قد تقدم القول في }{ الضحى } , والمراد به النهار لقوله : { والليل إذا سجى }{ فقابله
بالليل . وفي سورة ( الأعراف ){ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون
. أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون } [ الأعراف : 97 - 98 ] أي نهارا
. وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق : أقسم بالضحى الذي كلم الله فيه موسى , وبليلة
المعراج . وقيل : هي الساعة التي خر فيها السحرة سجدا . بيانه قوله تعالى : { وأن
يحشر الناس ضحى } [ طه : 59 ] . وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله : فيه إضمار ,
مجازه ورب الضحى .
سجا }{ معناه : سكن قاله قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة . يقال : ليلة ساجية أي
ساكنة . ويقال للعين إذا سكن طرفها : ساجية . يقال : سجا الليل يسجو سجوا : إذا سكن
. والبحر إذا سجا : سكن . قال الأعشى : فما ذنبنا أن جاش بحر ابن عمكم وبحرك ساج ما
يواري الدعامصا وقال الراجز : يا حبذا القمراء والليل ساج وطرق مثل ملاء النساج
وقال جرير : ولقد رمينك يوم رحن بأعين ينظرن من خلل الستور سواجي وقال الضحاك : { سجا }{ غطى كل شيء . قال الأصمعي : سجو الليل : تغطيته النهار مثلما يسجى الرجل
بالثوب . وقال الحسن : غشي بظلامه وقاله ابن عباس . وعنه : إذا ذهب . وعنه أيضا : إذا
أظلم . وقال سعيد بن جبير : أقبل وروي عن قتادة أيضا . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد :
{ سجا }{ استوى . والقول الأول أشهر في اللغة : { سجا }{ سكن أي سكن الناس فيه . كما
يقال : نهار صائم , وليل قائم . وقيل : سكونه استقرار ظلامه واستواؤه . ويقال : { والضحى . والليل إذا سجا } : يعني عباده الذين يعبدونه في وقت الضحى , وعباده الذين
يعبدونه بالليل إذا أظلم . ويقال : { الضحى } : يعني نور الجنة إذا تنور .{ والليل
إذا سجا } : يعني ظلمة الليل إذا أظلم . ويقال : { والضحى } : يعني النور الذي في
قلوب العارفين كهيئة النهار .{ والليل إذا سجا } : يعني السواد الذي في قلوب
الكافرين كهيئة الليل فأقسم الله عز وجل بهذه الأشياء .
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ هذا جواب القسم . وكان جبريل عليه السلام أبطأ على النبي -
صلى الله عليه وسلم - فقال المشركون : قلاه الله وودعه فنزلت الآية . وقال ابن جريج
: احتبس عنه الوحي اثني عشر يوما . وقال ابن عباس : خمسة عشر يوما . وقيل : خمسة
وعشرين يوما . وقال مقاتل : أربعين يوما . فقال المشركون : إن محمدا ودعه ربه وقلاه ,
ولو كان أمره من الله لتابع عليه , كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء . وفي
البخاري عن جندب بن سفيان قال : اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلم يقم
ليلتين أو ثلاثا فجاءت امرأة فقالت : يا محمد , إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك ,
لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث فأنزل الله عز وجل }{ والضحى . والليل إذا سجى . ما
ودعك ربك وما قلى } . وفي الترمذي عن جندب البجلي قال : كنت مع النبي - صلى الله
عليه وسلم - في غار فدميت إصبعه , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : [ هل أنت
إلا إصبع دميت , وفي سبيل الله ما لقيت ] قال : وأبطأ عليه جبريل فقال المشركون :
قد ودع محمد فأنزل الله تبارك وتعالى : { ما ودعك ربك وما قلى } . هذا حديث حسن صحيح
. لم يذكر الترمذي : { فلم يقم ليلتين أو ثلاثا }{ أسقطه الترمذي . وذكره البخاري ,
وهو أصح ما قيل في ذلك . والله أعلم . وقد ذكره الثعلبي أيضا عن جندب بن سفيان
البجلي , قال : رمي النبي صلى الله عليه وسلم - في إصبعه بحجر , فدميت , فقال : [
هل أنت إلا إصبع دميت , وفي سبيل الله ما لقيت ] فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم
الليل . فقالت له أم جميل امرأة أبي لهب : ما أرى شيطانك إلا قد تركك , لم أره قربك
منذ ليلتين أو ثلاث فنزلت }{ والضحى } . وروى عن أبي عمران الجوني , قال : أبطأ جبريل
على النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى شق عليه فجاء وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو
فنكت بين كتفيه , وأنزل عليه : { ما ودعك ربك وما قلى } . وقالت خولة - وكانت تخدم
النبي صلى الله عليه وسلم - : إن جروا دخل البيت , فدخل تحت السرير فمات , فمكث نبي
الله - صلى الله عليه وسلم - أياما لا ينزل عليه الوحي . فقال : [ يا خولة , ما حدث
في بيتي ؟ ما لجبريل لا يأتيني ] قالت خولة فقلت : لو هيأت البيت وكنسته فأهويت
بالمكنسة تحت السرير , فإذا جرو ميت , فأخذته فألقيته خلف الجدار فجاء نبي الله
ترعد لحياه - وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة - فقال : [ يا خولة دثريني ]
فأنزل الله هذه السورة . ولما نزل جبريل سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التأخر
فقال : [ أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة ] . وقيل : لما سألته اليهود
عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف قال : [ سأخبركم غدا ] . ولم يقل إن شاء الله
. فاحتبس عنه الوحي , إلى أن نزل جبريل عليه بقوله : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك
غدا إلا أن يشاء الله } [ الكهف : 23 ] فأخبره بما سئل عنه . وفي هذه القصة نزلت }
ما ودعك ربك وما قلى } . وقيل : إن المسلمين قالوا : يا رسول الله , ما لك لا ينزل
عليك الوحي ؟ فقال : [ وكيف ينزل علي وأنتم لا تنقون رواجبكم - وفي رواية براجمكم -
ولا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم ] . فنزل جبريل بهذه السورة فقال النبي -
صلى الله عليه وسلم - : [ ما جئت حتى اشتقت إليك ] فقال جبريل : [ وأنا كنت أشد
إليك شوقا , ولكني عبد مأمور ] ثم أنزل عليه }{ وما نتنزل إلا بأمر ربك } [ مريم :
64 ] .{ ودعك }{ بالتشديد : قراءة العامة , من التوديع , وذلك كتوديع المفارق . وروي
عن ابن عباس وابن الزبير أنهما قرآه }{ ودعك }{ بالتخفيف , ومعناه : تركك . قال : وثم
ودعنا آل عمرو وعامر فرائس أطراف المثقفة السمر واستعماله قليل . يقال : هو يدع كذا
, أي يتركه . قال المبرد محمد بن يزيد : لا يكادون يقولون ودع ولا وذر , لضعف الواو
إذا قدمت , واستغنوا عنها بترك . وَمَا قَلَى أي ما أبغضك ربك منذ أحبك . وترك الكاف
; لأنه رأس آية . والقلى : البغض فإن فتحت القاف مددت تقول : قلاه يقليه قلى وقلاء
. كما تقول : قريت الضيف أقريه قرى وقراء . ويقلاه : لغة طيئ . وأنشد ثعلب : أيام أم
الغمر لا نقلاها أي لا نبغضها . ونقلى أي نبغض . وقال : أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت وقال امرؤ القيس : ولست بمقلي الخلال ولا قال وتأويل الآية
: ما ودعك ربك وما قلاك . فترك الكاف ; لأنه رأس آية كما قال عز وجل : { والذاكرين
الله كثيرا والذاكرات } [ الأحزاب : 35 ] أي والذاكرات الله .
روى سلمة عن ابن إسحاق قال : { وللآخرة خير لك من الأولى }{ أي ما عندي في مرجعك إلي
يا محمد , خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا . وقال ابن عباس : أري النبي -
صلى الله عليه وسلم - ما يفتح الله على أمته بعده فسر بذلك فنزل جبريل بقوله : { وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى } .
قال ابن إسحاق : الفلج في الدنيا , والثواب في الآخرة . وقيل : الحوض والشفاعة . وعن
ابن عباس : ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك . رفعه الأوزاعي , قال : حدثني إسماعيل
بن عبيد الله , عن علي بن عبد الله بن عباس , عن أبيه قال : أري النبي - صلى الله
عليه وسلم - ما هو مفتوح على أمته , فسر بذلك فأنزل الله عز وجل }{ والضحى - إلى
قوله تعالى - ولسوف يعطيك ربك فترضى } , فأعطاه الله جل ثناؤه ألف قصر في الجنة ,
ترابها المسك في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم . وعنه قال : - رضي محمد ألا
يدخل أحد من أهل بيته النار . وقال السدي . وقيل : هي الشفاعة في جميع المؤمنين . وعن
علي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يشفعني الله
في أمتي حتى يقول الله سبحانه لي : رضيت يا محمد ؟ فأقول يا رب رضيت ) . وفي صحيح
مسلم عن , عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا قول الله
تعالى في إبراهيم : { فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } [ إبراهيم :
36 ] وقول عيسى : { إن تعذبهم فإنهم عبادك } [ المائدة : 118 ] , فرفع يديه وقال :
( اللهم أمتي أمتي ) وبكى . فقال الله تعالى لجبريل : ( اذهب إلى محمد , وربك أعلم ,
فسله ما يبكيك ) فأتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأل فأخبره . فقال الله
تعالى لجبريل : [ اذهب إلى محمد , فقل له : إن الله يقول لك : إنا سنرضيك في أمتك
ولا نسوءك ] . وقال علي - رضي الله عنه - لأهل العراق : إنكم تقولون إن أرجى آية في
كتاب الله تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله }
[ الزمر : 53 ] قالوا : إنا نقول ذلك . قال : ولكنا أهل البيت نقول : إن أرجى آية في
كتاب الله قوله تعالى : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } . وفي الحديث : لما نزلت هذه
الآية قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : [ إذا والله لا أرضى وواحد من أمتي في
النار ] .
عدد سبحانه مننه على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال : { ألم يجدك يتيما }
لا أب لك قد مات أبوك .{ فآوى }{ أي جعل لك مأوى تأوي إليه عند عمك أبي طالب , فكفلك
. وقيل لجعفر بن محمد الصادق : لم أوتم النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبويه ؟
فقال : لئلا يكون لمخلوق عليه حق . وعن مجاهد : هو من قول العرب : درة يتيمة إذا لم
يكن لها مثل . فمجاز الآية : ألم يجدك واحدا في شرفك لا نظير لك , فآواك الله بأصحاب
يحفظونك ويحوطونك .
أي غافلا عما يراد بك من أمر النبوة , فهداك : أي أرشدك . والضلال هنا بمعنى الغفلة
كقوله جل ثناؤه : { لا يضل ربي ولا ينسى } [ طه : 52 ] أي لا يغفل . وقال في حق نبيه
: { وإن كنت من قبله لمن الغافلين } [ يوسف : 3 ] . وقال قوم : { ضالا }{ لم تكن تدري
القرآن والشرائع , فهداك الله إلى القرآن , وشرائع الإسلام عن الضحاك وشهر بن حوشب
وغيرهما . وهو معنى قوله تعالى : { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } , على ما
بينا في سورة }{ الشورى } . وقال قوم : { ووجدك ضالا }{ أي في قوم ضلال , فهداهم الله
بك . هذا قول الكلبي والفراء . وعن السدي نحوه أي ووجد قومك في ضلال , فهداك إلى
إرشادهم . وقيل : { ووجدك ضالا }{ عن الهجرة , فهداك إليها . وقيل : { ضالا }{ أي ناسيا
شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح - فأذكرك كما قال تعالى
: { أن تضل إحداهما } [ البقرة : 282 ] . وقيل : ووجدك طالبا للقبلة فهداك إليها
بيانه : { قد نرى تقلب وجهك في السماء .. ." [ البقرة : 144 ] الآية . ويكون الضلال
بمعنى الطلب ; لأن الضال طالب . وقيل : ووجدك متحيرا عن بيان ما نزل عليك , فهداك
إليه فيكون الضلال بمعنى التحير ; لأن الضال متحير . وقيل : ووجدك ضائعا في قومك
فهداك إليه ويكون الضلال بمعنى الضياع . وقيل : ووجدك محبا للهداية , فهداك إليها
ويكون الضلال بمعنى المحبة . ومنه قوله تعالى : { قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم
" [ يوسف : 95 ] أي في محبتك . قال الشاعر : هذا الضلال أشاب مني المفرقا والعارضين
ولم أكن متحققا عجبا لعزة في اختيار قطيعتي بعد الضلال فحبلها قد أخلقا وقيل : { ضالا }{ في شعاب مكة , فهداك وردك إلى جدك عبد المطلب . قال ابن عباس : ضل النبي -
صلى الله عليه وسلم - وهو صغير في شعاب مكة , فرآه أبو جهل منصرفا عن أغنامه , فرده
إلى جده عبد المطلب فمن الله عليه بذلك , حين رده إلى جده على يدي عدوه . وقال سعيد
بن جبير : خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عمه أبي طالب في سفر , فأخذ إبليس
بزمام الناقة في ليلة ظلماء , فعدل بها عن الطريق , فجاء جبريل عليه السلام , فنفخ
إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الهند , ورده إلى القافلة فمن الله عليه بذلك . وقال
كعب : إن حليمة لما قضت حق الرضاع , جاءت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لترده
على عبد المطلب , فسمعت عند باب مكة : هنيئا لك يا بطحاء مكة , اليوم يرد إليك
النور والدين والبهاء والجمال . قالت : فوضعته لأصلح ثيابي , فسمعت هدة شديدة ,
فالتفت فلم أره , فقلت : معشر الناس , أين الصبي ؟ فقال : لم نر شيئا فصحت :
وامحمداه فإذا شيخ فان يتوكأ على عصاه , فقال : اذهبي إلى الصنم الأعظم , فإن شاء
أن يرده عليك فعل . ثم طاف الشيخ بالصنم , وقبل رأسه وقال : يا رب , لم تزل منتك على
قريش , وهذه السعدية تزعم أن ابنها قد ضل , فرده إن شئت . فانكب هبل على وجهه ,
وتساقطت الأصنام , وقالت : إليك عنا أيها الشيخ , فهلاكنا على يدي محمد . فألقى
الشيخ عصاه , وارتعد وقال : إن لابنك ربا لا يضيعه , فاطلبيه على مهل . فانحشرت قريش
إلى عبد المطلب , وطلبوه في جميع مكة , فلم يجدوه . فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعا ,
وتضرع إلى الله أن يرده , وقال : يا رب رد ولدي محمدا اردده ربي واتخذ عندي يدا يا
رب إن محمد لم يوجدا فشمل قومي كلهم تبددا فسمعوا مناديا ينادي من السماء : معاشر
الناس لا تضجوا , فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه , وإن محمدا بوادي تهامة , عند
شجرة السمر . فسار عبد المطلب هو وورقة بن نوفل , فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم -
قائم تحت شجرة , يلعب بالأغصان وبالورق . وقيل : { ووجدك ضالا }{ ليلة المعراج , حين
انصرف عنك جبريل وأنت لا تعرف الطريق , فهداك إلى ساق العرش . وقال أبو بكر الوراق
وغيره : { ووجدك ضالا } : تحب أبا طالب , فهداك إلى محبة ربك . وقال بسام بن عبد
الله : { ووجدك ضالا }{ بنفسك لا تدري من أنت , فعرفك بنفسك وحالك . وقال الجنيدي :
ووجدك متحيرا في بيان الكتاب , فعلمك البيان بيانه : { لتبين للناس ما نزل إليهم }
[ النحل : 44 ] الآية .{ لتبين لهم الذي اختلفوا فيه } [ النحل : 64 ] . وقال بعض
المتكلمين : إذا وجدت العرب شجرة منفردة في فلاة من الأرض , لا شجر معها , سموها
ضالة , فيهتدى بها إلى الطريق فقال الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - :
{ ووجدك ضالا }{ أي لا أحد على دينك , وأنت وحيد ليس معك أحد فهديت بك الخلق إلي .
قلت : هذه الأقوال كلها حسان , ثم منها ما هو معنوي , ومنها ما هو حسي . والقول
الأخير أعجب إلي ; لأنه يجمع الأقوال المعنوية . وقال قوم : إنه كان على جملة ما كان
القوم عليه , لا يظهر لهم خلافا على ظاهر الحال فأما الشرك فلا يظن به بل كان على
مراسم القوم في الظاهر أربعين سنة . وقال الكلبي والسدي : هذا على ظاهره أي وجدك
كافرا والقوم كفار فهداك . وقد مضى هذا القول والرد عليه في سورة }{ الشورى } . وقيل :
وجدك مغمورا بأهل الشرك , فميزك عنهم . يقال : ضل الماء في اللبن ومنه }{ أإذا ضللنا
في الأرض } [ السجدة : 10 ] أي لحقنا بالتراب عند الدفن , حتى كأنا لا نتميز من
جملته . وفي قراءة الحسن }{ ووجدك ضال فهدى }{ أي وجدك الضال فاهتدى بك وهذه قراءة على
التفسير . وقيل : { ووجدك ضالا }{ لا يهتدي إليك قومك , ولا يعرفون قدرك فهدى
المسلمين إليك , حتى آمنوا بك .
أي فقيرا لا مال لك .{ فأغنى }{ أي فأغناك بخديجة - رضي الله عنها يقال : عال الرجل
يعيل عيلة : إذا افتقر . وقال أحيحة بن الجلاح : فما يدري الفقير متى غناه وما يدري
الغني متى يعيل أي يفتقر . وقال مقاتل : فرضاك بما أعطاك من الرزق . وقال الكلبي :
قنعك بالرزق . وقال ابن عطاء : ووجدك فقير النفس , فأغنى قلبك . وقال الأخفش : وجدك
ذا عيال دليله }{ فأغنى } . ومنه قول جرير : الله أنزل في الكتاب فريضة لابن السبيل
وللفقير العائل وقيل : وجدك فقيرا من الحجج والبراهين , فأغناك بها . وقيل : أغناك
بما فتح لك من الفتوح , وأفاءه عليك من أموال الكفار . القشيري وفي هذا نظر ; لأن
السورة مكية , وإنما فرض الجهاد بالمدينة . وقراءة العامة }{ عائلا } . وقرأ ابن
السميقع }{ عيلا }{ بالتشديد مثل طيب وهين .
أي لا تسلط عليه بالظلم , ادفع إليه حقه , واذكر يتمك قال الأخفش . وقيل : هما لغتان
: بمعنى . وعن مجاهد }{ فلا تقهر }{ فلا تحتقر . وقرأ النخعي والأشهب العقيلي }{ تكهر }
بالكاف , وكذا هو في مصحف ابن مسعود . فعلى هذا يحتمل أن يكون نهيا عن قهره , بظلمه
وأخذ ماله . وخص اليتيم ; لأنه لا ناصر له غير الله تعالى فغلظ في أمره , بتغليظ
العقوبة على ظالمه . والعرب تعاقب بين الكاف والقاف . النحاس : وهذا غلط , إنما يقال
كهره : إذا اشتد عليه وغلظ . وفي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي , حين
تكلم في الصلاة برد السلام , قال : فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن
تعليما منه - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - فوالله ما كهرني , ولا ضربني ,
ولا شتمني .. . الحديث . وقيل : القهر الغلبة . والكهر : الزجر . ودلت الآية على اللطف
باليتيم , وبره والإحسان إليه حتى قال قتادة : كن لليتيم كالأب الرحيم . وروي عن أبي
هريرة أن رجلا شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قسوة قلبه فقال : ( إن أردت أن
يلين , فامسح رأس اليتيم , وأطعم المسكين ) . وفي الصحيح عن أبي هريرة : أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين ) . وأشار
بالسبابة والوسطى . ومن حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (
إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن , فيقول الله تعالى لملائكته : يا
ملائكتي , من ذا الذي أبكى هذا اليتيم الذي غيبت أباه في التراب , فتقول الملائكة
ربنا أنت أعلم , فيقول الله تعالى لملائكته : يا ملائكتي , اشهدوا أن من أسكته
وأرضاه ؟ أن أرضيه يوم القيامة ) . فكان ابن عمر إذا رأى يتيما مسح برأسه , وأعطاه
شيئا . وعن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ من ضم يتيما فكان في
نفقته , وكفاه مؤونته , كان له حجابا من النار يوم القيامة , ومن مسح برأس يتيم كان
له بكل شعرة حسنة ] . وقال أكثم بن صيفي : الأذلاء أربعة : النمام , والكذاب ,
والمديون , واليتيم .
أي لا تزجره فهو نهي عن إغلاظ القول . ولكن رده ببذل يسير , أو رد جميل , واذكر فقرك
قاله قتادة وغيره . وروي عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : [
لا يمنعن أحدكم السائل , وأن يعطيه إذا سأل , ولو رأى في يده قلبين من ذهب ] . وقال
إبراهيم بن أدهم : نعم القوم السؤال : يحملون زادنا إلى الآخرة . وقال إبراهيم
النخعي : السائل بريد الآخرة , يجيء إلى باب أحدكم فيقول : هل تبعثون إلى أهليكم
بشيء . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال : [ ردوا السائل ببذل يسير , أو رد
جميل , فإنه يأتيكم من ليس من الإنس ولا من الجن , ينظر كيف صنيعكم فيما خولكم الله
] . وقيل : المراد بالسائل هنا , الذي يسأل عن الدين أي فلا تنهره بالغلظة والجفوة ,
وأجبه برفق ولين قاله سفيان . قال ابن العربي : وأما السائل عن الدين فجوابه فرض على
العالم , على الكفاية كإعطاء سائل البر سواء . وقد كان أبو الدرداء ينظر إلى أصحاب
الحديث , ويبسط رداءه لهم , ويقول : مرحبا بأحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وفي حديث أبي هارون العبدي , عن أبي سعيد الخدري , قال : كنا إذا أتينا أبا سعيد
يقول : مرحبا بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قال : [ إن الناس لكم تبع وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون , فإذا
أتوكم فاستوصوا بهم خيرا ] . وفي رواية [ يأتيكم رجال من قبل المشرق ] .. . فذكره . و
{ اليتيم }{ و }{ السائل }{ منصوبان بالفعل الذي بعده وحق المنصوب أن يكون بعد الفاء ,
والتقدير : مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم , ولا تنهر السائل . وروي أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال : ( سألت ربي مسألة وددت أني لم أسألها : قلت يا رب اتخذت
إبراهيم خليلا , وكلمت موسى تكليما , وسخرت مع داود الجبال يسبحن , وأعطيت فلانا
كذا فقال عز وجل : ألم أجدك يتيما فآويتك ؟ ألم أجدك ضالا فهديتك ؟ ألم أجدك عائلا
فأغنيتك ؟ ألم أشرح لك صدرك ؟ ألم أوتك ما لم أوت أحدا قبلك : خواتيم سورة البقرة ,
ألم أتخذك خليلا , كما اتخذت إبراهيم خليلا ؟ قلت بلى يا رب ) .
أي انشر ما أنعم الله عليك بالشكر والثناء . والتحدث بنعم الله , والاعتراف بها شكر
. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد }{ وأما بنعمة ربك }{ قال بالقرآن . وعنه قال : بالنبوة
أي بلغ ما أرسلت به . والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والحكم عام له ولغيره
. وعن الحسن بن علي - رضي الله عنهما قال : إذا أصبت خيرا , أو عملت خيرا , فحدث به
الثقة من إخوانك . وعن عمرو بن ميمون قال : إذا لقي الرجل من إخوانه من يثق به ,
يقول له : رزق الله من الصلاة البارحة وكذا وكذا . وكان أبو فراس عبد الله بن غالب
إذا أصبح يقول : لقد رزقني الله البارحة كذا , قرأت كذا , وصليت كذا , وذكرت الله
كذا , وفعلت كذا . فقلنا له : يا أبا فراس , إن مثلك لا يقول هذا قال يقول الله
تعالى : { وأما بنعمة ربك فحدث }{ وتقولون أنتم : لا تحدث بنعمة الله ونحوه عن أيوب
السختياني وأبي رجاء العطاردي - رضي الله عنهم . وقال بكر بن عبد الله المزني قال
النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من أعطي خيرا فلم ير عليه , سمي بغيض الله ,
معاديا لنعم الله ) . وروى الشعبي عن النعمان بن بشير قال : قال النبي - صلى الله
عليه وسلم - : [ من لم يشكو القليل , لم يشكر الكثير , ومن لم يشكر الناس , لم يشكر
الله , والتحدث بالنعم شكر , وتركه كفر , والجماعة رحمة , والفرقة عذاب ] . وروى
النسائي عن مالك بن نضلة الجشمي قال : كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
جالسا , فرآني رث الثياب فقال : [ ألك مال ؟ ] قلت : نعم , يا رسول الله , من كل
المال . قال : [ إذا آتاك الله مالا فلير أثره عليك ] . وروى أبو سعيد الخدري عن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : [ إن الله جميل يحب الجمال , ويحب أن يرى
أثر نعمته على عبده ] . فصل : يكبر القارئ في رواية البزي عن ابن كثير - وقد رواه
مجاهد عن ابن عباس , عن أبي بن كعب , عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا بلغ
آخر }{ والضحى }{ كبر بين كل سورة تكبيرة , إلى أن يختم القرآن , ولا يصل آخر السورة
بتكبيره بل يفصل بينهما بسكتة . وكأن المعنى في ذلك أن الوحي تأخر عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - أياما , فقال ناس من المشركين : قد ودعه صاحبه وقلاه فنزلت هذه
السورة فقال : [ الله أكبر ] . قال مجاهد : قرأت على ابن عباس , فأمرني به , وأخبرني
به عن أبي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يكبر في قراءة الباقين ; لأنها
ذريعة إلى الزيادة في القرآن . قلت : القرآن ثبت نقلا متواترا سوره وآياته وحروفه
لا زيادة فيه ولا نقصان فالتكبير على هذا ليس بقرآن . فإذا كان بسم الله الرحمن
الرحيم المكتوب في المصحف بخط المصحف ليس بقرآن , فكيف بالتكبير الذي هو ليس بمكتوب
. أما أنه ثبت سنة بنقل الآحاد , فاستحبه ابن كثير , لا أنه أوجبه فخطأ من تركه . ذكر
الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ في كتاب المستدرك له على البخاري
ومسلم : حدثنا أبو يحيى محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن يزيد , المقرئ
الإمام بمكة , في المسجد الحرام , قال : حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي بن زيد
الصائغ , قال : حدثنا أحمد بن محمد بن القاسم بن أبي بزة : سمعت عكرمة بن سليمان
يقول : قرأت على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين , فلما بلغت }{ والضحى }{ قال لي كبر
عند خاتمة كل سورة حتى تختم , فإني قرأت على عبد الله بن كثير فلما بلغت }{ والضحى }
قال : كبر حتى تختم . وأخبره عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد , وأخبره مجاهد أن
ابن عباس أمره بذلك , وأخبره ابن عباس أن أبي بن كعب أمره بذلك , وأخبره أبي بن كعب
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره بذلك . هذا حديث صحيح ولم يخرجاه .
نهاية تفسير السورة - تفسير القرآن الكريم
End of Tafseer of The Surah - The Holy Quran Tafseer