يقال سورة الغرف . قال وهب بن منبه : من أحب أن يعرف قضاء الله عز وجل في خلقه
فليقرأ سورة الغرف . وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد . وقال ابن
عباس : إلا آيتين نزلتا بالمدينة إحداهما }{ الله نزل أحسن الحديث } [ الزمر : 23 ]
والأخرى }{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } [ الزمر : 53 ] الآية . وقال آخرون
: إلا سبع آيات من قوله تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } [ الزمر :
53 ] إلى آخر سبع آيات نزلت في وحشي وأصحابه على ما يأتي . روى الترمذي عن عائشة
قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل . وهي
خمس وسبعون آية . وقيل : اثنتان وسبعون آية .{ تنزيل الكتاب }{ رفع بالابتداء وخبره }
من الله العزيز الحكيم } . ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هذا تنزيل ; قال الفراء
. وأجاز الكسائي والفراء أيضا }{ تنزيل }{ بالنصب على أنه مفعول به . قال الكسائي : أي
اتبعوا واقرءوا }{ تنزيل الكتاب } . وقال الفراء : هو على الإغراء مثل قوله : { كتاب
الله عليكم } [ النساء : 24 ] أي الزموا . والكتاب القرآن . سمي بذلك لأنه مكتوب .
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ أي هذا تنزيل الكتاب من الله
وقد أنزلناه بالحق ; أي بالصدق وليس بباطل وهزل . فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا }
مخلصا }{ نصب على الحال أي موحدا لا تشرك به شيئا قال ابن العربي : هذه الآية دليل
على وجوب النية في كل عمل , وأعظمه الوضوء الذي هو شطر الإيمان , خلافا لأبي حنيفة
والوليد بن مسلم عن مالك اللذين يقولان إن الوضوء يكفي من غير نية , وما كان ليكون
من الإيمان شطرا ولا ليخرج الخطايا من بين الأظافر والشعر بغير نية . لَهُ الدِّينَ
أي الطاعة . وقيل : العبادة وهو مفعول به .
أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ أي الذي لا يشوبه شيء . وفي حديث الحسن عن أبي
هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله إني أتصدق بالشيء وأصنع الشيء أريد به وجه الله
وثناء الناس . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفس محمد بيده لا يقبل
الله شيئا شورك فيه ) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم }{ ألا لله الدين الخالص
{ وقد مضى هذا المعنى في }{ البقرة }{ و [ النساء ] و [ الكهف ] مستوفى . وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ يعني الأصنام والخبر محذوف . مَا نَعْبُدُهُمْ
إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى قال قتادة : كانوا إذا قيل لهم من
ربكم وخالقكم ؟ ومن خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء ؟ قالوا الله , فيقال
لهم ما معنى عبادتكم الأصنام ؟ قالوا ليقربونا إلى الله زلفى , ويشفعوا لنا عنده
. قال الكلبي : جواب هذا الكلام في الأحقاف }{ فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله
قربانا آلهة } [ الأحقاف : 28 ] والزلفى القربة ; أي ليقربونا إليه تقريبا , فوضع }
زلفى }{ في موضع المصدر . وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس ومجاهد }{ والذين اتخذوا من
دونه أولياء قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى }{ وفي حرف أبي ( والذين
اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدكم إلا لتقربونا إلى الله زلفى }{ ذكره النحاس . قال :
والحكاية في هذا بينة . إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ أي بين أهل الأديان يوم القيامة فيجازي كلا بما يستحق . إِنَّ اللهَ
لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ أي من سبق له القضاء بالكفر لم يهتد ; أي
للدين الذي ارتضاه وهو دين الإسلام ; كما قال الله تعالى : { ورضيت لكم الإسلام
دينا }{ وفي هذا رد على القدرية وغيرهم على ما تقدم .
لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا
يَشَاءُ أي لو أراد أن يسمي أحدا من خلقه بهذا ما جعله عز وجل إليهم . سُبْحَانَهُ
هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ أي تنزيها له عن الولد .
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي هو القادر على الكمال المستغني عن
الصاحبة والولد , ومن كان هكذا فحقه أن يفرد بالعبادة لا أنه يشرك به . ونبه بهذا
على أن يتعبد العباد بما شاء وقد فعل . يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ
وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ قال الضحاك : أي يلقي هذا على هذا وهذا على
هذا . وهذا على معنى التكوير في اللغة , وهو طرح الشيء بعضه على بعض ; يقال كور
المتاع أي ألقى بعضه على بعض ; ومنه كور العمامة . وقد روي عن ابن عباس هذا في معنى
الآية . قال : ما نقص من الليل دخل في النهار وما نقص من النهار دخل في الليل . وهو
معنى قوله تعالى : { يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل } [ فاطر : 13 ]
وقيل : تكوير الليل على النهار تغشيته إياه حتى يذهب ضوءه , ويغشي النهار على الليل
فيذهب ظلمته , وهذا قول قتادة . وهو معنى قوله تعالى : { يغشي الليل النهار يطلبه
حثيثا } [ الأعراف : 54 ] . وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي بالطلوع والغروب
لمنافع العباد . كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي في فلكه إلى أن تنصرم الدنيا
وهو يوم القيامة حين تنفطر السماء وتنتثر الكواكب . وقيل : الأجل المسمى هو الوقت
الذي ينتهي فيه سير الشمس والقمر إلى المنازل المرتبة لغروبها وطلوعها . قال الكلبي
: يسيران إلى أقصى منازلهما , ثم يرجعان إلى أدنى منازلهما لا يجاوزانه . وقد تقدم
بيان هذا في سورة [ يس ] . أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ }{ ألا }{ تنبيه أي
تنبهوا فإني أنا }{ العزيز }{ الغالب }{ الغفار }{ الساتر لذنوب خلقه برحمته .
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ يعني آدم عليه السلامثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا
زَوْجَهَا يعني ليحصل التناسل , وقد مضى هذا في [ الأعراف ] وغيرها . وَأَنْزَلَ
لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ أخبر عن الأزواج بالنزول ; لأنها
تكونت بالنبات والنبات بالماء المنزل . وهذا يسمى التدريج ; ومثله قوله تعالى : { قد
أنزلنا عليكم لباسا } [ الأعراف : 26 ] الآية . وقيل : أنزل أنشأ وجعل . وقال سعيد بن
جبير : خلق . وقيل : إن الله تعالى خلق هذه الأنعام في الجنة ثم أنزلها إلى الأرض ;
كما قيل في قوله تعالى : { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد } [ الحديد : 25 ] فإن آدم
لما هبط إلى الأرض أنزل معه الحديد . وقيل : { وأنزل لكم من الأنعام }{ أي أعطاكم
. وقيل : جعل الخلق إنزالا ; لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء . فالمعنى :
خلق لكم كذا بأمره النازل . قال قتادة : من الإبل اثنين ومن البقر اثنين ومن الضأن
اثنين ومن المعز اثنين كل واحد زوج . وقد تقدم هذا . يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ
أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ قال قتادة والسدي : نطفة ثم علقة ثم
مضغة ثم عظما ثم لحما . ابن زيد : { خلقا من بعد خلق }{ خلقا في بطون أمهاتكم من بعد
خلقكم في ظهر آدم . وقيل : في ظهر الأب ثم خلقا في بطن الأم ثم خلقا بعد الوضع ذكره
الماوردي . وقرأ حمزة : { إمهاتكم }{ بكسر الهمزة والميم . والكسائي بكسر الهمزة وفتح
الميم . الباقون بضم الهمزة وفتح الميم . فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ظلمة البطن وظلمة
الرحم وظلمة المشيمة . قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك . وقال ابن جبير :
ظلمة المشيمة وظلمة الرحم وظلمة الليل . والقول الأول أصح . وقيل : ظلمة صلب الرجل
وظلمة بطن المرأة وظلمة الرحم . وهذا مذهب أبي عبيدة . أي لا تمنعه الظلمة كما تمنع
المخلوقين . ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أي
الذي خلق هذه الأشياء }{ ربكم له الملك لا إله إلا هو } . فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي
كيف تنقلبون وتنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره .
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ
الْكُفْرَ }{ إن تكفروا فإن الله غني عنكم }{ شرط وجوابه .{ ولا يرضى لعباده الكفر }
أي إن يكفروا أي لا يحب ذلك منهم . وقال ابن عباس والسدي : معناه لا يرضى لعباده
المؤمنين الكفر , وهم الذين قال الله فيهم : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } [
الإسراء : 65 ] . وكقوله : { عينا يشرب بها عباد الله } [ الإنسان : 6 ] أي المؤمنون
. وهذا على قول من لا يفرق بين الرضا والإرادة . وقيل : لا يرضى الكفر وإن أراده ;
فالله تعالى يريد الكفر من الكافر وبإرادته كفر لا يرضاه ولا يحبه , فهو يريد كون
ما لا يرضاه , وقد أراد الله عز وجل خلق إبليس وهو لا يرضاه , فالإرادة غير الرضا
. وهذا مذهب أهل السنة . وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ أي يرضى الشكر لكم ; لأن
{ تشكروا }{ يدل عليه . وقد مضى القول في الشكر في [ البقرة ] وغيرها . ويرضى بمعنى
يثيب ويثني , فالرضا على هذا إما ثوابه فيكون صفة فعل }{ لئن شكرتم لأزيدنكم } [
إبراهيم : 7 ] وإما ثناؤه فهو صفة ذات . و }{ يرضه }{ بالإسكان في الهاء قرأ أبو جعفر
وأبو عمرو وشيبة وهبيرة عن عاصم . وأشبع الضمة ابن ذكوان وابن كثير وابن محيصن
والكسائي وورش عن نافع . واختلس الباقون . وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى
ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى , أي لا تؤخذ نفس
بذنب غيرها , بل كل نفس مأخوذة بجرمها ومعاقبة بإثمها . وأصل الوزر الثقل ; ومنه
قوله تعالى : { ووضعنا عنك وزرك } [ الشرح : 2 ] . وهو هنا الذنب ; كما قال تعالى :
{ وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } [ الأنعام : 31 ] . وقد تقدم . قال الأخفش : يقال
وزر يوزر , ووزر يزر , ووزر يوزر وزرا . ويجوز إزرا , كما يقال : إسادة . قلت :
ويحتمل أن يكون المراد بهذه الآية في الآخرة , وكذلك التي قبلها ; فأما التي في
الدنيا فقد يؤاخذ فيها بعضهم بجرم بعض , لا سيما إذا لم ينه الطائعون العاصين , كما
تقدم في حديث أبي بكر في قوله : { عليكم أنفسكم } [ المائدة : 105 ] . وقول تعالى :
{ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } [ الأنفال : 25 ] .{ إن الله لا
يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } [ الرعد : 11 ] . وقالت زينب بنت جحش : يا
رسول الله , أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : ( نعم إذا كثر الخبث ) . قال العلماء :
معناه أولاد الزنى . والخبث ( بفتح الباء ) اسم للزنى . فأوجب الله تعالى على لسان
رسوله صلى الله عليه وسلم دية الخطأ على العاقلة حتى لا يبطل دم الحر المسلم تعظيما
للدماء . وأجمع أهل العلم على ذلك من غير خلاف بينهم في ذلك ; فدل على ما قلناه . وقد
يحتمل أن يكون هذا في الدنيا , في ألا يؤاخذ زيد بفعل عمرو , وأن كل مباشر لجريمة
فعليه مغبتها . وروى أبو داود عن أبي رمثة قال ; انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله
عليه وسلم , ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي : ( ابنك هذا ) ؟ قال : إي
ورب الكعبة . قال : ( حقا ) . قال : أشهد به . قال : فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم
ضاحكا من ثبت شبهي في أبي , ومن حلف أبي علي . ثم قال : ( أما إنه لا يجني عليك ولا
تجني عليه ) . وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم }{ ولا تزر وازرة وزر أخرى } . ولا
يعارض ما قلناه أولا بقوله : { وليحملن أثقالهم }{ وأثقالا مع أثقالهم } [ العنكبوت
: 13 ] ; فإن هذا مبين في الآية الأخرى قوله : { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة
ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } [ النحل : 25 ] . فمن كان إماما في الضلالة ودعا
إليها واتبع عليها فإنه يحمل وزر من أضله من غير أن ينقص من وزر المضل شيء , على ما
يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ يعني الكافرضُرٌّ أي شدة من الفقر والبلاءدَعَا رَبَّهُ
مُنِيبًا إِلَيْهِ أي راجعا إليه مخبتا مطيعا له مستغيثا به في إزالة تلك الشدة عنه
. ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ أي أعطاه وملكه . يقال : خولك الله الشيء أي
ملكك إياه , وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد : هنالك إن يستخولوا المال يخولوا وإن
يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا وخول الرجل : حشمه الواحد خائل . قال أبو النجم :
أعطى فلم يبخل ولم يبخل كوم الذرى من خول المخول نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ
مِنْ قَبْلُ أي نسي ربه الذي كان يدعوه من قبل في كشف الضر عنه . فـ }{ ما }{ على هذا
الوجه لله عز وجل وهي بمعنى الذي . وقيل : بمعنى من كقوله : { ولا أنتم عابدون ما
أعبد } [ الكافرون : 3 ] والمعنى واحد . وقيل : نسي الدعاء الذي كان يتضرع به إلى
الله عز وجل . أي ترك كون الدعاء منه إلى الله , فما والفعل على هذا القول مصدر
. وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا أي أوثانا وأصناما . وقال السدي : يعني أندادا من
الرجال يعتمدون عليهم في جميع أمورهم . لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أي ليقتدي به
الجهال . قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا أي قل لهذا الإنسان }{ تمتع }{ وهو أمر
تهديد فمتاع الدنيا قليل . إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ أي مصيرك إلى النار .
أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا بين تعالى أن المؤمن ليس كالكافر
الذي مضى ذكره . وقرأ الحسن وأبو عمرو وعاصم والكسائي }{ أمن }{ بالتشديد . وقرأ نافع
وابن كثير ويحيى ابن وثاب والأعمش وحمزة : { أمن هو }{ بالتخفيف على معنى النداء ;
كأنه قال يا من هو قانت . قال الفراء : الألف بمنزلة يا , تقول يا زيد أقبل وأزيد
أقبل . وحكي ذلك عن سيبويه وجميع النحويين ; كما قال أوس بن حجر : أبني لبينى لستم
بيد إلا يدا ليست لها عضد وقال آخر هو ذو الرمة : أدارا بحزوى هجت للعين عبرة فماء
الهوى يرفض أو يترقرق فالتقدير على هذا }{ قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار }
يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة ; كما يقال في الكلام : فلان لا يصلي ولا يصوم ,
فيا من يصلي ويصوم أبشر ; فحذف لدلالة الكلام عليه . وقيل : إن الألف في }{ أمن }{ ألف
استفهام أي }{ أمن هو قانت آناء الليل }{ أفضل ؟ أم من جعل لله أندادا ؟ والتقدير
الذي هو قانت خير . ومن شدد }{ أمن }{ فالمعنى العاصون المتقدم ذكرهم خير }{ أمن هو
قانت }{ فالجملة التي عادلت أم محذوفة , والأصل أم من فأدغمت في الميم . النحاس : وأم
بمعنى بل , ومن بمعنى الذي ; والتقدير : أم الذي هو قانت أفضل ممن ذكر . وفي قانت
أربعة أوجه : أحدها أنه المطيع ; قاله ابن مسعود . الثاني أنه الخاشع في صلاته ;
قاله ابن شهاب . الثالث أنه القائم في صلاته ; قاله يحيى بن سلام . الرابع أنه الداعي
لربه . وقول ابن مسعود يجمع ذلك . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (
كل قنوت في القرآن فهو طاعة لله عز وجل ) وروي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه سئل أي الصلاة أفضل ؟ فقال : ( طول القنوت ) وتأوله جماعة من أهل العلم على أنه
طول القيام . وروى عبد الله عن نافع عن ابن عمر سئل عن القنوت فقال : ما أعرف القنوت
إلا طول القيام , وقراءة القرآن . وقال مجاهد : من القنوت طول الركوع وغض البصر
. وكان العلماء إذا وقفوا في الصلاة غضوا أبصارهم , وخضعوا ولم يلتفتوا في صلاتهم ,
ولم يعبثوا ولم يذكروا شيئا من أمر الدنيا إلا ناسين . قال النحاس : أصل هذا أن
القنوت الطاعة , فكل ما قيل فيه فهو طاعة لله عز وجل , فهذه الأشياء كلها داخلة في
الطاعة وما هو أكثر منها كما قال نافع : قال لي ابن عمر قم فصل فقمت أصلي وكان علي
ثوب خلق , فدعاني فقال لي : أرأيت لو وجهتك في حاجة أكنت تمضي هكذا ؟ فقلت : كنت
أتزين قال : فالله أحق أن تتزين له . واختلف في تعيين القانت هاهنا , فذكر يحيى بن
سلام أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عباس في رواية الضحاك عنه : هو
أبو بكر وعمر رضي الله عنهما . وقال ابن عمر : هو عثمان رضي الله عنه . وقال مقاتل :
إنه عمار بن ياسر . الكلبى : صهيب وأبو ذر وابن مسعود . وعن الكلبي أيضا أنه مرسل
فيمن كان على هذه الحال .{ آناء الليل }{ قال الحسن : ساعاته ; أوله وأوسطه وآخره
. وعن ابن عباس : { آناء الليل }{ جوف الليل . قال ابن عباس : من أحب أن يهون الله
عليه الوقوف يوم القيامة , فليره الله في ظلمة الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ,
ويرجو رحمة ربه . وقيل : ما بين المغرب والعشاء . وقول الحسن عام . وَقَائِمًا
يَحْذَرُ قال سعيد بن جبير : أي عذاب الآخرة . الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ أي
نعيم الجنة . وروي عن الحسن أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو فقال : هذا متمن
. ولا يقف على قوله : { رحمة ربه }{ من خفف }{ أمن هو قانت }{ على معنى النداء ; لأن
قوله : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون }{ متصل إلا أن يقدر في الكلام
حذف وهو أيسر , على ما تقدم بيانه . رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا قال الزجاج : أي كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا
يعلمون كذلك لا يستوي المطيع والعاصي . وقال غيره : الذين يعلمون هم الذين ينتفعون
بعلمهم ويعملون به , فأما من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به فهو بمنزلة من لم يعلم
. يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو أي أصحاب العقول من المؤمنين الذين
انتفعوا بعقولهم .
قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أي قل يا محمد لعبادي المؤمنينآمَنُوا اتَّقُوا أي
اتقوا معاصيه والتاء مبدلة من واو وقد تقدم . وقال ابن عباس : يريد جعفر بن أبي طالب
والذين خرجوا معه إلى الحبشة . رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا يعني بالحسنة الأولى الطاعة وبالثانية الثواب في الجنة . وقيل : المعنى
للذين أحسنوا في الدنيا حسنة في الدنيا , يكون ذلك زيادة على ثواب الآخرة , والحسنة
الزائدة في الدنيا الصحة والعافية والظفر والغنيمة . قال القشيري : والأول أصح ; لأن
الكافر قد نال نعم الدنيا . قلت : وينالها معه المؤمن ويزاد الجنة إذا شكر تلك النعم
. وقد تكون الحسنة في الدنيا الثناء الحسن , وفي الآخرة الجزاء . حَسَنَةٌ وَأَرْضُ
اللهِ فهاجروا فيها ولا تقيموا مع من يعمل بالمعاصي . وقد مضى القول في هذا مستوفى
في [ النساء ] وقيل : المراد أرض الجنة ; رغبهم في سعتها وسعة نعيمها ; كما قال : { وجنة عرضها السماوات والأرض } [ آل عمران : 133 ] والجنة قد تسمى أرضا ; قال الله
تعالى : { وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء
" [ الزمر : 74 ] والأول أظهر فهو أمر بالهجرة . أي ارحلوا من مكة إلى حيث تأمنوا
. الماوردي : يحتمل أن يريد بسعة الأرض سعة الرزق ; لأنه يرزقهم من الأرض فيكون
معناه , ورزق الله واسع , وهو أشبه ; لأنه أخرج سعتها مخرج الامتنان . قلت : فتكون
الآية دليلا على الانتقال من الأرض الغالية , إلى الأرض الراخية , كما قال سفيان
الثوري : كن في موضع تملأ فيه جرابك خبزا بدرهم . وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ أي بغير تقدير . وقيل : يزاد على الثواب ; لأنه
لو أعطي بقدر ما عمل لكان بحساب . وقيل : { بغير حساب }{ أي بغير متابعة ولا مطالبة
كما تقع المطالبة بنعيم الدنيا . و }{ الصابرون }{ هنا الصائمون ; دليله قوله عليه
الصلاة والسلام مخبرا عن الله عز وجل : ( الصوم لي وأنا أجزي به }{ قال أهل العلم :
كل أجر يكال كيلا ويوزن وزنا إلا الصوم فإنه يحثى حثوا ويغرف غرفا ; وحكي عن علي
رضي الله عنه . وقال مالك بن أنس في قوله : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب }
قال : هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها . ولا شك أن كل من سلم فيما أصابه , وترك
ما نهي عنه , فلا مقدار لأجرهم . وقال قتادة : لا والله ما هناك مكيال ولا ميزان ,
حدثني أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( تنصب الموازين فيؤتى بأهل
الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين وكذلك الصلاة والحج ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم
ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر بغير حساب قال الله تعالى : { إنما يوفى
الصابرون أجرهم بغير حساب }{ حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض
بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل ) . وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما
قال سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أد الفرائض تكن من أعبد الناس
وعليك بالقنوع تكن من أغنى الناس , يا بني إن في الجنة شجرة يقال لها شجرة البلوى
يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان يصب عليهم الأجر صبا ) ثم
تلا النبي صلى الله عليه وسلم }{ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } . ولفظ صابر
يمدح به , وإنما هو لمن صبر عن المعاصي , وإذا أردت أنه صبر على المصيبة قلت صابر
على كذا ; قال النحاس . وقد مضى في [ البقرة ] مستوفى .
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا مخلصا }{ مخلصا }{ نصب على
الحال أي موحدا لا تشرك به شيئا قال ابن العربي : هذه الآية دليل على وجوب النية في
كل عمل , وأعظمه الوضوء الذي هو شطر الإيمان , خلافا لأبي حنيفة والوليد بن مسلم عن
مالك اللذين يقولان إن الوضوء يكفي من غير نية , وما كان ليكون من الإيمان شطرا ولا
ليخرج الخطايا من بين الأظافر والشعر بغير نية . لَهُ الدِّينَ أي الطاعة . وقيل :
العبادة وهو مفعول به .
من هذه الأمة , وكذلك كان ; فإنه كان أول من خالف دين آبائه ; وخلع الأصنام وحطمها
, وأسلم لله وآمن به , ودعا إليه صلى الله عليه وسلم . واللام في قوله : { لأن أكون
{ صلة زائدة قال الجرجاني وغيره . وقيل : لام أجل . وفي الكلام حذف أي أمرت بالعبادة
{ لأن أكون أول المسلمين } .
قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيميريد عذاب يوم القيامة وقال حين دعاه قومه
إلى دين آبائه ; قال أكثر أهل التفسير . وقال أبو حمزة الثمالي وابن المسيب : هذه
الآية منسوخة بقوله تعالى : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } [ الفتح :
2 ] فكانت هذه الآية من قبل أن يغفر ذنب النبي صلى الله عليه وسلم .
فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ أمر تهديد ووعيد وتوبيخ ; كقوله تعالى : { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] . وقيل : منسوخة بآية السيف . قُلْ إِنَّ
الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ قال ميمون بن مهران عن ابن عباس : ليس
من أحد إلا وقد خلق الله له زوجة في الجنة , فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله . في
رواية عن ابن عباس : فمن عمل بطاعة الله كان له ذلك المنزل والأهل إلا ما كان له
قبل ذلك , وهو قوله تعالى : { أولئك هم الوارثون } [ المؤمنون : 10 ] .
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ سمى ما
تحتهم ظللا ; لأنها تظل من تحتهم , وهذه الآية نظير قوله تعالى : { لهم من جهنم
مهاد ومن فوقهم غواش } [ الأعراف : 41 ] وقوله : { يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن
تحت أرجلهم } .[ العنكبوت : 55 ] . ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ قال ابن
عباس : أولياءه . يَا عِبَادِ أي يا أوليائي فخافون . وقيل : هو عام في المؤمن
والكافر . وقيل : خاص بالكفار .
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا قال الأخفش : الطاغوت جمع
ويجوز أن تكون واحدة مؤنثة . وقد تقدم . أي تباعدوا من الطاغوت وكانوا منها على جانب
فلم يعبدوها . قال مجاهد وابن زيد : هو الشيطان . وقال الضحاك والسدي : هو الأوثان
. وقيل : إنه الكاهن . وقيل إنه اسم أعجمي مثل طالوت وجالوت وهاروت وماروت . وقيل :
إنه اسم عربي مشتق من الطغيان , و }{ أن }{ في موضع نصب بدلا من الطاغوت , تقديره :
والذين اجتنبوا عبادة الطاغوت . وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ أي رجعوا إلى عبادته
وطاعته . لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي }{ لهم البشرى }{ في الحياة الدنيا
بالجنة في العقبى . روي أنها نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد وطلحة
والزبير رضي الله عنهم ; سألوا أبا بكر رضي الله عنه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا . وقيل
: نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر وغيرهما ممن وحد الله تعالى قبل مبعث النبي
صلى الله عليه وسلم .
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ قال ابن عباس : هو
الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به . وقيل :
يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن . وقيل : يستمعون القرآن وأقوال الرسول فيتبعون
أحسنه أي محكمه فيعملون به . وقيل : يستمعون عزما وترخيصا فيأخذون بالعزم دون
الترخيص . وقيل : يستمعون العقوبة الواجبة لهم والعفو فيأخذون بالعفو . وقيل : إن
أحسن القول على من جعل الآية فيمن وحد الله قبل الإسلام }{ لا إله إلا الله } . وقال
عبد الرحمن بن زيد : نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي ,
اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم , واتبعوا أحسن ما صار من القول إليهم
. أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ لما يرضاه . وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو
الْأَلْبَابِ أي أصحاب العقول من المؤمنين الذين انتفعوا بعقولهم .
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على إيمان قوم وقد سبقت لهم من الله الشقاوة
فنزلت هذه الآية . قال ابن عباس : يريد أبا لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي صلى
الله عليه وسلم عن الإيمان . وكرر الاستفهام في قوله : { أفأنت }{ تأكيدا لطول الكلام
, وكذا قال سيبويه في قوله تعالى : { أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم
مخرجون } [ المؤمنون : 35 ] على ما تقدم . والمعنى : { أفمن حق عليه كلمة العذاب }
أفأنت تنقذه . والكلام شرط وجوابه . وجيء بالاستفهام ; ليدل على التوقيف والتقرير
. وقال الفراء : المعنى أفأنت تنقذ من حقت عليه كلمة العذاب . والمعنى واحد . وقيل :
إن في الكلام حذفا والتقدير : أفمن حق عليه كلمة العذاب ينجو منه , وما بعده مستأنف
. وقال : { أفمن حق عليه }{ وقال في موضع آخر : { حقت كلمة العذاب } [ الزمر : 71 ]
لأن الفعل إذا تقدم ووقع بينه وبين الموصوف به حائل جاز التذكير والتأنيث , على أن
التأنيث هنا ليس بحقيقي بل الكلمة في معنى الكلام والقول ; أي أفمن حق عليه قول
العذاب .
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ لما بين
أن للكفار ظللا من النار من فوقهم ومن تحتهم بين أن للمتقين غرفا فوقها غرف ; لأن
الجنة درجات يعلو بعضها بعضا و }{ لكن }{ ليس للاستدراك ; لأنه لم يأت نفي كقوله : ما
رأيت زيدا لكن عمرا ; بل هو لترك قصة إلى قصة مخالفة للأولى كقولك : جاءني زيد لكن
عمرو لم يأت . مَبْنِيَّةٌ قال ابن عباس : من زبرجد وياقوتتَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ أي هي جامعة لأسباب النزهة . وَعْدَ اللهِ نصب على المصدر ; لأن معنى
{ لهم غرف }{ وعدهم الله ذلك وعدا . ويجوز الرفع بمعنى ذلك وعد الله . لَا يُخْلِفُ
اللهُ الْمِيعَادَ أي ما وعد الفريقين .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً أي إنه لا يخلف الميعاد
في إحياء الخلق , والتمييز بين المؤمن والكافر , وهو قادر على ذلك كما أنه قادر على
إنزال الماء من السماء .{ أنزل من السماء }{ أي من السحاب }{ ماء }{ أي
المطرفَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ أي فأدخله في الأرض وأسكنه فيها ; كما
قال : { فأسكناه في الأرض } [ المؤمنون : 18 ] .{ ينابيع }{ جمع ينبوع وهو يفعول من
نبع ينبع وينبع وينبع بالرفع والنصب والخفض . النحاس : وحكى لنا ابن كيسان في قول
الشاعر : ينباع من ذفرى غضوب جسرة أن معناه ينبع فأشبع الفتحة فصارت ألفا , نبوعا
خرج . والينبوع عين الماء والجمع الينابيع . وقد مضى في [ سبحان ] . ثُمَّ يُخْرِجُ
بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثم يخرج به أي بذلك الماء الخارج من ينابيع
الأرض }{ زرعا }{ هو للجنس أي زروعا شتى لها ألوان مختلفة , حمرة وصفرة وزرقة وخضرة
ونورا . قال الشعبي والضحاك : كل ماء في الأرض فمن السماء نزل , إنما ينزل من السماء
إلى الصخرة , ثم تقسم منها العيون والركايا . ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا }
يهيج }{ أي ييبس .{ فتراه }{ أي بعد خضرته }{ مصفرا }{ قال المبرد قال الأصمعي : يقال
هاجت الأرض تهيج إذا أدبر نبتها وولى . قال : كذلك هاج النبت . قال : وكذلك قال غير
الأصمعي . وقال الجوهري : هاج النبت هياجا أي يبس . وأرض هائجة يبس بقلها أو اصفر ,
وأهاجت الريح النبت أيبسته , وأهيجنا الأرض أي وجدناها هائجة النبات , وهاج هائجه
أي ثار غضبه , وهدأ هائجه أي سكنت فورته . ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا أي فتاتا مكسرا
من تحطم العود إذا تفتت من اليبس . والمعنى أن من قدر على هذا قدر على الإعادة . وقيل
: هو مثل ضربه الله للقرآن ولصدور من في الأرض , أي أنزل من السماء قرآنا فسلكه في
قلوب المؤمنين }{ ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه }{ أي دينا مختلفا بعضه أفضل من بعض
, فأما المؤمن فيزداد إيمانا ويقينا , وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج
الزرع . وقيل : هو مثل ضربه الله للدنيا ; أي كما يتغير النبت الأخضر فيصفر كذلك
الدنيا بعد بهجتها . إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ أي أصحاب
العقول من المؤمنين الذين انتفعوا بعقولهم .
أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ شرح فتح ووسع . قال ابن عباس : وسع
صدره للإسلام حتى ثبت فيه . وقال السدي : وسع صدره بالإسلام للفرح به والطمأنينة
إليه ; فعلى هذا لا يجوز أن يكون هذا الشرح إلا بعد الإسلام ; وعلى الوجه الأول
يجوز أن يكون الشرح قبل الإسلام . والمراد بمن شرح الله صدره هاهنا فيما ذكر
المفسرون علي وحمزة رضي الله عنهما . وحكى النقاش أنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه
. وقال مقاتل : عمار بن ياسر . وعنه أيضا والكلبي رسول الله صلى الله عليه وسلم
. والآية عامة فيمن شرح الله صدره بخلق الإيمان فيه . وروى مرة عن ابن مسعود قال :
قلنا يا رسول الله قوله تعالى : { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه }
كيف انشرح صدره ؟ قال : ( إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح ) قلنا : يا رسول الله
وما علامة ذلك ؟ . قال : ( الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور
والاستعداد للموت قبل نزوله ) وخرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث ابن
عمر : أن رجلا قال يا رسول الله أي المؤمنين أكيس ؟ قال : ( أكثرهم للموت ذكرا
وأحسنهم له استعدادا وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع ) قالوا : فما آية ذلك
يا نبي الله ؟ قال : ( الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد
للموت قبل نزول الموت ) فذكر صلى الله عليه وسلم خصالا ثلاثة , ولا شك أن من كانت
فيه هذه الخصال فهو الكامل الإيمان , فإن الإنابة إنما هي أعمال البر ; لأن دار
الخلود إنما وضعت جزاء لأعمال البر , ألا ترى كيف ذكره الله في مواضع في تنزيله ثم
قال بعقب ذلك : { جزاء بما كانوا يعملون } [ الواقعة : 24 ] فالجنة جزاء الأعمال ;
فإذا انكمش العبد في أعمال البر فهو إنابته إلى دار الخلود , وإذا خمد حرصه عن
الدنيا , ولها عن طلبها , وأقبل على ما يغنيه منها فاكتفى به وقنع , فقد تجافى عن
دار الغرور . وإذا أحكم أموره بالتقوى فكان ناظرا في كل أمر , واقفا متأدبا متثبتا
حذرا يتورع عما يريبه إلى ما لا يريبه , فقد استعد للموت . فهذه علامتهم في الظاهر
. وإنما صار هكذا لرؤية الموت , ورؤية صرف الآخرة عن الدنيا , ورؤية الدنيا أنها دار
الغرور , وإنما صارت له هذه الرؤية بالنور الذي ولج القلب . فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ
رَبِّهِ أي على هدى من ربه . فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ
اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قيل : المراد أبو لهب وولده ; ومعنى : { من
ذكر الله }{ أن قلوبهم تزداد قسوة من سماع ذكره . وقيل : إن }{ من }{ بمعنى عن ,
والمعنى قست عن قبول ذكر الله . وهذا اختيار الطبري . وعن أبي سعيد الخدري أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : ( قال الله تعالى اطلبوا الحوائج من السمحاء فإني
جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم فإني جعلت فيهم سخطي ) . وقال مالك
بن دينار : ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب , وما غضب الله على قوم إلا نزع
الرحمة من قلوبهم . قال المبرد : يقال قسا القلب إذا صلب , وكذلك عتا وعسا مقاربة
لها . وقلب قاس أي صلب لا يرق ولا يلين .
اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يعني القرآن لما قال : { فيتبعون أحسنه } [
الزمر : 18 ] بين أن أحسن ما يسمع ما أنزله الله وهو القرآن . قال سعد بن أبي وقاص
قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو حدثتنا فأنزل الله عز وجل : { الله
نزل أحسن الحديث }{ فقالوا : لو قصصت علينا فنزل : { نحن نقص عليك أحسن القصص } [
يوسف : 3 ] فقالوا : لو ذكرتنا فنزل : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر
الله } [ الحديد : 16 ] الآية . وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا له : حدثنا فنزلت . والحديث ما يحدث به المحدث . وسمي
القرآن حديثا ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث به أصحابه وقومه , وهو
كقوله : { فبأي حديث بعده يؤمنون } [ المرسلات : 50 ] وقوله : { أفمن هذا الحديث
تعجبون } [ النجم : 59 ] وقوله : { إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا } [ الكهف : 6 ]
وقوله : { ومن أصدق من الله حديثا } [ النساء : 87 ] وقوله : { فذرني ومن يكذب بهذا
الحديث } [ القلم : 44 ] قال القشيري : وتوهم قوم أن الحديث من الحدوث ; فليدل على
أن كلامه محدث وهو وهم ; لأنه لا يريد لفظ الحديث على ما في قوله : { ما يأتيهم من
ذكر من ربهم محدث }{ وقد قالوا : إن الحدوث يرجع إلى التلاوة لا إلى المتلو , وهو
كالذكر مع المذكور إذا ذكرنا أسماء الرب تعالى . كِتَابًا مُتَشَابِهًا }{ كتابا }
نصب على البدل من }{ أحسن الحديث }{ ويحتمل أن يكون حالا منه .{ متشابها }{ يشبه بعضه
بعضا في الحسن والحكمة ويصدق بعضه بعضا , ليس فيه تناقض ولا اختلاف . وقال قتادة :
يشبه بعضه بعضا في الآي والحروف . وقيل : يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه ; لما
يتضمنه من أمر ونهي وترغيب وترهيب وإن كان أعم وأعجز . مَثَانِيَ تثنى فيه القصص
والمواعظ والأحكام وثنى للتلاوة فلا يمل . تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ تضطرب وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد . وقال زيد بن أسلم :
ذرأ أبي بن كعب عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه فرقوا فقال النبي صلى
الله عليه وسلم : ( اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة ) . وعن العباس أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا اقشعر جلد المؤمن من مخافة الله تحاتت عنه
خطاياه كما يتحات عن الشجرة البالية ورقها ) . وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : ( ما اقشعر جلد عبد من خشية الله إلا حرمه الله على النار ) . وعن
شهر بن حوشب عن أم الدرداء قالت : إنما الوجل في قلب الرجل كاحتراق السعفة , أما
تجد إلا قشعريرة ؟ قلت : بلى ; قالت : فادع الله فإن الدعاء عند ذلك مستجاب . وعن
ثابت البناني قال : قال فلان : إني لأعلم متى يستجاب لي . قالوا : ومن أين تعلم ذلك
؟ قال : إذا اقشعر جلدي , ووجل قلبي , وفاضت عيناي , فذلك حين يستجاب لي . يقال :
اقشعر جلد الرجل اقشعرارا فهو مقشعر والجمع قشاعر فتحذف الميم , لأنها زائدة ; يقال
أخذته قشعريرة . قال امرؤ القيس : فبت أكابد ليل التما م والقلب من خشية مقشعر وقيل
: إن القرآن لما كان في غاية الجزالة والبلاغة , فكانوا إذا رأوا عجزهم عن معارضته
, اقشعرت الجلود منه إعظاما له , وتعجبا من حسن ترصيعه وتهيبا لما فيه ; وهو كقوله
تعالى : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله } [
الحشر : 21 ] فالتصدع قريب من الاقشعرار , والخشوع قريب من قوله : { ثم تلين جلودهم
وقلوبهم إلى ذكر الله "ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ
اللهِ أي عند آية الرحمة . وقيل : إلى العمل بكتاب الله والتصديق به . وقيل : { إلى
ذكر الله }{ يعني الإسلام . ومعنى لين القلب رقته وطمأنينته وسكونه . وعن أسماء بنت
أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم , إذا
قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم . قيل لها : فإن أناسا
اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خر أحدهم مغشيا عليه . فقالت : أعوذ بالله من الشيطان
الرجيم . وقال سعيد بن عبد الرحمن الجمحي : مر ابن عمر برجل من أهل القرآن ساقط فقال
: ما بال هذا ؟ قالوا : إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط . فقال ابن عمر :
إنا لنخشى الله وما نسقط . ثم قال : إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ; ما كان هذا صنيع
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وقال عمر بن عبد العزيز : ذكر عند ابن سيرين الذين
يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن , فقال : بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت
باسطا رجليه , ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن رمى بنفسه فهو صادق . وقال
أبو عمران الجوني : وعظ موسى عليه السلام بني إسرائيل ذات يوم فشق رجل قميصه ,
فأوحى الله إلى موسى : قل لصاحب القميص لا يشق قميصه فإني لا أحب المبذرين ; يشرح
لي عن قلبه . ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ أي القرآن هدى الله
. وقيل : أي الذي وهبه الله لهؤلاء من خشية عقابه ورجاء ثوابه هدى الله . وَمَنْ
يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ أي من خذله فلا مرشد له . وهو يرد على
القدرية وغيرهم . وقد مضى معنى هذا كله مستوفى في غير موضع والحمد لله . ووقف ابن
كثير وابن محيصن على قوله : { هاد }{ في الموضعين بالياء , الباقون بغير ياء .
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قال عطاء وابن
زيد : يرمى به مكتوفا في النار فأول شيء تمس منه النار وجهه . وقال مجاهد : يجر على
وجهه في النار . وقال مقاتل : هو أن الكافر يرمى به في النار مغلولة يداه إلى عنقه ,
وفي عنقه صخرة عظيمة كالجبل العظيم من الكبريت , فتشتعل النار في الحجر وهو معلق في
عنقه , فحرها ووهجها على وجهه ; لا يطيق دفعها عن وجهه من أجل الأغلال . والخبر
محذوف . قال الأخفش : أي }{ أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب }{ أفضل أم من سعد , مثل : { أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة } [ فصلت : 40 ] . وَقِيلَ
لِلظَّالِمِينَ أي وتقول الخزنة للكافرينذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي جزاء
كسبكم من المعاصي . ومثله }{ هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } [ التوبة
: 35 ] .
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كذب قبلهم أقوام كانوا أشد من هؤلاء بطشا
وأكثر أموالا وأولادا وأوسع عيشا , فأهلكتهم كثمود وعاد . فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ
مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أي من حيث ظنوا أنهم في أمان .
فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قال المبرد : يقال لكل
ما نال الجارحة من شيء قد ذاقته , أي وصل إليها كما تصل الحلاوة والمرارة إلى
الذائق لهما . قال : والخزي من المكروه والخزاية من الاستحياءوَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ
أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أي مما أصابهم في الدنيا لو كانوا يعلمون ذلك .
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي من كل مثل
يحتاجون إليه ; مثل قوله تعالى : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } [ الأنعام : 38 ]
وقيل : أي ما ذكرناه من إهلاك الأمم السالفة مثل لهؤلاء . لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ يتعظون .
قُرْآنًا عَرَبِيًّا نصب على الحال . قال الأخفش : لأن قوله جل وعز : { في هذا
القرآن }{ معرفة . وقال علي بن سليمان : { عربيا }{ نصب على الحال و }{ قرآنا }{ توطئة
للحال كما تقول مررت بزيد رجلا صالحا فقولك صالحا هو المنصوب على الحال . وقال
الزجاج : { عربيا }{ منصوب على الحال و }{ قرآنا }{ توكيد . غَيْرَ ذِي عِوَجٍ النحاس :
أحسن ما قيل فيه قول الضحاك , قال : غير مختلف . وهو قول ابن عباس , ذكره الثعلبي
. وعن ابن عباس أيضا غير مخلوق , ذكره المهدوي وقاله السدي فيما ذكره الثعلبي . وقال
عثمان بن عفان : غير متضاد . وقال مجاهد : غير ذي لبس . وقال بكر بن عبد الله المزني
: غير ذي لحن . وقيل : غير ذي شك . قال السدي فيما ذكره الماوردي . قال : وقد أتاك
يقين غير ذي عوج من الإله وقول غير مكذوب لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الكفر والكذب .
ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ قال الكسائي : نصب
{ رجلا }{ لأنه ترجمة للمثل وتفسير له , وإن شئت نصبته بنزع الخافض , مجازه : ضرب
الله مثلا برجل }{ فيه شركاء متشاكسون }{ قال الفراء : أي مختلفون . وقال المبرد : أي
متعاسرون من شكس يشكس شكسا بوزن قفل فهو شكس مثل عسر يعسر عسرا فهو عسر , يقال :
رجل شكس وشرس وضرس وضبس . ويقال : رجل ضبس وضبيس أي شرس عسر شكس ; قاله الجوهري
. الزمخشري : والتشاكس والتشاخس الاختلاف . يقال : تشاكست أحواله وتشاخست أسنانه
. ويقال : شاكسني فلان أي ماكسني وشاحني في حقي . قال الجوهري : رجل شكس بالتسكين أي
صعب الخلق . قال الراجز : شكس عبوس عنبس عذور وقوم شكس مثال رجل صدق وقوم صدق . وقد
شكس بالكسر شكاسة . وحكى الفراء : رجل شكس . وهو القياس , وهذا مثل من عبد آلهة كثيرة
. وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ أي خالصا لسيد واحد , وهو مثل من يعبد الله وحده . هَلْ
يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا هذا الذي يخدم جماعة شركاء أخلاقهم مختلفة , ونياتهم متباينة
, لا يلقاه رجل إلا جره واستخدمه ; فهو يلقى منهم العناء والنصب والتعب العظيم ,
وهو مع ذلك كله لا يرضي واحدا منهم بخدمته لكثرة الحقوق في رقبته , والذي يخدم
واحدا لا ينازعه فيه أحد , إذا أطاعه وحده عرف ذلك له , وإن أخطأ صفح عن خطئه ,
فأيهما أقل تعبا أو على هدى مستقيم . وقرأ أهل الكوفة وأهل المدينة : { ورجلا سالما
{ وقرأ ابن عباس ومجاهد والحسن وعاصم الجحدري وأبو عمرو وابن كثير ويعقوب : { ورجلا
سالما }{ واختاره أبو عبيد لصحة التفسير فيه . قال : لأن السالم الخالص ضد المشترك ,
والسلم ضد الحرب ولا موضع للحرب هنا . النحاس : وهذا الاحتجاج لا يلزم ; لأن الحرف
إذا كان له معنيان لم يحمل إلا على أولاهما , فهذا وإن كان السلم ضد الحرب فله موضع
آخر ; كما يقال لك في هذا المنزل شركاء فصار سلما لك . ويلزمه أيضا في سالم ما ألزم
غيره ; لأنه يقال شيء سالم أي لا عاهة به . والقراءتان حسنتان قرأ بهما الأئمة
. واختار أبو حاتم قراءة أهل المدينة }{ سلما }{ قال وهذا الذي لا تنازع فيه . وقرأ
سعيد بن جبير وعكرمة وأبو العالية ونصر }{ سلما }{ بكسر السين وسكون اللام . وسلما
وسلما مصدران ; والتقدير : ورجلا ذا سلم فحذف المضاف و }{ مثلا }{ صفة على التمييز ,
والمعنى هل تستوي صفاتهما وحالاهما . وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس
. الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون الحق فيتبعونه
.
قرأ ابن محيصن وابن أبي عبلة وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق }{ إنك مائت وإنهم مائتون
{ وهي قراءة حسنة وبها قرأ عبد الله بن الزبير . النحاس : ومثل هذه الألف تحذف في
الشواذ و }{ مائت }{ في المستقبل كثير في كلام العرب ; ومثله ما كان مريضا وإنه لمارض
من هذا الطعام . وقال الحسن والفراء والكسائي : الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت ,
والميت بالتخفيف من فارقته الروح ; فلذلك لم تخفف هنا . قال قتادة : نعيت إلى النبي
صلى الله عليه وسلم نفسه , ونعيت إليكم أنفسكم . وقال ثابت البناني : نعى رجل إلى
صلة بن أشيم أخا له فوافقه يأكل , فقال : ادن فكل فقد نعي إلي أخي منذ حين ; قال :
وكيف وأنا أول من أتاك بالخبر . قال إن الله تعالى نعاه إلي فقال : { إنك ميت وإنهم
ميتون } . وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أخبره بموته وموتهم ; فاحتمل خمسة أوجه
: [ أحدها ] أن يكون ذلك تحذيرا من الآخرة .[ الثاني ] أن يذكره حثا على العمل .[
الثالث ] أن يذكره توطئة للموت .[ الرابع ] لئلا يختلفوا في موته كما اختلفت الأمم
في غيره , حتى إن عمر رضي الله عنه لما أنكر موته احتج أبو بكر رضي الله عنه بهذه
الآية فأمسك .[ الخامس ] ليعلمه أن الله تعالى قد سوى فيه بين خلقه مع تفاضلهم في
غيره ; لتكثر فيه السلوة وتقل فيه الحسرة .
يعني تخاصم الكافر والمؤمن والظالم والمظلوم ; قال ابن عباس وغيره . وفي خبر فيه طول
: إن الخصومة تبلغ يوم القيامة إلى أن يحاج الروح الجسد . وقال الزبير : لما نزلت
هذه الآية قلنا : يا رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب
؟ قال : ( نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه ) فقال الزبير : والله إن
الأمر لشديد . وقال ابن عمر : لقد عشنا برهة من دهرنا ونحن نرى هذه الآية نزلت فينا
وفي أهل الكتابين : { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون }{ فقلنا : وكيف نختصم
ونبينا واحد وديننا واحد , حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف ; فعرفت أنها فينا
نزلت . وقال أبو سعيد الخدري : ( كنا نقول ربنا واحد وديننا واحد ونبينا واحد فما
هذه الخصومة فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا ) . وقال
إبراهيم النخعي : لما نزلت هذه الآية جعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقولون : ما خصومتنا بيننا ؟ فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا : هذه خصومتنا
بيننا . وقيل تخاصمهم هو تحاكمهم إلى الله تعالى , فيستوفي من حسنات الظالم بقدر
مظلمته , ويردها في حسنات من وجبت له . وهذا عام في جميع المظالم كما في حديث أبي
هريرة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أتدرون من المفلس ) قالوا :
المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . قال : ( إن المفلس من أمتي من يأتي يوم
القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا
وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه
أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ) خرجه مسلم . وقد مضى المعنى مجودا في [
آل عمران ] وفي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من
كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم
إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه
فحمل عليه ) وفي الحديث المسند ( أول ما تقع الخصومات في الدنيا ) وقد ذكرنا هذا
الباب كله في التذكرة مستوفى .
فَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد أظلممِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ فزعم أن له ولدا
وشريكاوَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ يعني القرآنأَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ
استفهام تقريرمَثْوًى لِلْكَافِرِينَ أي مقام للجاحدين , وهو مشتق من ثوى بالمكان
إذا أقام به يثوي ثواء وثويا مثل مضى مضاء ومضيا , ولو كان من أثوى لكان مثوى . وهذا
يدل على أن ثوى هي اللغة الفصيحة . وحكى أبو عبيد أثوى , وأنشد قول الأعشى : أثوى
وقصر ليلة ليزودا ومضى وأخلف من قتيلة موعدا والأصمعي لا يعرف إلا ثوى , ويروي
البيت أثوى على الاستفهام . وأثويت غيري يتعدى ولا يتعدى .
والذي جاء بالصدق }{ في موضع رفع بالابتداء وخبره }{ أولئك هم المتقون }{ واختلف في
الذي جاء بالصدق وصدق به ; فقال علي رضي الله عنه : { الذي جاء بالصدق }{ النبي صلى
الله عليه وسلم }{ وصدق به }{ أبو بكر رضي الله عنه . وقال مجاهد : النبي عليه السلام
وعلي رضي الله عنه . السدي : الذي جاء بالصدق جبريل صلى الله عليه وسلم والذي صدق به
محمد صلى الله عليه وسلم . وقال ابن زيد ومقاتل وقتادة : { الذي جاء بالصدق }{ النبي
صلى الله عليه وسلم : { وصدق به }{ المؤمنون . واستدلوا على ذلك بقوله : { أولئك هم
المتقون }{ كما قال : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] . وقال النخعي ومجاهد : { الذي
جاء بالصدق وصدق به }{ المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة فيقولون : هذا
الذي أعطيتمونا قد اتبعنا ما فيه ; فيكون }{ الذي }{ على هذا بمعنى جمع كما تكون من
بمعنى جمع . وقيل : بل حذفت منه النون لطول الاسم , وتأول الشعبي على أنه واحد . وقال
: { الذي جاء بالصدق }{ محمد صلى الله عليه وسلم فيكون على هذا خبره جماعة ; كما
يقال لمن يعظم هو فعلوا , وزيد فعلوا كذا وكذا . وقيل : إن ذلك عام في كل من دعا إلى
توحيد الله عز وجل ; قاله ابن عباس وغيره , واختاره الطبري . وفي قراءة ابن مسعود }
والذي جاءوا بالصدق وصدقوا به }{ وهي قراءة على التفسير . وفي قراءة أبي صالح الكوفي
{ والذي جاء بالصدق وصدق به }{ مخففا على معنى وصدق بمجيئه به , أي صدق في طاعة الله
عز وجل , وقد مضى في [ البقرة ] الكلام في }{ الذي }{ وأنه يكون واحدا ويكون جمعا .
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي من النعيم في الجنة , كما يقال : لك
إكرام عندي ; أي ينالك مني ذلك . ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ الثناء في الدنيا
والثواب في الآخرة .
لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أي صدقوا }{ ليكفر الله عنهم } . أَسْوَأَ الَّذِي
عَمِلُوا أي يكرمهم ولا يؤاخذهم بما عملوا قبل الإسلام . وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ
أي يثيبهم على الطاعات في الدنيابِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ وهي الجنة
.
أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ حذفت الياء من }{ كاف }{ لسكونها وسكون التنوين
بعدها ; وكان الأصل ألا تحذف في الوقف لزوال التنوين , إلا أنها حذفت ليعلم أنها
كذلك في الوصل . ومن العرب من يثبتها في الوقف على الأصل فيقول : كافي . وقراءة
العامة }{ عبده }{ بالتوحيد يعني محمدا صلى الله عليه وسلم يكفيه الله وعيد المشركين
وكيدهم . وقرأ حمزة والكسائي }{ عباده }{ وهم الأنبياء أو الأنبياء والمؤمنون بهم
. واختار أبو عبيدة قراءة الجماعة لقوله عقيبه : { ويخوفونك بالذين من دونه }
. ويحتمل أن يكون العبد لفظ الجنس ; كقوله عز من قائل : { إن الإنسان لفي خسر } [
العصر : 2 ] وعلى هذا تكون القراءة الأولى راجعة إلى الثانية . والكفاية شر الأصنام
, فإنهم كانوا يخوفون المؤمنين بالأصنام , حتى قال إبراهيم عليه السلام .{ وكيف
أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله } [ الأنعام : 81 ] . وقال الجرجاني :
إن الله كاف عبده المؤمن وعبده الكافر , هذا بالثواب وهذا بالعقاب
. وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وذلك أنهم خوفوا النبي صلى الله عليه
وسلم مضرة الأوثان , فقالوا : أتسب آلهتنا ؟ لئن لم تكف عن ذكرها لتخبلنك أو تصيبنك
بسوء . وقال قتادة : مشى خالد بن الوليد إلى العزى ليكسرها بالفأس . فقال له سادنها :
أحذركها يا خالد فإن لها شدة لا يقوم لها شيء , فعمد خالد إلى العزى فهشم أنفها حتى
كسرها بالفأس . وتخويفهم لخالد تخويف للنبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه الذي وجه
خالدا . ويدخل في الآية تخويفهم النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة جمعهم وقوتهم ; كما
قال : { أم يقولون نحن جميع منتصر } [ القمر : 44 ]وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا
لَهُ مِنْ هَادٍ أي من خذله فلا مرشد له . وهو يرد على القدرية وغيرهم . وقد مضى معنى
هذا كله مستوفى في غير موضع والحمد لله . ووقف ابن كثير وابن محيصن على قوله : { هاد
{ في الموضعين بالياء , الباقون بغير ياء .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي ولئن سألتهم يا محمدمَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ بين أنهم مع عبادتهم الأوثان مقرون بأن الخالق هو
الله , وإذا كان الله هو الخالق فكيف يخوفونك بآلهتهم التي هي مخلوقة لله تعالى ,
وأنت رسول الله الذي خلقها وخلق السماوات والأرض . قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أي قل لهم يا محمد بعد اعترافهم بهذا }{ أفرأيتم ما
تدعون من دون الله "إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ بشدة وبلاءهَلْ هُنَّ
كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ يعني هذه الأصنام وقرأ نافع وابن كثير والكوفيون ما عدا عاصما }
كاشفات ضره }{ بغير تنوين . وقرأ أبو عمرو وشيبة وهي المعروفة من قراءة الحسن وعاصم }
هل هن كاشفات ضره } . أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ نعمة ورخاءهَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ
رَحْمَتِهِ قال مقاتل : فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا . وقال غيره : قالوا
لا تدفع شيئا قدره الله ولكنها تشفع .{ ممسكات رحمته }{ بالتنوين على الأصل وهو
اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ; لأنه اسم فاعل في معنى الاستقبال , وإذا كان كذلك كان
التنوين أجود . قال الشاعر : الضاربون عميرا عن بيوتهم و بالليل يوم عمير ظالم عادي
ولو كان ماضيا لم يجز فيه التنوين , وحذف التنوين على التحقيق , فإذا حذفت التنوين
لم يبق بين الاسمين حاجز فخفضت الثاني بالإضافة . وحذف التنوين كثير في كلام العرب
موجود حسن ; قال الله تعالى : { هديا بالغ الكعبة } [ المائدة : 95 ] وقال : { إنا
مرسلو الناقة } [ القمر : 27 ] قال سيبويه : ومثل ذلك }{ غير محلي الصيد } [ المائدة
: 1 ] وأنشد سيبويه : هل أنت باعث دينار لحاجتنا و أو عبد رب أخا عون بن مخراق وقال
النابغة : احكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت و إلى حمام شراع وارد الثمد معناه وارد
الثمد فحذف التنوين ; مثل }{ كاشفات ضره } . قُلْ حَسْبِيَ اللهُ ترك الجواب لدلالة
الكلام عليه ; يعني فسيقولون لا أي لا تكشف ولا تمسك فـ }{ قل }{ أنت }{ حسبي الله }
أي عليه توكلت أي اعتمدتعَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ يعتمد المعتمدون
. وقد تقدم الكلام في التوكل .
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى وقرأ أبو بكر بالجمع }{ مكاناتكم } . والمكانة
الطريقة . والمعنى اثبتوا على ما أنتم عليه فأنا أثبت على ما أنا عليه . فإن قيل :
كيف يجوز أن يؤمروا بالثبات على ما هم عليه وهم كفار . فالجواب أن هذا تهديد ; كما
قال عز وجل : { فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا } [ التوبة : 82 ] . ودل عليه }{ فسوف
تعلمون من تكون له عاقبة الدار }{ أي العاقبة المحمودة التي يحمد صاحبها عليها , أي
من له النصر في دار الإسلام , ومن له وراثة الأرض , ومن له الدار الآخرة , أي الجنة
. قال الزجاج : { مكانتكم }{ تمكنكم في الدنيا . ابن عباس والحسن والنخعي : على
ناحيتكم . القتبي : على موضعكم . مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ أي على
مكانتي أي على جهتي التي تمكنت عندي .
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ يعني القرآن والقرآن نزل نجوما :
شيئا بعد شيء ; فلذلك قال }{ أنزلنا }{ والتنزيل مرة بعد مرة . والتوراة والإنجيل نزلا
دفعة واحدة فلذلك قال }{ أنزلنا "بِالْحَقِّ أي بالصدق وقيل : بالحجة الغالبة
. والباء في قول }{ بالحق }{ في موضع الحال من الكتاب والباء متعلقة بمحذوف التقدير
آتيا بالحق ولا تتعلق ب }{ أنزلنا }{ لأنه قد تعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف جر , ولا
يتعدى إلى ثالث . فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ أي لخلاص نفسه . وَمَنْ ضَلَّ أي ترك
الرسول والقرآن واتبع الأصنام والأوثان . فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا أي وبال ذلك
على نفسه . وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي بحفيظ يحفظ أعمالهم إنما أنت رسول
. قال ابن عباس : نسختها آية السيف .
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ أي بل اتخذوا يعني الأصنام وفي
الكلام ما يتضمن لم ; أي }{ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون }{ لم يتفكروا ولكنهم
اتخذوا آلهتهم شفعاء . قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا
يَعْقِلُونَ أي قل لهم يا محمد أتتخذونهم شفعاء وإن كانوا لا يملكون شيئا من
الشفاعة }{ ولا يعقلون }{ لأنها جمادات . وهذا استفهام إنكار .
نص في أن الشفاعة لله وحده كما قال : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } [ البقرة
: 255 ] فلا شافع إلا من شفاعته }{ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] .{ جميعا }{ نصب على الحال . فإن قيل : { جميعا }{ إنما يكون للاثنين فصاعدا والشفاعة
واحدة . فالجواب أن الشفاعة مصدر والمصدر يؤدي عن الاثنين والجميع .
وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ }{ وإذا ذكر الله وحده }{ نصب على المصدر عند الخليل وسيبويه , وعلى
الحال عند يونس .{ اشمأزت }{ قال المبرد : انقبضت . وهو قول ابن عباس ومجاهد . وقال
قتادة : نفرت واستكبرت وكفرت وتعصت . وقال المؤرج أنكرت . وأصل الاشمئزاز النفور
والازورار . قال عمرو بن كلثوم : إذا عض الثقاف بها اشمأزت وولتهم عشوزنة زبونا وقال
أبو زيد : اشمأز الرجل ذعر من الفزع وهو المذعور . وكان المشركون إذا قيل لهم }{ لا
إله إلا الله }{ نفروا وكفروا . وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني الأوثان
حين ألقى الشيطان في أمنية النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءته سورة [ النجم ] تلك
الغرانيق العلى وإن شفاعتهم ترتجى . قاله جماعة المفسرين . إِذَا هُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ أي يظهر في وجوههم البشر والسرور .
قل اللهم فاطر السماوات والأرض }{ نصب لأنه نداء مضاف وكذا }{ عالم الغيب }{ ولا
يجوز عند سيبويه أن يكون نعتا .{ أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون }{ وفي
صحيح مسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال : سألت عائشة رضي الله عنها بأي
شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح صلاته إذا قام من الليل ؟ قالت : كان إذا
قام من الليل افتتح صلاته ( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل }{ فاطر السماوات
والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون }{ اهدني لما
اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ) ولما بلغ الربيع بن
خيثم قتل الحسين بن علي رضي الله عنهم قرأ : { قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم
الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون } . وقال سعيد بن جبير :
إني لأعرف آية ما قرأها أحد قط فسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه , قوله تعالى : { قل
اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه
يختلفون } .
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي كذبوا وأشركوامَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا
وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أي
من سوء عذاب ذلك اليوم . وقد مضى هذا في سورة [ آل عمران ] و [ الرعد ] . وَبَدَا
لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ من أجل ما روي فيه ما رواه
منصور عن مجاهد قال : عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات . وقاله السدي
. وقيل : عملوا أعمالا توهموا أنهم يتوبون منها قبل الموت فأدركهم الموت قبل أن
يتوبوا , وقد كانوا ظنوا أنهم ينجون بالتوبة . ويجوز أن يكونوا توهموا أنه يغفر لهم
من غير توبة فـ }{ بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون }{ من دخول النار . وقال
سفيان الثوري في هذه الآية : ويل لأهل الرياء ويل لأهل الرياء هذه آيتهم وقصتهم
. وقال عكرمة بن عمار : جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعا شديدا , فقيل له : ما هذا
الجزع ؟ قال : أخاف آية من كتاب الله }{ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون }
فأنا أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب .
وَبَدَا لَهُمْ أي ظهر لهمسَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا أي عقاب ما كسبوا من الكفر
والمعاصي . وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أي أحاط بهم ونزل ما
كانوا به يستهزئون .
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا قيل : إنها نزلت في حذيفة بن المغيرة
. ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ
قال قتادة : { على علم }{ عندي بوجوه المكاسب , وعنه أيضا }{ على علم }{ على خير عندي
. وقيل : { على علم }{ أي على علم من الله بفضلي . وقال الحسن : { على علم }{ أي بعلم
علمني الله إياه . وقيل : المعنى أنه قال قد علمت أني إذا أوتيت هذا في الدنيا أن لي
عند الله منزلة ;بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ أي بل النعم التي أوتيتها فتنة تختبر بها . قال
الفراء : أنث }{ هي }{ لتأنيث الفتنة , ولو كان بل هو فتنة لجاز . النحاس : التقدير بل
أعطيته فتنة . وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون أن إعطاءهم
المال اختبار .
قَدْ قَالَهَا أنث على تأنيث الكلمة . الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني الكفار قبلهم
كقارون وغيره حيث قال : { إنما أوتيته على علم عندي } . فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ }{ ما }{ للجحد أي لم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله
شيئا . وقيل : أي فما الذي أغنى أموالهم ؟ فـ }{ ما }{ استفهام .
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا أي جزاء سيئات أعمالهم . وقد يسمى جزاء
السيئة سيئة . وَالَّذِينَ ظَلَمُوا أي أشركوامِنْ هَؤُلَاءِ الأمةسَيُصِيبُهُمْ
سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا أي بالجوع والسيف . وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي فائتين
الله ولا سابقيه . وقد تقدم .
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله }{ وإن شئت حذفت
الياء ; لأن النداء موضع حذف . النحاس : ومن أجل ما روي فيه ما رواه محمد بن إسحاق
عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال : لما اجتمعنا على الهجرة , اتعدت أنا وهشام بن
العاص بن وائل السهمي , وعياش بن أبي ربيعة بن عتبة , فقلنا : الموعد أضاة بني غفار
, وقلنا : من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه . فأصبحت أنا وعياش بن عتبة وحبس عنا
هشام , وإذا به قد فتن فافتتن , فكنا نقول بالمدينة : هؤلاء قد عرفوا الله عز وجل
وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم , ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة ,
وكانوا هم أيضا يقولون هذا في أنفسهم , فأنزل الله عز وجل في كتابه : { قل يا عبادي
الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله }{ إلى قوله تعالى : { أليس في جهنم
مثوى للمتكبرين }{ قال عمر : فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام . قال هشام : فلما قدمت
علي خرجت بها إلى ذي طوى فقلت : اللهم فهمنيها فعرفت أنها نزلت فينا , فرجعت فجلست
على بعيري فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال
: كان قوم من المشركين قتلوا فأكثروا , وزنوا فأكثروا , فقالوا للنبي صلى الله عليه
وسلم أو بعثوا إليه : إن ما تدعو إليه لحسن أوتخبرنا أن لنا توبة ؟ فأنزل الله عز
وجل هذه الآية : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم }{ ذكره البخاري بمعناه . وقد
مضى في آخر [ الفرقان ] . وعن ابن عباس أيضا نزلت في أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن
من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له , وكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا
مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرم الله فأنزل الله هذه الآية . وقيل : إنها
نزلت في قوم من المسلمين أسرفوا على أنفسهم في العبادة , وخافوا ألا يتقبل منهم
لذنوب سبقت لهم في الجاهلية . وقال ابن عباس أيضا وعطاء نزلت في وحشي قاتل حمزة ;
لأنه ظن أن الله لا يقبل إسلامه : وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : أتى
وحشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ; فقال : يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرني حتى أسمع
كلام الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قد كنت أحب أن أراك على غير جوار
فأما إذ أتيتني مستجيرا فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله ) قال : فإني أشركت بالله
وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت , هل يقبل الله منى توبة ؟ فصمت رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى نزلت : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس
التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون } [ الفرقان : 68 ] إلى آخر الآية فتلاها عليه ;
فقال أرى شرطا فلعلي لا أعمل صالحا , أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله . فنزلت : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] فدعا به
فتلا عليه ; قال : فلعلي ممن لا يشاء أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله . فنزلت : { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله }{ فقال : نعم الآن لا أرى
شرطا . فأسلم . وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب عن أسماء أنها سمعت النبي
صلى الله عليه وسلم يقرأ : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من
رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم } . وفي مصحف
ابن مسعود }{ إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء } . قال أبو جعفر النحاس : وهاتان
القراءتان على التفسير , أي يغفر الله لمن يشاء . وقد عرف الله عز وجل من شاء أن
يغفر له , وهو التائب أو من عمل صغيرة ولم تكن له كبيرة , ودل على أنه يريد التائب
ما بعده }{ وأنيبوا إلى ربكم }{ فالتائب مغفور له ذنوبه جميعا يدل على ذلك }{ وإني
لغفار لمن تاب } [ طه : 82 ] فهذا لا إشكال فيه . وقال علي بن أبي طالب : ما في
القرآن آية أوسع من هذه الآية : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا
من رحمة الله }{ وقد مضى هذا في [ سبحان ] . وقال عبد الله بن عمر : وهذه أرجى آية في
القرآن فرد عليهم ابن عباس وقال أرجى آية في القرآن قوله تعالى : { وإن ربك لذو
مغفرة للناس على ظلمه