الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ سورة إبراهيم مكية كلها في قول الحسن وعكرمة
وجابر . وقال ابن عباس وقتادة : إلا آيتين منها مدنيتين وقيل : ثلاث , نزلت في الذين
حاربوا الله ورسوله وهي قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا } [
إبراهيم : 28 ] إلى قوله : { فإن مصيركم إلى النار } [ إبراهيم : 30 ] . قال النحاس
: قرئ على ابن جعفر أحمد بن شعيب بن علي بن الحسين بن حريث قال : أخبرنا علي بن
الحسين عن أبيه عن يزيد أن عكرمة حدثه عن ابن عباس : الر , وحم , ونون , حروف
الرحمن مفرقة ; فحدثت به الأعمش فقال : عندك أشباه هذا ولا تخبرني به ؟ وعن ابن
عباس أيضا قال : { الر }{ أنا الله أرى . قال النحاس : ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا
القول ; لأن سيبويه قد حكى عن العرب وأنشد : بالخير خيرات وإن شرا فا ولا أريد الشر
إلا أن تا وقال الحسن وعكرمة }{ الر }{ قسم . وقال سعيد عن قتادة : { الر }{ اسم السورة
; قال : وكذلك كل هجاء في القرآن . وقال مجاهد : هي فواتح السور . وقال محمد بن يزيد
: هي تنبيه , وكذا حروف التهجي . وقرئ }{ الر }{ من غير إمالة . وقرئ بالإمالة لئلا
تشبه ما ولا من الحروف . لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ أي
بالكتاب , وهو القرآن , أي بدعائك إليه .{ من الظلمات إلى النور }{ أي من ظلمات
الكفر والضلالة والجهل إلى نور الإيمان والعلم ; وهذا على التمثيل ; لأن الكفر
بمنزلة الظلمة ; والإسلام بمنزلة النور . وقيل : من البدعة إلى السنة , ومن الشك إلى
اليقين , والمعنى . متقارب . بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بتوفيقه إياهم ولطفه بهم , والباء
في }{ بإذن ربهم }{ متعلقة ب }{ تخرج }{ وأضيف الفعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه
الداعي والمنذر الهادي . إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ هو كقولك : خرجت إلى
زيد العاقل الفاضل من غير واو , لأنهما شيء واحد ; والله هو العزيز الذي لا مثل له
ولا شبيه . وقيل : { العزيز }{ الذي لا يغلبه غالب . وقيل : { العزيز }{ المنيع في ملكه
وسلطانه .{ الحميد }{ أي المحمود بكل لسان , والممجد في كل مكان على كل حال . وروى
مقسم عن ابن عباس قال : كان قوم آمنوا بعيسى ابن مريم , وقوم كفروا به , فلما بعث
محمد صلى الله عليه وسلم آمن به الذين كفروا بعيسى , وكفر الذين آمنوا بعيسى ;
فنزلت هذه الآية , ذكره الماوردي .
اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أي ملكا وعبيدا
واختراعا وخلقا . وقرأ نافع وابن عامر وغيرهما : { الله }{ بالرفع على الابتداء }
الذي }{ خبره . وقيل : { الذي }{ صفة , والخبر مضمر ; أي الله الذي له ما في السموات
وما في الأرض قادر على كل شيء . الباقون بالخفض نعتا للعزيز الحميد فقدم النعت على
المنعوت ; كقولك : مررت بالظريف زيد . وقيل : على البدل من }{ الحميد }{ وليس صفة ;
لأن اسم الله صار كالعلم فلا يوصف ; كما لا يوصف بزيد وعمرو , بل يجوز أن يوصف به
من حيث المعنى ; لأن معناه أنه المنفرد بقدرة الإيجاد . وقال أبو عمرو : والخفض على
التقديم والتأخير , مجازه : إلى صراط الله العزيز الحميد الذي له ما في السموات وما
في الأرض . وكان يعقوب إذا وقف على }{ الحميد }{ رفع , وإذا وصل خفض على النعت . قال
ابن الأنباري : من خفض وقف على }{ وما في الأرض } . وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ
عَذَابٍ شَدِيدٍ قد تقدم معنى الويل في }{ البقرة }{ وقال الزجاج : هي كلمة تقال
للعذاب والهلكة .{ من عذاب شديد }{ أي من جهنم .
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ أي يختارونها على الآخرة , والكافرون يفعلون ذلك . ف }{ الذين }
في موضع خفض صفة لهم . وقيل : في موضع رفع خبر ابتداء مضمر , أي هم الذين , وقيل : { الذين يستحبون }{ مبتدأ وخبره .{ أولئك } . وكل من آثر الدنيا وزهرتها , واستحب
البقاء في نعيمها على النعيم في الآخرة , وصد عن سبيل الله - أي صرف الناس عنه وهو
دين الله , الذي جاءت به الرسل , في قول ابن عباس وغيره - فهو داخل في هذه الآية ;
وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون ) وهو
حديث صحيح . وما أكثر ما هم في هذه الأزمان , والله المستعان . وقيل : { يستحبون }{ أي
يلتمسون الدنيا من غير وجهها ; لأن نعمة الله لا تلتمس إلا بطاعته دون معصيته
. وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أي يطلبون لها زيغا وميلا لموافقة أهوائهم , وقضاء حاجاتهم
وأغراضهم . والسبيل تذكر وتؤنث . والعوج بكسر العين في الدين والأمر والأرض وفي كل ما
لم يكن قائما ; وبفتح العين في كل ما كان قائما , كالحائط والرمح ونحوه ; وقد تقدم
في }{ آل عمران }{ وغيرها . أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ أي ذهاب عن الحق بعيد عنه .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ قوله
تعالى }{ وما أرسلنا من رسول }{ أي قبلك يا محمد }{ إلا بلسان قومه }{ أي بلغتهم ,
ليبينوا لهم أمر دينهم ; ووحد اللسان وإن أضافه إلى القوم لأن المراد اللغة ; فهي
اسم جنس يقع على القليل والكثير ; ولا حجة للعجم وغيرهم في هذه الآية ; لأن كل من
ترجم له ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ترجمة يفهمها لزمته الحجة , وقد قال
الله تعالى : { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا } [ سبأ : 28 ] . وقال صلى
الله عليه وسلم : ( أرسل كل نبي إلى أمته بلسانها وأرسلني الله إلى كل أحمر وأسود
من خلقه ) . وقال صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه
الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ) . خرجه
مسلم , وقد تقدم . فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ رد على
القدرية في نفوذ المشيئة , وهو مستأنف , وليس بمعطوف على }{ ليبين }{ لأن الإرسال
إنما وقع للتبيين لا للإضلال . ويجوز النصب في }{ يضل }{ لأن الإرسال صار سببا للإضلال
; فيكون كقوله : { ليكون لهم عدوا وحزنا } [ القصص : 8 ] وإنما صار الإرسال سببا
للإضلال لأنهم كفروا به لما جاءهم ; فصار كأنه سبب لكفرهموَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ }{ والعزيز }{ معناه المنيع الذي لا ينال ولا يغالب . وقال ابن كيسان :
معناه الذي لا يعجزه شيء ; دليله : { وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا
في الأرض } .[ فاطر : 44 ] . الكسائي : { العزيز }{ الغالب ; ومنه قوله تعالى : { وعزني في الخطاب } [ ص : 23 ] وفي المثل : { من عز بز }{ أي من غلب سلب . وقيل : { العزيز }{ الذي لا مثل له ; بيانه }{ ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] . وقد زدنا هذا
المعنى بيانا في اسمه العزيز في كتاب }{ الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى }{ الحكيم
{ معناه الحاكم , وبينهما مزيد المبالغة . وقيل معناه المحكم ويجيء الحكيم على هذا
من صفات الفعل , صرف عن مفعل إلى فعيل , كما صرف عن مسمع إلى سميع ومؤلم إلى أليم ,
قاله ابن الأنباري . وقال قوم : المانع من الفساد , ومنه سميت حكمة اللجام ; لأنها
تمنع الفرس من الجري والذهاب في غير قصد . قال جرير : أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني
أخاف عليكم أن أغضبا أي امنعوهم من الفساد . وقال زهير : القائد الخيل منكوبا
دوابرها قد أحكمت حكمات القد الأبقا القد : الجلد . والأبق : القنب . والعرب تقول :
أحكم اليتيم عن كذا وكذا , يريدون منعه . والسورة المحكمة : الممنوعة من التغيير وكل
التبديل , وأن يلحق بها ما يخرج عنها , ويزاد عليها ما ليس منها , والحكمة من هذا ;
لأنها تمنع صاحبها من الجهل . ويقال : أحكم الشيء إذا أتقنه ومنعه من الخروج عما
يريد . فهو محكم وحكيم على التكثير .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أي بحجتنا وبراهيننا ; أي بالمعجزات
الدالة على صدقه . قال مجاهد : هي التسع الآياتأَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ نظيره قوله تعالى : لنبينا عليه السلام أول السورة : { لتخرج الناس من الظلمات إلى النور }{ وقيل : { أن }{ هنا بمعنى أي , كقوله تعالى : { وانطلق الملأ منهم أن امشوا } [ ص : 6 ] أي امشوا . وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ
اللهِ أي قل لهم قولا يتذكرون به أيام الله تعالى . قال ابن عباس ومجاهد وقتادة :
بنعم الله عليهم ; وقاله أبي بن كعب ورواه مرفوعا ; أي بما أنعم الله عليهم من
النجاة من فرعون ومن التيه إلى سائر النعم , وقد تسمى النعم الأيام ; ومنه قول عمرو
بن كلثوم : وأيام لنا غر طوال وعن ابن عباس أيضا ومقاتل : بوقائع الله في الأمم
السالفة ; يقال : فلان عالم بأيام العرب , أي بوقائعها . قال ابن زيد : يعني الأيام
التي انتقم فيها من الأمم الخالية ; وكذلك روى ابن وهب عن مالك قال : بلاؤه . وقال
الطبري : وعظهم بما سلف في الأيام الماضية لهم , أي بما كان في أيام الله من النعمة
والمحنة ; وقد كانوا عبيدا مستذلين ; واكتفى بذكر الأيام عنه لأنها كانت معلومة
عندهم . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول : ( بينا موسى عليه السلام في قومه يذكرهم بأيام الله , وأيام الله
بلاؤه ونعماؤه ) وذكر حديث الخضر ; ودل هذا على جواز الوعظ المرقق للقلوب , المقوي
لليقين . الخالي من كل بدعة , والمنزه عن كل ضلالة وشبهة . إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي في التذكير بأيام الله }{ لآيات }{ أي دلالات .{ لكل
صبار }{ أي كثير الصبر على طاعة الله , وعن معاصيه .{ شكور }{ لنعم الله . وقال قتادة
: هو العبد ; إذا أعطي شكر , وإذا ابتلي صبر . وروي عن النبي أنه قال : ( الإيمان
نصفان نصف صبر ونصف شكر - ثم تلا هذه الآية - { إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } .)
ونحوه عن الشعبي موقوفا . وتوارى الحسن البصري عن الحجاج سبع سنين , فلما بلغه موته
قال : اللهم قد أمته فأمت سنته , وسجد شكرا , وقرأ : { إن في ذلك لآيات لكل صبار
شكور } . وإنما خص بالآيات كل صبار شكور ; لأنه يعتبر بها ولا يغفل عنها ; كما قال :
{ إنما أنت منذر من يخشاها } [ النازعات : 45 ] وإن كان منذرا للجميع .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
أَنْجَاكُمْ و }{ إذ أنجاكم }{ إذ }{ في موضع نصب عطف على }{ اذكروا نعمتي }{ وهذا وما
بعده تذكير ببعض النعم التي كانت له عليهم أي اذكروا نعمتي بأن نجاكم من عدوكم وجعل
الأنبياء فيكم والخطاب للموجودين والمراد من سلف من الآباء كما قال }{ إنا لما طغى
الماء حملناكم في الجارية } [ الحاقة : 10 ] أي حملنا أباءكم وقيل إنما قال }
نجيناكم }{ لأن نجاة الآباء كانت سببا لنجاة هؤلاء الموجودين , ومعنى }{ نجيناكم }
ألقيناكم على نجوة من الأرضى وهي ما ارتفع منها هذا هو الأصل ثم سمى كل فائز ناجيا
فالناجي من خرج من ضيق إلى سعة وقرئ }{ وإذ نجيناكم }{ على التوحيدمِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ }{ آل فرعون }{ قومه وأتباعه وأهل دينه وكذلك آل الرسول صلى الله عليه
وسلم من هو على دينه وملته في عصره وسائر الأعصار سواء كان نسيبا له أو لم يكن ومن
لم يكن على دينه وملته فليس من آله ولا أهله وإن كان نسيبه وقريبه خلافا للرافضة
حيث قالت إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة والحسن والحسين فقط دليلنا قوله
تعالى }{ وأغرقنا آل فرعون } [ البقرة : 50 ] { أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } [ غافر
: 46 ] أي آل دينه إذ لم يكن له ابن ولا بنت ولا أب ولا عم ولا عمة ولا عصبة ولأنه
لا خلاف أن من ليس بمؤمن ولا موحد فإنه ليس من آل محمدو إن كان قريبا له ولأجل هذا
يقال إن أبا لهب وأبا جهل ليسا من آله ولا من أهله وإن كان بينهما وبين النبي صلي
الله عليه وسلم قرابة ولأجل هذا قال الله تعالى في ابن نوح }{ إنه ليس من أهلك إنه
عمل غير صالح } [ هود : 46 ] وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم جهارا غير سر يقول }{ ألا إن آل أبي يعني فلانا ليسوا لي بأولياء
إنما وليي الله وصالح المؤمنين }{ وقالت طائفة آل محمد أزواجه وذريته خاصة لحديث أبي
حميد الساعدي أنهم قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نصلي عليك قال }
قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على
محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد }{ رواه مسلم وقالت
طائفة من أهل العلم الأهل معلوم والآل الأتباع والأول أصح لما ذكرناه ولحديث عبد
الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال (
اللهم صل عليهم ) فأتاه أبي بصدقته فقال ( اللهم صل على آل أبي أوفى ) اختلف النحاة
هل يضاف الآل إلى البلدان أو لا فقال الكسائي إنما يقال آل فلان وآل فلانة ولا يقال
في البلدان هو من آل حمص ولا من آل المدينة قال الأخفش إنما يقال في الرئيس الأعظم
نحو آل محمد صلى الله عليه وسلم وآل فرعون لأنه رئيسهم في الضلالة قال وقد سمعناه
في البلدان قالوا أهل المدينة وآل المدينة واختلف النحاة أيضا هل يضاف الآل إلى
المضمر أو لا فمنع من ذلك النحاس والزبيدي والكسائي فلا يقال إلا اللهم صل على محمد
وآل محمد ولا يقال وآل والصواب إن يقال أهله وذهبت طائفة أخرى إلى أن ذلك يقال منهم
ابن السيد وهو لدر الصواب لأن السماع الصحيح يعضده فإنه قد جاء في قول عبد المطلب
لاهم إن العبد يمن ع رحله فامنع رحالك وانصر على آل الصلي ب وعابديه اليوم آلك وقال
ندبة أنا الفارس الحامي حقيقة والدي وآلي كما تحمي حقيقة آلكا الحقيقة [ بقافين ]
ما يحق على الإنسان أن يحميه أي تجب عليه حمايته واختلفوا أيضا في أصل آل فقال
النحاس أصله أهل ثم أبدل من الهاء فإن صغرته رددته إلى أصله فقلت أهيل وقال المهدوي
أصله أول وقيل أهل قلبت الهاء همزة ثم أبدلت الهمزة ألفا وجمعه آلون وتصغيره أويل
فيما حكى الكسائي وحكى غيره أهيل وقد ذكرنا عن النحاس وقال أبو الحسن بن كيسان إذا
جمعت آلا قلت آلوان فإن جمعت آلا الذي هو السراب قلت آوال مثل مال وأموال .{ فرعون
{ قيل إنه اسم ذلك الملك بعينه وقيل اسم كل ملك من ملوك العمالقة مثل كسرى للفرس
وقيصر للروم والنجاشي للحبشة وإن اسم فرعون موسى قابوس في قول أهل الكتاب وقال وهب
اسمه الوليد بن مصعب بن الريان ويكنى أبا مرة وهو من بني عمليق بن لاوذ بن إرم بن
سام بن نوح عليه السلام قال السهيلي وكل من ولي القبط ومصر فهو فرعون وكان فارسيا
من أهل اصطخر قال المسعودي لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية قال الجوهري فرعون لقب
الوليد بن مصعب ملك مصر وكل عات فرعون والعتاة الفراعنة وقد تفرعن وهو ذو فرعنة أي
دهاء ونكر وفي الحديث ( أخذنا فرعون هذه الأمة ){ وفرعون }{ في موضع خفض إلا أنه لا
ينصرف لعجمتهيَسُومُونَكُمْ قيل معناه يذيقونكم ويلزمونكم إياه وقال أبو عبيدة
يولونكم يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها ومنه قول عمرو بن كلثوم إذا ما الملك
سام الناس خسفا أبينا أن نقر الخسف فينا وقيل يديمون تعذيبكم والسوم الدوام ومنه
سائمة الغنم لمداومتها الرعي قال وهو في موضع رفع على الابتداء وإن شئت كان في موضع
نصب غلى الحال أي سائمين لكمسُوءَ الْعَذَابِ مفعول ثان له }{ يسومونكم }{ ومعناه أشد
العذاب ويجوز أن يكون بمعنى سوم العذاب وقد يجوز أن يكون نعتا بمعنى سوما سيئا فروي
أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا وصنفهم في أعماله فصنف يبنون وصنف يحرثون
ويزرعون وصنف يتخدمون وكان قومه جندا ملوكا ومن لم يكن منهم في عمل من هذه الأعمال
ضربت عليه الجزية فذلك سوء العذاب . وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ
نِسَاءَكُمْ }{ ويذبحون }{ بالواو لأن المعنى يعذبونكم بالذبح وبغير الذبح فقوله }
ويذبحون أبناءكم }{ جنس آخر من العذاب لا تفسير لما قبله والله أعلم قلت قد يحتمل أن
يقال إن الواو زائدة بدليل سورة }{ البقرة }{ والواو قد تزاد كما قال فلما أجزنا ساحة
الحي وانتحى أي قد انتحى وقال آخر إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في
المزدحم أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة وهو كثيروَفِي ذَلِكُمْ
بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ إشارة إلى جملة الأمر إذ هو خبر فهو كمنفرد حاضر أي
وفي فعلهم ذلك بكم بلاء أي امتحان واختبار و }{ بلاء }{ نعمة ومنه قوله تعالى }
وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } [ الأنفال : 17 ] قال أبو الهيثم البلاء يكون حسنا
ويكون سيئا وأصله المحنة والله عز وجل يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره ويبلوا
بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره فقيل للحسن بلاء وللسيئ بلاء حكاه الهروي وقال قوم
الإشارة ب }{ ذلكم }{ إلى التنجية فيكون البلاء على هذا في الخير أي تنجيتكم نعمة من
الله عليكم وقال الجمهور الإشارة إلى الذبح ونحوه والبلاء هنا في الشر والمعنى وفي
الذبح مكروه وامتحان وقال ابن كيسان ويقال في الخير أبلاه الله وبلاه وأنشد جزى
الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو فجمع بين اللغتين والأكثر
في الخير أبليته وفي الشر بلوته وفي الاختبار أبليته وبلوته قاله النحاس .
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ قيل : هو من قول موسى لقومه . وقيل : هو من قول الله ;
أي واذكر يا محمد إذ قال ربك كذا . و }{ تأذن }{ وأذن بمعنى أعلم ; مثل أوعد وتوعد ;
روي معنى ذلك عن الحسن وغيره . ومنه الأذان ; لأنه إعلام ; قال الشاعر : فلم نشعر
بضوء الصبح حتى سمعنا في مجالسنا الأذينا وكان ابن مسعود يقرأ : { وإذ قال ربكم }
والمعنى واحد . لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ أي لئن شكرتم إنعامي لأزيدنكم من
فضلي . الحسن : لئن شكرتم نعمتي لأزيدنكم من طاعتي . ابن عباس : لئن وحدتم وأطعتم
لأزيدنكم من الثواب , والمعنى متقارب في هذه الأقوال ; والآية نص في أن الشكر سبب
المزيد ; وقد تقدم في }{ البقرة }{ ما للعلماء في معنى الشكر . وسئل بعض الصلحاء عن
الشكر لله فقال : ألا تتقوى بنعمه على معاصيه . وحكي عن داود عليه السلام أنه قال :
أي رب كيف أشكرك , وشكري لك نعمة مجددة منك علي . قال : يا داود الآن شكرتني . قلت :
فحقيقة الشكر على هذا الاعتراف بالنعمة للمنعم . وألا يصرفها في غير طاعته ; وأنشد
الهادي وهو يأكل : أنالك رزقه لتقوم فيه بطاعته وتشكر بعض حقه فلم تشكر لنعمته ولكن
قويت على معاصيه برزقه فغص باللقمة , وخنقته العبرة . وقال جعفر الصادق : إذا سمعت
النعمة نعمة الشكر فتأهب للمزيد . وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ أي
جحدتم حقي . وقيل : نعمي ; وعد بالعذاب على الكفر , كما وعد بالزيادة على الشكر ,
وحذفت الفاء التي في جواب الشرط من }{ إن }{ للشهرة .
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ
وَثَمُودَ النبأ الخبر , والجمع الأنباء ; قال : ألم يأتيك والأنباء تنمي ثم قيل :
هو من قول موسى . وقيل : من قول الله ; أي واذكر يا محمد إذ قال ربك كذا . وقيل : هو
ابتداء خطاب من الله تعالى . وخبر قوم نوح وعاد وثمود مشهور قصه الله في كتابه
. وقوله :وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ أي لا يحصي
عددهم إلا الله , ولا يعرف نسبهم إلا الله , والنسابون وإن نسبوا إلى آدم فلا يدعون
إحصاء جميع الأمم , وإنما ينسبون البعض ; ويمسكون عن نسب البعض ; وقد روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم لما سمع النسابين ينسبون إلى معد بن عدنان ثم زادوا فقال : (
كذب النسابون إن الله يقول : { لا يعلمهم إلا الله } ) . وقد روي عن عروة بن الزبير
أنه قال : ما وجدنا أحدا يعرف ما بين عدنان وإسماعيل . وقال ابن عباس : بين عدنان
وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون . وكان ابن مسعود يقول حين يقرأ : { لا يعلمهم إلا
الله } . كذب النسابون . جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ أي بالحجج والدلالات
. فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ أي جعل أولئك القوم أيدي أنفسهم في
أفواههم ليعضوها غيظا مما جاء به الرسل ; إذ كان فيه تسفيه أحلامهم , وشتم أصنامهم
; قاله ابن مسعود , ومثله قاله عبد الرحمن بن زيد ; وقرأ : { عضوا عليكم الأنامل من
الغيظ } [ آل عمران : 119 ] . وقال ابن عباس : لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا
بأيديهم إلى أفواههم . وقال أبو صالح : كانوا إذا قال لهم نبيهم أنا رسول الله إليكم
أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم : أن اسكت , تكذيبا له , وردا لقوله ; وهذه الأقوال
الثلاثة متقاربة المعنى . والضميران للكفار ; والقول الأول أصحها إسنادا ; قال أبو
عبيد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله
في قوله تعالى : { فردوا أيديهم في أفواههم }{ قال : عضوا عليها غيظا ; وقال الشاعر
: لو أن سلمى أبصرت تخددي ودقة في عظم ساقي ويدي وبعد أهلي وجفاء عودي عضت من الوجد
بأطراف اليد وقد مضى هذا المعنى في }{ آل عمران }{ مجودا , والحمد لله . وقال مجاهد
وقتادة : ردوا على الرسل قولهم وكذبوهم بأفواههم ; فالضمير الأول للرسل , والثاني
للكفار . وقال الحسن وغيره : جعلوا أيديهم في أفواه الرسل ردا لقولهم ; فالضمير
الأول على هذا للكفار , والثاني للرسل . وقيل معناه : أومئوا للرسل أن يسكتوا . وقال
مقاتل : أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم . وقيل :
رد الرسل أيدي القوم في أفواههم . وقيل : إن الأيدي هنا النعم ; أي ردوا نعم الرسل
بأفواههم , أي بالنطق والتكذيب , ومجيء الرسل بالشرائع نعم ; والمعنى : كذبوا
بأفواههم ما جاءت به الرسل . و }{ في }{ بمعنى الباء ; يقال : جلست في البيت وبالبيت ;
وحروف الصفات يقام بعضها مقام بعض . وقال أبو عبيدة : هو ضرب مثل ; أي لم يؤمنوا ولم
يجيبوا ; والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت : قد رد يده في فيه . وقاله
الأخفش أيضا . وقال القتبي : لم نسمع أحدا من العرب يقول : رد يده في فيه إذا ترك ما
أمر به ; وإنما المعنى : عضوا على الأيدي حنقا وغيظا ; لقول الشاعر : تردون في فيه
غش الحسو د حتى يعض علي الأكفا يعني أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أصابعه وكفيه
. وقال آخر : قد أفنى أنامله أزمة فأضحى يعض علي الوظيفا وقالوا : - يعني الأمم
للرسل :وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ أي بالإرسال على زعمكم
, لا أنهم أقروا أنهم أرسلوا . وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ أي في ريب ومرية . مِمَّا
تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ من التوحيد . مُرِيبٍ أي موجب للريبة ; يقال : أربته إذ فعلت
أمرا أوجب ريبة وشكا ; أي نظن أنكم تطلبون الملك والدنيا .
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ استفهام معناه الإنكار ; أي لا شك في الله
; أي في توحيده ; قال قتادة . وقيل : في طاعته . ويحتمل وجها ثالثا : أفي قدرة الله
شك ؟ ! لأنهم متفقون عليها ومختلفون فيما عداها ; يدل عليه قوله : { فاطر السموات
والأرض "فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ خالقها ومخترعها ومنشئها وموجدها بعد
العدم ; لينبه على قدرته فلا تجوز العبادة إلا له . يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ
مِنْ ذُنُوبِكُمْ }{ يدعوكم }{ أي إلى طاعته بالرسل والكتب .{ ليغفر لكم من ذنوبكم }
قال أبو عبيد : { من }{ زائدة . وقال سيبويه : هي للتبعيض ; ويجوز أن يذكر البعض
والمراد منه الجميع . وقيل : { من }{ للبدل وليست بزائدة ولا مبعضة ; أي لتكون
المغفرة بدلا من الذنوب . وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني الموت , فلا
يعذبكم في الدنيا . قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا أي ما أنتم .{ إلا بشر مثلنا }{ في الهيئة والصورة تأكلون مما نأكل , وتشربون مما نشرب , ولستم
ملائكة . تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا من الأصنام
والأوثانفَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ أي بحجة ظاهرة ; وكان هذا محالا منهم ; فإن
الرسل ما دعوا إلا ومعهم المعجزات .
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي في الصورة
والهيئة كما قلتم . وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أي
يتفضل عليه بالنبوة . وقيل ; بالتوفيق , والحكمة والمعرفة والهداية . وقال سهل بن عبد
الله : بتلاوة القرآن وفهم ما فيه . قلت : وهذا قول حسن , وقد خرج الطبري من حديث
ابن عمر قال قلت لأبي ذر : يا عم أوصني ; قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم
كما سألتني فقال : ( ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا ولله فيه صدقة يمن بها على من
يشاء من عباده وما من الله تعالى على عباده بمثل أن يلهمهم ذكره ) . وَمَا كَانَ
لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ أي بحجة وآية . إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ أي
بمشيئته , وليس ذلك في قدرتنا ; أي لا نستطيع أن نأتي بحجة كما تطلبون إلا بأمره
وقدرته ; فلفظه ; لفظ الخبر , ومعناه النفي ; لأنه لا يحظر على أحد ما لا يقدر عليه
. وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فيه مسألة واحدة , وهي بيان
التوكل . والتوكل في اللغة إظهار العجز والاعتماد على الغير . وواكل فلان إذا ضيع
أمره متكلا على غيره . واختلف العلماء في حقيقة التوكل ; فسئل عنه سهل بن عبد الله
فقال : قالت فرقة : الرضا بالضمان , وقطع الطمع من المخلوقين . وقال قوم : التوكل
ترك الأسباب والركون إلى مسبب الأسباب ; فإذا شغله السبب عن المسبب زال عنه اسم
التوكل . قال سهل : من قال إن التوكل يكون بترك السبب فقد طعن في سنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم ; لأن الله عز وجل يقول : { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } [ الأنفال
: 69 ] فالغنيمة اكتساب . وقال تعالى : { فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان
" [ الأنفال : 12 ] فهذا عمل . وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الله يحب العبد
المحترف ) . وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرضون على السرية . وقال غيره
: وهذا قول عامة الفقهاء , وأن التوكل على الله هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه
ماض , واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لا بد منه من الأسباب من
مطعم ومشرب وتحرز من عدو وإعداد الأسلحة واستعمال ما تقتضيه سنة الله تعالى
المعتادة . وإلى هذا ذهب محققو الصوفية , لكنه لا يستحق اسم التوكل عندهم مع
الطمأنينة إلى تلك الأسباب والالتفات إليها بالقلوب ; فإنها لا تجلب نفعا ولا تدفع
ضرا , بل السبب والمسبب فعل الله تعالى , والكل منه وبمشيئته ; ومتى وقع من المتوكل
ركون إلى تلك الأسباب فقد انسلخ عن ذلك الاسم . ثم المتوكلون على حالين : الأول :
حال المتمكن في التوكل فلا يلتفت إلى شيء من تلك الأسباب بقلبه , ولا يتعاطاه إلا
بحكم الأمر . الثاني : حال غير المتمكن وهو الذي يقع له الالتفات إلى تلك الأسباب
أحيانا غير أنه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية , والبراهين القطعية , والأذواق
الحالية ; فلا يزال كذلك إلى أن يرقيه الله بجوده إلى مقام المتوكلين المتمكنين ,
ويلحقه بدرجات العارفين .
وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ }{ ما }{ استفهام في موضع رفع
بالابتداء , و }{ لنا }{ الخبر ; وما بعدها في موضع الحال ; التقدير : أي شيء لنا في
ترك التوكل على الله . وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا أي الطريق الذي يوصل إلى رحمته ,
وينجي من سخطه ونقمته . وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ }{ ولنصبرن }{ لام قسم ; مجازه : والله لنصبرن }
على ما آذيتمونا }{ به , أي من الإهانة والضرب , والتكذيب والقتل , ثقة بالله أنه
يكفينا ويثيبنا .{ وعلى الله فليتوكل المتوكلون } .
وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ }{ ما }{ استفهام في موضع رفع
بالابتداء , و }{ لنا }{ الخبر ; وما بعدها في موضع الحال ; التقدير : أي شيء لنا في
ترك التوكل على الله . وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا أي الطريق الذي يوصل إلى رحمته ,
وينجي من سخطه ونقمته . وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ }{ ولنصبرن }{ لام قسم ; مجازه : والله لنصبرن }
على ما آذيتمونا }{ به , أي من الإهانة والضرب , والتكذيب والقتل , ثقة بالله أنه
يكفينا ويثيبنا .{ وعلى الله فليتوكل المتوكلون } .
أي مقامه بين يدي يوم القيامة ; فأضيف المصدر إلى الفاعل . والمقام مصدر كالقيام ;
يقال : قام قياما ومقاما ; وأضاف ذلك إليه لاختصاصه به . والمقام بفتح الميم مكان
الإقامة , وبالضم فعل الإقامة ; و }{ ذلك لمن خاف مقامي }{ أي قيامي عليه , ومراقبتي
له ; قال الله تعالى : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } .[ الرعد33 ] وقال
الأخفش : { ذلك لمن خاف مقامي }{ أي عذابي , { وخاف وعيد }{ أي القرآن وزواجره . وقيل
: إنه العذاب . والوعيد الاسم من الوعد .
وَاسْتَفْتَحُوا أي واستنصروا ; أي أذن للرسل في الاستفتاح على قومهم , والدعاء
بهلاكهم ; قاله ابن عباس وغيره , وقد مضى في }{ البقرة } . ومنه الحديث : إن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين , أي يستنصر . وقال ابن زيد :
استفتحت الأمم بالدعاء كما قالت قريش : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } [
الأنفال : 32 ] الآية . وروي عن ابن عباس . وقيل قال الرسول : ( إنهم كذبوني فافتح
بيني وبينهم فتحا ) وقالت الأمم : إن كان هؤلاء صادقين فعذبنا , عن ابن عباس أيضا ;
نظيره }{ ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين } [ العنكبوت : 29 ] { ائتنا بما
تعدنا إن كنت من المرسلين } [ الأعراف : 77 ] . وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
الجبار المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقا ; هكذا هو عند أهل اللغة ; ذكره النحاس
. والعنيد المعاند للحق والمجانب له , عن ابن عباس وغيره ; يقال : عند عن قومه أي
تباعد عنهم . وقيل : هو من العند , وهو الناحية وعاند فلان أي أخذ في ناحية معرضا ;
قال الشاعر : إذا نزلت فاجعلوني وسطا إني كبير لا أطيق العندا وقال الهروي : قوله
تعالى : { جبار عنيد }{ أي جائر عن القصد ; وهو العنود والعنيد والعاند ; وفي حديث
ابن عباس وسئل عن المستحاضة فقال : إنه عرق عاند . قال أبو عبيد : هو الذي عند وبغى
كالإنسان يعاند ; فهذا العرق في كثرة ما يخرج منه بمنزلته . وقال شمر : العاند الذي
لا يرقأ . وقال عمر يذكر سيرته : أضم العنود ; قال الليث : العنود من الإبل الذي لا
يخالطها إنما هو في ناحية أبدا ; أراد من هم بالخلاف أو بمفارقة الجماعة عطفت به
إليها . وقال مقاتل : العنيد المتكبر . وقال ابن كيسان : هو الشامخ بأنفه . وقيل :
العنود والعنيد الذي يتكبر على الرسل ويذهب عن طريق الحق فلا يسلكها ; تقول العرب :
شر الإبل العنود الذي يخرج عن الطريق . وقيل : العنيد العاصي . وقال قتادة : العنيد
الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله . قلت : والجبار والعنيد في الآية بمعنى واحد ,
وإن كان اللفظ مختلفا , وكل متباعد عن الحق جبار وعنيد أي متكبر . وقيل : إن المراد
به في الآية أبو جهل ; ذكره المهدوي . وحكى الماوردي في كتاب { أدب الدنيا والدين }
أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك تفاءل يوما في المصحف فخرج له قوله عز وجل : { واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد }{ فمزق المصحف وأنشأ يقول : أتوعد كل جبار عنيد فها
أنا ذاك جبار عنيد إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب مزقني الوليد فلم يلبث إلا
أياما حتى قتل شر قتلة , وصلب رأسه على قصره , ثم على سور بلده .
مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ أي من وراء ذلك الكافر جهنم , أي من بعد هلاكه . ووراء
بمعنى بعد ; قال النابغة : حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب أي
بعد الله جل جلاله ; وكذلك قوله تعالى : { ومن ورائه عذاب غليظ }{ أي من بعده ;
وقوله تعالى : { ويكفرون بما وراءه } [ البقرة : 91 ] أي بما سواه ; قاله الفراء
. وقال أبو عبيد : بما بعده : وقيل : { من ورائه }{ أي من أمامه , ومنه قول الشاعر :
ومن ورائك يوم أنت بالغه لا حاضر معجز عنه ولا بادي وقال آخر : أترجو بنو مروان
سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا وقال لبيد : أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم
العصا تحنى عليها الأصابع يريد أمامي . وفي التنزيل : { كان وراءهم ملك } [ الكهف :
79 ] أي أمامهم , وإلى هذا ذهب أبو عبيدة وأبو علي قطرب وغيرهما . وقال الأخفش : هو
كما يقال هذا الأمر من ورائك , أي سوف يأتيك , وأنا من وراء فلان أي في طلبه وسأصل
إليه . وقال النحاس في قوله }{ من ورائه جهنم }{ أي من أمامه , وليس من الأضداد ولكنه
من توارى ; أي استتر . وقال الأزهري : إن وراء تكون بمعنى خلف وأمام فهو من الأضداد
, وقاله أبو عبيدة أيضا , واشتقاقهما مما توارى واستتر , فجهنم توارى ولا تظهر ,
فصارت من وراء لأنها لا ترى , حكاه ابن الأنباري وهو حسن . وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ
صَدِيدٍ أي من ماء مثل الصديد , كما يقال للرجل الشجاع أسد , أي مثل الأسد , وهو
تمثيل وتشبيه . وقيل : هو ما يسيل من أجسام أهل النار من القيح والدم . وقال محمد بن
كعب القرظي والربيع بن أنس : هو غسالة أهل النار , وذلك ماء يسيل من فروج الزناة
والزواني . وقيل : هو من ماء كرهته تصد عنه , فيكون الصديد مأخوذا من الصد . وذكر ابن
المبارك , أخبرنا صفوان بن عمرو عن عبيد الله بن بسر عن أبي أمامة عن النبي صلى
الله عليه وسلم في قوله : { ويسقى من ماء صديد يتجرعه }{ قال : ( يقرب إلى فيه
فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من
دبره يقول الله : { وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم } [ محمد : 15 ] ويقول الله : { وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب } [ الكهف : 29 ] خرجه
الترمذي , وقال : حديث غريب , وعبيد الله بن بسر الذي روى عنه صفوان بن عمرو حديث
أبي أمامة لعله أن يكون أخا عبد الله بن بسر .
يَتَجَرَّعُهُ أي يتحساه جرعا لا مرة واحدة لمرارته وحرارته . وَلَا يَكَادُ
يُسِيغُهُ أي يبتلعه ; يقال : جرع الماء واجترعه وتجرعه بمعنى . وساغ الشراب في
الحلق يسوغ سوغا إذا كان سلسا سهلا , وأساغه الله إساغة . و }{ يكاد }{ صلة ; أي يسيغه
بعد إبطاء , قال الله تعالى : { وما كادوا يفعلون } [ البقرة : 71 ] أي فعلوا بعد
إبطاء , ولهذا قال : { يصهر به ما في بطونهم والجلود } [ الحج : 20 ] فهذا يدل على
الإساغة . وقال ابن عباس : يجيزه ولا يمر به . وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ
مَكَانٍ قال ابن عباس : أي يأتيه أسباب الموت من كل جهة عن يمينه وشماله , ومن فوقه
وتحته ومن قدامه وخلفه , كقول : { لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل } [
الزمر : 16 ] . وقال إبراهيم التيمي : يأتيه من كل مكان من جسده حتى من أطراف شعره ;
للآلام التي في كل مكان من جسده . وقال الضحاك : إنه ليأتيه الموت من كل ناحية ومكان
حتى من إبهام رجليه . وقال الأخفش : يعني البلايا التي تصيب الكافر في النار سماها
موتا , وهي من أعظم الموت . وقيل : إنه لا يبقى عضو من أعضائه إلا وكل به نوع من
العذاب ; لو مات سبعين مرة لكان أهون عليه من نوع منها في فرد لحظة ; إما حية تنهشه
; أو عقرب تلسبه , أو نار تسفعه , أو قيد برجليه , أو غل في عنقه , أو سلسلة يقرن
بها , أو تابوت يكون فيه , أو زقوم أو حميم , أو غير ذلك من العذاب , وقال محمد بن
كعب : إذا دعا الكافر في جهنم بالشراب فرآه مات موتات , فإذا دنا منه مات موتات ,
فإذا شرب منه مات موتات ; فذلك قوله : { ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت }
. قال الضحاك : لا يموت فيستريح . وقال ابن جريج : تعلق روحه في حنجرته فلا تخرج من
فيه فيموت , ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة ; ونظيره قوله : { لا يموت
فيها ولا يحيا } [ طه : 74 ] . وقيل : يخلق الله في جسده آلاما كل واحد منها كألم
الموت . وقيل :وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ لتطاول شدائد الموت به , وامتداد سكراته عليه ;
ليكون ذلك زيادة في عذابه . قلت : ويظهر من هذا أنه يموت , وليس كذلك ; لقوله تعالى
: { لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها } [ فاطر : 36 ] وبذلك وردت
السنة ; فأحوال الكفار أحوال من استولى عليه سكرات الموت دائما , والله أعلم
. وَمِنْ وَرَائِهِ أي من أمامه . عَذَابٌ غَلِيظٌ أي شديد متواصل الآلام غير فتور ;
ومنه قوله : { وليجدوا فيكم غلظة } [ التوبة : 123 ] أي شدة وقوة . وقال فضيل بن
عياض في قول الله تعالى : { ومن ورائه عذاب غليظ }{ قال : حبس الأنفاس .
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ
الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ اختلف النحويون في رفع }{ مثل }{ فقال سيبويه : ارتفع
بالابتداء والخبر مضمر ; التقدير : وفيما يتلى عليكم أو يقص }{ مثل الذين كفروا
بربهم }{ ثم ابتدأ فقال : { أعمالهم كرماد }{ أي كمثل رماد }{ اشتدت به الريح } . وقال
الزجاج : أي مثل الذين كفروا فيما يتلى عليكم أعمالهم كرماد , وهو عند الفراء على
إلغاء المثل , التقدير : والذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد . وعنه أيضا أنه على حذف
مضاف ; التقدير : مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد ; وذكر الأول عنه المهدوي ,
والثاني القشيري والثعلبي ويجوز أن يكون مبتدأ كما يقال : صفة فلان أسمر ; ف }{ مثل
{ بمعنى صفة . ويجوز في الكلام جر }{ أعمالهم }{ على بدل الاشتمال من }{ الذين }{ واتصل
هذا بقوله : { وخاب كل جبار عنيد }{ والمعنى : أعمالهم محبطة غير مقبولة . والرماد ما
بقي بعد احتراق الشيء ; فضرب الله هذه الآية مثلا لأعمال الكفار في أنه يمحقها كما
تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف . والعصف شدة الريح ; وإنما كان ذلك لأنهم
أشركوا فيها غير الله تعالى . وفي وصف اليوم بالعصوف ثلاثة أقاويل : أحدها : أن
العصوف وإن كان للريح فإن اليوم قد يوصف به ; لأن الريح تكون فيه , فجاز أن يقال :
يوم عاصف , كما يقال : يوم حار ويوم بارد , والبرد والحر فيهما . والثاني : أن يريد
{ في يوم عاصف }{ الريح ; لأنها ذكرت في أول الكلمة , كما قال الشاعر : إذا جاء يوم
مظلم الشمس كاسف يريد كاسف الشمس فحذف ; لأنه قد مر ذكره ; ذكرهما الهروي . والثالث
: أنه من نعت الريح ; غير أنه لما جاء بعد اليوم أتبع إعرابه كما قيل : جحر ضب خرب
; ذكره الثعلبي والماوردي . وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن أبي بكر }{ في يوم عاصف }
. لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ يعني الكفار .{ مما كسبوا على شيء }
يريد في الآخرة ; أي من ثواب ما عملوا من البر في الدنيا , لإحباطه بالكفر . ذَلِكَ
هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ أي الخسران الكبير ; وإنما جعله كبيرا بعيدا لفوات
استدراكه بالموت .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ الرؤية هنا
رؤية القلب ; لأن المعنى : ألم ينته علمك إليه ; . وقرأ حمزة والكسائي - { خالق
السموات والأرض } . ومعنى }{ بالحق }{ ليستدل بها على قدرته . إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ
وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ أيها الناس ; أي هو قادر على الإفناء كما قدر على إيجاد
الأشياء ; فلا تعصوه فإنكم إن عصيتموه }{ يذهبكم ويأت بخلق جديد }{ أفضل وأطوع منكم ;
إذ لو كانوا مثل الأولين فلا فائدة في الإبدال .
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا أي برزوا من قبورهم , يعني يوم القيامة . والبروز
الظهور . والبراز المكان الواسع لظهوره ; ومنه امرأة برزة أي تظهر للناس ; فمعنى , { برزوا }{ ظهروا من قبورهم . وجاء بلفظ ; الماضي ومعناه الاستقبال , واتصل هذا بقوله :
{ وخاب كل جبار عنيد }{ أي وقاربوا لما استفتحوا فأهلكوا , ثم بعثوا للحساب فبرزوا
لله جميعا لا يسترهم عنه ساتر .{ لله }{ لأجل أمر الله إياهم بالبروز . فَقَالَ
الضُّعَفَاءُ يعني الأتباعلِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهم القادة . إِنَّا كُنَّا
لَكُمْ تَبَعًا يجوز أن يكون تبع مصدرا ; التقدير : ذوي تبع . ويجوز أن يكون جمع
تابع ; مثل حارس وحرس , وخادم وخدم , وراصد ورصد , وباقر وبقر . فَهَلْ أَنْتُمْ
مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ أي دافعون }{ عنا من عذاب الله
من شيء }{ أي شيئا , و }{ من }{ صلة ; يقال : أغنى عنه إذا دفع عنه الأذى , وأغناه إذا
أوصل إليه النفع . قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ أي لو هدانا الله
إلى الإيمان لهديناكم إليه . وقيل : لو هدانا الله إلى طريق الجنة لهديناكم إليها
. وقيل ; لو نجانا الله من العذاب لنجيناكم منه . سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ
صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ }{ سواء علينا }{ هذا ابتداء خبره }{ أجزعنا }{ أي :
{ سواء علينا }{ أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص }{ أي من مهرب وملجأ . ويجوز أن يكون
بمعنى المصدر , وبمعنى الاسم ; يقال : حاص فلان عن كذا أي فر وزاغ يحيص حيصا وحيوصا
وحيصانا ; والمعنى : ما لنا وجه نتباعد به عن النار . وروي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال : ( يقول أهل النار إذا اشتد بهم العذاب تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة
عام فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم قالوا هلم فلنجزع فيجزعون ويصيحون خمسمائة عام فلما
رأوا أن ذلك لا ينفعهم قالوا }{ سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص } )
. وقال محمد بن كعب القرظي : ذكر لنا أن أهل النار يقول بعضهم لبعض : يا هؤلاء ! قد
نزل بكم من البلاء والعذاب ما قد ترون , فهلم فلنصبر ; فلعل الصبر ينفعنا كما صبر
أهل الطاعة على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا ; فأجمعوا رأيهم على الصبر فصبروا
; فطال صبرهم فجزعوا , فنادوا : { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص }{ أي
منجى , فقام إبليس عند ذلك فقال : { إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما
كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا
بمصرخكم } .
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ
الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ
سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي
وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ
يقول : لست بمغن عنكم شيئا }{ وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل }
الحديث بطوله , وقد كتبناه في كتاب { التذكرة } بكماله . قوله تعالى }{ وقال الشيطان
لما قضي الأمر }{ قال الحسن : يقف إبليس يوم القيامة خطيبا في جهنم على منبر من نار
يسمعه الخلائق جميعا . ومعنى : { لما قضي الأمر }{ أي حصل أهل الجنة في الجنة وأهل
النار في النار , على ما يأتي بيانه في }{ مريم }{ عليها السلام .{ إن الله وعدكم وعد
الحق }{ يعني البعث والجنة والنار وثواب المطيع وعقاب العاصي فصدقكم وعده , ووعدتكم
أن لا بعث ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب فأخلفتكم . وروى ابن المبارك من حديث
عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال : ( فيقول عيسى
أدلكم على النبي الأمي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي من أطيب ريح شمها
أحد حتى آتي ربي فيشفعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ثم يقول الكافرون
قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا فيقولون ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا
فيأتونه فيقولون قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فاشفع لنا فإنك أضللتنا فيثور مجلسه
من أنتن ريح شمها أحد ثم يعظم نحيبهم ويقول عند ذلك : { إن الله وعدكم وعد الحق
ووعدتكم فأخلفتكم }{ الآية ) .{ وعد الحق }{ هو إضافة الشيء إلى نعته كقولهم : مسجد
الجامع ; قال الفراء قال البصريون : وعدكم وعد اليوم الحق أو وعدكم وعد الوعد الحق
فصدقكم ; فحذف المصدر لدلالة الحال .{ وما كان لي عليكم من سلطان }{ أي من حجة وبيان
; أي ما أظهرت لكم حجة على ما وعدتكم وزينته لكم في الدنيا , { إلا أن دعوتكم
فاستجبتم لي }{ أي أغويتكم فتابعتموني . وقيل : لم أقهركم على ما دعوتكم إليه .{ إلا
أن دعوتكم }{ هو استثناء منقطع ; أي لكن دعوتكم بالوسواس فاستجبتم لي باختياركم , { فلا تلوموني ولوموا أنفسكم }{ وقيل : { وما كان لي عليكم من سلطان }{ أي على قلوبكم
وموضع إيمانكم لكن دعوتكم فاستجبتم لي ; وهذا على أنه خطب العاصي المؤمن والكافر
الجاحد ; وفيه نظر ; لقوله : { لما قضي الأمر }{ فإنه يدل على أنه خطب الكفار دون
العاصين الموحدين ; والله أعلم .{ فلا تلوموني ولوموا أنفسكم }{ إذا جئتموني من غير
حجة .{ ما أنا بمصرخكم }{ أي بمغيثكم .{ وما أنتم بمصرخي }{ أي بمغيثي . والصارخ
والمستصرخ هو الذي يطلب النصرة والمعاونة , والمصرخ هو المغيث . قال سلامة بن جندل
. كنا إذا ما أتانا صارخ فزع وكان الصراخ له قرع الظنابيب وقال أمية بن أبي الصلت :
ولا تجزعوا إني لكم غير مصرخ وليس لكم عندي غناء ولا نصر . يقال : صرخ فلان أي
استغاث يصرخ صرخا وصراخا وصرخة . واصطرخ بمعنى صرخ . والتصرخ تكلف الصراخ . والمصرخ
المغيث , والمستصرخ المستغيث ; تقول منه : استصرخني فأصرخته . والصريخ صوت المستصرخ
. والصريخ أيضا الصارخ , وهو المغيث والمستغيث , وهو من الأضداد ; قاله الجوهري
. وقراءة العامة }{ بمصرخي }{ بفتح الياء . وقرأ الأعمش وحمزة }{ بمصرخي }{ بكسر الياء
. والأصل فيها بمصرخيين فذهبت النون للإضافة , وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة ,
فمن نصب فلأجل التضعيف , ولأن ياء الإضافة إذا سكن ما قبلها تعين فيها الفتح مثل :
هواي وعصاي , فإن تحرك ما قبلها جاز الفتح والإسكان , مثل : غلامي وغلامتي , ومن
كسر فلالتقاء الساكنين حركت إلى الكسر ; لأن الياء أخت الكسرة . وقال الفراء : قراءة
حمزة وهم منه , وقل من سلم منهم عن خطأ . وقال الزجاج : هذه قراءة رديئة ولا وجه لها
إلا وجه ضعيف . وقال قطرب : هذه لغة بني يربوع يزيدون على ياء الإضافة ياء . القشيري
: والذي يغني عن هذا أن ما يثبت بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن
يقال فيه هو خطأ أو قبيح أو رديء , بل هو في القرآن فصيح , وفيه ما هو أفصح منه ,
فلعل هؤلاء أرادوا أن غير هذا الذي قرأ به حمزة أفصح . إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا
أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ أي كفرت بإشراككم إياي مع الله تعالى في الطاعة ; ف }
ما }{ بمعنى المصدر . وقال ابن جريج : إني كفرت اليوم بما كنتم تدعونه في الدنيا من
الشرك بالله تعالى . قتادة : إني عصيت الله . الثوري : كفرت بطاعتكم إياي في الدنيا
. إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وفي هذه الآيات رد على القدرية
والمعتزلة والإمامية ومن كان على طريقهم ; انظر إلى قول المتبوعين : { لو هدانا
الله لهديناكم }{ وقول إبليس : { إن الله وعدكم وعد الحق }{ كيف اعترفوا بالحق في
صفات الله تعالى وهم في دركات النار ; كما قال في موضع آخر : { كلما ألقي فيها فوج
سألهم خزنتها } [ الملك : 8 ] إلى قول : { فاعترفوا بذنبهم } [ الملك : 11 ]
واعترافهم في دركات لظى بالحق ليس بنافع , وإنما ينفع الاعتراف صاحبه في الدنيا ;
قال الله عز وجل : { وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله
أن يتوب عليهم } [ التوبة : 102 ] و }{ عسى }{ من الله واجبة .
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أي في جنات لأن دخلت لا يتعدى ; كما لا
يتعدى نقيضه وهو خرجت , ولا يقاس عليه ; قاله المهدوي . ولما أخبر تعالى بحال أهل
النار أخبر بحال أهل الجنة أيضا . وقراءة الجماعة }{ أدخل }{ على أنه فعل مبني للمفعول
. وقرأ الحسن }{ وأدخل }{ على الاستقبال والاستئناف . بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بأمره
. وقيل : بمشيئته وتيسيره . وقال : { بإذن ربهم }{ ولم يقل : بإذني تعظيما وتفخيما .
تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ أي تحية الله لهم أو تحية الملك أو تحية بعضهم لبعض .
ألم تر كيف ضرب الله مثلا }{ لما ذكر تعالى مثل أعمال الكفار وأنها كرماد اشتدت به
الريح في يوم عاصف , ذكر مثل أقوال المؤمنين وغيرها , ثم فسر ذلك المثل فقال : { كلمة طيبة }{ الثمر , فحذف لدلالة الكلام عليه . قال ابن عباس : الكلمة الطيبة لا إله
إلا الله والشجرة الطيبة المؤمن . وقال مجاهد وابن جريج : الكلمة الطيبة الإيمان
. عطية العوفي والربيع بن أنس : هي المؤمن نفسه . وقال مجاهد أيضا وعكرمة : الشجرة
النخلة ; فيجوز أن يكون المعنى : أصل الكلمة في قلب المؤمن - وهو الإيمان - شبهه
بالنخلة في المنبت , وشبه ارتفاع عمله في السماء بارتفاع فروع النخلة , وثواب الله
له بالثمر . وروي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن مثل
الإيمان كمثل شجرة ثابتة الإيمان عروقها والصلاة أصلها والزكاة فروعها والصيام
أغصانها والتأذي في الله نباتها وحسن الخلق ورقها والكف عن محارم الله ثمرتها )
. ويجوز أن يكون المعنى : أصل النخلة ثابت في الأرض ; أي عروقها تشرب من الأرض
وتسقيها السماء من فوقها , فهي زاكية نامية . وخرج الترمذي من حديث أنس بن مالك قال
: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع فيه رطب , فقال : ( مثل كلمة طيبة كشجرة
طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها - قال - هي النخلة
ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار - قال - هي الحنظل
) . وروي عن أنس قوله وقال : وهو أصح . وخرج الدارقطني عن ابن عمر قال : ( قرأ رسول
الله صلى الله عليه وسلم }{ ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت }{ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أتدرون ما هي ) فوقع في نفسي أنها النخلة . قال
السهيلي ولا يصح فيها ما روي عن علي بن أبي طالب أنها جوزة الهند ; لما صح عن النبي
صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر ( إن من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل
المؤمن خبروني ما هي - ثم قال - هي النخلة ) خرجه مالك }{ الموطأ }{ من رواية ابن
القاسم وغيره إلا يحيى فإنه أسقطه من روايته . وخرجه أهل الصحيح وزاد فيه الحارث بن
أسامة زيادة تساوي رحلة ; عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( وهي النخلة لا تسقط
لها أنملة وكذلك المؤمن لا تسقط له دعوة ) . فبين معنى الحديث والمماثلة وذكر
الغزنوي عنه عليه السلام : ( مثل المؤمن كالنخلة إن صاحبته نفعك وإن جالسته نفعك
وإن شاورته نفعك كالنخلة كل شيء منها ينتفع به ) . وقال : ( كلوا من عمتكم ) يعني
النخلة خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام , وكذلك أنها برأسها تبقى , وبقلبها تحيا
, وثمرها بامتزاج الذكر والأنثى . وقد قيل : إنها لما كانت أشبه الأشجار بالإنسان
شبهت به ; وذلك أن كل شجرة إذا قطع رأسها تشعبت الغصون من جوانبها , والنخلة إذا
قطع رأسها يبست وذهبت أصلا ; ولأنها تشبه الإنسان وسائر الحيوان في الالتقاح لأنها
لا تحمل حتى تلقح قال النبي صلى الله عليه وسلم : { خير المال سكة مأبورة ومهرة
مأمورة ) . والإبار اللقاح وسيأتي في سورة }{ الحجر }{ بيانه . ولأنها من فضلة طينة آدم
. ويقال : إن الله عز وجل لما صور آدم من الطين فضلت قطعة طين فصورها بيده وغرسها في
جنة عدن . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أكرموا عمتكم ) قالوا : ومن عمتنا يا
رسول الله ؟ قال : ( النخلة ) .
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا قال الربيع : { كل حين }{ غدوة
وعشية كذلك يصعد عمل المؤمن أول النهار وآخره ; وقال ابن عباس . وعنه }{ تؤتي أكلها
كل حين بإذن ربها }{ قال : هو شجرة جوزة الهند لا تتعطل من ثمرة , تحمل في كل شهر ,
شبه عمل المؤمن لله عز وجل في كل وقت : بالنخلة التي تؤتي أكلها في أوقات مختلفة
. وقال الضحاك : كل ساعة من ليل أو نهار شتاء وصيفا يؤكل في جميع الأوقات , وكذلك
المؤمن لا يخلو من الخير في الأوقات كلها . وقال النحاس : وهذه الأقوال متقاربة غير
متناقضة ; لأن الحين عند جميع أهل اللغة إلا من شذ منهم بمعنى الوقت يقع لقليل
الزمان وكثيره , وأنشد الأصمعي بيت النابغة : تناذرها الراقون من سوء سمها تطلقه
حينا وحينا تراجع فهذا يبين لك أن الحين بمعنى الوقت , فالإيمان ثابت في قلب المؤمن
, وعمله وقوله وتسبيحه عال مرتفع في السماء ارتفاع فروع النخلة , وما يكسب من بركة
الإيمان وثوابه كما ينال من ثمرة النخلة في أوقات السنة كلها , من الرطب والبسر
والبلح والزهو والتمر والطلع . وفي رواية عن ابن عباس : إن الشجرة شجرة في الجنة
تثمر في كل وقت . و ( مثلا ) مفعول ب }{ ضرب } , { وكلمة }{ بدل منه , والكاف في قوله
: ( كشجرة ) في موضع نصب على الحال من }{ كلمة }{ التقدير : كلمة طيبة مشبهة بشجرة
طيبة لما كانت الأشجار تؤتي أكلها كل سنة مرة كان في ذلك بيان حكم الحين ; ولهذا
قلنا : من حلف ألا يكلم فلانا حينا , ولا يقول كذا حينا أن الحين سنة . وقد ورد
الحين في موضع آخر يراد به أكثر من ذلك لقوله تعالى : { هل أتى على الإنسان حين من
الدهر } [ الإنسان : 1 ] قيل في }{ التفسير } : أربعون عاما . وحكى عكرمة أن رجلا قال
: إن فعلت كذا وكذا إلى حين فغلامه حر , فأتى عمر بن عبد العزيز فسأله , فسألني
عنها فقلت : إن من الحين حينا لا يدرك , قوله : { وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى
حين } [ الأنبياء : 111 ] فأرى أن تمسك ما بين صرام النخلة إلى حملها , فكأنه أعجبه
; وهو قول أبي حنيفة في الحين أنه ستة أشهر اتباعا لعكرمة وغيره . وقد مضى ما
للعلماء في الحين في }{ البقرة }{ مستوفى والحمد لله . وَيَضْرِبُ اللهُ
الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي الأشباه }{ للناس لعلهم
يتذكرون }{ ويعتبرون ; وقد تقدم .
الكلمة الخبيثة كلمة الكفر . وقيل : الكافر نفسه . والشجرة الخبيثة شجرة الحنظل كما
في حديث أنس , وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما , وعن ابن عباس أيضا : أنها شجرة لم
تخلق على الأرض . وقيل : هي شجرة الثوم ; عن ابن عباس أيضا . وقيل : الكمأة أو
الطحلبة . وقيل : الكشوث , وهي شجرة لا ورق لها ولا عروق في الأرض ; قال الشاعر :
وهم كشوث فلا أصل ولا ورق }{ اجتثت من فوق الأرض }{ اقتلعت من أصلها ; قال ابن عباس ;
ومنه قول لقيط : هو الجلاء الذي يجتث أصلكم فمن رأى مثل ذا يوما ومن سمعا وقال
المؤرج : أخذت جثتها وهي نفسها , والجثة شخص الإنسان قاعدا أو قائما . وجثه قلعه ,
واجتثه اقتلعه من فوق الأرض ; أي ليس لها أصل راسخ يشرب بعروقه من الأرض .{ ما لها
من قرار }{ أي من أصل في الأرض . وقيل : من ثبات ; فكذلك الكافر لا حجة له ولا ثبات
ولا خير فيه , وما يصعد له قول طيب ولا عمل صالح . وروى معاوية بن صالح عن علي بن
أبي طلحة في قوله تعالى : { ضرب الله مثلا كلمة طيبة }{ قال : لا إله إلا الله }
كشجرة طيبة }{ قال : المؤمن }{ أصلها ثابت }{ لا إله إلا الله ثابتة في قلب المؤمن }
ومثل كلمة خبيثة }{ قال : الشرك , { شجرة خبيثة }{ قال : المشرك }{ اجتثت من فوق الأرض
ما لها من قرار }{ أي ليس للمشرك أصل يعمل عليه . وقيل : يرجع المثل إلى الدعاء إلى
الإيمان , والدعاء إلى الشرك ; لأن الكلمة يفهم منها القول والدعاء إلى الشيء .
يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ قال ابن عباس : هو لا إله إلا الله . وروى النسائي عن
البراء قال قال : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي
الآخرة }{ نزلت في عذاب القبر ; يقال : من ربك ؟ فيقول : ربي الله وديني دين محمد ,
فذلك قوله : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة }
. وقد جاء هكذا موقوفا في بعض طرق مسلم عن البراء أنه قوله , والصحيح فيه الرفع كما
في صحيح مسلم وكتاب النسائي وأبي داود وابن ماجه وغيرهم , عن البراء عن النبي صلى
الله عليه وسلم ; وذكر البخاري ; حدثنا جعفر بن عمر , قال حدثنا شعبة عن علقمة بن
مرثد عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا
أقعد المؤمن في قبره أتاه آت ثم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك
قوله }{ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } ) وقد
بينا هذا الباب في كتاب { التذكرة } وبينا هناك من يفتن في قبره ويسأل , فمن أراد
الوقوف عليه تأمله هناك . وقال سهل بن عمار : رأيت يزيد بن هارون في المنام بعد موته
, فقلت له : ما فعل الله بك ؟ فقال : أتاني في قبري ملكان فظان غليظان , فقالا : ما
دينك ومن ربك ومن نبيك ؟ فأخذت بلحيتي البيضاء وقلت : ألمثلي يقال هذا وقد علمت
الناس جوابكما ثمانين سنة ؟ ! فذهبا وقالا : أكتبت عن حريز بن عثمان ؟ قلت نعم !
فقالا : إنه كان يبغض عليا فأبغضه الله . وقيل : معنى , { يثبت الله }{ يديمهم الله
على القول الثابت , ومنه قول عبد الله بن رواحة : يثبت الله ما آتاك من حسن تثبيت
موسى ونصرا كالذي نصرا وقيل : يثبتهم في الدارين جزاء لهم على القول الثابت . وقال
القفال وجماعة : { في الحياة الدنيا }{ أي في القبر ; لأن الموتى في الدنيا إلى أن
يبعثوا , { وفي الآخرة }{ أي عند الحساب ; وحكاه الماوردي عن البراء قال : المراد
بالحياة الدنيا المساءلة في القبر , وبالآخرة المساءلة في القيامة :وَيُضِلُّ
اللهُ الظَّالِمِينَ أي عن حجتهم في قبورهم كما ضلوا في الدنيا بكفرهم فلا يلقنهم
كلمة الحق , فإذا سئلوا في قبورهم قالوا : لا ندري ; فيقول : لا دريت ولا تليت ;
وعند ذلك يضرب بالمقامع على ما ثبت في الأخبار ; وقد ذكرنا ذلك في كتاب { التذكرة }
. وقيل : يمهلهم حتى يزدادوا ضلالا في الدنيا . وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ من
عذاب قوم وإضلال قوم . وقيل : إن سبب نزول هذه الآية ما روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم لما وصف مساءلة منكر ونكير وما يكون من جواب الميت قال عمر : يا رسول الله معي
عقلي ؟ قال : ( نعم ) قال : كفيت إذا ; فأنزل الله عز وجل هذه الآية .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا أي جعلوا بدل نعمة
الله عليهم الكفر في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم , حين بعثه الله منهم وفيهم
فكفروا , والمراد مشركو قريش وأن الآية نزلت فيهم ; عن ابن عباس وعلي وغيرهما . وقيل
: نزلت في المشركين الذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر . قال أبو الطفيل
: سمعت عليا رضي الله عنه يقول : هم قريش الذين نحروا يوم بدر . وقيل : نزلت في
الأفجرين من قريش بني مخزوم وبني أمية , فأما بنو أمية فمتعوا إلى حين ; وأما بنو
مخزوم فأهلكوا يوم بدر ; قال علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما . وقول
رابع : أنهم متنصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه حين لطم فجعل له عمر القصاص
بمثلها , فلم يرض وأنف فارتد متنصرا ولحق بالروم في جماعة من قومه ; عن ابن عباس
وقتادة . ولما صار إلى بلد الروم ندم فقال : تنصرت الأشراف من عار لطمة وما كان فيها
لو صبرت لها ضرر تكنفني منها لجاج ونخوة وبعت لها العين الصحيحة بالعور فيا ليتني
أرعى المخاض ببلدة ولم أنكر القول الذي قاله عمر وقال الحسن : إنها عامة في جميع
المشركين .{ وأحلوا قومهم }{ أي أنزلوهم . قال ابن عباس : هم قادة المشركين يوم بدر
. وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ أي الذين اتبعوهم . دَارَ الْبَوَارِ قيل : جهنم ; قال ابن
زيد . وقيل : يوم بدر ; قال علي بن أبي طالب ومجاهد . والبوار الهلاك ; ومنه قول
الشاعر : فلم أر مثلهم أبطال حرب غداة الحرب إذ خيف البوار .
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا بين أن دار البوار جهنم كما قال ابن زيد , وعلى هذا لا
يجوز الوقف على }{ دار البوار }{ لأن جهنم منصوبة على الترجمة عن }{ دار البوار }{ فلو
رفعها رافع بإضمار , على معنى : هي جهنم , أو بما عاد من الضمير في }{ يصلونها }
لحسن الوقف على }{ دار البوار } . وَبِئْسَ الْقَرَارُ أي المستقر .
وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا أي أصناما عبدوها ; وقد تقدم في }{ البقرة }
. لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ أي عن دينه . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء ,
وكذلك في الحج }{ ليضل عن سبيل الله } [ الحج : 9 ] ومثله في }{ لقمان }{ و }{ الزمر }
وضمها الباقون على معنى ليضلوا الناس عن سبيله , وأما من فتح فعلى معنى أنهم هم
يضلون عن سبيل الله على اللزوم , أي عاقبتهم إلى الإضلال والضلال ; فهذه لام
العاقبة . قُلْ تَمَتَّعُوا وعيد لهم , وهو إشارة إلى تقليل ما هم فيه من ملاذ
الدنيا إذ هو منقطع . فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ أي مردكم ومرجعكم إلى عذاب
جهنم .
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ أي إن أهل مكة بدلوا نعمة
الله بالكفر , فقل لمن آمن وحقق عبوديته أن }{ يقيموا الصلاة }{ يعني الصلوات الخمس ,
أي قل لهم أقيموا , والأمر معه شرط مقدر , تقول : أطع الله يدخلك الجنة ; أي إن
أطعته يدخلك الجنة ; هذا قول الفراء . وقال الزجاج : { يقيموا }{ مجزوم بمعنى اللام ,
أي ليقيموا فأسقطت اللام لأن الأمر دل على الغائب ب }{ قل } . قال : ويحتمل أن يقال :
{ يقيموا }{ جواب أمر محذوف ; أي قل لهم أقيموا الصلاة يقيموا الصلاة . وَيُنْفِقُوا
مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يعني الزكاة ; عن ابن عباس وغيره . وقال
الجمهور : السر ما خفي والعلانية ما ظهر . وقال القاسم بن يحيى : إن السر التطوع
والعلانية الفرض , وقد مضى هذا المعنى في }{ البقرة }{ مجودا عند قوله : { إن تبدوا
الصدقات فنعما هي } [ البقرة : 271 ] . مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ
فِيهِ وَلَا خِلَالٌ وأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم الله وأنعم به عليهم
وحذرهم من الإمساك إلى أن يجيء يوم لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا استدراك نفقة ,
كما قال : { فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق } [ المنافقون : 0 1 ]
. والخلة : خالص المودة , مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين و ( خلال ) جمع خلة
كقلة وقلال . قال : فلست بمقلي الخلال ولا قالي .
اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أي أبدعها واخترعها على غير مثال
سبق . وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً أي من السحاب . فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ أي من الشجر ثمرات }{ رزقا لكم } . وَسَخَّرَ لَكُمُ
الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ الفلك : السفن , وإفراده وجمعه بلفظ
واحد , ويذكر ويؤنث . وليست الحركات في المفرد تلك بأعيانها في الجمع , بل كأنه بنى
الجمع بناء آخر ; يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم : فلكان . والفلك المفرد مذكر ;
قال تعالى : { في الفلك المشحون } [ يس : 41 ] فجاء به مذكرا , وقال : { والفلك
التي تجري في البحر }{ فأنث . ويحتمل واحدا وجمعا ; وقال : { حتى إذا كنتم في الفلك
وجرين بهم بريح طيبة } [ يونس : 22 ] فجمع ; فكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى
المركب فيذكر , وإلى السفينة فيؤنث . وقيل : واحده فلك ; مثل أسد وأسد , وخشب وخشب ,
وأصله من الدوران , ومنه : فلك السماء التي تدور عليه النجوم . وفلكت الجارية استدار
ثديها ; ومنه فلكة المغزل . وسميت السفينة فلكا لأنها تدور بالماء أسهل دور . ووجه
الآية في الفلك : تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها
. وأول من عملها نوح عليه السلام كما أخبر تعالى ; وقال له جبريل : اصنعها على جؤجؤ
الطائر ; فعملها نوح عليه السلام وراثة في العالمين بما أراه جبريل . فالسفينة طائر
مقلوب والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها ; قاله ابن العربي . هذه الآية وما
كان مثلها دليل على جواز ركوب البحر مطلقا لتجارة كان أو عبادة ; كالحج والجهاد
. ومن السنة حديث أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
يا رسول الله , إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء . الحديث . وحديث أنس بن
مالك في قصة أم حرام ; أخرجهما الأئمة : مالك وغيره . روى حديث أنس عنه جماعة عن
إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس , ورواه بشر بن عمر عن مالك عن إسحاق عن أنس
عن أم حرام ; جعله من مسند أم حرام لا من مسند أنس . هكذا حدث عنه به بندار محمد بن
بشار ; ففيه دليل واضح على ركوب البحر في الجهاد للرجال والنساء ; وإذا جاز ركوبه
للجهاد فركوبه للحج المفترض أولى وأوجب . وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز
رضي الله عنهما المنع من ركوبه . والقرآن والسنة يرد هذا القول ; ولو كان ركوبه يكره
أو لا يجوز لنهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الذين قالوا له : إنا نركب البحر
. وهذه الآية وما كان مثلها نص في الغرض وإليها المفزع . وقد تؤول ما روي عن العمرين
في ذلك بأن ذلك محمول على الاحتياط وترك التغرير بالمهج في طلب الدنيا والاستكثار
منها , وأما في أداء الفرائض فلا . ومما يدل على جواز ركوبه من جهة المعنى أن الله
تعالى ضرب البحر وسط الأرض وجعل الخلق في العدوتين , وقسم المنافع بين الجهتين فلا
يوصل إلى جلبها إلا بشق البحر لها ; فسهل الله سبيله بالفلك ; قاله ابن العربي . قال
أبو عمر : وقد كان مالك يكره للمرأة الركوب للحج في البحر , وهو للجهاد لذلك أكره
. والقرآن والسنة يرد قوله , إلا أن بعض أصحابنا من أهل البصرة قال : إنما كره ذلك
مالك لأن السفن بالحجاز صغار , وأن النساء لا يقدرن على الاستتار عند الخلاء فيها
لضيقها وتزاحم الناس فيها ; وكان الطريق من المدينة إلى مكة على البر ممكنا ; فلذلك
كره مالك ذلك . وأما السفن الكبار نحو سفن أهل البصرة فليس بذلك بأس . قال : والأصل
أن الحج على كل من استطاع إليه سبيلا الأحرار البالغين , نساء كانوا أو رجالا , إذا
كان الأغلب من الطريق الأمن , ولم يخص بحرا من بر . قلت : فدل الكتاب والسنة
والمعنى على إباحة ركوبه للمعنيين جميعا : العبادة والتجارة ; فهي الحجة وفيها
الأسوة . إلا أن الناس في ركوب البحر تختلف أحوالهم ; فرب راكب يسهل عليه ذلك ولا
يشق , وآخر يشق عليه ويضعف به ; كالمائد المفرط الميد , ومن لم يقدر معه على أداء
فرض الصلاة ونحوها من الفرائض ; فالأول ذلك له جائز ; والثاني يحرم عليه ويمنع منه
. لا خلاف بين أهل العلم وهي : إن البحر إذا أرتج لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه
في حين ارتجاجه ولا في الزمن الذي الأغلب فيه عدم السلامة ; وإنما يجوز عندهم ركوبه
في زمن تكون السلامة فيه الأغلب ; فإن الذين يركبونه حال السلامة وينجون لا حاصر
لهم , والذين يهلكون فيه محصورون . وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ يعني البحار
العذبة لتشربوا منها وتسقوا وتزرعوا , والبحار المالحة لاختلاف المنافع من الجهات .
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ أي في إصلاح ما يصلحانه من
النبات وغيره , والدؤوب مرور الشيء في العمل على عادة جارية . وقيل : دائبين في
السير امتثالا لأمر الله , والمعنى يجريان إلى يوم القيامة لا يفتران ; روي معناه
عن ابن عباس . وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أي لتسكنوا في الليل
ولتبتغوا من فضله في النهار , كما قال : { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا
فيه ولتبتغوا من فضله } [ القصص : 73 ] .
وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ أي أعطاكم من كل مسئول سألتموه شيئا ;
فحذف ; عن الأخفش . وقيل : المعنى وآتاكم من كل ما سألتموه , ومن كل ما لم تسألوه
فحذف , فلم نسأله شمسا ولا قمرا ولا كثيرا من نعمه التي ابتدأنا بها . وهذا كما قال
: { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] على ما يأتي . وقيل : { من }{ زائدة ; أي
آتاكم كل ما سألتموه . وقرأ ابن عباس والضحاك وغيرهما }{ وآتاكم من كل }{ بالتنوين }
ما سألتموه }{ وقد رويت هذه القراءة عن الحسن والضحاك وقتادة ; هي على النفي أي من
كل ما لم تسألوه ; كالشمس والقمر وغيرهما . وقيل : من كل شيء ما سألتموه أي الذي ما
سألتموه . وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا أي نعم الله .{ لا
تحصوها }{ ولا تطيقوا عدها , ولا تقوموا بحصرها لكثرتها , كالسمع والبصر وتقويم
الصور إلى غير ذلك من العافية والرزق ; نعم لا تحصى وهذه النعم من الله , فلم
تبدلون نعمة الله بالكفر ؟ ! وهلا استعنتم بها على الطاعة ؟ !إِنَّ الْإِنْسَانَ
لَظَلُومٌ كَفَّارٌ الإنسان لفظ جنس وأراد به الخصوص ; قال ابن عباس : أراد أبا جهل
. وقيل : جميع الكفار .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا يعني مكة وقد مضى
في }{ البقرة } . وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ أي اجعلني جانبا
عن عبادتها , وأراد بقوله : ( بني ) بنيه من , صلبه وكانوا ثمانية , فما عبد أحد
منهم صنما . وقيل : هو دعاء لمن أراد الله أن يدعو له . وقرأ الجحدري وعيسى }{ وأجنبني
{ بقطع الألف والمعنى واحد ; يقال : جنبت ذلك الأمر ; وأجنبته وجنبته إياه فتجانبه
واجتنبه أي تركه . وكان إبراهيم التيمي يقول في قصصه : من يأمن البلاء بعد الخليل
حين يقول }{ واجنبني وبني أن نعبد الأصنام }{ كما عبدها أبي وقومي .
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لما كانت سببا للإضلال أضاف
الفعل إليهن مجازا ; فإن الأصنام جمادات لا تفعل . فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ
مِنِّي في التوحيد .{ فإنه مني }{ أي من أهل ديني . وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ أي أصر على الشرك .{ فإنك غفور رحيم }{ قيل : قال هذا قبل أن يعرفه
الله أن الله لا يغفر أن يشرك به . وقيل : غفور رحيم لمن تاب من معصيته قبل الموت
. وقال مقاتل بن حيان : { ومن عصاني }{ فيما دون الشرك .
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ روى
البخاري عن ابن عباس : ( أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل ; اتخذت
منطقا لتعفي أثرها على سارة , ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه , حتى
وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ; وليس , بمكة يومئذ أحد , وليس
بها ماء , فوضعهما هنالك ; ووضع عندهما جرابا فيه تمر , وسقاء فيه ماء , ثم قفى
إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل ; فقالت : يا إبراهيم ! أين تذهب وتتركنا بهذا
الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء , فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها , فقالت
له : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قالت إذا لا يضيعنا ; ثم رجعت , فانطلق إبراهيم
. حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه , استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الدعوات ,
ورفع يديه فقال : { ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع } [ إبراهيم : 37 ]
حتى بلغ }{ يشكرون }{ وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء , حتى إذا
نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها , وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال يتلبط -
فانطلقت كراهية أن تنظر إليه , فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها , فقامت عليه ,
ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا , فلم تر أحدا , فهبطت من الصفا , حتى إذا بلغت
الوادي , رفعت طرف درعها , ثم سعت سعي الإنسان المجهود , ثم جاوزت الوادي , ثم أتت
المروة فقامت عليه , فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا , ففعلت ذلك سبع مرات ; قال ابن
عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فذلك سعي الناس بينهما ) فلما أشرفت على
المروة سمعت صوتا فقالت : صه ! تريد نفسها , ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت : قد أسمعت
, إن كان عندك غواث ! فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه - أو قال بجناحه -
حتى ظهر الماء , فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا , وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو
يفور بعد ما تغرف ; قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يرحم الله أم
إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال : لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينا معينا )
قال : فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيت الله
يبنيه هذا الغلام وأبوه , وإن الله لا يضيع أهله ) وذكر الحديث بطوله . مسألة : لا
يجوز لأحد أن يتعلق بهذا في طرح ولده وعياله بأرض مضيعة اتكالا على العزيز الرحيم ,
واقتداء بفعل إبراهيم الخليل , كما تقول غلاة الصوفية في حقيقة التوكل , فإن
إبراهيم فعل ذلك بأمر الله لقوله في الحديث : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . وقد روي
أن سارة لما غارت من هاجر بعد أن ولدت إسماعيل خرج بها إبراهيم عليه السلام إلى مكة
, فروي أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة ,
وترك ابنه وأمته هنالك وركب منصرفا من يومه , فكان ذلك كله بوحي من الله تعالى ,
فلما ولى دعا بضمن هذه الآية . لما أراد الله تأسيس الحال , وتمهيد المقام , وخط
الموضع للبيت المكرم , والبلد المحرم , أرسل الملك فبحث عن الماء وأقامه مقام
الغذاء , وفي الصحيح : أن أبا ذر رضي الله عنه اجتزأ به ثلاثين بين يوم وليلة , قال
أبو ذر : ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكني , وما أجد على كبدي
سخفة جوع ; وذكر الحديث . وروى الدارقطني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : ( ماء زمزم لما شرب له إن شربته تشتفي به شفاك الله وإن شربته لشبعك
أشبعك الله به وإن شربته لقطع ظمئك قطعه وهي هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل ) . وروي
أيضا عن عكرمة قال : كان ابن عباس إذا شرب من زمزم قال : اللهم إني أسألك علما
نافعا , ورزقا واسعا , وشفاء من كل داء . قال ابن العربي : وهذا موجود فيه إلى يوم
القيامة لمن صحت نيته , وسلمت طويته , ولم يكن به مكذبا , ولا يشربه مجربا , فإن
الله مع المتوكلين , وهو يفضح المجربين . وقال أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي
وحدثني أبي رحمه الله قال : دخلت الطواف في ليلة ظلماء فأخذني من البول ما شغلني ,
فجعلت أعتصر حتى آذاني , وخفت إن خرجت من المسجد أن أطأ بعض تلك الأقدام , وذلك
أيام الحج ; فذكرت هذا الحديث , فدخلت زمزم فتضلعت منه , فذهب عني إلى الصباح . وروي
عن عبد الله بن عمرو : إن في زمزم عينا في الجنة من قبل الركن . قوله تعالى : { ومن
ذريتي }{ من }{ في قوله تعالى : { من ذريتي }{ للتبعيض أي أسكنت بعض ذريتي ; يعني
إسماعيل وأمه ; لأن إسحاق كان بالشام . وقيل : هي صلة ; أي أسكنت ذريتي . عِنْدَ
بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ يدل على أن البيت كان قديما على ما روي قبل الطوفان , وقد
مضى هذا المعنى في سورة }{ البقرة } . وأضاف البيت إليه لأنه لا يملكه غيره , ووصفه
بأنه محرم , أي يحرم فيه ما يستباح في غيره من جماع واستحلال . وقيل : محرم على
الجبابرة , وأن تنتهك حرمته , ويستخف بحقه , قاله قتادة وغيره . وقد مضى القول في
هذا في }{ المائدة } . رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ خصها من جملة الدين لفضلها
فيه , ومكانها منه , وهي عهد الله عند العباد ; قال صلى الله عليه وسلم : ( خمس
صلوات كتبهن الله على العباد ) . الحديث . واللام في }{ ليقيموا الصلاة }{ لام كي ; هذا
هو الظاهر فيها وتكون متعلقة ب }{ أسكنت }{ ويصح أن تكون لام أمر , كأنه رغب إلى الله
أن يأتمنهم وأن يوفقهم لإقامة الصلاة . تضمنت هذه الآية أن الصلاة بمكة أفضل من
الصلاة بغيرها ; لأن معنى }{ ربنا ليقيموا الصلاة }{ أي أسكنتهم عند بيتك المحرم
ليقيموا الصلاة فيه . وقد اختلف العلماء هل الصلاة بمكة أفضل أو في مسجد النبي صلى
الله عليه وسلم ؟ فذهب عامة أهل الأثر إلى أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من
الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بمائة صلاة , واحتجوا بحديث عبد الله بن
الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف
صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة
في مسجدي هذا بمائة صلاة } . قال الإمام الحافظ أبو عمر : وأسند هذا الحديث حبيب
المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن الزبير وجوده , ولم يخلط في لفظه ولا في
معناه , وكان ثقة . قال ابن أبي خيثمة سمعت يحيى بن معين يقول : حبيب المعلم ثقة
. وذكر عبد الله بن أحمد قال سمعت أبي يقول : حبيب المعلم ثقة ما أصح حديثه ! وسئل
أبو زرعة الرازي عن حبيب المعلم فقال : بصري ثقة . قلت : وقد خرج حديث حبيب المعلم
هذا عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم الحافظ
أبو حاتم محمد بن حاتم التميمي البستي في المسند الصحيح له , فالحديث صحيح وهو
الحجة عند التنازع والاختلاف . والحمد لله . قال أبو عمر : وقد روي عن ابن عمر عن
النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن الزبير ; رواه موسى الجهني عن نافع عن ابن
عمرو ; وموسى الجهني الكوفي ثقة , أثنى عليه القطان وأحمد ويحيى وجماعتهم . وروى عنه
شعبة . والثوري ويحيى بن سعيد . وروى حكيم بن سيف , حدثنا عبيد الله بن عمر ; عن عبد
الكريم عن عطاء بن أبي رباح , عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في
المسجد الحرام أفضل من مائة ألف فيمن سواه ) . وحكيم بن سيف هذا شيخ من أهل الرقة قد
روى عنه أبو زرعة الرازي , وأخذ عنه ابن وضاح , وهو عندهم شيخ صدوق لا بأس به . فإن
كان حفظ فهما حديثان , وإلا فالقول قول حبيب المعلم . وروى محمد بن وضاح , حدثنا
يوسف بن عدي عن عمر بن عبيد عن عبد الملك عن عطاء عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا
المسجد الحرام فإن الصلاة فيه أفضل ) . قال أبو عمر : وهذا كله نص في موضع الخلاف
قاطع له عند من ألهم رشده , ولم تمل به عصبيته . وذكر ابن حبيب عن مطرف وعن أصبغ عن
ابن وهب أنهما كانا يذهبان إلى تفضيل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد
النبي صلى الله عليه وسلم على ما في هذا الباب . وقد اتفق مالك وسائر العلماء على أن
صلاة العيدين يبرز لهما في كل بلد إلا مكة فإنها تصلى في المسجد الحرام . وكان عمر
وعلي وابن مسعود وأبو الدرداء وجابر يفضلون مكة ومسجدها وهم أولى بالتقليد ممن
بعدهم ; وإلى هذا ذهب الشافعي . وهو قول عطاء والمكيين والكوفيين , وروي مثله عن
مالك ; ذكر ابن وهب في جامعه عن مالك أن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض قال :
يا رب هذه أحب إليك أن تعبد فيها ؟ قال : بل مكة . والمشهور عنه وعن أهل المدينة
تفضيل المدينة , واختلف أهل البصرة والبغداديون في ذلك ; فطائفة تقول مكة , وطائفة
تقول المدينة . فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ الأفئدة جمع
فؤاد وهي القلوب , وقد يعبر عن القلب بالفؤاد كما قال الشاعر : وإن فؤادا قادني
بصبابة إليك على طول المدى لصبور وقيل : جمع وفد , والأصل أوفدة , فقدمت الفاء
وقلبت الواو ياء كما هي , فكأنه قال : واجعل وفودا من الناس تهوي إليهم ; أي تنزع ;
يقال : هوي نحوه إذا مال , وهوت الناقة تهوي هويا فهي هاوية إذا عدت عدوا شديدا
كأنها في هواء بئر , وقوله : { تهوي إليهم }{ مأخوذ منه . قال ابن عباس ومجاهد : لو
قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند واليهود والنصارى والمجوس
, ولكن قال : { من الناس }{ فهم المسلمون ; فقوله : { تهوي إليهم }{ أي تحن إليهم ,
وتحن إلى زيارة البيت . وقرأ مجاهد }{ تهوى إليهم }{ أي تهواهم وتجلهم . وَارْزُقْهُمْ
مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ فاستجاب الله دعاءه , وأنبت لهم بالطائف
سائر الأشجار , وبما يجلب إليهم من الأمصار . وفي صحيح البخاري عن ابن عباس الحديث
الطويل وقد ذكرنا بعضه : ( فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد
إسماعيل , فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتغي لنا , ثم سألهم عن عيشهم وهيئتهم
فقالت : نحن بشر , نحن في ضيق وشدة ; فشكت إليه , قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه
السلام وقولي له يغير عتبة بابه , فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا فقال : هل جاءكم
من أحد ! قالت : نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألني عنك فأخبرته , وسألني كيف عيشتنا
فأخبرته أنا في جهد وشدة , قال فهل أوصاك بشيء : قالت : أمرني أن أقرأ عليك السلام
, ويقول : غير عتبة بابك ; قال : ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك ; فطلقها
وتزوج منهم أخرى , فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده , ودخل على
امرأته فسألها عنه فقالت : خرج يبتغي لنا . قال : كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم
وهيئتهم فقالت : نحن بخير وسعة وأثنت على الله . قال ما طعامكم ؟ قالت : اللحم . قال
فما شرابكم ؟ قالت : الماء . قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء . قال النبي صلى
الله عليه وسلم : ( ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم دعا لهم فيه ) . قال : فهما لا
يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه ; وذكر الحديث . وقال ابن عباس : قول
إبراهيم }{ فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم }{ سأل أن يجعل الله الناس يهوون السكنى
بمكة , فيصير بيتا محرما , وكل ذلك كان والحمد لله . وأول من سكنه جرهم . ففي البخاري
- بعد قوله : وإن الله لا يضيع أهله - وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه
السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله , وكذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم قافلين من طريق
كذا , فنزلوا بأسفل مكة , فرأوا طائرا عائفا فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء
! لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ; فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء ,
فأخبروهم بالماء فأقبلوا . قال : وأم إسماعيل عند الماء ; فقالوا : أتأذنين لنا أن
ننزل عندك ؟ قالت : نعم ولكن لا حق لكم في الماء . قالوا : نعم . قال ابن عباس قال
النبي صلى الله عليه وسلم : ( فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس ) فنزلوا وأرسلوا
إلى أهلهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم , شب الغلام , وماتت أم
إسماعيل , فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته ; الحديث .
أي , ليس يخفى عليك شيء من أحوالنا . وقال ابن عباس ومقاتل : تعلم جميع ما أخفيه وما
أعلنه من الوجد بإسماعيل وأمه حيث أسكنا بواد غير ذي زرع .{ وما يخفى على الله من
شيء في الأرض ولا في السماء }{ قيل : هو من قول إبراهيم . وقيل : هو من قول الله
تعالى لما قال إبراهيم : { ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن }{ قال الله : { وما يخفى
على الله من شيء في الأرض ولا في السماء } .
أي على كبر سني وسن امرأتي ; قال ابن عباس : ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة
. وإسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة . وقال سعيد بن جبير : بشر إبراهيم بإسحاق بعد
عشر ومائة سنة .{ إن ربي لسميع الدعاء } .
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ أي من الثابتين على الإسلام والتزام أحكامه
. وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي واجعل من ذريتي من يقيمها . رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ أي
عبادتي كما قال : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] . وقال عليه السلام
: { الدعاء مخ العبادة ) وقد تقدم في }{ البقرة } .
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ قيل : استغفر إبراهيم
لوالديه قبل أن يثبت عنده أنهما عدوان لله . قال القشيري : ولا يبعد أن تكون أمه
مسلمة لأن الله ذكر عذره في استغفاره لأبيه دون أمه . قلت : وعلى هذا قراءة سعيد بن
جبير , { رب اغفر لي ولوالدي }{ يعني . أباه . وقيل : استغفر لهما طمعا في إيمانهما
. وقيل : استغفر لهما بشرط أن يسلما . وقيل : أراد آدم وحواء . وقد روي أن العبد إذا
قال : اللهم اغفر لي ولوالدي وكان أبواه قد ماتا كافرين انصرفت المغفرة إلى آدم
وحواء لأنهما والدا الخلق أجمع . وقيل : إنه أراد ولديه إسماعيل وإسحاق . وكان
إبراهيم النخعي يقرأ : { ولولدي }{ يعني ابنيه , وكذلك قرأ يحيى بن يعمر ذكره
الماوردي والنحاس }{ وللمؤمنين }{ قال ابن عباس : من أمة محمد صلى الله عليه وسلم
. وقيل : { للمؤمنين }{ كلهم وهو أظهر . يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ أي يوم يقوم الناس
للحساب .
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ وهذا تسلية
للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعجبه من أفعال المشركين ومخالفتهم دين إبراهيم ;
أي اصبر كما صبر إبراهيم , وأعلم المشركين أن تأخير العذاب ليس للرضا بأفعالهم , بل
سنة الله إمهال العصاة مدة . قال ميمون بن مهران : هذا وعيد للظالم , وتعزية للمظلوم
. إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ يعني مشركي مكة يمهلهم ويؤخر عذابهم . وقراءة العامة }
يؤخرهم }{ بالياء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله }{ ولا تحسبن الله } . وقرأ الحسن
والسلمي وروي عن أبي عمرو أيضا }{ نؤخرهم }{ بالنون للتعظيم . لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ
الْأَبْصَارُ أي لا تغمض من هول ما تراه في ذلك اليوم , قاله الفراء . يقال : شخص
الرجل بصره وشخص البصر نفسه أي سما وطمح من هول ما يرى . قال ابن عباس : تشخص أبصار
الخلائق يومئذ إلى الهواء لشدة الحيرة فلا يرمضون .
مُهْطِعِينَ أي مسرعين ; قاله الحسن وقتادة وسعيد بن جبير ; مأخوذ من أهطع يهطع إذا
أسرع ومنه قوله تعالى : { مهطعين إلى الداع } [ القمر : 8 ] أي مسرعين . قال الشاعر
: بدجلة دارهم ولقد أراهم بدجلة مهطعين إلى السماع وقيل : المهطع الذي ينظر في ذل
وخشوع ; أي ناظرين من غير أن يطرفوا ; قاله ابن عباس , وقال مجاهد والضحاك : { مهطعين }{ أي مديمي النظر . وقال النحاس : والمعروف في اللغة أن يقال : أهطع إذا أسرع
; قال أبو عبيد : وقد يكون الوجهان جميعا يعني الإسراع مع إدامة النظر . وقال ابن
زيد : المهطع الذي لا يرفع رأسه . مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ أي رافعي رءوسهم ينظرون في
ذل . وإقناع الرأس رفعه ; قاله ابن عباس ومجاهد . قال ابن عرفة والقتبي وغيرهما :
المقنع الذي يرفع رأسه ويقبل ببصره على ما بين يديه ; ومنه الإقناع في الصلاة وأقنع
صوته إذا رفعه . وقال الحسن : وجوه الناس يومئذ إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد
. وقيل : ناكسي رءوسهم ; قال المهدوي : ويقال أقنع إذا رفع رأسه , وأقنع إذا طأطأ
رأسه ذلة وخضوعا , والآية محتملة الوجهين , وقاله المبرد , والقول الأول أعرف في
اللغة ; قال الراجز : أنغض نحوي رأسه وأقنعا كأنما أبصر شيئا أطمعا وقال الشماخ يصف
إبلا : يباكرن العضاه بمقنعات نواجذهن كالحدإ الوقيع يعني : برءوس مرفوعات إليها
لتتناولهن . ومنه قيل : مقنعة لارتفاعها . ومنه قنع الرجل إذا رضي ; أي رفع رأسه عن
السؤال . وقنع إذا سأل أي أتى ما يتقنع منه ; عن النحاس . وفم مقنع أي معطوفة أسنانه
إلى داخل . ورجل مقنع بالتشديد ; أي عليه بيضة قاله الجوهري . لَا يَرْتَدُّ
إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ أي لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر فهي شاخصة النظر
. يقال : طرف الرجل يطرف طرفا إذا أطبق جفنه على الآخر , فسمي النظر طرفا لأنه به
يكون . والطرف العين . قال عنترة : وأغض طرفي ما بدت جارتي حتى يواري جارتي مأواها
وقال جميل : وأقصر طرفي دون جمل كرامة لجمل وللطرف الذي أنا قاصره وَأَفْئِدَتُهُمْ
هَوَاءٌ أي لا تغني شيئا من شدة الخوف . ابن عباس : خالية من كل خير . السدي : خرجت
قلوبهم من صدورهم فنشبت في حلوقهم ; وقال مجاهد ومرة وابن زيد : خاوية خربة متخرقة
ليس فيها خير ولا عقل ; كقولك في البيت الذي ليس فيه شيء : إنما هو هواء ; وقاله
ابن عباس : والهواء في اللغة المجوف الخالي ; ومنه قول حسان : ألا أبلغ أبا سفيان
عني فأنت مجوف نخب هواء وقال زهير يصف ناقة صغيرة الرأس : كأن الرجل منها فوق صعل
من الظلمان جؤجؤه هواء فارغ أي خال ; وفي التنزيل : { وأصبح فؤاد أم موسى فارغا } [
القصص : 10 ] أي من كل شيء إلا من هم موسى . وقيل : في الكلام إضمار ; أي ذات هواء
وخلاء .