . ومنه تكبد اللبن : غلظ وخثر واشتد . ومنه الكبد ; لأنه دم تغلظ واشتد
. ويقال : كابدت هذا الأمر : قاسيت شدته : قال لبيد : يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا
وقام الخصوم في كبد قال ابن عباس والحسن : { في كبد }{ أي في شدة ونصب . وعن ابن عباس
أيضا : في شدة من حمله وولادته ورضاعه ونبت أسنانه , وغير ذلك من أحواله . وروى
عكرمة عنه قال : منتصبا في بطن أمه . والكبد : الاستواء والاستقامة . فهذا امتنان
عليه في الخلقة . ولم يخلق الله جل ثناؤه دابة في بطن أمها إلا منكبة على وجهها إلا
ابن آدم , فإنه منتصب انتصابا وهو قول النخعي ومجاهد وغيرهما . ابن كيسان : منتصبا
رأسه في بطن أمه فإذا أذن الله أن يخرج من بطن أمه قلب رأسه إلى رجلي أمه . وقال
الحسن : يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة . وعنه أيضا : يكابد الشكر على السراء
ويكابد الصبر على الضراء ; لأنه لا يخلو من أحدهما . ورواه ابن عمر . وقال يمان : لم
يخلق الله خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم وهو مع ذلك أضعف الخلق . قال علماؤنا : أول
ما يكابد قطع سرته , ثم إذا قمط قماطا , وشد رباطا , يكابد الضيق والتعب , ثم يكابد
الارتضاع , ولو فاته لضاع , ثم يكابد نبت أسنانه , وتحرك لسانه , ثم يكابد الفطام ,
الذي هو أشد من اللطام , ثم يكابد الختان , والأوجاع والأحزان , ثم يكابد المعلم
وصولته , والمؤدب وسياسته , والأستاذ وهيبته , ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه ,
ثم يكابد شغل الأولاد , والخدم والأجناد , ثم يكابد شغل الدور , وبناء القصور , ثم
الكبر والهرم , وضعف الركبة والقدم , في مصائب يكثر تعدادها , ونوائب يطول إيرادها
, من صداع الرأس , ووجع الأضراس , ورمد العين , وغم الدين , ووجع السن , وألم الأذن
. ويكابد محنا في المال والنفس , مثل الضرب والحبس , ولا يمضي عليه يوم إلا يقاسي
فيه شدة , ولا يكابد إلا مشقة , ثم الموت بعد ذلك كله , ثم مساءلة الملك , وضغطة
القبر وظلمته ثم البعث والعرض على الله , إلى أن يستقر به القرار , إما في الجنة
وإما في النار قال الله تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في كبد } , فلو كان الأمر إليه
لما اختار هذه الشدائد . ودل هذا على أن له خالقا دبره , وقضى عليه بهذه الأحوال
فليمتثل أمره . وقال ابن زيد : الإنسان هنا آدم . وقوله : { في كبد }{ أي في وسط
السماء . وقال الكلبي : إن هذا نزل في رجل من بني جمح كان يقال له أبو الأشدين ,
وكان يأخذ الأديم العكاظي فيجعله تحت قدميه , فيقول : من أزالني عنه فله كذا
. فيجذبه عشرة حتى يتمزق ولا تزول قدماه وكان من أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم -
وفيه نزل }{ أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } [ البلد : 5 ] يعني : لقوته . وروي عن ابن
عباس .{ في كبد }{ أي شديدا , يعني شديد الخلق وكان من أشد رجال قريش . وكذلك ركانة
ابن هشام بن عبد المطلب , وكان مثلا في البأس والشدة . وقيل : { في كبد }{ أي جريء
القلب , غليظ الكبد , مع ضعف خلقته , ومهانة مادته . ابن عطاء : في ظلمة وجهل
. الترمذي : مضيعا ما يعنيه , مشتغلا بما لا يعنيه .
يَقُولُ أَهْلَكْتُ أي أنفقت . مَالًا لُبَدًا أي كثيرا مجتمعا . وقرأ أبو جعفر }
مالا لبدا }{ بتشديد الباء مفتوحة , على جمع لا بد مثل راكع وركع , وساجد وسجد ,
وشاهد وشهد , ونحوه . وقرأ مجاهد وحميد بضم الباء واللام مخففا , جمع لبود . الباقون
بضم اللام وكسرها وفتح الباء مخففا , جمع لبدة ولبدة , وهو ما تلبد يريد الكثرة
. وقد مضى في سورة }{ الجن }{ القول فيه .
أيحسب }{ أي أيظن .{ أن لم يره }{ أي أن لم يعاينه }{ أحد }{ بل علم الله عز وجل ذلك
منه , فكان كاذبا في قوله : أهلكت ولم يكن أنفقه . وروى أبو هريرة قال : يوقف العبد
, فيقال ماذا عملت في المال الذي رزقتك ؟ فيقول : أنفقته وزكيته . فيقال : كأنك إنما
فعلت ذلك ليقال سخي , فقد قيل ذلك . ثم يؤمر به إلى النار . وعن سعيد عن قتادة : إنك
مسئول عن مالك من أين جمعت ؟ وكيف أنفقت ؟ وعن ابن عباس قال : كان أبو الأشدين يقول
: أنفقت في عداوة محمد مالا كثيرا وهو في ذلك كاذب . وقال مقاتل : نزلت في الحارث بن
عامر بن نوفل , أذنب فاستفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يكفر . فقال :
لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات , منذ دخلت في دين محمد . وهذا القول منه يحتمل
أن يكون استطالة بما أنفق , فيكون طغيانا منه , أو أسفا عليه , فيكون ندما منه
. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقرأ }{ أيحسب }{ بضم السين في
الموضعين . وقال الحسن : يقول أتلفت مالا كثيرا , فمن يحاسبني به , دعني أحسبه . ألم
يعلم أن الله قادر على محاسبته , وأن الله عز وجل يرى صنيعه .
ولسانا }{ ينطق به .{ وشفتين }{ يستر بهما ثغره . والمعنى : نحن فعلنا ذلك , ونحن
نقدر على أن نبعثه ونحصي عليه ما عمله . وقال أبو حازم : قال النبي - صلى الله عليه
وسلم - : ( إن الله تعالى قال : يا ابن آدم , إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك , فقد
أعنتك عليه بطبقين , فأطبق وإن نازعك بصرك فيما حرمت عليك , فقد أعنتك عليه بطبقين
, فأطبق وإن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك , فقد أعنتك عليه بطبقين , فأطبق )
. والشفة : أصلها شفهة , حذفت منها الهاء , وتصغيرها : شفيهة , والجمع : شفاه . ويقال
: شفهات وشفوات , والهاء أقيس , والواو أعم , تشبيها بالسنوات . وقال الأزهري : يقال
هذه شفة في الوصل وشفه , بالتاء والهاء . وقال قتادة : نعم الله ظاهرة , يقررك بها
حتى تشكر .
يعني الطريقين : طريق الخير وطريق الشر . أي بيناهما له بما أرسلناه من الرسل
. والنجد . الطريق في ارتفاع . وهذا قول ابن عباس وابن مسعود وغيرهما . وروى قتادة قال
: ذكر لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : ( يا أيها الناس , إنما هما
النجدان : نجد الخير , ونجد الشر , فلم تجعل نجد الشر أحب إليك من نجد الخير )
. وروي عن عكرمة قال : النجدان : الثديان . وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك , وروي عن
ابن عباس وعلي - رضي الله عنهما ; لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه . فالنجد :
العلو , وجمعه نجود ومنه سميت }{ نجد } , لارتفاعها عن انخفاض تهامة . فالنجدان :
الطريقان العاليان . قال امرؤ القيس : فريقان منهم جازع بطن نخلة وآخر منهم قاطع نجد
كبكب .
أي فهلا أنفق ماله الذي يزعم أنه أنفقه في عداوة محمد , هلا أنفقه لاقتحام العقبة
فيأمن والاقتحام : الرمي بالنفس في شيء من غير روية يقال منه : قحم في الأمر قحوما
: أي رمى بنفسه فيه من غير روية . وقحم الفرس فارسه . تقحيما على وجهه : إذا رماه
. وتقحيم النفس في الشيء : إدخالها فيه من غير روية . والقحمة بالضم المهلكة , والسنة
الشديدة . يقال : أصابت الأعراب القحمة : إذا أصابهم قحط , فدخلوا الريف . والقحم :
صعاب الطريق . وقال الفراء والزجاج : وذكر }{ لا }{ مرة واحدة , والعرب لا تكاد تفرد }
لا }{ مع الفعل الماضي في مثل هذا الموضع , حتى يعيدوها في كلام آخر كقوله تعالى : { فلا صدق ولا صلى } [ القيامة : 31 ] { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } . وإنما
أفردوها لدلالة آخر الكلام على معناه فيجوز أن يكون قوله : { ثم كان من الذين آمنوا
" [ البلد : 17 ] قائما مقام التكرير كأنه قال : فلا اقتحم العقبة ولا آمن . وقيل :
هو جار مجرى الدعاء كقوله : لا نجا ولا سلم . وقال : معنى }{ فلا اقتحم العقبة }{ أي
فلم يقتحم العقبة , كقول زهير : وكان طوى كشحا على مستكنة فلا هو أبداها ولم يتقدم
أي فلم يبدها ولم يتقدم . وكذا قال المبرد وأبو علي : { لا } : بمعنى لم . وذكره
البخاري عن مجاهد . أي فلم يقتحم العقبة في الدنيا , فلا يحتاج إلى التكرير . ثم فسر
العقبة وركوبها فقال }{ فك رقبة }{ وكذا وكذا فبين وجوها من القرب المالية . وقال ابن
زيد وجماعة من المفسرين : معنى الكلام الاستفهام الذي معناه الإنكار تقديره : أفلا
اقتحم العقبة أو هلا اقتحم العقبة . يقول : هلا أنفق ماله في فك الرقاب , وإطعام
السغبان , ليجاوز به العقبة , فيكون خيرا له من إنفاقه في عداوة محمد - صلى الله
عليه وسلم - ثم قيل : اقتحام العقبة هاهنا ضرب مثل , أي هل تحمل عظام الأمور في
إنفاق ماله في طاعة ربه , والإيمان به . وهذا إنما يليق بقول من حمل }{ فلا اقتحم
العقبة }{ على الدعاء أي فلا نجا ولا سلم من لم ينفق ماله في كذا وكذا . وقيل : شبه
عظم الذنوب وثقلها وشدتها بعقبة , فإذا أعتق رقبة وعمل صالحا , كان مثله كمثل من
اقتحم العقبة , وهي الذنوب التي تضره وتؤذيه وتثقله . قال ابن عمر : هذه العقبة جبل
في جهنم . وعن أبي رجاء قال : بلغنا أن العقبة مصعدها سبعة آلاف سنة , ومهبطها سبعة
آلاف سنة . وقال الحسن وقتادة : هي عقبة شديدة في النار دون الجسر , فاقتحموها بطاعة
الله . وقال مجاهد والضحاك والكلبي : هي الصراط يضرب على جهنم كحد السيف , مسيرة
ثلاثة آلاف سنة , سهلا وصعودا وهبوطا . واقتحامه على المؤمن كما بين صلاة العصر إلى
العشاء . وقيل : اقتحامه عليه قدر ما يصلي صلاة المكتوبة . وروي عن أبي الدرداء أنه
قال : إن وراءنا عقبة , أنجى الناس منها أخفهم حملا . وقيل : النار نفسها هي العقبة
. فروى أبو رجاء عن الحسن قال : بلغنا أنه ما من مسلم يعتق رقبة إلا كانت فداءه من
النار . وعن عبد الله بن عمر قال : من أعتق رقبة أعتق الله عز وجل بكل عضو منها عضوا
منه . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة , عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : [ من
أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار , حتى فرجه بفرجه ] . وفي
الترمذي عن أبي أمامة وغيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : [ أيما
امرئ مسلم أعتق امرأ مسلما , كان فكاكه من النار , يجزي كل عضو منه عضوا منه ,
وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة , كانت فكاكها من النار , يجزي كل عضو منها
عضوا منها ] . قال : هذا حديث حسن صحيح غريب . وقيل : العقبة خلاصه من هول العرض
. وقال قتادة وكعب : هي نار دون الجسر . وقال الحسن : هي والله عقبة شديدة : مجاهدة
الإنسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان . وأنشد بعضهم : إني بليت بأربع يرمينني بالنبل قد
نصبوا علي شراكا إبليس والدنيا ونفسي والهوى من أين أرجو بينهن فكاكا يا رب ساعدني
بعفو إنني أصبحت لا أرجو لهن سواكا .
فيه حذف , أي وما أدراك ما اقتحام العقبة . وهذا تعظيم لالتزام أمر الدين وقال سفيان
ابن عيينة : كل شيء قال فيه }{ وما أدراك }{ ؟ فإنه أخبر به , وكل شيء قال فيه }{ وما
يدريك }{ ؟ فإنه لم يخبر به . والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليعلمه اقتحام
العقبة . قال القشيري : وحمل العقبة على عقبة جهنم بعيد إذ أحد في الدنيا لم يقتحم
عقبة جهنم إلا أن يحمل على أن المراد فهلا صير نفسه بحيث يمكنه اقتحام عقبة جهنم
غدا . واختار البخاري قول مجاهد : إنه لم يقتحم العقبة في الدنيا . قال ابن العربي :
وإنما اختار ذلك لأجل أنه قال بعد ذلك في الآية الثانية : { وما أدراك ما العقبة }
؟ ثم قال في الآية الثالثة : { فك رقبة } , وفي الآية الرابعة }{ أو إطعام في يوم ذي
مسغبة } , ثم قال في الآية الخامسة : { يتيما ذا مقربة } , ثم قال في الآية السادسة
: { أو مسكينا ذا متربة }{ فهذه الأعمال إنما تكون في الدنيا . المعنى : فلم يأت في
الدنيا بما يسهل عليه سلوك العقبة في الآخرة .
فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : { فك رقبة }{ فكها : خلاصها من الأسر . وقيل
: من الرق . وفي الحديث : [ وفك الرقبة أن تعين في ثمنها ] . من حديث البراء , وقد
تقدم في سورة }{ التوبة } . والفك : هو حل القيد والرق قيد . وسمي المرقوق رقبة ; لأنه
بالرق كالأسير المربوط في رقبته . وسمي عنقها فكا كفك الأسير من الأسر . قال حسان :
كم من أسير فككناه بلا ثمن وجز ناصية كنا مواليها وروى عقبة بن عامر الجهني أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قال : [ من أعتق رقبة مؤمنة كانت فداءه من النار ] قال
الماوردي : ويحتمل ثانيا أنه أراد فك رقبته وخلاص نفسه , باجتناب المعاصي , وفعل
الطاعات ولا يمتنع الخبر من هذا التأويل , وهو أشبه بالصواب . الثانية : قوله تعالى
: { رقبة }{ قال أصبغ : الرقبة الكافرة ذات الثمن أفضل في العتق من الرقبة المؤمنة
القليلة الثمن لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل أي الرقاب أفضل ؟ قال : [
أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ] . ابن العربي : والمراد في هذا الحديث : من
المسلمين بدليل قوله عليه السلام : [ من أعتق امرأ مسلما ] و [ من أعتق رقبة مؤمنة
] . وما ذكره أصبغ وهلة وإنما نظر إلى تنقيص المال , والنظر إلى تجريد المعتق
للعبادة , وتفريغه للتوحيد , أولى . الثالثة : العتق والصدقة من أفضل الأعمال . وعن
أبي حنيفة : أن العتق أفضل من الصدقة . وعند صاحبيه الصدقة أفضل . والآية أدل على قول
أبي حنيفة لتقديم العتق على الصدقة . وعن الشعبي في رجل عنده فضل نفقة : أيضعه في ذي
قرابة أو يعتق رقبة ؟ قال : الرقبة أفضل ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
[ من فك رقبة فك الله بكل عضو منها عضوا من النار ] .
أي مجاعة . والسغب : الجوع . والساغب الجائع . وقرأ الحسن }{ أو إطعام في يوم ذا مسغبة
{ بالألف في }{ ذا } - وأنشد أبو عبيدة : فلو كنت جارا يا ابن قيس بن عاصم لما بت
شبعانا وجارك ساغبا وإطعام الطعام فضيلة , وهو مع السغب الذي هو الجوع أفضل . وقال
النخعي في قوله تعالى : { أو إطعام في يوم ذي مسغبة }{ قال : في يوم عزيز فيه الطعام
. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : [ من موجبات الرحمة إطعام المسلم
السغبان ] .
أي قرابة . يقال : فلان ذو قرابتي وذو مقربتي . يعلمك أن الصدقة على القرابة أفضل
منها على غير القرابة , كما أن الصدقة على اليتيم الذي لا كافل له أفضل من الصدقة
على اليتيم الذي يجد من يكفله . وأهل اللغة يقولون : سمي يتيما لضعفه . يقال : يتم
الرجل يتما : إذا ضعف . وذكروا أن اليتيم في الناس من قبل الأب . وفي البهائم من قبل
الأمهات . وقد مضى في سورة }{ البقرة }{ مستوفى , وقال بعض أهل اللغة : اليتيم الذي
يموت أبواه . وقال قيس بن الملوح : إلى الله أشكو فقد ليلى كما شكا إلى الله فقد
الوالدين يتيم .
أي لا شيء له , حتى كأنه قد لصق بالتراب من الفقر , ليس له مأوى إلا التراب . قال
ابن عباس : هو المطروح على الطريق , الذي لا بيت له . مجاهد : هو الذي لا يقيه من
التراب لباس ولا غيره . وقال قتادة : إنه ذو العيال . عكرمة : المديون . أبو سنان : ذو
الزمانة . ابن جبير : الذي ليس له أحد . وروى عكرمة عن ابن عباس : ذو المتربة البعيد
التربة يعني الغريب البعيد عن وطنه . وقال أبو حامد الخارزنجي : المتربة هنا : من
التريب وهي شدة الحال . يقال ترب : إذا افتقر . قال الهذلي : وكنا إذا ما الضيف حل
بأرضنا سفكنا دماء البدن في تربة الحال وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي : { فك }
بفتح الكاف , على الفعل الماضي .{ رقبة }{ نصبا لكونها مفعولا }{ أو أطعم }{ بفتح
الهمزة و نصب الميم , من غير ألف , على الفعل الماضي أيضا لقوله : { ثم كان من
الذين آمنوا }{ فهذا أشكل ب }{ فك أو إطعام } . وقرأ الباقون : { فك }{ رفعا , على أنه
مصدر فككت .{ رقبة }{ خفض بالإضافة .{ أو إطعام }{ بكسر الهمزة وألف ورفع الميم
وتنوينها على المصدر أيضا . واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ; لأنه تفسير لقوله تعالى :
{ وما أدراك ما العقبة }{ ؟ ثم أخبره فقال : { فك رقبة أو إطعام } . المعنى : اقتحام
العقبة : فك رقبة أو إطعام . ومن قرأ بالنصب فهو محمول على المعنى أي ولا فك رقبة ,
ولا أطعم في يوم ذا مسغبة فكيف يجاوز العقبة . وقرأ الحسن وأبو رجاء : { ذا مسغبة }
بالنصب على أنه مفعول }{ إطعام }{ أي يطعمون ذا مسغبة و }{ يتيما }{ بدل منه . الباقون }
ذي مسغبة }{ فهو صفة ل }{ يوم } . ويجوز أن يكون قراءة النصب صفة لموضع الجار والمجرور
; لأن قوله : { في يوم }{ ظرف منصوب الموضع , فيكون وصفا له على المعنى دون اللفظ .
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يعني : أنه لا يقتحم العقبة من فك رقبة , أو
أطعم في يوم ذا مسغبة , حتي يكون من الذين آمنوا أي صدقوا , فإن شرط قبول الطاعات
الإيمان بالله . فالإيمان بالله بعد الإنفاق لا ينفع , بل يجب أن تكون الطاعة مصحوبة
بالإيمان , قال الله تعالى في المنافقين : { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا
أنهم كفروا بالله وبرسوله } .[ التوبة : 54 ] . وقالت عائشة : يا رسول الله , إن ابن
جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم , ويطعم الطعام , ويفك العاني , ويعتق الرقاب ,
ويحمل على إبله لله , فهل ينفعه ذلك شيئا ؟ قال : [ لا , إنه لم يقل يوما رب اغفر
لي خطيئتي يوم الدين ] . وقيل : { ثم كان من الذين آمنوا }{ أي فعل هذه الأشياء وهو
مؤمن , ثم بقي على إيمانه حتى الوفاة نظيره قوله تعالى : { وإني لغفار لمن تاب وآمن
وعمل صالحا ثم اهتدى } [ طه : 82 ] . وقيل : المعنى ثم كان من الذين يؤمنون بأن هذا
نافع لهم عند الله تعالى . وقيل : أتى بهذه القرب لوجه الله , ثم آمن بمحمد - صلى
الله عليه وسلم - وقد قال حكيم بن حزام بعدما أسلم , يا رسول الله , إنا كنا نتحنث
بأعمال في الجاهلية , فهل لنا منها شيء ؟ فقال عليه السلام : [ أسلمت على ما أسلفت
من الخير ] . وقيل : إن }{ ثم }{ بمعنى الواو أي وكان هذا المعتق الرقبة , والمطعم في
المسغبة , من الذين آمنوا . وَتَوَاصَوْا أي أوصى بعضهم بعضا . بِالصَّبْرِ أي بالصبر
على طاعة الله , وعن معاصيه وعلى ما أصابهم من البلاء والمصائب . وَتَوَاصَوْا
بِالْمَرْحَمَةِ بالرحمة على الخلق فإنهم إذا فعلوا ذلك رحموا اليتيم والمسكين .
أي الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم قاله محمد بن كعب القرظي وغيره . وقال يحيى بن سلام :
لأنهم ميامين على أنفسهم . ابن زيد : لأنهم أخذوا من شق آدم الأيمن . وقيل : لأن
منزلتهم عن اليمين قاله ميمون بن مهران .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا أي كفروا بالقرآن . هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ
أي يأخذون كتبهم بشمائلهم قاله محمد بن كعب . يحيى بن سلام : لأنهم مشائيم على
أنفسهم . ابن زيد : لأنهم أخذوا من شق آدم الأيسر . ميمون : لأن منزلتهم عن اليسار .
قلت : ويجمع هذه الأقوال أن يقال : إن أصحاب الميمنة أصحاب الجنة , وأصحاب المشأمة
أصحاب النار قال الله تعالى : { وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين , في سدر مخضود } ,
وقال : { وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال . في سموم وحميم } [ الواقعة : 41 - 42 ]
. وما كان مثله .
ومعنى }{ مؤصدة }{ أي مطبقة مغلقة . قال : تحن إلى جبال مكة ناقتي ومن دونها أبواب
صنعاء مؤصده وقيل : مبهمة , لا يدرى ما داخلها . وأهل اللغة يقولون : أوصدت الباب
وآصدته أي أغلقته . فمن قال أوصدت , فالاسم الوصاد , ومن قال آصدته , فالاسم الإصاد
. وقرأ أبو عمرو وحفص وحمزة ويعقوب والشيزري عن الكسائي }{ مؤصدة }{ بالهمز هنا , وفي
{ الهمزة } . الباقون بلا همز . وهما لغتان . وعن أبي بكر بن عياش قال : لنا إمام يهمز
{ مؤصدة } .
نهاية تفسير السورة - تفسير القرآن الكريم
End of Tafseer of The Surah - The Holy Quran Tafseer