يَا أَيُّهَا مكية . وقال ابن عباس وقتادة : إلا آيتين منها : { واصبر على ما يقولون
" [ المزمل : 10 ] والتي تليها ; ذكره الماوردي . وقال الثعلبي : قوله تعالى : { إن
ربك يعلم أنك تقوم أدنى } [ المزمل : 20 ] إلى آخر السورة ; فإنه نزل بالمدينة .
قال الأخفش سعيد : { المزمل }{ أصله المتزمل ; فأدغمت التاء في الزاي وكذلك }{ المدثر
" . وقرأ أبي بن كعب على الأصل }{ المتزمل }{ و }{ المتدثر } . وسعيد : { المزمل } . وفي
أصل }{ المزمل }{ قولان : أحدهما أنه المحتمل ; يقال : زمل الشيء إذا حمله , ومنه
الزاملة ; لأنها تحمل القماش . الثاني أن المزمل هو المتلفف ; يقال : تزمل وتدثر
بثوبه إذا تغطى . وزمل غيره إذا غطاه , وكل شيء لفف فقد زمل ودثر ; قال امرؤ القيس :
كبير أناس في بجاد مزمل قوله تعالى : { يا أيها المزمل }{ هذا خطاب للنبي صلى الله
عليه وسلم , وفيه ثلاثة أقوال : الأول قول عكرمة : { يا أيها المزمل }{ بالنبوة
والملتزم للرسالة . وعنه أيضا : يا أيها الذي زمل هذا الأمر أي حمله ثم فتر , وكان
يقرأ : { يا أيها المزمل }{ بتخفيف الزاي وفتح الميم وتشديدها على حذف المفعول ,
وكذلك }{ المدثر }{ والمعنى المزمل نفسه والمدثر نفسه , أو الذي زمله غيره . الثاني :
{ يا أيها المزمل }{ بالقرآن , قاله ابن عباس . الثالث المزمل بثيابه , قال قتادة
وغيره . قال النخعي : كان متزملا بقطيفة . عائشة : بمرط طوله أربعة عشر ذراعا , نصفه
علي وأنا نائمة , ونصفه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي , والله ما كان خزا
ولا قزا ولا مرعزاء ولا إبريسما ولا صوفا , كان سداه شعرا , ولحمته وبرا , ذكره
الثعلبي . قلت : وهذا القول من عائشة يدل على أن السورة مدنية ; فإن النبي صلى الله
عليه وسلم لم يبن بها إلا في المدينة . وما ذكر من أنها مكية لا يصح . والله أعلم .
وقال الضحاك : تزمل بثيابه لمنامه . وقيل : بلغه من المشركين سوء قول فيه , فاشتد
عليه فتزمل في ثيابه وتدثر , فنزلت : { يا أيها المزمل } [ المزمل : 1 ] و }{ يا
أيها المدثر } [ المدثر : 1 ] . وقيل : كان هذا في ابتداء ما أوحى إليه , فإنه لما
سمع قول الملك ونظر إليه أخذته الرعدة فأتى أهله فقال : ( زملوني دثروني ) روي
معناه عن ابن عباس . وقالت الحكماء : إنما خاطبه بالمزمل والمدثر في أول الأمر ;
لأنه لم يكن بعد ادثر شيئا من تبليغ الرسالة . قال ابن العربي : واختلف في تأويل :
{ يا أيها المزمل }{ فمنهم من حمله على حقيقته , قيل له : يا من تلفف في ثيابه أو في
قطيفته قم ; قاله إبراهيم وقتادة . ومنهم من حمله على المجاز , كأنه قيل له : يا من
تزمل بالنبوة ; قاله عكرمة . وإنما يسوغ هذا التفسير لو كانت الميم مفتوحة مشددة
بصيغة المفعول الذي لم يسم فاعله , وأما وهو بلفظ الفاعل فهو باطل . قلت : وقد بينا
أنها على حذف المفعول : وقد قرئ بها , فهي صحيحة المعنى . قال : وأما من قال إنه زمل
القرآن فهو صحيح في المجاز , لكنه قد قدمنا أنه لا يحتاج إليه . قال السهيلي : ليس
المزمل باسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم , ولم يعرف به كما ذهب إليه بعض
الناس وعدوه في أسمائه عليه السلام , وإنما المزمل اسم مشتق من حالته التي كان
عليها حين الخطاب , وكذلك المدثر . وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان : إحداهما
الملاطفة ; فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من
حالته التي هو عليها ; كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي حين غاضب فاطمة رضي الله
عنهما , فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب فقال له : ( قم يا أبا تراب ) إشعارا
له أنه غير عاتب عليه , وملاطفة له . وكذلك قوله عليه السلام لحذيفة : ( قم يا نومان
) وكان نائما ملاطفة له , وإشعارا لترك العتب والتأنيب . فقول الله تعالى لمحمد صلى
الله عليه وسلم : { يا أيها المزمل قم }{ فيه تأنيس وملاطفة ; ليستشعر أنه غير عاتب
عليه . والفائدة الثانية : التنبيه لكل متزمل راقد ليله ليتنبه إلى قيام الليل وذكر
الله تعالى فيه ; لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك
العمل واتصف بتلك الصفة .
قُمِ اللَّيْلَ قراءة العامة بكسر الميم لالتقاء الساكنين . وقرأ أبو السمال بضم
الميم إتباعا لضمة القاف . وحكى الفتح لخفته . قال عثمان بن جني : الغرض بهذه الحركة
التبليغ بها هربا من التقاء الساكنين , فبأي حركة تحركت فقد وقع الغرض . وهو من
الأفعال القاصرة غير المتعدية إلى مفعول , فأما ظرف الزمان والمكان فسائغ فيه , إلا
أن ظرف المكان لا يتعدى إليه إلا بواسطة ; لا تقول : قمت الدار حتى تقول قمت وسط
الدار وخارج الدار . وقد قيل : إن }{ قم }{ هنا معناه صل ; عبر به عنه واستعير له حتى
صار عرفا بكثرة الاستعمال . { الليل }{ حد الليل : من غروب الشمس إلى طلوع الفجر
. وقد تقدم بيانه في سورة }{ البقرة }{ واختلف : هل كان قيامه فرضا وحتما , أو كان
ندبا وحضا ؟ والدلائل تقوي أن قيامه كان حتما وفرضا ; وذلك أن الندب والحض لا يقع
على بعض الليل دون بعض ; لأن قيامه ليس مخصوصا به وقتا دون وقت . وأيضا فقد جاء
التوقيت بذلك عن عائشة وغيرها على ما يأتي . واختلف أيضا : هل كان فرضا على النبي
صلى الله عليه وسلم وحده , أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء , أو عليه وعلى
أمته ؟ ثلاثة أقوال : الأول : قول سعيد بن جبير لتوجه الخطاب إليه خاصة . الثاني :
قول ابن عباس , قال : كان قيام الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى
الأنبياء قبله . الثالث : قول عائشة وابن عباس أيضا وهو الصحيح ; كما في صحيح مسلم
عن زرارة بن أوفى أن سعد بن هشام بن عامر أراد أن يغزو في سبيل الله .. . الحديث ,
وفيه : فقلت لعائشة : أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : ألست
تقرأ : { يا أيها المزمل }{ قلت : بلى ! قالت فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في
أول هذه السورة , فقام صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا , وأمسك الله عز وجل
خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء , حتى أنزل الله عز وجل في آخر هذه السورة التخفيف
, فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة . وذكر الحديث . وذكر وكيع ويعلى قالا : حدثنا
مسعر عن سماك الحنفي قال : سمعت ابن عباس يقول لما أنزل أول }{ يا أيها المزمل } [
المزمل : 1 ] كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها , وكان بين
أولها وآخرها نحو من سنة . وقال سعيد بن جبير : مكث النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه عشر سنين يقومون الليل , فنزل بعد عشر سنين : { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى
من ثلثي الليل } [ المزمل : 20 ] فخفف الله عنهم . إِلَّا قَلِيلًا استثناء من الليل
, أي صل الليل كله إلا يسيرا منه ; لأن قيام جميعه على الدوام غير ممكن , فاستثنى
منه القليل لراحة الجسد . والقليل من الشيء ما دون النصف ; فحكي عن وهب بن منبه أنه
قال : القليل ما دون المعشار والسدس . وقال الكلبي ومقاتل : الثلث .
فكان ذلك تخفيفا إذ لم يكن زمان القيام محدودا , فقام الناس حتى ورمت أقدامهم , ثم
نسخ ذلك بقوله تعالى : { علم أن لن تحصوه } [ المزمل : 20 ] . وقال الأخفش : { نصفه
{ أي أو نصفه ; يقال : أعطه درهما درهمين ثلاثة : يريد : أو درهمين أو ثلاثة .
وقال الزجاج : { نصفه }{ بدل من الليل و }{ إلا قليلا }{ استثناء من النصف . والضمير
في }{ منه }{ و }{ عليه }{ للنصف . المعنى : قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا إلى
الثلث أو زد عليه قليلا إلى الثلثين ; فكأنه قال : قم ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه .
وقيل : إن }{ نصفه }{ بدل من قوله : { قليلا }{ وكان مخيرا بين ثلاث : بين قيام النصف
بتمامه , وبين الناقص منه , وبين قيام الزائد عليه ; كأن تقدير الكلام : قم الليل
إلا نصفه , أو أقل من نصفه , أو أكثر من نصفه . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة
حين يمضي ثلث الليل الأول , فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب
له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له , فلا يزال كذلك حتى
يضيء الفجر ) . ونحوه عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعا وهو يدل على ترغيب قيام ثلثي
الليل . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
إذا مضى شطر الليل - أو ثلثاه - ينزل الله .. .) الحديث . رواه من طريقين عن أبي
هريرة هكذا على الشك . وقد جاء في كتاب النسائي عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله
عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي
شطر الليل الأول , ثم يأمر مناديا يقول : هل من داع يستجاب له ؟ هل من مستغفر يغفر
له ؟ هل من سائل يعطى ؟ ) صححه أبو محمد عبد الحق ; فبين هذا الحديث مع صحته معنى
النزول , وأن ذلك يكون عند نصف الليل . وخرج ابن ماجه من حديث ابن شهاب , عن أبي
سلمة وأبي عبد الله الأغر , عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( ينزل ربنا تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة فيقول من يسألني فأعطيه
؟ من يدعوني فأستجيب له ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ حتى يطلع الفجر ) . فكانوا يستحبون
صلاة آخر الليل على أوله . قال علماؤنا : وبهذا الترتيب انتظم الحديث والقرآن ,
فإنهما يبصران من مشكاة واحدة . وفي الموطأ وغيره من حديث ابن عباس : بت عند خالتي
ميمونة حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل , استيقظ رسول الله صلى
الله عليه وسلم , فقام إلى شن معلق فتوضأ وضوءا خفيفا . وذكر الحديث . اختلف
العلماء في الناسخ للأمر بقيام الليل ; فعن ابن عباس وعائشة أن الناسخ للأمر بقيام
الليل قوله تعالى : { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل } [ المزمل : 20 ]
إلى آخر السورة . وقيل قوله تعالى : { علم أن لن تحصوه } [ المزمل : 20 ] . وعن ابن
عباس أيضا : هو منسوخ بقوله تعالى : { علم أن سيكون منكم مرضى } [ المزمل : 20 ] .
وعن عائشة أيضا والشافعي ومقاتل وابن كيسان : هو منسوخ بالصلوات الخمس . وقيل
الناسخ لذلك قوله تعالى : { فاقرءوا ما تيسر منه } [ المزمل : 20 ] . قال أبو عبد
الرحمن السلمي : لما نزلت : { يا أيها المزمل }{ قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم , ثم
نزل قوله تعالى : { فاقرءوا ما تيسر منه } [ المزمل : 20 ] . قال بعض العلماء : وهو
فرض نسخ به فرض , كان على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لفضله ; كما قال تعالى : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } [ الإسراء : 79 ] . قلت : القول الأول يعم جميع هذه
الأقوال , وقد قال تعالى : { وأقيموا الصلاة } [ المزمل : 20 ] فدخل فيها قول من
قال إن الناسخ الصلوات الخمس . وقد ذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل فريضة
على كل مسلم ولو على قدر حلب شاة . وعن الحسن أيضا أنه قال في هذه الآية : الحمد لله
تطوع بعد الفريضة . وهو الصحيح إن شاء الله تعالى ; لما جاء في قيامه من الترغيب
والفضل في القرآن والسنة . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أجعل للنبي صلى الله
عليه وسلم حصيرا يصلي عليه من الليل , فتسامع الناس به , فلما رأى جماعتهم كره ذلك
, وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل , فدخل البيت كالمغضب , فجعلوا يتنحنحون ويتفلون
فخرج إليهم فقال : ( أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون , فإن الله لا يمل من
الثواب , حتى تملوا من العمل , وإن خير العمل أدومه وإن قل ) . فنزلت : { يا أيها
المزمل }{ فكتب عليهم , فأنزل بمنزلة الفريضة , حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل فيتعلق
به , فمكثوا ثمانية أشهر , فرحمهم الله وأنزل : { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من
ثلثي الليل } [ المزمل : 20 ] فردهم الله إلى الفريضة , ووضع عنهم قيام الليل إلا
ما تطوعوا به . قلت : حديث عائشة هذا ذكره الثعلبي , ومعناه ثابت في الصحيح إلى قوله
: ( وإن قل ) وباقيه يدل على أن قوله تعالى : { يا أيها المزمل }{ نزل بالمدينة
وأنهم مكثوا ثمانية أشهر يقومون . وقد تقدم عنها في صحيح مسلم : حولا . وحكى الماوردي
عنها قولا ثالثا وهو ستة عشر شهرا , لم يذكر غيره عنها . وذكر عن ابن عباس أنه كان
بين أول المزمل وآخرها سنة ; قال : فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان فرضا
عليه . وفي نسخة عنه قولان : أحدهما أنه كان فرضه عليه إلى أن قبضه الله تعالى
. الثاني أنه نسخ عنه كما نسخ عن أمته . وفي مدة فرضه إلى أن نسخ قولان : أحدهما :
المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين , يريد قول ابن عباس حولا , وقول
عائشة ستة عشر شهرا . الثاني : أنها عشر سنين إلى أن خفف عنه بالنسخ زيادة في
التكليف , ليميزه بفعل الرسالة ; قاله ابن جبير . قلت : هذا خلاف ما ذكره الثعلبي عن
سعيد بن جبير حسب ما تقدم فتأمله . وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في آخر السورة
إن شاء الله تعالى .
أي لا تعجل بقراءة القرآن بل اقرأه في مهل وبيان مع تدبر المعاني . وقال الضحاك :
اقرأه حرفا حرفا . وقال مجاهد : أحب الناس في القراءة إلى الله أعقلهم عنه .
والترتيل التنضيد والتنسيق وحسن النظام ; ومنه ثغر رتل ورتل , بكسر العين وفتحها :
إذا كان حسن التنضيد . وتقدم بيانه في مقدمة الكتاب . وروى الحسن أن النبي صلى الله
عليه وسلم , مر برجل يقرأ آية ويبكي , فقال : ( ألم تسمعوا إلى قول الله عز وجل : { ورتل القرآن ترتيلا }{ هذا الترتيل ) . وسمع علقمة رجلا يقرأ قراءة حسنة فقال : لقد
رتل القرآن , فداه أبي وأمي , وقال أبو بكر بن طاهر : تدبر في لطائف خطابه , وطالب
نفسك بالقيام بأحكامه , وقلبك بفهم معانيه , وسرك بالإقبال عليه . وروى عبد الله بن
عمرو قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يؤتى بقارئ القرآن يوم القيامة ,
فيوقف في أول درج الجنة ويقال له اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا , فإن
منزلك عند آخر آية تقرؤها ) خرجه أبو داود وقد تقدم في أول الكتاب . وروى أنس أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يمد صوته بالقراءة مدا .
هو متصل بما فرض من قيام الليل , أي سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل قولا ثقيلا يثقل
حمله ; لأن الليل للمنام , فمن أمر بقيام أكثره لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل شديد على
النفس ومجاهدة للشيطان , فهو أمر يثقل على العبد . وقيل : إنا سنوحي إليك القرآن ,
وهو قول ثقيل يثقل العمل بشرائعه . قال قتادة : ثقيل والله فرائضه وحدوده . مجاهد :
حلاله وحرامه . الحسن : العمل به . أبو العالية : ثقيلا بالوعد والوعيد والحلال
والحرام . محمد بن كعب : ثقيلا على المنافقين . وقيل : على الكفار ; لما فيه من
الاحتجاج عليهم , والبيان لضلالتهم وسب آلهتهم , والكشف عما حرفه أهل الكتاب .
السدي : ثقيل بمعنى كريم ; مأخوذ من قولهم : فلان ثقيل علي , أي يكرم علي . الفراء
: { ثقيلا }{ رزينا ليس بالخفيف السفساف لأنه كلام ربنا . وقال الحسين بن الفضل :
ثقيلا لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق , ونفس مزينة بالتوحيد . وقال ابن زيد : هو
والله ثقيل مبارك , كما ثقل في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة . وقيل : { ثقيلا }{ أي ثابتا كثبوت الثقيل في محله , ويكون معناه أنه ثابت الإعجاز , لا يزول
إعجازه أبدا . وقيل : هو القرآن نفسه ; كما جاء في الخبر : إن النبي صلى الله عليه
وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها - يعني صدرها - على الأرض , فما
تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه . وفي الموطأ وغيره أنه عليه السلام سئل : كيف يأتيك
الوحي ؟ فقال : ( أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس , وهو أشده علي , فيفصم عني وقد
وعيت ما قال , وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ) . قالت عائشة رضي
الله عنها : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد , فيفصم عنه وإن
جبينه ليتفصد عرقا . قال ابن العربي : وهذا أولى ; لأنه الحقيقة , وقد جاء : { وما
جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78 ] . وقال عليه السلام : { بعثت بالحنيفية
السمحة } . وقيل : القول في هذه السورة : هو قول لا إله إلا الله ; إذ في الخبر :
خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان ; ذكره القشيري .
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ قال العلماء : ناشئة الليل أي أوقاته وساعاته , لأن
أوقاته تنشأ أولا فأولا ; يقال : نشأ الشيء ينشأ : إذا ابتدأ وأقبل شيئا بعد شيء ,
فهو ناشئ وأنشأه الله فنشأ , ومنه نشأت السحابة إذا بدأت وأنشأها الله ; فناشئة :
فاعلة من نشأت تنشأ فهي ناشئة , ومنه قوله تعالى : { أومن ينشأ في الحلية وهو في
الخصام غير مبين } [ الزخرف : 18 ] والمراد إن ساعات الليل الناشئة , فاكتفى بالوصف
عن الاسم , فالتأنيث للفظ ساعة , لأن كل ساعة تحدث . وقيل : الناشئة مصدر بمعنى (
قيام الليل ) كالخاطئة والكاذبة ; أي إن نشأة الليل هي أشد وطئا . وقيل : إن ناشئة
الليل قيام الليل . قال ابن مسعود : الحبشة يقولون : نشأ أي قام , فلعله أراد أن
الكلمة عربية , ولكنها شائعة في كلام الحبشة , غالبة عليهم , وإلا فليس في القرآن
ما ليس في لغة العرب . وقد تقدم بيان هذا في مقدمة الكتاب مستوفى . بين تعالى في
هذه الآية فضل صلاة الليل على صلاة النهار , وأن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة
فيها ما أمكن , أعظم للأجر , وأجلب للثواب . واختلف العلماء في المراد بناشئة الليل
; فقال ابن عمر وأنس بن مالك : هو ما بين المغرب والعشاء , تمسكا بأن لفظ نشأ يعطي
الابتداء , فكان بالأولية أحق ; ومنه قول الشاعر : ولولا أن يقال صبا نصيب لقلت
بنفسي النشأ الصغار وكان علي بن الحسين يصلي بين المغرب والعشاء ويقول : هذا ناشئة
الليل . وقال عطاء وعكرمة : إنه بدء الليل . وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : هي الليل
كله ; لأنه ينشأ بعد النهار , وهو الذي اختاره مالك بن أنس . قال ابن العربي : وهو
الذي يعطيه اللفظ وتقتضيه اللغة . وقالت عائشة وابن عباس أيضا ومجاهد : إنما
الناشئة القيام بالليل بعد النوم . ومن قام أول الليل قبل النوم فما قام ناشئة . فقال
يمان وابن كيسان : هو القيام من آخر الليل . وقال ابن عباس : كانت صلاتهم أول الليل
. وذلك أن الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ . وفي الصحاح : وناشئة الليل أول
ساعاته . وقال القتبي : إنه ساعات الليل ; لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة . وعن الحسن
ومجاهد : هي ما بعد العشاء الآخرة إلى الصبح . وعن الحسن أيضا : ما كان بعد العشاء
فهو ناشئة . ويقال : ما ينشأ في الليل من الطاعات ; حكاه الجوهري . هِيَ أَشَدُّ
وَطْئًا قرأ أبو العالية وأبو عمرو وابن أبي إسحاق ومجاهد وحميد وابن محيصن وابن
عامر والمغيرة وأبو حيوة }{ وطاء }{ بكسر الواو وفتح الطاء والمد , واختاره أبو عبيد
. الباقون }{ وطئا }{ بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة , واختاره أبو حاتم ; من قولك :
اشتدت على القوم وطأة سلطانهم . أي ثقل عليهم ما حملهم من المؤن , ومنه قول النبي
صلى الله عليه وسلم : ( اللهم اشدد وطأتك على مضر ) فالمعنى أنها أثقل على المصلي
من ساعات النهار . وذلك أن الليل وقت منام وتودع وإجمام , فمن شغله بالعبادة فقد
تحمل المشقة العظيمة . ومن مد فهو مصدر واطأت وطاء ومواطأة أي وافقته . ابن زيد
واطأته على الأمر مواطأة : إذا وافقته من الوفاق , وفلان يواطئ اسمه اسمي ,
وتواطئوا عليه أي توافقوا ; فالمعنى أشد موافقة بين القلب والبصر والسمع واللسان ;
لانقطاع الأصوات والحركات ; قاله مجاهد وابن أبي مليكة وغيرهما . وقال ابن عباس
بمعناه , أي يواطئ السمع القلب ; قال الله تعالى : { ليواطئوا عدة ما حرم الله } [
التوبة : 37 ] أي ليوافقوا . وقيل : المعنى أشد مهادا للتصرف في التفكر والتدبر
. والوطاء خلاف الغطاء . وقيل : { أشد وطئا }{ بسكون الطاء وفتح الواو أي أشد ثباتا من
النهار ; فإن الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله , فيكون ذلك أثبت للعمل وأتقى لما
يلهي ويشغل القلب . والوطء الثبات , تقول : وطئت الأرض بقدمي . وقال الأخفش : أشد
قياما . الفراء : أثبت قراءة وقياما . وعنه : { أشد وطئا }{ أي أثبت للعمل وأدوم لمن
أراد الاستكثار من العبادة , والليل وقت فراغ عن اشتغال المعاش , فعبادته تدوم ولا
تنقطع . وقال الكلبي : { أشد وطئا }{ أي أشد نشاطا للمصلي ; لأنه في زمان راحته
. وقال عبادة : { أشد وطئا }{ أي نشاطا للمصلي وأخف , وأثبت للقراءة . وَأَقْوَمُ
قِيلًا أي القراءة بالليل أقوم منها بالنهار ; أي أشد استقامة واستمرارا على الصواب
; لأن الأصوات هادئة , والدنيا ساكنة , فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه . قال قتادة
ومجاهد : أي أصوب للقراءة وأثبت للقول ; لأنه زمان التفهم . وقال أبو علي : { أقوم
قيلا }{ أي أشد استقامة لفراغ البال بالليل . وقيل : أي أعجل إجابة للدعاء . حكاه ابن
شجرة . وقال عكرمة : عبادة الليل أتم نشاطا , وأتم إخلاصا , وأكثر بركة . وعن زيد بن
أسلم : أجدر أن يتفقه في القرآن . وعن الأعمش قال : قرأ أنس بن مالك }{ إن ناشئة
الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا }{ فقيل له : { وأقوم قيلا }{ فقال : أقوم وأصوب وأهيأ
: سواء . قال أبو بكر الأنباري : وقد ترامى ببعض هؤلاء الزائغين إلى أن قال : من قرأ
بحرف يوافق معنى حرف من القرآن فهو مصيب , إذا لم يخالف معنى ولم يأت بغير ما أراد
الله وقصد له , واحتجوا بقول أنس هذا . وهو قول لا يعرج عليه ولا يلتفت إلى قائله ;
لأنه لو قرأ بألفاظ تخالف ألفاظ القرآن إذا قاربت معانيها واشتملت على عامتها ,
لجاز أن يقرأ في موضع }{ الحمد لله رب العالمين } [ الفاتحة : 2 ] : الشكر للباري
ملك المخلوقين , ويتسع الأمر في هذا حتى يبطل لفظ جميع القرآن , ويكون التالي له
مفتريا على الله عز وجل , كاذبا على رسوله صلى الله عليه وسلم ولا حجة لهم في قول
ابن مسعود : نزل القرآن على سبعة أحرف , إنما هو كقول أحدكم : هلم وتعال وأقبل ;
لأن هذا الحديث يوجب أن القراءات المأثورة المنقولة بالأسانيد الصحاح عن النبي صلى
الله عليه وسلم إذا اختلفت ألفاظها , واتفقت معانيها , كان ذلك فيها بمنزلة الخلاف
في هلم , وتعال , وأقبل , فأما ما لم يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
وتابعوهم رضي الله عنهم , فإنه من أورد حرفا منه في القرآن بهت ومال وخرج من مذهب
الصواب . قال أبو بكر : والحديث الذي جعلوه قاعدتهم في هذه الضلالة حديث لا يصح عن
أحد من أهل العلم ; لأنه مبني على رواية الأعمش عن أنس , فهو مقطوع ليس بمتصل فيؤخذ
به من قبل أن الأعمش رأى أنسا ولم يسمع منه .
قراءة العامة بالحاء غير معجمة ; أي تصرفا في حوائجك , وإقبالا وإدبارا وذهابا
ومجيئا . والسبح : الجري والدوران , ومنه السابح في الماء ; لتقلبه بيديه ورجليه
. وفرس سابح : شديد الجري ; قال امرؤ القيس : مسح إذا ما السابحات على الونى أثرن
الغبار بالكديد المركل وقيل : السبح الفراغ ; أي إن لك فراغا للحاجات بالنهار .
وقيل : { إن لك في النهار سبحا }{ أي نوما , والتسبح التمدد ; ذكره الخليل . وعن
ابن عباس وعطاء : ( سبحا طويلا ) يعني فراغا طويلا لنومك وراحتك , فاجعل ناشئة
الليل لعبادتك , وقال الزجاج : إن فاتك في الليل شيء فلك في النهار فراغ الاستدراك
. وقرأ يحيى بن يعمر وأبو وائل }{ سبخا }{ بالخاء المعجمة . قال المهدوي : ومعناه
النوم روي ذلك عن القارئين بهذه القراءة . وقيل : معناه الخفة والسعة والاستراحة ;
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد دعت على سارق ردائها : ( لا تسبخي (
عنه ) بدعائك عليه ) . أي لا تخففي عنه إثمه ; قال الشاعر : فسبخ عليك الهم واعلم
بأنه إذا قدر الرحمن شيئا فكائن الأصمعي : يقال سبخ الله عنك الحمى أي خففها . وسبخ
الحر : فتر وخف . والتسبيخ النوم الشديد . والتسبيخ أيضا توسيع القطن والكتان والصوف
وتنفيشها ; يقال للمرأة : سبخي قطنك . والسبيخ من القطن ما يسبخ بعد الندف , أي يلف
لتغزله المرأة , والقطعة منه سبيخة , وكذلك من الصوف والوبر . ويقال لقطع القطن
سبائخ ; قال الأخطل يصف القناص والكلاب : فأرسلوهن يذرين التراب كما يذري سبائخ قطن
ندف أوتار وقال ثعلب : السبخ بالخاء التردد والاضطراب , والسبخ أيضا السكون ; ومنه
قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الحمى من فيح جهنم , فسبخوها بالماء ) أي سكنوها
. وقال أبو عمرو : السبخ : النوم والفراغ . قلت : فعلى هذا يكون من الأضداد وتكون
بمعنى السبح , بالحاء غير المعجمة .
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي ادعه بأسمائه الحسنى , ليحصل لك مع الصلاة محمود
العاقبة . وقيل : أي اقصد بعملك وجه ربك , وقال سهل : اقرأ باسم الله الرحمن الرحيم
في ابتداء صلاتك توصلك بركة قراءتها إلى ربك , وتقطعك عما سواه . وقيل : اذكر اسم
ربك في وعده ووعيده , لتوفر على طاعته وتعدل عن معصيته . وقال الكلبي : صل لربك أي
بالنهار . قلت : وهذا حسن فإنه لما ذكر الليل ذكر النهار ; إذ هو قسيمه ; وقد قال
الله تعالى : { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر } [ الفرقان : 62
] على ما تقدم . وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا التبتل : الانقطاع إلى عبادة الله
عز وجل ; أي انقطع بعبادتك إليه , ولا تشرك به غيره . يقال : بتلت الشيء أي قطعته ,
ومنه قولهم : طلقها بتة بتلة , وهذه صدقة بتة بتلة ; أي بائنة منقطعة عن صاحبها ,
أي قطع ملكه عنها بالكلية ; ومنه مريم البتول لانقطاعها إلى الله تعالى , ويقال
للراهب متبتل ; لانقطاعه عن الناس , وانفراده بالعبادة , قال : تضيء الظلام بالعشاء
كأنها منارة ممسى راهب متبتل وفي الحديث النهي عن التبتل , وهو الانقطاع عن الناس
والجماعات . وقيل : إن أصله عند العرب التفرد ; قاله ابن عرفة . والأول أقوى لما
ذكرنا . ويقال : كيف قال : تبتيلا , ولم يقل تبتلا ؟ قيل له : لأن معنى تبتل بتل
نفسه , فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل . قد مضى في ( المائدة ) في تفسير
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } [ المائدة :
87 ] كراهة لمن تبتل وانقطع وسلك سبيل الرهبانية بما فيه كفاية . قال ابن العربي :
وأما اليوم وقد مرجت عهود الناس , وخفت أماناتهم , واستولى الحرام على الحطام ,
فالعزلة خير من الخلطة , والعزبة أفضل من التأهل , ولكن معنى الآية : انقطع عن
الأوثان والأصنام وعن عبادة غير الله , وكذلك قال مجاهد : معناه : أخلص له العبادة
, ولم يرد التبتل , فصار التبتل مأمورا به في القرآن , منهيا عنه في السنة , ومتعلق
الأمر غير متعلق النهي ; فلا يتناقضان , وإنما بعث ليبين للناس ما نزل إليهم ;
فالتبتل المأمور به : الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة ; كما قال تعالى : { وما
أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } [ البينة : 5 ] والتبتل المنهي عنه : هو
سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهب في الصوامع , لكن عند فساد الزمان يكون
خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر , يفر بدينه من الفتن .
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قرأ أهل الحرمين وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو وابن
أبي إسحاق وحفص }{ رب }{ بالرفع على الابتداء والخبر }{ لا إله إلا هو } . وقيل : على
إضمار }{ هو } . الباقون }{ رب }{ بالخفض على نعت الرب تعالى في قوله تعالى : { واذكر
اسم ربك }{ رب المشرق }{ ومن علم أنه رب المشارق والمغارب انقطع بعمله وأمله إليه
. لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا أي قائما بأمورك . وقيل : كفيلا بما
وعدك .
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ أي من الأذى والسب والاستهزاء , ولا تجزع من قولهم
, ولا تمتنع من دعائهم . وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا أي لا تتعرض لهم , ولا
تشتغل بمكافأتهم , فإن في ذلك ترك الدعاء إلى الله . وكان هذا قبل الأمر بالقتال ,
ثم أمر بعد بقتالهم وقتلهم , فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك ; قاله قتادة
وغيره . وقال أبو الدرداء : إنا لنكشر في وجوه ( أقوام ) ونضحك إليهم وإن قلوبنا
لتقليهم أو لتلعنهم .
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أي ارض بي لعقابهم . نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من
المستهزئين . وقال مقاتل : نزلت في المطعمين يوم بدر وهم عشرة . وقد تقدم ذكرهم في }
الأنفال } . وقال يحيى بن سلام : إنهم بنو المغيرة . وقال سعيد بن جبير أخبرت أنهم
اثنا عشر رجلا . أُولِي النَّعْمَةِ أي أولي الغنى والترفه واللذة في
الدنياوَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا يعني إلى مدة آجالهم . قالت عائشة رضي الله عنها : لما
نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر . وقيل : { ومهلهم قليلا }{ يعني
إلى مدة الدنيا .
الأنكال : القيود . عن الحسن ومجاهد وغيرهما . واحدها نكل , وهو ما منع الإنسان من
الحركة . وقيل : سمي نكلا , لأنه ينكل به . قال الشعبي : أترون أن الله تعالى جعل
الأنكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا ؟ لا والله ! ولكنهم إذا أرادوا أن
يرتفعوا استفلت بهم . وقال الكلبي : الأنكال : الأغلال , والأول أعرف في اللغة ;
ومنه قول الخنساء : دعاك فقطعت أنكاله وقد كن قبلك لا تقطع وقيل : إنه أنواع العذاب
الشديد ; قاله مقاتل . وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله يحب
النكل على النكل ) بالتحريك , قاله الجوهري . قيل : وما النكل ؟ قال : ( الرجل القوي
المجرب , على الفرس القوي المجرب ) ذكره الماوردي قال : ومن ذلك سمي القيد نكلا
لقوته , وكذلك , الغل , وكل عذاب قوي فاشتد , والجحيم النار المؤججة .
أي غير سائغ ; يأخذ بالحلق , لا هو نازل ولا هو خارج , وهو الغسلين والزقوم والضريع
; قاله ابن عباس . وعنه أيضا أنه شوك يدخل الحلق , فلا ينزل ولا يخرج . وقال الزجاج
: أي طعامهم الضريع ; كما قال : { ليس لهم طعام إلا من ضريع } [ الغاشية : 6 ] وهو
شوك كالعوسج . وقال مجاهد : هو الزقوم , كما قال : { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم } [
الدخان : 43 - 44 ] . والمعنى واحد . وقال حمران بن أعين : قرأ النبي صلى الله عليه
وسلم ( إن لدينا أنكالا وجحيما . وطعاما ذا غصة ) فصعق . وقال خليد بن حسان : أمسى
الحسن عندنا صائما , فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآية }{ إن لدينا أنكالا وجحيما
. وطعاما }{ فقال : ارفع طعامك . فلما كانت الثانية أتيته بطعام فعرضت له هذه الآية ,
فقال : ارفعوه . ومثله في الثالثة ; فانطلق ابنه إلى ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى
البكاء فحدثهم , فجاءوه فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق . والغصة : الشجا , وهو
ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره . وجمعها غصص . والغصص بالفتح مصدر قولك : غصصت يا
رجل تغص , فأنت غاص بالطعام وغصان , وأغصصته أنا , والمنزل غاص بالقوم أي ممتلئ بهم
.
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ أي تتحرك وتضطرب بمن عليها . وانتصب }{ يوم }
على الظرف أي ينكل بهم ويعذبون }{ يوم ترجف الأرض } . وقيل : بنزع الخافض ; يعني هذه
العقوبة في يوم ترجف الأرض والجبال . وقيل : العامل }{ ذرني }{ أي وذرني والمكذبين يوم
ترجف الأرض والجبال . وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا أي وتكون . والكثيب
الرمل المجتمع - قال حسان : عرفت ديار زينب بالكثيب كخط الوحي في الورق القشيب
والمهيل : الذي يمر تحت الأرجل . قال الضحاك والكلبي : المهيل : هو الذي إذا وطئته
بالقدم زل من تحتها , وإذا أخذت أسفله انهال . وقال ابن عباس : { مهيلا }{ أي رملا
سائلا متناثرا وأصله مهيول وهو مفعول من قولك : هلت عليه التراب أهيله هيلا : إذا
صببته . يقال : مهيل ومهيول , ومكيل ومكيول , ومدين ومديون , ومعين ومعيون ; قال
الشاعر : قد كان قومك يحسبونك سيدا وإخال أنك سيد معيون وفي حديث النبي صلى الله
عليه وسلم أنهم شكوا إليه الجدوبة ; فقال : ( أتكيلون أم تهيلون ) قالوا : نهيل
. قال : ( كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه ) . وأهلت الدقيق لغة في هلت فهو مهال ومهيل
. وإنما حذفت الواو , لأن الياء تثقل فيها الضمة , فحذفت فسكنت هي والواو فحذفت
الواو لالتقاء الساكنين .
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ يريد النبي صلى الله
عليه وسلم أرسله إلى قريشكَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا وهو موسى .
فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ أي كذب به ولم يؤمن . قال مقاتل : ذكر موسى وفرعون ;
لأن أهل مكة ازدروا محمدا صلى الله عليه وسلم واستخفوا به ; لأنه ولد فيهم , كما أن
فرعون ازدرى موسى ; لأنه رباه ونشأ فيما بينهم , كما قال تعالى : { ألم نربك فينا
وليدا } [ الشعراء : 18 ] . قال المهدوي : ودخلت الألف واللام في الرسول لتقدم ذكره
; ولذلك اختير في أول الكتب سلام عليكم , وفي آخرها السلام عليكم . فَأَخَذْنَاهُ
أَخْذًا وَبِيلًا أي ثقيلا شديدا . وضرب وبيل وعذاب وبيل : أي شديد ; قاله ابن عباس
ومجاهد . ومنه مطر وابل أي شديد ; قاله الأخفش . وقال الزجاج : أي ثقيلا غليظا . ومنه
قيل للمطر وابل . وقيل : مهلكا ( والمعنى عاقبناه عقوبة غليظة ) قال : أكلت بنيك أكل
الضب حتى وجدت مرارة الكلأ الوبيل واستوبل فلان كذا : أي لم يحمد عاقبته . وماء وبيل
: أي وخيم غير مريء , وكلأ مستوبل وطعام وبيل ومستوبل : إذا لم يمرئ ولم يستمرأ ,
قال زهير : فقضوا منايا بينهم ثم أصدروا إلى كلأ مستوبل متوخم وقالت الخنساء : لقد
أكلت بجيلة يوم لاقت فوارس مالك أكلا وبيلا والوبيل أيضا : العصا الضخمة ; قال : لو
أصبح في يمنى يدي زمامها وفي كفي الأخرى وبيل تحاذره وكذلك الموبل بكسر الباء ,
والموبلة أيضا : الحزمة من الحطب , وكذلك الوبيل , قال طرفة : عقيلة شيخ كالوبيل
يلندد .
هو توبيخ وتقريع , أي كيف تتقون العذاب إن كفرتم . وفيه تقديم وتأخير , أي كيف تتقون
يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم . وكذا قراءة عبد الله وعطية . قال الحسن : أي بأي
صلاة تتقون العذاب ؟ بأي صوم تتقون العذاب ؟ وفيه إضمار , أي كيف تتقون عذاب يوم
. وقال قتادة : والله ما يتقي من كفر بالله ذلك اليوم بشيء . و }{ يوما }{ مفعول ب }
تتقون }{ على هذه القراءة وليس بظرف , وإن قدر الكفر بمعنى الجحود كان اليوم مفعول (
كفرتم ) . وقال بعض المفسرين : وقف التمام على قوله : ( كفرتم ) والابتداء ( يوما )
يذهب إلى أن اليوم مفعول }{ يجعل }{ والفعل لله عز وجل , وكأنه قال : يجعل الله
الولدان شيبا في يوم . قال ابن الأنباري ; وهذا لا يصلح ; لأن اليوم هو الذي يفعل
هذا من شدة هوله . المهدوي : والضمير في }{ يجعل }{ يجوز أن يكون لله عز وجل , ويجوز
أن يكون لليوم , وإذا كان لليوم صلح أن يكون صفة له , ولا يصلح ذلك إذا كان الضمير
لله عز وجل إلا مع تقدير حذف ; كأنه قال : يوما يجعل الله الولدان فيه شيبا . ابن
الأنباري : ومنهم من نصب اليوم ب }{ كفرتم }{ وهذا قبيح ; لأن اليوم إذا علق ب }
كفرتم }{ احتاج إلى صفة ; أي كفرتم بيوم . فإن احتج محتج بأن الصفة قد تحذف وينصب ما
بعدها , احتججنا عليه بقراءة عبد الله }{ فكيف تتقون يوما } . قلت : هذه القراءة ليست
متواترة , وإنما جاءت على وجه التفسير . وإذا كان الكفر بمعنى الجحود ف }{ يوما }
مفعول صريح من غير صفة ولا حذفها ; أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم
القيامة والجزاء . وقرأ أبو السمال قعنب }{ فكيف تتقون }{ بكسر النون على الإضافة . و
{ الولدان }{ الصبيان . وقال السدي : هم أولاد الزنا . وقيل : أولاد المشركين . والعموم
أصح ; أي يشيب فيه الضمير من غير كبر . وذلك حين يقال : ( يا آدم قم فابعث بعث النار
) . على ما تقدم في أول سورة }{ الحج } . قال القشيري : ثم إن أهل الجنة يغير الله
أحوالهم وأوصافهم على ما يريد . وقيل : هذا ضرب مثل لشدة ذلك اليوم وهو مجاز ; لأن
يوم القيامة لا يكون فيه ولدان ولكن معناه أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان فيه هناك
صبي لشاب رأسه من الهيبة . ويقال : هذا وقت الفزع , وقيل أن ينفخ في الصور نفخة
الصعق , فالله أعلم . الزمخشري : وقد مر بي في بعض الكتب أن رجلا أمسى فاحم الشعر
كحنك الغراب , فأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة , فقال : أريت القيامة والجنة
والنار في المنام , ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار , فمن هول ذلك أصبحت
كما ترون . ويجوز أن يوصف اليوم بالطول , وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة
والشيب .
السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ أي متشققة لشدته . ومعنى }{ به }{ أي فيه ; أي في ذلك
اليوم لهوله . هذا أحسن ما قيل فيه . ويقال : مثقلة به إثقالا يؤدي إلى انفطارها
لعظمته عليها وخشيتها من وقوعه , كقوله تعالى : { ثقلت في السموات والأرض } [
الأعراف : 187 ] . وقيل : { به }{ أي له , أي لذلك اليوم ; يقال : فعلت كذا بحرمتك
ولحرمتك , والباء واللام وفي : متقاربة في مثل هذا الموضع ; قال الله تعالى : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } [ الأنبياء : 47 ] أي في يوم القيامة . وقيل :
{ به }{ أي بالأمر أي السماء منفطر بما يجعل الولدان شيبا . وقيل : منفطر بالله , أي
بأمره , وقال أبو عمرو بن العلاء : لم يقل منفطرة ; لأن مجازها السقف ; تقول : هذا
سماء البيت ; قال الشاعر : فلو رفع السماء إليه قوما لحقنا بالسماء وبالسحاب وفي
التنزيل : { وجعلنا السماء سقفا محفوظا } [ الأنبياء : 32 ] . وقال الفراء : السماء
يذكر ويؤنث . وقال أبو علي : هو من باب الجراد المنتشر , والشجر الأخضر , و }{ أعجاز
نخل منقعر } [ القمر : 20 ] . وقال أبو علي أيضا : أي السماء ذات انفطار ; كقولهم :
امرأة مرضع , أي ذات إرضاع , فجرى على طريق النسب . كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا }{ كان
وعده }{ أي بالقيامة والحساب والجزاء }{ مفعولا }{ كائنا لا شك فيه ولا خلف . وقال
مقاتل : كان وعده بأن يظهر دينه على الدين كله .
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ يريد هذه السورة أو الآيات عظة . وقيل : آيات القرآن , إذ
هو كالسورة الواحدة . فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ أي من أراد أن يؤمن ويتخذ
بذلك إلى ربهسَبِيلًا أي طريقا إلى رضاه ورحمته فليرغب , فقد أمكن له ; لأنه أظهر
له الحجج والدلائل . ثم قيل : نسخت بآية السيف , وكذلك قوله تعالى : { فمن شاء ذكره
" [ المدثر : 55 ] قال الثعلبي : والأشبه أنه غير منسوخ .
إن ربك يعلم أنك تقوم }{ هذه الآية تفسير لقوله تعالى : { قم الليل إلا قليلا
. نصفه أو انقص منه قليلا . أو زد عليه } [ المزمل : 2 - 4 ] كما تقدم , وهي الناسخة
لفرضية قيام الليل كما تقدم . { تقوم }{ معناه تصلي و }{ أدنى }{ أي أقل . وقرأ ابن
السميقع وأبو حيوة وهشام عن أهل الشام }{ ثلثي }{ بإسكان اللام . { ونصفه وثلثه }
بالخفض قراءة العامة عطفا على }{ ثلثي } ; المعنى : تقوم أدنى من ثلثي الليل ومن
نصفه وثلثه . واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ; كقوله تعالى : { علم أن لن تحصوه }{ فكيف
يقومون نصفه أو ثلثه وهم لا يحصونه . وقرأ ابن كثير والكوفيون }{ ونصفه وثلثه }
بالنصب عطفا على }{ أدنى }{ التقدير : تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه وثلثه . قال
الفراء : وهو أشبه بالصواب ; لأنه قال أقل من الثلثين , ثم ذكر نفس القلة لا أقل من
القلة . القشيري : وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف ; لخفة
القيام عليهم بذلك القدر , وكانوا يزيدون , وفي الزيادة إصابة المقصود , فأما
الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه , وينقصون منه . ويحتمل أنهم أمروا بقيام
نصف الليل , ورخص لهم في الزيادة والنقصان , فكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من
الثلثين , وفي النصف إلى الثلث . ويحتمل أنهم قدر لهم النصف وأنقص إلى الثلث ,
والزيادة إلى الثلثين , وكان فيهم من يفي بذلك , وفيهم من يترك ذلك إلى أن نسخ عنهم
. وقال قوم : إنما افترض الله عليهم الربع , وكانوا ينقصون من الربع . وهذا القول
تحكم . وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أي يعلم مقادير الليل والنهار
على حقائقها , وأنتم تعلمون بالتحري والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ . وقيل : معنى }
والله يقدر الليل والنهار }{ يخلقهما مقدرين ; كقوله تعالى : { وخلق كل شيء فقدره
تقديرا } [ الفرقان : 2 ] . ابن العربي : تقدير الخلقة لا يتعلق به حكم , وإنما يربط
الله به ما يشاء من وظائف التكليف . عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أي لن تطيقوا معرفة
حقائق ذلك والقيام به . وقيل : أي لن تطيقوا قيام الليل . والأول أصح ; فإن قيام
الليل ما فرض كله قط . قال مقاتل وغيره : لما نزلت : { قم الليل إلا قليلا . نصفه أو
انقص منه قليلا . أو زد عليه } [ المزمل : 2 - 4 ] شق ذلك عليهم , وكان الرجل لا
يدري متى نصف الليل من ثلثه , فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ , فانتفخت أقدامهم ,
وانتقعت ألوانهم , فرحمهم الله وخفف عنهم ; فقال تعالى : { علم أن لن تحصوه }{ و }
أن }{ مخففة من الثقيلة ; أي علم أنكم لن تحصوه ; لأنكم إن زدتم ثقل عليكم , واحتجتم
إلى تكليف ما ليس فرضا , وإن نقصتم شق ذلك عليكم . فَتَابَ عَلَيْكُمْ أي فعاد
عليكم بالعفو , وهذا يدل على أنه كان فيهم في ترك بعض ما أمر به . وقيل : أي فتاب
عليكم من فرض القيام إذ عجزتم . وأصل التوبة الرجوع كما تقدم ; فالمعنى رجع لكم من
تثقيل إلى تخفيف , ومن عسر إلى يسر . وإنما أمروا بحفظ الأوقات على طريق التحري ,
فخفف عنهم ذلك التحري . فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ فيه قولان :
أحدهما أن المراد نفس القراءة ; أي فاقرءوا فيما تصلونه بالليل ما خف عليكم . قال
السدي : مائة آية . الحسن : من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن . وقال كعب : من
قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين . وقال سعيد : خمسون آية . قلت : قول كعب أصح
; لقوله عليه السلام : ( من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين , ومن قام بمائة آية
كتب من القانتين , ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين ) خرجه أبو داود الطيالسي في
مسنده من حديث عبد الله بن عمرو . وقد ذكرناه في مقدمة الكتاب والحمد لله . القول
الثاني : { فاقرءوا ما تيسر منه }{ أي فصلوا ما تيسر عليكم , والصلاة تسمى قرآنا ;
كقوله تعالى : { وقرآن الفجر }{ أي صلاة الفجر . ابن العربي : وهو الأصح ; لأنه عن
الصلاة أخبر , وإليها يرجع القول . قلت : الأول أصح حملا للخطاب على ظاهر اللفظ ,
والقول الثاني مجاز ; فإنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله . قال بعض العلماء
: قوله تعالى : { فاقرءوا ما تيسر منه }{ نسخ قيام الليل ونصفه , والنقصان من النصف
والزيادة عليه . ثم احتمل قول الله عز وجل : { فاقرءوا ما تيسر منه }{ معنيين أحدهما
أن يكون فرضا ثانيا ; لأنه أزيل به فرض غيره . والآخر أن يكون فرضا منسوخا أزيل
بغيره كما أزيل به غيره ; وذلك لقوله تعالى : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن
يبعثك ربك مقاما محمودا } [ الإسراء : 79 ] فاحتمل قوله تعالى : { ومن الليل فتهجد
به نافلة لك } [ الإسراء : 79 ] أي يتهجد بغير الذي فرض عليه مما تيسر منه . قال
الشافعي : فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين , فوجدنا سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس . قال القشيري أبو
نصر : والمشهور أن نسخ قيام الليل كان في حق الأمة , وبقيت الفريضة في حق النبي صلى
الله عليه وسلم . وقيل : نسخ التقدير بمقدار , وبقي أصل الوجوب ; كقوله تعالى : { فما استيسر من الهدي } [ البقرة : 196 ] فالهدي لا بد منه , كذلك لم يكن بد من صلاة
الليل , ولكن فوض قدره إلى اختيار المصلي , وعلى هذا فقد قال قوم : فرض قيام الليل
بالقليل باق ; وهو مذهب الحسن . وقال قوم : نسخ بالكلية , فلا تجب صلاة الليل أصلا
; وهو مذهب الشافعي . ولعل الفريضة التي بقيت في حق النبي صلى الله عليه وسلم هي هذا
, وهو قيامه , ومقداره مفوض إلى خيرته . وإذا ثبت أن القيام ليس فرضا فقوله تعالى :
{ فاقرءوا ما تيسر منه }{ معناه اقرءوا إن تيسر عليكم ذلك , وصلوا إن شئتم . وصار
قوم إلى أن النسخ بالكلية تقرر في حق النبي صلى الله عليه وسلم أيضا , فما كانت
صلاة الليل واجبة عليه . وقوله : { نافلة لك } [ الإسراء : 79 ] محمول على حقيقة
النفل . ومن قال : نسخ المقدار وبقي أصل وجوب قيام الليل ثم نسخ , فهذا النسخ الثاني
وقع ببيان مواقيت الصلاة ; كقوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } [ الإسراء :
78 ] , وقوله : { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون } [ الروم : 17 ] , ما في
الخبر من أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوع . وقيل : وقع النسخ بقوله تعالى : { ومن
الليل فتهجد به نافلة لك } [ الإسراء : 79 ] والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم
وللأمة , كما أن فرضية الصلاة وإن خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى
: { يا أيها المزمل . قم الليل } [ المزمل : 1 - 2 ] كانت عامة له ولغيره . وقد قيل
: إن فريضة الله امتدت إلى ما بعد الهجرة , ونسخت بالمدينة ; لقوله تعالى : { علم
أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في
سبيل الله } , وإنما فرض القتال بالمدينة ; فعلى هذا بيان المواقيت جرى بمكة ,
فقيام الليل نسخ بقوله تعالى : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } [ الإسراء : 79 ] .
وقال ابن عباس : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخ قول الله تعالى : { إن
ربك يعلم أنك تقوم }{ وجوب صلاة الليل . عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى
وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ الآية ; بين سبحانه علة تخفيف قيام الليل , فإن
الخلق منهم المريض , ويشق عليهم قيام الليل , ويشق عليهم أن تفوتهم الصلاة ,
والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل , والمجاهد كذلك , فخفف الله عن الكل
لأجل هؤلاء . و }{ أن }{ في }{ أن سيكون }{ مخففة من الثقيلة ; أي علم أنه سيكون . سوى
الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على
نفسه وعياله , والإحسان والإفضال , فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد
; لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله . وروى إبراهيم عن علقمة قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : ( ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا
كانت منزلته عند الله منزلة الشهداء ) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله }{ وقال ابن
مسعود : أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا , فباعه بسعر
يومه كان له عند الله منزلة الشهداء . وقرأ }{ وآخرون يضربون في الأرض }{ الآية . وقال
ابن عمر : ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إلي من الموت بين
شعبتي رحلي , أبتغي من فضل الله ضاربا في الأرض . وقال طاوس : الساعي على الأرملة
والمسكين كالمجاهد في سبيل الله . وعن بعض السلف أنه كان بواسط , فجهز سفينة حنطة
إلى البصرة , وكتب إلى وكيله : بع الطعام يوم تدخل البصرة , ولا تؤخره إلى غد ,
فوافق سعة في السعر ; فقال التجار للوكيل : إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه , فأخره
جمعة فربح فيه أمثاله , فكتب إلى صاحبه بذلك , فكتب إليه صاحب الطعام : يا هذا !
إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا , وقد جنيت علينا جناية , فإذا أتاك كتابي
هذا فخذ المال وتصدق به على فقراء البصرة , وليتني أنجو من الاحتكار كفافا لا علي
ولا لي . ويروى أن غلاما من أهل مكة كان ملازما للمسجد , فافتقده ابن عمر , فمشى
إلى بيته , فقالت أمه : هو على طعام له يبيعه ; فلقيه فقال له : يا بني ! ما لك
وللطعام ؟ فهلا إبلا , فهلا بقرا , فهلا غنما ! إن صاحب الطعام يحب المحل , وصاحب
الماشية يحب الغيث . فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ أي صلوا ما أمكن ; فأوجب
الله من صلاة الليل ما تيسر , ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم . قال
ابن العربي وقد قال قوم : إن فرض قيام الليل سن في ركعتين من هذه الآية ; قاله
البخاري وغيره , وعقد بابا ذكر فيه حديث ( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو
نام ثلاث عقد , يضرب على كل عقدة مكانها : عليك ليل طويل فارقد . فإن استيقظ فذكر
الله انحلت عقدة , فإن توضأ انحلت عقدة , فإن صلى انحلت عقده كلها , فأصبح نشيطا
طيب النفس , وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ) وذكر حديث سمرة بن جندب عن النبي صلى
الله عليه وسلم الرؤيا قال : ( أما الذي يثلغ رأسه بالحجر فإنه يأخذ القرآن فيرفضه
, وينام عن الصلاة المكتوبة ) . وحديث عبد الله بن مسعود قال : ذكر عند النبي صلى
الله عليه وسلم رجل ينام الليل كله فقال : ( ذلك رجل بال الشيطان في أذنيه ) فقال
ابن العربي : فهذه أحاديث مقتضية حمل مطلق الصلاة على المكتوبة ; فيحمل المطلق على
المقيد لاحتماله له , وتسقط الدعوى ممن عينه لقيام الليل . وفي الصحيح واللفظ
للبخاري : قال عبد الله بن عمرو : وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا عبد
الله لا تكن مثل فلان , كان يقوم الليل فترك قيام الليل ) ولو كان فرضا ما أقره
النبي صلى الله عليه وسلم عليه , ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه , بل كان يذمه غاية
الذم , وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر قال : كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه
وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبي صلى الله عليه وسلم , وكنت غلاما شابا عزبا ,
وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فرأيت في النوم كأن
ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار , فإذا هي مطوية كطي البئر , وإذا لها قرنان ,
وإذا فيها ناس قد عرفتهم , فجعلت أقول : أعوذ بالله من النار . قال : ولقينا ملك آخر
, فقال لي : لم ترع . فقصصتها على حفصة , فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه
وسلم , فقال : ( نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل ) فكان بعد لا ينام من
الليل إلا قليلا ; فلو كان ترك القيام معصية لما قال له الملك : لم ترع . والله أعلم
. إذا ثبت أن قيام الليل ليس بفرض , وأن قوله : { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } , { فاقرءوا ما تيسر منه }{ محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة فاختلف العلماء في قدر
ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة ; فقال مالك والشافعي : فاتحة الكتاب لا يجزئ العدول
عنها , ولا الاقتصار على بعضها , وقدره أبو حنيفة بآية واحدة , من أي القرآن كانت
. وعنه ثلاث آيات ; لأنها أقل سورة . ذكر القول الأول الماوردي والثاني ابن العربي
. ولصحيح ما ذهب إليه مالك والشافعي , على ما بيناه في سورة }{ الفاتحة }{ أول الكتاب
والحمد لله . وقيل : إن المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة ; قال الماوردي :
فعلى هذا يكون مطلق هذا الأمر محمولا على الوجوب , أو على الاستحباب دون الوجوب
. وهذا قول الأكثرين ; لأنه لو وجب عليه أن يقرأ لوجب عليه أن يحفظه . الثاني أنه
محمول على الوجوب ; ليقف بقراءته على إعجازه , وما فيه من دلائل التوحيد وبعث الرسل
, ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه ; لأن حفظ القرآن من
القرب المستحبة دون الواجبة . وفي قدر ما تضمنه هذا الأمر من القراءة خمسة أقوال :
أحدها جميع القرآن ; لأن الله تعالى يسره على عباده ; قاله الضحاك . الثاني ثلث
القرآن ; حكاه جويبر . الثالث مائتا آية ; قاله السدي . الرابع مائة آية ; قاله ابن
عباس . الخامس ثلاث آيات كأقصر سورة ; قاله أبو خالد الكناني . وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ يعني المفروضة وهي الخمس لوقتها . وَآتُوا الزَّكَاةَ الواجبة في
أموالكم ; قاله عكرمة وقتادة . وقال الحارث العكلي : صدقة الفطر لأن زكاة الأموال
وجبت بعد ذلك . وقيل : صدقة التطوع . وقيل : كل أفعال الخير . وقال ابن عباس : طاعة
الله والإخلاص له . وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا القرض الحسن ما قصد به
وجه الله تعالى خالصا من المال الطيب . وقد مضى في سورة }{ الحديد }{ بيانه . وقال زيد
بن أسلم : القرض الحسن النفقة على الأهل . وقال عمر بن الخطاب : هو النفقة في سبيل
الله . وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ
هُوَ خَيْرًا وروي عن عمر بن الخطاب أنه اتخذ حيسا - يعني تمرا بلبن - فجاءه مسكين
فأخذه ودفعه إليه . فقال بعضهم : ما يدري هذا المسكين ما هذا ؟ فقال عمر : لكن رب
المسكين يدري ما هو وكأنه تأول : { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو
خيرا }{ أي مما تركتم وخلفتم , ومن الشح والتقصير . وَأَعْظَمَ أَجْرًا قال أبو
هريرة : الجنة ; ويحتمل أن يكون أعظم أجرا ; لإعطائه بالحسنة عشرا . ونصب }{ خيرا
وأعظم }{ على المفعول الثاني }{ لتجدوه }{ و }{ هو } : فصل عند البصريين , وعماد في قول
الكوفيين , لا محل له من الإعراب . و }{ أجرا }{ تمييز . وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ أي
سلوه المغفرة لذنوبكم إِنَّ اللهَ غَفُورٌ لما كان قبل التوبة رَحِيمٌ لكم بعدها
; قاله سعيد بن جبير . ختمت السورة .
نهاية تفسير السورة - تفسير القرآن الكريم
End of Tafseer of The Surah - The Holy Quran Tafseer