Prev  

19. Surah Maryam سورة مريم

  Next  



تفسير ابن كثير - مريم - Maryam -
 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
بِسْم ِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
كهيعص
    +/- -/+  
الأية
1
 
سورة مريم: وقد روى محمد بن إسحاق في السيرة من حديث أم سلمة وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه. قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور فمنهم من قال هي مما استأثر الله بعلمه فردوا علمها إلى الله ولم يفسرها حكاه القرطبي في تفسـره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خيثم واختاره أبو حاتم بن حبان. ومنهم من فسرها واختلف هؤلاء في معناها فقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم إنما هي أسماء السور. قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره وعليه إطباق الأكثر ونقل عن سيبويه أنه نص عليه ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة { الم } السجدة و { هل أتى على الإنسان } وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: الم وحم والمص وص. فواتح افتتح الله بها القرآن وكذا قال غيره عن مجاهد وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود عن شبل عن ابن أبي نجيح عنه أنه قال الم اسم من أسماء القرآن وهكذا وقال قتادة وزيد بن أسلم ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبدالرحمن بن زيد بن أسلم أنه اسم من أسماء السور فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن فإنه يبعد أن يكون المص اسما للقرآن كله لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول قرأت المص إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف لا لمجموع القرآن والله أعلم. وقيل هي اسم من أسماء الله تعالى فقال عنها في فواتح السور من أسماء الله تعالى وكذلك قال سالم بن عبدالله وإسماعيل بن عبدالرحمن السدي الكبير وقال شعبة عن السدي بلغني أن ابن عباس قال الم اسم من أسماء الله الأعظم. هكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن شعبة قال سألت السدي عن حم وطس والم فقال قال ابن عباس هي اسم الله الأعظم وقال ابن جرير وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو النعمان حدثنا شعبة عن إسماعيل السدي عن مرة الهمذانى قال: قال عبدالله فذكر نحوه. وحُكي مثله عن علي وابن عباس وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو قسم أقسم الله به وهو من أسماء الله تعالى وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن علية عن خالد الحذاء عن عكرمة أنه قال الم قسم. وروينا أيضا من حديث شريك بن عبدالله بن عطاء بن السائب عن أبى الضحى عن ابن عباس: الم قال أنا الله أعلم وكذا قال سعيد بن جبير وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمذاني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الم قال أما الم فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله تعالى. قال وأبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى الم قال هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفا دارت فيها الألسن كلها ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه وليس منها حرف إلا وهو من آلائه وبلألائه ليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم. قال عيسى ابن مريم عليه السلام وعجب: فقال أعجب أنهم يظنون بأسمائه ويعيشون في رزقه فكيف يكفرون به فالألف مفتاح الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد فالألف آلاء الله واللام لطف الله والميم مجد الله والألف سنة واللام ثلاثون سنة والميم أربعون سنة. هذا لفظ ابن أبي حاتم ونحوه رواه ابن جرير ثم شرع يوجه كل واحد من هذه الأقوال ويوفق بينها وأنه لا منافاة بين كل واحد منها وبين الآخر وأن الجمع ممكن فهي أسماء للسور ومن أسماء الله تعالى يفتتح بها السور فكل حرف منها دل على اسم من أسمائه وصفة من صفاته كما افتتح سورا كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه قال ولا مانع من دلالة الحرف منها على اسم من أسماء الله وعلى صفة من صفاته وعلى مدة وغير ذلك كما ذكره الربيع بن أنس عن أبي العالية لأن الكلمة الواحدة تطلق على معاني كثيرة كلفظة الأمة فإنها تطلق ويراد به الدين كقوله تعالى { إنا وجدنا آباءنا على أمة } وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله كقوله تعالى { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين } وتطلق ويراد بها الجماعة كقوله تعالى { وجد عليه أمة من الناس يسقون } وقوله تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا } وتطلق ويراد بها الحين من الدهر كقوله تعالى { وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة } أي بعد حين على أصح القولين قال فكذلك هذا. هذا حاصل كلامه موجها ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية فإن أبا العالية زعم أن الحرف دل على هذا وعلى هذا وعلى هذا معا ولفظة الأمة وما أشبهها من الألفاظ المشتركة في الاصطلاح إنما دل في القرآن في كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلام فأما حمله على مجموع محامله إذا أمكن فمسألة مختلف فيها بين علماء الأصول ليس هذا موضع البحث فيها والله أعلم. ثم إن لفظة الأمة تدل على كل من معانيها في سياق الكلام بدلالة الوضع فأما دلالة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون أحدهما أولى من الآخر في التقدير أو الإضمار بوضع ولا بغيره فهذا مما لا يفهم إلا بتوقيف والمسألة مختلف فيها وليس فيها إجماع حتى يحكم به وما أنشدوه من الشواهد على صحة إطلاق الحرف الواحد على بقية الكلمة فإن في السياق ما يدل على ما حذف بخلاف هذا كما قال الشاعر: قلنا قفي لنا فقالت قاف لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف تعني وقفت. وقال الآخر: ما للظليم عال كيف لايـ نقد عنه جلده إذا يـ فقال ابن جرير كأنه أراد أن يقول إذا يفعل كذا وكذا فاكتفى بالياء من يفعل وقال الآخر: بالخير خيرات وان شرا فا ولا أريد الشر إلا أن تـ يقول وإن شرا فشرا ولا أريد الشر إلا أن تشاء فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن بقيتهما ولكن هذا ظاهر من سياق الكلام والله أعلم. قال القرطبي وفي الحديث { من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة } الحديث قال سفيان هو أن يقول في اقتل{ ا قـ } وقال خصيف عن مجاهد أنه قال فواتح السور كلها{ ق وص وحم وطسم والر } وغير ذلك هجاء موضوع وقال بعض أهل العربية هي حروف من حروف المعجم استغنى بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفا كما يقول القائل ابني يكتب في - ا ب ت ث - أي في حروف المعجم الثمانية والعشرين فيستغني بذكر بعضها عن مجموعها حكاه ابن جرير. قلت مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفا وهي - ال م ص ر ك ه ي ع ط س ح ق ن- يجمعها قولك: نص حكيم قاطع له سر. وهي نصف الحروف عددا والمذكور منها أشرف من المتروك وبيان ذلك من صناعة التصريف. قال الزمخشري وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف أجناس الحروف يعني من المهموسة والمجهورة ومن الرخوة والشديدة ومن المطبقة والمفتوحة ومن المستعلية والمنخفضة ومن حروف القلقلة. وقد سردها مفصلة ثم قال: فسبحان الذي دقت في كل شىء حكمته. وهذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله وههنا ههنا لخص بعضهم في هذا المقام كلاما فقال: لا شك أن هذه الحروف لم ينزلها سبحانه وتعالى عبثا ولا سدى ومن قال من الجهلة إن في القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلمة فقد أخطأ خطأ كبيرا فتعين أن لها معنى في نفس الأمر فإن صح لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به وإلا وقفنا حيث وقفنا وقلنا { آمنا به كل من عند ربنا } ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين وإنما اختلفوا فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه وإلا فالوقف حتى يتبين هذا المقام. المقام الآخر في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور ما هي مع قطع النظر عن معانيها في أنفسها فقال بعضهم إنما ذكرت ليعرف بها أوائل السور حكاه ابن جرير وهذا ضعيف لأن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه وفيما ذكرت فيه البسملة تلاوة وكتابة وقال آخرون بل ابتدىء بها لتفتح لاستماعها أسماع المشركين إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن حتى إذا استمعوا له تلا عليهم المؤلف منه حكاه ابن جرير أيضا وهو ضعيف أيضا لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور لا يكون في بعضها بل غالبها ليس كذلك ولو كـان كذلك أيضا لانبغى الابتداء بها في أوائل الكلام معهم سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك ثم إن هذه السورة والتي تليها أعني البقرة وآل عمران مدنيتان ليستا خطابا للمشركين فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه. وقال آخرون بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا وقرره الزمخشري فى كشافه ونصره أتم نصر وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي وحكاه لي عن ابن تيمية. قال الزمخشري ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت كما كررت قصص كثيرة وكرر التحدي بالصريح في أماكن قال وجاء منها على حرف واحد كقوله - ص ن ق- وحرفين مثل { حم } وثلاثة مثل { الم } وأربعة مثل { المر } و { المص } وخمسة مثل { كهيعص- و- حمعسق } لأن أساليب كلامهم على هذا من الكلمات ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك { قلت } ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته وهذا معلوم بالاستقراء وهو الواقع في تسع وعشرين سورة ولهذا يقول تعالى { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } { الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه } { المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه } { الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم } { الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين } { حم تنزيل من الرحمن الرحيم } { حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم } وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر والله أعلم. وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم فقد ادعى ما ليس له وطار في غير مطاره وقد ورد في ذلك حديث ضعيف وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته وهو ما رواه محمد بن إسحق بن يسار صاحب المغازي حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبدالله بن رباب قال مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } فأتى أخاه بن أخطب في رجال من اليهود فقال تعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله تعالى عليه { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } فقال أنت سمعته قال نعم قال فمشى حي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد ألم يذكر أنك تتلوا فيما أنزل الله عليك { الم ذلك الكتاب{ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { بلى } فقالوا جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ فقال { نعم } قالوا لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. فقام حي بن أخطب وأقبل على من كان معه فقال لهم الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد هل مع هذا غيره فقال { نعم } قال ما ذاك؟ قال { المص } قال هذا أثقل وأطول الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة. هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال { نعم } قال ما ذاك؟ قال { الر } قال هذا أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة. فهل مع هذا يا محمد غيره؟ قال { نعم } قال ماذا قال { المر } قال هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان فهذه إحدى وسبعون ومائتان ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا. ثم قال قوموا عنه ثم قال أبو ياسر لأخيه حي بن أخطب ولمن معه من الأحبار ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وثلاثون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان فذلك سبعمائة وأربع سنين؟ فقالوا لقد تشابه علينا أمره فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي وهو ممن لا يحتج بما انفرد به ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها وذلك يبلغ منه جملة كثيرة وإن حسبت مع التكرر فأطم وأعظم والله أعلم.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا
    +/- -/+  
الأية
2
 
قوله { ذكر رحمت ربك } أي هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا وقرأ يحيى بن يعمر { ذكر رحمت ربك عبده زكريا } وزكريا يمد ويقصر قراءتان مشهورتان. وكان نبيا عظيما من أنبياء بني إسرائيل وفي صحيح البخاري أنه كان نجارا يأكل من عمل يده في النجارة.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا
    +/- -/+  
الأية
3
 
وقوله { إذ نادى ربه نداء خفيا } قال بعض المفسرين إنما أخفى دعاءه لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره. حكاه الماوردي وقال آخرون إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله كما قال قتادة في هذه الآية { إذ نادى ربه نداء خفيا } إن الله يعلم القلب التقي ويسمع الصوت الخفي وقال بعض السلف قام من الليل عليه السلام وقد نام أصحابه فجعل يهتف بربه يقول خفية يا رب يا رب يا رب فقال الله له: لبيك لبيك لبيك.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا
    +/- -/+  
الأية
4
 
قال رب إني وهن العظم مني أي ضعفت وخارت القوى { واشتعل الرأس شيبا } أي اضطرم المشيب في السواد كما قال ابن دريد في مقصورته: أما ترى رأسي حاكى لونه طرة صبح تحت أذيال الدجــــــا واشتعل المبيض في مسوده مثل اشتعال النار في جمر الغضا والمراد من هذا الإخبار عن الضعف والكبر ودلائله الظاهرة والباطنة وقوله { ولم أكن بدعائك رب شقيا } أي ولم أعهد منك إلا الإجابة في الدعاء ولم تردني قط فيما سألتك وقوله { وإني خفت الموالي من ورائي } قرأ الأكثرون بنصب الياء من الموالي على أنه مفعول وعن الكسائي أنه سكن الياء كما قال الشاعر: كأن أيديهن في القاع القرق أيدي جوار يتعاطين الورق وقال الآخر: فتى لو يباري الشمس ألقت قناعها أو القمر الساري لألقى المقالدا ومنه قول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي: تغاير الشعر منه إذ سهرت له حتى ظننت قوافيه ستقتتل وقال مجاهد وقتادة والسدي: أراد بالموالي العصبية وقال أبو صالح الكلالة وروي عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يقرؤها.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا
    +/- -/+  
الأية
5
 
{ وإني خفت الموالي من ورائي } بتشديد الفاء بمعنى قلت عصباتي من بعدي وعلى القراءة الأولى وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفا سيئا فسأل الله ولدا يكون نبيا من بعده ليسوسهم بنبوته ما يوحى إليه فأجيب في ذلك لا أنه خشي من وراثتهم له ماله فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدرا من أن يشفق على ماله إلى ما هذا وحده وأن يأنف من وراثة عصباته له ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم هذا وجه { الثانى } أنه لم يذكر أنه كان ذا مال بل كان نجارا يأكل من كسب يديه ومثل هذا لا يجمع مالا ولا سيما الأنبياء فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا { الثالث } أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا نورث ما تركنا صدقة } وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح { نحن معشر الأنبياء لا نورث } وعلى هذا فتعين حمل قوله { فهب لي من لدنك وليا يرثني } على ميراث النبوة ولهذا قال { ويرث من آل يعقوب } كقوله { وورث سليمان داود } أي في النبوة إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل أن الولد يرث أباه فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث { نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا
    +/- -/+  
الأية
6
 
قال مجاهد في قوله { يرثني ويرث من آل يعقوب } كان وراثته علما وكان زكريا من ذرية يعقوب وقال هشيم أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله { يرثني ويرث من آل يعقوب } قال يكون نبيا كما كانت آباؤه أنبياء وقال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن يرث نبوته وعلمه وقال السدي يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب وعن مالك عن زيد بن أسلم { ويرث من آل يعقوب } قال نبوتهم وقال جابر بن نوح ويزيد بن هارون كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله { يرثني ويرث من آل يعقوب } قال: يرث ما بي من يرث من آل يعقوب النبوة وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره وقال عبدالرزاق أخبرنا معمر عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { يرحم الله زكريا وما كان عليه من وراثة ماله ويرحم الله لوطا إن كان ليأوي إلى ركن شديد }. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا جابر بن نوح عن مبارك هو ابن فضالة عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { رحم الله أخي زكريا ما كان عليه من وراثة ماله حين قال { هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب } وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح والله أعلم وقوله { واجعله رب رضيا } أي مرضيا عندك وعند خلقك تحبه وتحببه إلى خلقك في دينه وخلقه.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا
    +/- -/+  
الأية
7
 
هذا الكلام يتضمن محذوفا وهو أنه أجيب إلى ما سأل في دعائه فقيل له { يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى } كما قال تعالى { هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين } وقوله { لم نجعل له من قبل سميا }. قال قتادة وابن جريج وابن زيد: أي لم يسم أحد قبله بهذا الاسم واختاره ابن جرير رحمه الله وقال مجاهد { لم نجعل له من قبل سميا } أي شبيها أخذه من معنى قوله { فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا } أي شبيها وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أي لم تلد العواقر قبله مثله وهذا دليل على أن زكريا عليه السلام كان لا يولد له وكذلك امرأته كانت عاقرا من أول عمرها بخلاف إبراهيم وسارة عليهما السلام فإنهما إنما تعجبا من البشارة بإسحاق لكبرهما لا لعقرهما ولهذا قال { أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون } مع أنه كان قد ولد له قبله إسماعيل بثلاث عشرة سنة وقالت امرأته { يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا
    +/- -/+  
الأية
8
 
هذا تعجب من زكريا عليه السلام حين أجيب إلى ما سأل وبشر بالولد ففرح فرحا شديدا وسأل عن كيفية ما يولد له والوجه الذي يأتيه منه الولد مع أن امرأته كانت عاقرا لم تلد من أول عمرها مع كبرها ومع أنه قد كبر وعتا أي عسا عظمه ونحل ولم يبق فيه لقاح ولا جماع والعرب تقول للعود إذا يبس عتيا يعتو عتيا وعتوا وعسا يعسو عسوا وعسيا وقال مجاهد: عتيا يعني قحول العظم وقال ابن عباس وغيره: عتيا يعني الكبر والظاهر أنه أخص من الكبر وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب حدثنا هشيم أخبرنا حصين عن عكرمة عن ابن عباس قال لقد علمت السنة كلها غير أني لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا؟ ولا أدري كيف كان يقرأ هذا الحرف { وقد بلغت من الكبر عتيا } أو عسيا.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا
    +/- -/+  
الأية
9
 
ورواه الإمام أحمد عن شريح بن النعمان وأبو داود عن زياد بن أيوب كلاهما عن هشيم به { قال } أي الملك مجيبا لزكريا عما استعجب منه { كذلك قال ربك هو علي هين } أي إيجاد الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها { هين } أي يسير سهل على الله ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه فقال { وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا } كما قال تعالى { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ۚ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا
    +/- -/+  
الأية
10
 
يقول تعالى مخبرا عن زكريا عليه السلام أنه { قال رب اجعل لي آية } أي علامة ودليلا على وجود ما وعدتني لتستقر نفسي ويطمئن قلبي بما وعدتنى كما قال إبراهيم عليه السلام { رب أرني كيف تحيي الموتى قال أول لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } { قال آيتك } أي علامتك { أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا } أي أن تحبس لسانك عن الكلام ثلاث ليال وأنت صحيح سوي من غير مرض ولا علة. قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ووهب والسدي وقتادة وغير واحد اعتقل لسانه من غير مرض ولا علة قال ابن زيد بن أسلم كان يقرأ ويسبح ولا يستطيع أن يكلم قومه إلا إشارة وقال العوفي عن ابن عباس { ثلاث ليال سويا } أي متتابعات والقول الأول عنه وعن الجمهور أصح كما قال تعالى في آل عمران { قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار } وقال مالك عن زيد بن أسلم { ثلاث ليال سويا } من غير خرس وهذا دليل على أنه لم يكن يكلم الناس في هذه الليالي الثلاث وأيامها { إلا رمزا } أي إشارة.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا
    +/- -/+  
الأية
11
 
ولهذا قال في هذه الآية الكريمة { فخرج على قومه من المحراب } أي الذي بشر فيه بالولد { فأوحى إليهم } أي أشار إشارة خفية سريعة { أن سبحوا بكرة وعشيا } أي موافقة له فيما أمر به في هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله شكرا لله على ما أولاه. قال مجاهد { فأوحى إليهم } أي أشار وبه قال وهب وقتادة وقال مجاهد في رواية عنه { فأوحى إليهم } أي كتب لهم في الأرض وكذا قال السدي.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا
    +/- -/+  
الأية
12
 
وهذا أيضا تضمن محذوفا تقديره أنه وجد هذا الغلام المبشر به وهو يحيى عليه السلام وأن الله علمه الكتاب وهو التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار وقد كان سنه إذ ذاك صغيرا فلهذا نوه بذكره وبما أنعم به عليه وعلى والديه فقال { يا يحيى خذ الكتاب بقوة } أي تعلم الكتاب بقوة أي بجد وحرص واجتهاد { وآتيناه الحكم صبيا } أي الفهم والعلم والجد والعزم والإقبال على الخير والإكباب عليه والاجتهاد فيه وهو صغير حدث قال عبدالله بن المبارك قال معمر قال الصبيان ليحيى بن زكريا اذهب بنا نلعب فقال ما للعب خلقنا قال فلهذا أنزل الله { وآتيناه الحكم صبيا }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا
    +/- -/+  
الأية
13
 
وقوله { وحنانا من لدنا } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { وحنانا من لدنا } يقول ورحمة من عندنا وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك وزاد لا يقدر عليها غيرنا وزاد قتادة رحم الله بها زكريا وقال مجاهد { وحنانا من لدنا } وتعطفا من ربه عليه وقال عكرمة { وحنانا من لدنا } قال محبة عليه وقال ابن زيد أما الحنان فالمحبة وقال عطاء بن أبي رباح { وحنانا من لدنا } قال تعظيما من لدنا وقال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة عن ابن عباس أنه قال: لا والله ما أدري ما حنانا وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا جرير: عن منصور سألت سعيد بن جبير عن قوله { وحنانا من لدنا } فقال سألت عنها ابن عباس فلم يجد فيها شيئا والظاهر من السياق أن قوله وحنانا معطوف على قوله { وآتيناه الحكم صبيا } أي وآتيناه الحكم وحنانا وزكاة أي وجعلناه ذا حنان وزكاة فالحنان هو المحبة في شفقة وميل كما تقول العرب حنت الناقة على ولدها وحنت المرأة على زوجها ومنه سميت المرأة حنة من الحنية وحن الرجل إلى وطنه ومنه التعطف والرحمة كما قال الشاعر: تعطف علي هداك المليك فإن لكل مقام مقالا وفي المسند للإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه قال { يبقى رجل في النار ينادي ألف سنة يا حنان يا منان } وقد يثني ومنهم من يجعل ما ورد من ذلك لغة بذاتها كما قال طرفة: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض وقوله وزكاة معطوف على وحنانا فالزكاة الطهارة من الدنس والآثام والذنوب وقال قتادة الزكاة العمل الصالح وقال الضحاك وابن جريج العمل الصالح الزكي وقال العوفي عن ابن عباس { وزكاة } قال بركة { وكان تقيا } طهر فلم يعمل بذنب.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا
    +/- -/+  
الأية
14
 
وقوله { وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا } لما ذكر تعالى طاعته لربه وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة وتقى عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما ومجانبته عقوقهما قولا وفعلا أمرا ونهيا ولهذا قال { ولم يكن جبارا عصيا }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
    +/- -/+  
الأية
15
 
ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك { وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا } أي له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال وقال سفيان بن عيينة أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم قال فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه { وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا } رواه ابن جرير عن أحمد بن منصور المروزي عن صدقة بن الفضل عنه وقال عبدالرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في قوله { جبارا عصيا } قال كان ابن المسيب يذكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا } قال قتادة: ما أذنب ولا هم بامرأة مرسل وقال محمد بن إسحاق عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب حدثني ابن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال { كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا } ابن إسحاق مدلس وقد عنعن هذا الحديث فالله أعلم وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد أخبرنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هَمَّ بخطيئة ليس يحيى بن زكريا وما ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى } وهذا أيضا ضعيف لأن علي بن زيد بن جدعان له منكرات كثيرة والله أعلم وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن الحسن قال: إن يحيى وعيسى عليهما السلام التقيا فقال له عيسى استغفر لي أنت خير مني فقال له الآخر أنت خير مني فقال له عيسى أنت خير مني سلمت على نفسي وسلم الله عليك فعرف والله فضلهما.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا
    +/- -/+  
الأية
16
 
لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولدا زكيا طاهرا مباركا عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى عليه السلام منها من غير أب فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة ولهذا ذكرهما في آل عمران وههنا وفي سورة الأنبياء يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه وأنه على ما يشاء قادر فقال { واذكر في الكتاب مريم } وهي مريم بنت عمران من سلالة داود عليه السلام وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمها لها في سورة آل عمران وأنها نذرتها محررة أي تخدم مسجد بيت المقدس وكانوا يتقربون بذلك { فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا } ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدءوب وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف وثمر الصيف في الشتاء كما تقدم بيانه في سورة آل عمران فلما أراد الله تعالى وله الحكمة والحجة البالغة أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام { انتبذت من أهلها مكانا شرقيا } أي اعتزلتهم وتنحت عنهم وذهبت إلى شرقي المسجد المقدس قال السدي لحيض أصابها وقيل لغير ذلك قال أبو كدينة عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال: إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه وما صرفهم عنه إلا قول ربك { فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا } قال خرجت مريم مكانا شرقيا فصلوا قبل مطلع الشمس رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقال ابن جرير أيضا: حدثنا إسحاق بن شاهين حدثنا خالد بن عبدالله عن داود عن عامر عن ابن عباس قال: إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقول الله تعالى { فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا } واتخذوا ميلاد عيسى قبلة وقال قتادة { مكانا شرقيا } شاسعا متنحيا وقال محمد بن إسحاق ذهبت بقلتها لتستقي الماء وقال نوف البكالي اتخذت لها منزلا تتعبد فيه فالله أعلم.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا
    +/- -/+  
الأية
17
 
وقوله { فاتخذت من دونهم حجابا } أي استترت منهم وتوارت فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام { فتمثل لها بشرا سويا } أي على صورة إنسان تام كامل قال مجاهد والضحاك وقتادة وابن جريج ووهب بن منبه والسدي في قوله { فأرسلنا إليها روحنا } يعني جبرائيل عليه السلام وهذا الذي قالوه هو ظاهر القرآن فإنه تعالى قد قال في الآية الأخرى { نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين } وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: إن روح عيسى عليه السلام من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في زمان آدم عليه السلام وهو الذي تمثل لها بشرا سويا أي روح عيسى فحملت الذي خاطبها وحل في فيها وهذا في غاية الغرابة والنكارة وكأنه إسرائيلي.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
    +/- -/+  
الأية
18
 
{ قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا } أي لما تبدى لها الملك في صورة بشر وهي في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب خافته وظنت أنه يريدها على نفسها فقالت { إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا } أي إن كنت تخاف الله تذكيرا له بالله وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل فخوفته أولا بالله عز وجل قال ابن جرير: حدثني أبو كريب حدثنا أبو بكر عن عاصم قال قال أبو وائل وذكر قصة مريم فقال قد علمت أن التقي ذو نهية حين قالت { إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك } أي فقال لها الملك مجيبا لها ومزيلا لما حصل عندها من الخوف على نفسها لست مما تظنين ولكني رسول ربك أي بعثني الله إليك ويقال إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقا وعاد إلى هيئته.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا
    +/- -/+  
الأية
19
 
وقال { إنما أنا رسول ربك لِيَهَبَ لك غلاما زكيا } هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء أحد مشهوري القراء و قرأ الآخرون { لأهب لك غلاما زكيا } وكلا القراءتين له وجه حسن ومعنى صحيح وكل تستلزم الأخرى.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا
    +/- -/+  
الأية
20
 
{ قالت أنى يكون لي غلام } أي فتعجبت مريم من هذا وقالت كيف يكون لي غلام أي على أي صفة يوجد هذا الغلام مني ولست بذات زوج ولا يتصور منى الفجور ولهذا قالت { ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا } والبغي هي الزانية ولهذا جاء في الحديث النهي عن مهر البغي.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا
    +/- -/+  
الأية
21
 
{ قال كذلك قال ربك هو على هين } أي فقال لها الملك مجيبا لها عما سألت إن الله قد قال إنه سيوجد منك غلاما وإن لم يكن لك بعل ولا يوجد منك فاحشة فإنه على ما يشاء قادر ولهذا قال { ولنجعله آية للناس } أي دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع في خلقهم فخلق آباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى وخلق حواء من ذكر بلا أنثى وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى إلا عيسى فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا إله غيره ولا رب سواه وقوله { ورحمة منا } أي ونجعل هذا الغلام رحمة من الله نبيا من الأنبياء يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده كما قال تعالى في الآية الأخرى { إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين } أي يدعو إلى عبادة ربه في مهده وكهولته قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبدالرحيم بن إبراهيم حدثنا مروان حدثنا العلاء بن الحارث الكوفي عن مجاهد قال: قالت مريم عليها السلام كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني وإذا كنت مع الناس سبح في بطني وكبر وقوله { وكان أمرا مقضيا } يحتمل أن هذا من كلام جبريل لمريم يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدره ومشيئته ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها كما قال تعالى { ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا } وقال { والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا } قال محمد بن إسحاق { وكان أمرا مقضيا } أي إن الله قد عزم على هذا فليس منه بد واختار هذا أيضا ابن جرير في تفسيره ولم يحك غيره والله أعلم.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا
    +/- -/+  
الأية
22
 
يقول تعالى مخبرا عن مريم أنها لما قال لها جبريل عن الله تعالى ما قال إنها استسلمت لقضاء الله تعالى فذكر غير واحد من علماء السلف أن الملك وهو جبرائيل عليه السلام عند ذلك نفخ في جيب درعها فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج فحملت بالولد بإذن الله تعالى فلما حملت به ضاقت ذرعا ولم تدر ماذا تقول للناس فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به غير أنها أفشت سرها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا وذلك أن زكريا عليه السلام كان قد سأل الله الولد فأجيب إلى ذلك فحملت امرأته فدخلت عليها مريم فقامت إليها فاعتنقتها وقالت أشعرت يا مريم أني حبلى؟ فقالت لها مريم وهل علمت أيضا أني حبلى وذكرت لها شأنها وما كان من خبرها وكانوا بيت إيمان وتصديق ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك إذا واجهت مريم تجد الذي في بطنها يسجد للذي في بطن مريم أي يعظمه ويخضع له فإن السجود كان في ملتهم عند السلام مشروعا كما سجد ليوسف أبواه وإخوته وكما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم عليه السلام ولكن حرم في ملتنا هذه تكميلا لتعظيم جلال الرب تعالى قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين قال قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع أخبرنا عبدالرحمن بن القاسم قال: قال مالك رحمه الله بلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام ابنا خالة وكان حملهما جميعا معا فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم إني أرى أن ما في بطني يسجد لما في بطنك قال مالك أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام لأن الله جعله يحي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ثم اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليه السلام فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر وقال عكرمة ثمانية أشهر قال ولهذا لا يعيش ولد الثمانية أشهر وقال ابن جريج أخبرني المغيرة بن عتبة بن عبدالله الثقفي سمع ابن عباس وسئل عن حمل مريم قال لم يكن إلا أن حملت فوضعت وهذا غريب وكأنه مأخوذ من ظاهر قوله تعالى { فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة } فالفاء وإن كانت للتعقيب لكن تعقيب كل شيء بحسبه كقوله تعالى { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما } فهذه الفاء للتعقيب بحسبها وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل صفتين أربعين يوما وقال تعالى { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة } فالمشهور الظاهر والله على كل شيء قدير أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل بها وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس يقال له يوسف النجار فلما رأى ثقل بطنها وكبره أنكر ذلك من أمرها ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها ثم تأمل ما هي فيه فجعل أمرها يجوس في فكره لا يستطيع صرفه عن نفسه فحمل نفسه على أن عرض لها في القول فقال يا مريم إني سائلك عن أمر فلا تعجلي علي. قالت وما هو؟ قال هل يكون قط شجر من غير حب وهل يكون زرع من غير بذر وهل يكون ولد من غير أب؟ فقالت نعم وفهمت ما أشار إليه أما قولك هل يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب ولا بذر وهل يكون ولد من غير أب فإن الله تعالى قد خلق آدم من غير أب ولا أم فصدقها وسلم لها حالها ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة انتبذت منهم مكانا قصيا أي قاصيا منهم بعيدا عنهم لئلا تراهم ولا يروها قال محمد بن إسحاق: فلما حملت به وملأت قلتها ورجعت استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والتوحم وتغير اللون حتى فطر لسانها فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا وشاع الحديث في بني إسرائيل فقالوا إنما صاحبها يوسف ولم يكن معها في الكنيسة غيره وتوارت من الناس واتخذت من دونهم حجابا فلا يراها أحد ولا تراه.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا
    +/- -/+  
الأية
23
 
وقوله { فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة } أي فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع نخلة في المكان الذي تنحت إليه وقد اختلفوا فيه فقال السدي كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس وقال وهب بن منبه ذهبت هاربة فلما كانت بين الشام وبلاد مصر ضربها الطلق وفي رواية عن وهب كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس في قرية هناك يقال لها بيت لحم قلت وقد تقدم في أحاديث الإسراء من رواية النسائي عن أنس رضي عنه والبيهقي عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن ذلك ببيت لحم فالله أعلم; وهذا هو المشهور الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض ولا يشك فيه النصارى أنه ببيت لحم وقد تلقاه الناس وقد ورد به الحديث إن صح وقوله تعالى إخبارا عنها { قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا } فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد ولا يصدقونها في خبرها وبعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية فقالت { يا ليتني مت قبل هذا } أي قبل هذا الحال { وكنت نسيا منسيا } أي لم أخلق ولم أك شيئا قاله ابن عباس وقال السدي قالت وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس يا ليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه والحزن بولادتي المولود من غير بعل { وكنت نسيا منسيا } نسي فترك طلبه كخرق الحيض إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر وكذلك كل شيء نسي وترك فهو نسي وقال قتادة { وكنت نسيا منسيا } أي شيئا لا يعرف ولا يذكر ولا يدري من أنا وقال الربيع بن أنس { وكنت نسيا منسيا } هو السقط وقال ابن زيد لم أكن شيئا قط وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلا عند الفتنة عند قوله { توفني مسلما وألحقني بالصالحين }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا
    +/- -/+  
الأية
24
 
قرأ بعضهم من تحتها بمعنى الذي تحتها وقرأ الآخرون من تحتها على أنه حرف جر واختلف المفسرون في المراد بذلك من هو؟ فقال العوفي وغيره عن ابن عباس { فناداها من تحتها } جبريل ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وعمرو بن ميمون والسدي وقتادة إنه الملك جبرائيل عليه الصلاة والسلام أي ناداها من أسفل الوادي وقال مجاهد { فناداها من تحتها } قال عيسى ابن مريم وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال الحسن هو ابنها وهو إحدى الروايتين عن سعيد بن جبير أنه ابنها قال أو لم تسمع الله يقول { فأشارت إليه } واختاره ابن زيد وابن جرير في تفسيره وقوله: { أن لا تحزني } أي ناداها قائلا لا تحزني { قد جعل ربك تحتك سريا } قال سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب { قد جعل ربك تحتك سريا } قال الجدول وكذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: السري النهر وبه قال عمرو بن ميمون نهر تشرب منه وقال مجاهد هو النهر بالسريانية وقال سعيد بن جبير السري النهر الصغير بالنبطية وقال الضحاك هو النهر الصغير بالسريانية وقال إبراهيم النخعي هو النهر الصغير وقال قتادة هو الجدول بلغة أهل الحجاز وقال وهب بن منبه: السري هو ربيع الماء وقال السدي هو النهر واختار هذا القول ابن جرير وقد ورد في ذلك حديث مرفوع فقال الطبراني حدثنا أبو شعيب الحراني حدثنا يحيى بن عبدالله البابلي حدثنا أيوب بن نهيك سمعت عكرمة مولى ابن عباس سمعت ابن عمر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { إن السري الذي قال الله لمريم { قد جعل ربك تحتك سريا } نهر أخرجه الله لتشرب منه وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلي قال فيه أبو حاتم الرازي ضعيف وقال أبو زرعة منكر الحديث وقال أبو الفتح الأزدي متروك الحديث وقال آخرون المراد بالسري عيسى عليه السلام وبه قال الحسن والربيع بن أنس ومحمد بن عباد بن جعفر وهو إحدى الروايتين عن قتادة وقول عبدالرحمن بن زيد بن أسلم والقول الأول أظهر.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا
    +/- -/+  
الأية
25
 
ولهذا قال بعده { وهزي إليك بجذع النخلة } أي وخذي إليك بجذع النخلة قيل كانت يابسة قاله ابن عباس وقيل مثمرة قال مجاهد كانت عجوة وقال الثوري عن أبي داود نفيع الأعمى كانت صرفانة والظاهر أنها كانت شجرة ولكن لم تكن في إبان ثمرها قاله وهب بن منبه ولهذا امتن عليها بذلك بأن جعل عندها طعاما وشرابا فقال { تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا } أي طيبي نفسا ولهذا قال عمرو بن ميمون: ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب ثم تلا هذه الآية الكريمة وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا شيبان حدثنا مسرور بن سعيد التميمي حدثنا عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي عن عروة بن رويم عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم عليه السلام وليس من الشجر شيء يلقح غيرها } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أطعموا نساءكم الولد الرطب فإن لم يكن رطب فتمر وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران } هذا حديث منكر جدا ورواه أبو يعلى عن شيبان به وقرأ بعضهم { تساقط } بتشديد السين وآخرون بتخفيفها وقرأ أبو نهيك { تسقط عليك رطبا جنيا } وروى أبو إسحاق عن البراء أنه قرأها { يساقط } أي الجذع والكل متقارب.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا
    +/- -/+  
الأية
26
 
وقوله: { فإما ترين من البشر أحدا } أي مهما رأيت من أحد { فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا } المراد بهذا القول الإشارة إليه بذلك لا أن المراد به القول اللفظي لئلا ينافي { فلن أكلم اليوم إنسيا } قال أنس بن مالك في قوله { إني نذرت للرحمن صوما } قال صمتا وكذا قال ابن عباس والضحاك وفي رواية عن أنس: صوما وصمتا وكذا قال قتادة وغيرهما والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام نص على ذلك السدي وقتادة وعبدالرحمن بن زيد قال ابن إسحاق عن حارثة قال: كنت عند ابن مسعود فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر فقال ما شأنك؟ قال أصحابه حلف أن لا يكلم الناس اليوم فقال عبدالله بن مسعود كلم الناس وسلم عليهم فإن تلك امرأة علمت أن أحدا لا يصدقها أنها حملت من غير زوج يعني بذلك مريم عليها السلام ليكون عذرا لها إذا سئلت ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير رحمهما الله وقال عبدالرحمن بن زيد لما قال عيسى لمريم { لا تحزني } قالت وكيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج ولا مملوكة أي شيء عذري عند الناس؟ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا قال لها عيسى أنا أكفيك الكلام { فإما ترين من البشر أحدا فقولي إنى نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا } قال هذا كله من كلام عيسى لأمه وكذا قال وهب.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا
    +/- -/+  
الأية
27
 
يقول تعالى مخبرا عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك وأن لا تكلم أحدا من البشر فإنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها فسلمت لأمر الله عز وجل واستسلمت لقضائه فأخذت ولدها فأتت به قومها تحمله فلما رأوها كذلك أعظموا أمرها واستنكروه جدا و { قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا } أي أمرا عظيما قاله مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبدالله بن أبي زياد حدثنا شيبان حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا أبو عمران الجوني عن نوف البكالي قال: وخرج قومها في طلبها قال وكانت من أهل بيت نبوة وشرف فلم يحسوا منها شيئا فلقوا راعي بقر فقالوا رأيت فتاة كذا وكذا نعتها قال لا ولكني رأيت الليلة من بقري ما لم أره منها قط قالوا وما رأيت قال رأيتها الليلة تسجد نحو هذا الوادي قال عبدالله بن أبي زياد وأحفظ عن شيبان أنه قال رأيت نورا ساطعا فتوجهوا حيث قال لهم فاستقبلتهم مريم فلما رأتهم قعدت وحملت ابنها في حجرها فجاءوا حتى قاموا عليها { وقالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا
    +/- -/+  
الأية
28
 
أمرا عظيما { يا أخت هارون } أي شبيهة هارون في العبادة { ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا } أي أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة فكيف صدر هذا منك قال علي بن أبي طلحة والسدي قيل لها { يا أخت هارون } أي أخي موسى وكانت من نسله كما يقال للتميمي يا أخا تميم وللمصري يا أخا مضر وقيل نسبت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون فكانت تقاس به في الزهادة والعبادة وحكى ابن جرير عن بعضهم أنهم شبهوها برجل فاجر كان فيهم يقال له هارون ورواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير وأغرب من هذا كله ما رواه ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين الهجستاني حدثنا ابن أبي مريم حدثنا المفضل يعني ابن أبي فضالة حدثنا أبو صخر عن القرظي في قول الله عز وجل { يا أخت هارون } قال هي أخت هارون لأبيه وأمه وهي أخت موسى أخي هارون التي قصت أثر موسى { فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون } وهذا القول خطأ محض فإن الله تعالى قد ذكر في كتابه أنه قفى بعيسى بعد الرسل فدل على أنه آخر الأنبياء بعثا وليس بعده إلا محمد صلوات الله وسلامه عليهما ولهذا ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: { أنا أولى الناس بابن مريم لأنه ليس بيني وبينه نبي } ولو كان الأمر كما زعم محمد بن كعب القرظي لم يكن متأخرا عن الرسل سوى محمد ولكان قبل سليمان وداود فإن الله قد ذكرأن داود بعد موسى عليهما السلام وفي قوله تعالى: { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله } وذكر القصة إلى أن قال { وقتل داود جالوت } الآية والذي جرأ القرظي على هذه المقالة ما في التوراة بعد خروج موسى وبني إسرائيل من البحر وإغراق فرعون وقومه قال وقامت مريم بنت عمران أخت موسى وهارون النبيين تضرب بالدف هي والنساء معها يسبحن الله ويشكرنه على ما أنعم به على بني إسرائيل فاعتقد القرظي أن هذه هي أم عيسى وهذه هفوة وغلطة شديدة بل هي باسم هذه وقد كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم كما قال الإمام أحمد حدثنا عبدالله بن إدريس سمعت أبي يذكره عن سماك عن علقمة بن وائل عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا أرأيت ما تقرءون { يا أخت هارون } وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: { ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم } انفرد بإخراجه مسلم والترمذي والنسائي من حديث عبدالله بن إدريس عن أبيه عن سماك به وقال الترمذي حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن إدريس وقال ابن جرير حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن سعيد بن أبي صدقة عن محمد بن سيرين قال أنبئت أن كعبا قال إن قوله: { يا أخت هارون } ليس بهارون أخي موسى قال فقالت له عائشة كذبت قال يا أم المؤمنين إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو أعلم وأخبر وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة قال فسكتت وفي هذا التاريخ نظر. وقال ابن جرير أيضا: حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قوله: { يا أخت هارون } الآية قال كانت من أهل بيت يعرفون بالصلاح ولا يعرفون بالفساد ومن الناس من يعرفون بالصلاح ويتوالدون به وآخرون يعرفون بالفساد ويتوالدون به وكان هارون مصلحا محببا في عشيرته وليس بهارون أ خي موسى ولكنه هارون آخر قال وذكر لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفا كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا
    +/- -/+  
الأية
29
 
وقوله { فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا{ أي أنهم لما استرابوا في أمرها واستنكروا قضيتها وقالوا لها ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرية وقد كانت يومها ذلك صائمة صامتة فأحالت الكلام عليه وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه فقالوا متهكمين بها ظانين أنهـا تزدري بهم وتلعب بهم { كيف نكلم من كان في المهد صبيا } قال ميمون بن مهران { فأشارت إليه } قالت كلموه فقالوا على ما جاءت به من الداهية تأمرنا أن نكلم من كان في المهد صبيا وقال السدي لما { أشارت إليه } غضبوا وقالوا لسخريتها بنا حتى تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها { قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا } أي من هو موجود في مهده في حال صباه وصغره كيف يتكلم؟.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا
    +/- -/+  
الأية
30
 
{ قال إني عبد الله } أول شيء تكلم به أن نزه جناب ربه تعالى وبرأه عن الولد وأثبت لنفسه العبودية لربه وقوله: { آتاني الكتاب وجعلني نبيا } تبرئة لأمه مما نسبت إليه من الفاحشة قال نوف البكالى لما قالوا لأمه ما قالوا كان يرتضع ثديها فنزع الثدي من فمه واتكأ على جنبه الأيسر وقال { إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا - إلى قوله - ما دمت حيا } وقال حماد بن سلمة عن ثابت البناني رفع أصبعه السبابة فوق منكبه وهو يقول: { إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا } الآية وقال عكرمة { آتاني الكتاب } أي قضى أنه يؤتيني الكتاب فيما قضى وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد المصفى حدثنا يحيى بن سعيد هو العطار عن عبدالعزيز بن زياد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان عيسى ابن مريم قد درس التوراة وأحكمها وهو في بطن أمه فذلك قوله: { إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا } يحيى بن سعيد العطار الحمصي متروك.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا
    +/- -/+  
الأية
31
 
وقوله { وجعلني مباركا أينما كنت } قال مجاهد وعمرو بن قيس والثوري وجعلني معلما للخير وفي رواية عن مجاهد نفاعا وقال ابن جرير: حدثني سليمان بن عبدالجبار حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس المخزومي سمعت وهيب بن الورد مولى بني مخزوم قال لقي عالم عالما هو فوقه في العلم فقال له: يرحمك الله ما الذي أعلن من عملي؟ قال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده وقد أجمع الفقهاء على قول الله { وجعلني مباركا أينما كنت } وقيل ما بركته؟ قال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما كان وقوله { وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا } كقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } وقال عبدالرحمن بن القاسم عن مالك بن أنس في قوله { وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا } قال أخبره بما هو كائن من أمره إلى أن يموت ما اثبتها لأهل القدر.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا
    +/- -/+  
الأية
32
 
وقوله { وبرا بوالدتي } أي وأمرني ببر والدتي ذكره بعد طاعة ربه لأن الله تعالى كثيرا ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين كما قال تعالى { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } وقال { أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير } وقوله: { ولم يجعلني جبارا شقيا } أي ولم يجعلني جبارا مستكبرا عن عبادته وطاعته وبر والدتي فأشقى بذلك: قال سفيان الثوري: الجبار الشقي الذي يقتل على الغضب وقال بعض السلف لا تجد أحدا عاقا لوالديه إلا وجدته جبارا شقيا ثم قرأ { وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا } قال ولا تجد سيء الملكة إلا وجدته مختالا فخورا ثم قرأ { وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا } وقال قتادة ذكر لنا أن امرأة رأت ابن مريم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص في آيات سلطه الله عليهن وأذن له فيهن فقالت طوبى للبطن الذي حملك وطوبى للثدي الذي أرضعت به فقال نبي الله عيسى عليه السلام يجيبها طوبى لمن تلا كتاب الله فاتبع ما فيه ولم يكن جبارا شقيا.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا
    +/- -/+  
الأية
33
 
وقوله { والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا } إثبات منه لعبوديته لله عز وجل وأنه مخلوق من خلق الله يحيى ويمات ويبعث كسائر الخلائق ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد صلوات الله وسلامه عليه.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ
    +/- -/+  
الأية
34
 
يقول تعالى لرسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه ذلك الذي قصصناه عليك من خبر عيسى عليه السلام { قول الحق الذي فيه يمترون } أي يختلف المبطلون والمحقون ممن آمن به وكفر به ولهذا قرأ الأكثرون قول الحق برفع قول وقرأ عاصم وعبدالله بن عامر قول الحق وعن ابن مسعود أنه قرأ ذلك عيسى ابن مريم قال الحق والرفع أظهر إعرابا ويشهد له قوله تعالى: { الحق من ربك فلا تكن من الممترين } ولما ذكر تعالى أنه خلقه عبدا نبيا نزه نفسه المقدسة فقال:.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
    +/- -/+  
الأية
35
 
{ ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه } أي عما يقول هؤلاء الجاهلون الظالمون المعتدون علوا كبيرا { إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } أي إذا أراد شيئا فإنما يأمر به فيصير كما يشاء كما قال إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ
    +/- -/+  
الأية
36
 
وقوله { وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم } أي ومما أمر به عيسى قومه وهو في مهده أن أخبرهم إذ ذاك أن الله ربه وربهم وأمرهم بعبادته فقال { فاعبدوه هذا صراط مستقيم } أي هذا الذي جئتكم به عن الله { صراط مستقيم } أي قويم من اتبعه رشد وهدي ومن خالفه ضل وغوى.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ۖ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ
    +/- -/+  
الأية
37
 
وقوله: { فاختلف الأحزاب من بينهم } أي اختلف قول أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فصممت طائفة منهم وهم جمهور اليهود عليهم لعائن الله على أنه ولد زنية وقالوا كلامه هذا سحر وقالت طائفة أخرى إنما تكلم الله وقال آخرون بل هو ابن الله وقال آخرون ثالث ثلاثة وقال آخرون بل هو عبدالله ورسوله وهذا هو قول الحق الذي أرشد الله إليه المؤمنين وقد روي نحو هذا عن عمرو بن ميمون وابن جريج وقتادة وغير واحد من السلف والخلف. قال عبدالرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في قوله { ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون } قال اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر أخرج كل قوم عالمهم فامتروا في عيسى حين رفع فقال بعضهم هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية فقال الثلاثة كذبت ثم قال اثنان منهم للثالث قل أنت فيه قال هو ابن الله وهم النسطورية فقال الاثنان كذبت ثم قال أحد الاثنين للآخر قل فيه فقال هو ثالث ثلاثة الله إله وهو إله وأمه إله وهم الإسرائيلية ملوك النصارى عليهم لعائن الله قال الرابع كذبت بل هو عبدالله ورسوله وروحه وكلمته وهم المسلمون. فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قالوا فاقتتلوا وظهر على المسلمين وذلك قول الله تعالى { ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس } قال قتادة وهم الذين قال الله { فاختلف الأحزاب من بينهم } قال اختلفوا فيه فصاروا أحزابا وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس وعن عروة بن الزبير عن بعض أهل العلم قريبا من ذلك وقد ذكر غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم أن قسطنطين جمعهم في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم فكان جماعة الأساقفة منهم ألفين ومائة وسبعين أسقفا فاختلفوا في عيسى ابن مريم عليه السلام اختلافا متباينا جدا فقالت كل شرذمة فيه قولا فمائة تقول فيه شيئا وسبعون تقول فيه قولا آخر وخمسون تقول شيئا آخر ومائة وستون تقول شيئا ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلثمائة وثمانية منهم اتفقوا على قول وصمموا عليه فمال إليهم الملك وكان فيلسوفا فقدمهم ونصرهم وطرد من عداهم فوضعوا له الأمانة الكبيرة بل هي الخيانة العظيمة ووضعوا له كتب القوانين وشرعوا له أشياء وابتدعوا بدعا كثيرة وحرفوا دين المسيح وغيروه فابتنى لهم حينئذ الكنائس الكبار في مملكته كلها بلاد الشام والجزيرة والروم فكان مبلغ الكنائس في أيامه ما يقارب اثني عشر ألف كنيسة وبنت أمه هيلانة قمامة على المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي يزعم اليهود أنه المسيح وقد كذبوا بل رفعه الله إلى السماء وقوله { فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم } تهديد ووعيد شديد لمن كذب على الله وافترى وزعم أن له ولدا ولكن أنظرهم تعالى إلى يوم القيامة وأجلهم حلما وثقة بقدرته عليهم فإنه الذي لا يعجل على من عصاه كما جاء في الصحيحين { إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته { ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } وفي الصحيحين أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم { وقد قال الله تعالى { وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير } وقال تعالى { ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار } ولهذا قال ههنا { فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم } أي يوم القيامة. وقد جاء في الحديث الصحيح المتفق- على صحته عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل } .

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ۖ لَٰكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
    +/- -/+  
الأية
38
 
يقول تعالى مخبرا عن الكفار يوم القيامة أنهم يكونون أسمع شيء وأبصره كما قال تعالى { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا } الآية أي يقولون ذلك حين لا ينفعهم ولا يجدي عنهم شيئا ولو كان هذا قبل معاينة العذاب لكان نافعا لهم ومنقذا من عذاب الله ولهذا قال { أسمع بهم وأبصر } أي ما أسمعهم وأبصرهم { يوم يأتوننا } يعني يوم القيامة { لكن الظالمون اليوم } أي في الدنيا { في ضلال مبين } أي لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون ويكونون مطيعين حيث لا ينفعهم ذلك.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
    +/- -/+  
الأية
39
 
ثم قال تعالى { وأنذرهم يوم الحسرة } أي أنذر الخلائق يوم الحسرة { إذ قضي الأمر } أي فصل بين أهل الجنة وأهل النار وصار كل إلى ما صار إليه مخلدا فيه { وهم } أي اليوم { في غفلة } عما أنذروا به يوم الحسرة والندامة { وهم لا يؤمنون } أي لا يصدقون به قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ قال فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت - قال - فيقال يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت - قال - فيؤمر به فيذبح قال ويقال يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود ولا موت { ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون } وأشار بيده ثم قال { أهل الدنيا في غفلة الدنيا { هكذا رواه الإمام أحمد وقد خرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث الأعمش به ولفظهما قريب من ذلك وقد روى هذا الحديث الحسن بن عرفة حدثنى أسباط بن محمد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا مثله وفي سنن ابن ماجه وغيره من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة نحوه وهو في الصحيحين عن ابن عمر ورواه ابن جريج قال: قال ابن عباس فذكر من قبله نحوه ورواه أيضا عن أبيه أنه سمع عبيد بن عمير يقول في قصصه يؤتى بالموت كأنه دابة فيذبح والناس ينظرون وقال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل حدثنا أبو الزعراء عن عبدالله هو ابن مسعود في قصة ذكرها قال فليس نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة وبيت في النار وهو يوم الحسرة فيرى أهل النار البيت الذي في الجنة ويقال لهم لو علمتهم فتأخذهم الحسرة قال: ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار فيقال لهم لولا أن الله من عليكم وقال السدي عن زياد عن زر بن حبيش عن ابن مسعود في قوله { وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر } قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أتي بالموت في صورة كبش أملح حتى يوقف بين الجنة والنار ثم ينادي مناد يا أهل الجنة هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا فلا يبقى أحد في أهل عليين ولا في أسفل درجة في الجنة إلا نظر إليه ثم ينادي مناد يا أهل النار هذا الموت الذى كان يميت الناس في الدنيا فلا يبقى أحد في ضحضاح من نار ولا في أسفل درك من جهنم إلا نظر إليه ثم يذبح بين الجنة والنار ثم ينادى يا أهل الجنة هو الخلود أبد الآبدين ويا أهل النار هو الخلود أبد الآبدين فيفرح أهل الجنة فرحة لو كان أحد ميتا من فرح ماتوا ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتا من شهقة ماتوا فذلك قوله تعالى { وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر } يقول إذا ذبح الموت رواه ابن أبي حاتم في تفسيره وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { وأنذرهم يوم الحسرة } من أسماء يوم القيامة عظمه الله وحذره عباده وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم في قوله { وأنذرهم يوم الحسرة } قال يوم القيامة وقرأ { أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
    +/- -/+  
الأية
40
 
وقوله: { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون{ يخبر تعالى أنه الخالق المالك المتصرف وأن الخلق كلهم يهلكون ويبقى هو تعالى وتقدس ولا أحد يدعي ملكا ولا تصرفا بل هو الوارث لجميع خلقه الباقي بعدهم الحاكم فيهم فلا تظلم نفس شيئا ولا جناح بعوضة ولا مثقال ذرة قال ابن أبي حاتم ذكر هدبة بن خالد القيسي حدثنا حزم بن أبي حزم القطعي قال: كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عبدالحميد بن عبدالرحمن صاحب الكوفة: أما بعد فإن الله كتب على خلقه حين خلقهم الموت فجعل مصيرهم إليه وقال فيما أنزل في كتابه الصادق الذى حفظه بعلمه وأشهد ملائكته على حفظه أنه يرث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا
    +/- -/+  
الأية
41
 
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم { واذكر في الكتاب إبراهيم } واتل على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام واذكر لهم ما كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن الذين هم من ذريته ويدعون أنهم على ملته وقد كان صديقا نبيا مع أبيه.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا
    +/- -/+  
الأية
42
 
كيف نهاه عن عبادة الأصنام فقال { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } أي لا ينفعك ولا يدفع عنك ضررا.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا
    +/- -/+  
الأية
43
 
{ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك } يقول وإن كنت من صلبك وتراني أصغر منك لأني ولدك فاعلم أني قد اطلعت من العلم من الله على ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه ولا جاءك بعد { فاتبعني أهدك صراطا سويا } أي طريقا مستقيما موصلا إلى نيل المطلوب والنجاة من المرهوب.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا
    +/- -/+  
الأية
44
 
{ يا أبت لا تعبد الشيطان } أي لا تطعه في عبادتك هذه الأصنام فإنه هو الداعي إلى ذلك والراضي به كما قال تعالى { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين } وقال { إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا } وقوله { إن الشيطان كان للرحمن عصيا } أي مخالفا مستكبرا عن طاعة ربه فطرده وأبعده فلا تتبعه تصر مثله.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا
    +/- -/+  
الأية
45
 
{ يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن } أي على شركك وعصيانك لما آمرك به { فتكون للشيطان وليا } يعني فلا يكون لك مولى ولا ناصرا ولا مغيثا إلا إبليس وليس إليه ولا إلى غيره من الأمر شيء بل اتباعك له موجب لإحاطة العذاب بك كما قال تعالى { تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا
    +/- -/+  
الأية
46
 
يقول تعالى مخبرا عن جواب أبي إبراهيم لولده إبراهيم فيما دعاه إليه أنه قال { أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم } إن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها فانته عن سبها وشتمها وعيبها فإنك إن لم تنته عن ذلك اقتصصت منك وشتمتك وسببتك وهو قوله { لأرجمنك } قاله ابن عباس والسدي وابن جريج والضحاك وغيرهم وقوله { واهجرني مليا } قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن إسحاق يعني دهرا وقال الحسن البصري زمانا طويلا وقال السدي { واهجرني مليا } قال أبدا وقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس { واهجرني مليا } قال سويا سالما قبل أن تصيبك مني عقوبة وكذا قال الضحاك وقتادة وعطية الجدلي ومالك وغيرهم و اختاره ابن جرير.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا
    +/- -/+  
الأية
47
 
فعندها قال إبراهيم لأبيه { سلام عليك } كما قال تعالى في صفة المؤمنين { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } وقال تعالى { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين } ومعنى قول إبراهيم لأبيه { سلام عليك } يعني أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى وذلك لحرمة الأبوة { سأستغفر لك ربي } ولكن سأسال الله فيك أن يهديك ويغفر ذنبك { إنه كان بي حفيا } قال ابن عباس وغيره لطيفا أي في أن هداني لعبادته والإخلاص له وقال قتادة ومجاهد وغيرهما إنه كان بي حفيا قال عوده الإجابة. وقال السدي الحفي الذي يهتم بأمره وقد استغفر إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه مدة طويلة وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق عليهما السلام في قوله { ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك حتى أنزل الله تعالى { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله - إلى قوله - إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء } الآية يعني إلا في هذا القول فلا تتأسوا به ثم بين تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه فقال تعالى { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين - إلى قوله - وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا
    +/- -/+  
الأية
48
 
وقوله { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعوا ربي } أي أجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله { وأدعوا ربي } أي وأعبد ربي وحده لا شريك له { عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا } وعسى هذه موجبة لا محالة فإنه عليه السلام سيد الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه سلم.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا
    +/- -/+  
الأية
49
 
يقول تعالى فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله أبدله الله من هو خير منهم ووهب له إسحاق ويعقوب يعني ابنه وابن إسحاق كما قال في الآية الأخرى { ويعقوب نافلة } وقال { ومن وراء إسحاق يعقوب } ولا خلاف أن إسحاق والد يعقوب وهو نص القرآن في سورة البقرة { أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبدإلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } ولهذا إنما ذكر ههنا إسحاق ويعقوب أي جعلنا له نسلا وعقبا أنبياء أقر الله بهم عينه في حياته ولهذا قال { وكلا جعلنا نبيا } فلو لم يكن يعقوب عليه السلام قد نبئ في حياة إبراهيم لما اقتصر عليه ولذكر ولده يوسف فإنه نبي أيضا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته حين سئل عن خير الناس فقال { يوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن إسحاق نبي الله ابن إبراهيم خليل الله { وفي اللفظ الآخر { إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم } .

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا
    +/- -/+  
الأية
50
 
وقوله { ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني الثناء الحسن وكذا قال السدي ومالك بن أنس وقال ابن جرير إنما قال عليا لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم ويمدحونهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ ۚ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا
    +/- -/+  
الأية
51
 
لما ذكر تعالى إبراهيم الخليل وأثنى عليه عطف بذكر الكليم فقال { واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا } قرأ بعضهم بكسر اللازم من الإخلاص في العبادة قال الثوري عن عبدالعزيز بن رفيع عن أبي لبابة قال: قال الحواريون يا روح الله أخبرنا عن المخلص لله قال الذي يعمل لله لا يحب أن يحمده الناس وقرأ الآخرون بفتحها بمعنى أنه كان مصطفى كما قال تعالى { إني اصطفيتك على الناس } { وكان رسولا نبيا } جمع الله له بين الوصفين فإنه كان من المرسلين الكبار أولي العزم الخمسة وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر الأنبياء أجمعين.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا
    +/- -/+  
الأية
52
 
وقوله { وناديناه من جانب الطور } أي الجانب { الأيمن } من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة فرآها تلوح فقصدها فوجدها في جانب الطور الأيمن منه غربية عند شاطئ الوادي فكلمه الله تعالى وناداه وقربه فناجاه روى ابن جرير حدثنا ابن بشار حدثنا يحيى هو القطان حدثنا سفيان عن عطاء بن يسار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { وقربناه نجيا } قال أدنى حتى سمع صريف القلم وهكذا قال مجاهد وأبو العالية وغيرهم يعنون صريف القلم بكتابة التوراة وقال السدى { وقربناه نجيا } قال أدخل في السماء فكلم وعن مجاهد نحوه وقال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة { وقربناه نجيا } قال نجا بصدقه وروى ابن أبي حاتم حدثنا عبدالجبار بن عاصم حدثنا محمد بن سلمة الحراني عن أبي واصل عن شهر بن حوشب عن عمرو ابن معد يكرب قال لما قرب الله موسى نجيا بطور سيناء قال: يا موسى إذا خلقت لك قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة تعين على الخير فلم أخزن عنك من الخير شيئا ومن أخزن عنه هذا فلم أفتح له من الخير شيئا.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا
    +/- -/+  
الأية
53
 
وقوله { ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا } أي وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه فجعلناه نبيا كما قال في الآية الأخرى { وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون } وقال { ولقد أوتيت سؤلك يا موسى } وقال { فأرسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون } ولهذا قال بعض السلف ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبيا قال الله تعالى { ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا } قال ابن جرير: حدثنا يعقوب حدثنا ابن علية عن داود عن عكرمة قال: قال ابن عباس قوله { ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا } قال كان هارون أكبر من موسى ولكن أراد وهب له نبوته وقد ذكره ابن أبي حاتم معلقا عن يعقوب وهو ابن إبراهيم الدورقي به.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا
    +/- -/+